الفصل الأول

التفكير الصيني والغربي عن الترجمة

أندريه ليفيفير

سأحاول في الصفحات التالية مقارنة التفكير الصيني بالتفكير الغربي عن الترجمة. ومن الواضح أن معرفتي بالمداخل الغربية تفوق إلمامي بالتفكير الصيني في الموضوع، ولكن ما يُهِمُّني أساسًا هنا هو الترجمة نفسها في إطارها التاريخي؛ وذلك — على وجه الدقة — بسبب تزايد عدد الكتب التي تصدر حاليًّا عن تاريخ الترجمة؛ ومن ثم فنحن نستطيع الآن الابتعاد عن المَدخل المعياري الذي أعاق رؤيتنا للترجمة زمنًا طويلًا.

وكانت الثقافات المختلفة تميل إلى قبول مسألة الترجمة على عِلَّاتها، أو بالأحرى قبول تقنية الترجمة التي كانت شائعة في مرحلةٍ ما من مراحل تطورها كقضية مُسلَّم بها، ومعادلتها بالترجمة في ذاتها. وتُبيِّن الكتب التي تتناول تاريخ الترجمة في الغرب بوضوحٍ متزايد أن تقنية الترجمة في الثقافات الغربية قد تغيَّرت مِرارًا على مَرِّ القرون، وأن ما كان مقبولًا باعتباره أمرًا «واضحًا» في وقت معيَّن لم يكن يزيد في الواقع عن مرحلة عابرة. والمسألة المهمة هنا هو أن التحوُّلات والتغيُّرات في تقنية الترجمة لم تحدث بصورة عشوائية، بل كانت ذات صلةٍ وثيقة بالطريقة التي توصَّلَتْ بها الثقافات المختلفة، في أوقات مختلفة، إلى قبول ظاهرة الترجمة، والتحدي الذي يُمثِّله وجود «الآخر»، والحاجة إلى اختيار استراتيجية واحدة من بين العديد من الاستراتيجيات الممكنة للتعامل مع ذلك «الآخر». وهكذا بدأنا أخيرًا نرى المناهج المختلفة للترجمة، إلى جانب المداخل المختلفة لممارسة الترجمة، باعتبارها عارضةً لا دائمة، ومتغيرة لا ثابتة؛ لأننا بدأنا ندرك أنها قد تغيَّرت فعلًا على مَرِّ القرون. ومن المفارَقات أننا إذا قبِلنا أن الترجمة عارضة، فسوف نستطيع أن نُلقيَ الضوء على الموقع الذي كانت تشغله على الدوام في تطور الثقافات بل في تعريف الثقافات نفسها. بل سوف يسهُل علينا أن ندرك تلك الطبيعة العارضة عند مقارنة مجموعتين من التقاليد بعضهما بالبعض، فإن مثل هذه المقارنة في اعتقادي قادرة على إلقاء الضوء لا على المجموعتين وحسب، بل أيضًا، في آخر الأمر، على ظاهرة الترجمة نفسها.

ولن أناقش فيما يلي نشاط الترجمة؛ أي العملية الفعلية التي تؤدي إلى إنتاج نصوص مترجَمة في المجال الذي تُحدِّده اللغتان، الصينية والإنجليزية، ولكنني سوف أنظر فيما أودُّ أن أسميه «الممارسة الترجمية» في التقاليد الصينية والإنجليزية. وأقصد بالمصطلح المذكور الممارسة التي تضمُّ إلى ذاتها النشاط الفعلي للترجمة وتتكامل معه، ولكنها تسبق ذلك النشاط بوضع خطوط إرشادية معيَّنة، سواء اتَّبَعها المترجمون الأفراد أو لم يتَّبِعوها؛ فهذه الخطوط الإرشادية من ثمار التفكير حول عملية الترجمة داخل ثقافة من الثقافات، و«الممارسة الترجمية» تَعقُب عملية الترجمة، ما دامت تنهض بدورٍ في استقبال النصوص المترجَمة في الثقافة أو في الثقافة التي تقصدها هذه النصوص.

ونقول باختصارٍ إن «الممارسة الترجمية» تُمثِّل إحدى الاستراتيجيات التي تبتكرها إحدى الثقافات للتعامل مع من تعلَّمْنا أن نسميه «الآخر». وهكذا فإن وَضْع استراتيجية ترجمية يُقدِّم إلينا أيضًا مؤشِّرات صالحة عن نوع المجتمع الذي يتعامل المرء معه. فإن الصين — على سبيل المثال — لم تَضَعْ استراتيجيات ترجمية إلا ثلاث مرات في تاريخها؛ فكانت المرة الأولى ترجمة الكتب البوذية المقدسة في الفترة الممتدَّة تقريبًا من القرن الثاني إلى القرن السابع للميلاد، والثانية ترجمة الكتب المسيحية المقدسة ابتداءً من القرن السادس عشر للميلاد، والثالثة ترجمة قدر كبير من الفكر الغربي والأدب اعتبارًا من القرن التاسع عشر. وهذه الحقيقة ذات دلالة معيَّنة على صورة «الآخر» المُهَيمِنة على الحضارة الصينية؛ ألا وهي أن «الآخر» لم يكن يُعتبَر ذا أهمية كبيرة. ولم تكن الصين حالة فريدة في هذا الصدد، كما كان يُتوهَّم أحيانًا؛ فأمامنا مثال أشد تطرُّفًا ألا وهو اليونان القديمة التي لم تكن تُبدي أي اهتمام ﺑ «الآخر» ولم تَضَعْ أية أفكار عن الترجمة ولم تُترجِم شيئًا يُذكَر على الإطلاق.

وإذا شئنا وَضْع تعميم أوَّليٍّ وأبعد ما يكون عن القَطْع قلنا: إن الثقافات التي ترى أنها ثقافات رئيسية في العالم الذي ترثه لن تتعامل كثيرًا مع «الآخرين» — على الأرجح — إلا إذا أُرغمت إرغامًا، وقد أُرغمت اليونان على ذلك عندما غزاها الفُرس أوَّلًا ونجحت في صد الغُزاة؛ ومن ثم استطاعت أن تتجاهلهم وحسب، ثم أُرغمت على ذلك عندما احتلَّتْها جيوش الرومان، وهو ما لم تكن تستطيع تجاهله. ولكن اليونان لم تتعرَّض إذ ذاك لمعاناةٍ كبيرة لأن الفاتحين كانوا يُعلون من قيمة لغتها وثقافتها. وقد اضطرَّ الصينيون إلى التعامل مع «الآخر» بسبب انتشار البوذية، وهي التي لم تكن تُمثِّل تهديدًا لنسيج المجتمع. وكان من الممكن — من ثم — التكيُّف الثقافي معها بالشروط التي وضعها المجتمع الصيني الذي استقبلها، وهو ما يتَّضح لنا لا من أسلوب الترجمة وحسب، بل أيضًا، وبصورة أوضح، من حقيقة أن المفاهيم «الطاويَّة» [وهي إحدى الديانات الصينية الثلاث القديمة] قد استُخدِمَت في الترجمات ابتغاء التكيُّف الثقافي مع المفاهيم البوذية. ولم تختلف القصة اختلافًا كبيرًا في القرن التاسع عشر؛ إذ استطاع المترجمان يان فو، ولين شوه مواصلة الترجمة إلى اللغة الصينية الكلاسيكية، متَّبِعين التقاليد التي وضعها أسلافهما، والترجمة بالمناهج الخاصة بهما. ولكن إلغاء اللغة الصينية الكلاسيكية باعتبارها لغة التخاطب بين المسئولين، والأدباء والمثقَّفين، وما صاحبَ ذلك من ازدياد النفوذ الغربي في الصين جعل من المُحال تطبيق استراتيجية التثاقف المذكورة في القرن العشرين.

والثقافات التي لا تُبدي اهتمامًا كبيرًا بالآخر ليست وحسب ثقافات ترى نفسها رئيسيةً في هذا الوجود. بل إنها أيضًا ثقافات تتمتَّع بالتجانُس النسبي، كما تُثبِت ذلك حالتا الثقافتين اليونانية والصينية الكلاسيكيَّتين؛ فالثقافات المتجانسة نسبيًّا تميل إلى اعتبار أسلوبها في العمل الأسلوب الوحيد «بطبيعة الحال»، وهو ما يصبح بطبيعة الحال أيضًا «أفضل» أسلوب عند المواجهة مع أساليب أخرى، وحين تقوم أمثال هذه الثقافات باستعارة أية عناصر من خارجها، فإنها — من جديد — تُضفِي عليها طابعها الخاص دون تردُّدٍ كبير أو مراعاةٍ لقيود كثيرة. وعندما تُترجِم اللغة الصينية نصوصًا كتبها «الآخرون» خارج حدودها، فإنها تترجمها حتى تحُلَّ النصوص المترجَمة محلَّ ما تُرجِمَت منه وحسب؛ أي إن الترجمات تشغل مكان الأصول. وتُعتبر الترجمات أصولًا في الثقافة إلى الحد الذي تختفي فيه الأصول خلف الترجمات، ومن أسباب ذلك التي لا يُستهان بها أن العديد من المشاركين في الثقافة الصينية لا يعرفون لغة الأصل أو لغاته، وهو ما كان يُضفِي صعوبةً بالِغة حتى على التحقُّق مما كان المترجمون يفعلونه في الواقع.

وتتعلَّق قضية تَجانُس إحدى الثقافات أيضًا بعدد المشاركين في هذه الثقافة. كما تتعلَّق — وبنفس درجة الأهمية — بأسلوب وصفِنا لهذه الثقافة. ونرى مرة أخرى أن أوجُه التشابه بين الثقافتين الصينية واليونانية الكلاسيكيَّتين تُفيدنا في هذا الصَّدَد. فعلى امتداد تاريخ الصين، وحتى بداية القرن العشرين، كان عدد الذين يشاركون فعلًا في الثقافة المكتوبة صغيرًا، ومن شأن ذلك أيضًا المساعدة على إيضاح سبب السهولة النسبية في الحفاظ على معايير مُوحَّدة لما يُعتبَر مقبولًا لدى ذلك الجمهور، وأيضًا بالنسبة لأسلوب الكتابة والألفاظ المستخدمة. ففي اليونان الكلاسيكية، كما هو معروف، كانت أعداد العبيد تفوق إلى حدٍّ بعيد أعداد الرجال الأحرار (ولم تكن النساء مُدرَجةً في هذا فعلًا) الذين يشاركون في الثقافة المكتوبة. ولكن جماهير القرَّاء تطورت بصورة مختلفة في الصين والغرب؛ فعلى امتداد تقلُّبات التاريخ استمرَّ اتِّساع هذه الجماهير في الغرب، على عكس الصين.

وليس من المدهش إذن — على ضوء ما ذُكر آنِفًا — أن نشاط الترجمة قد نشأ في الغرب في ثقافات غير متجانسة، بل كانت تتَّسِم بالانقسام الداخلي — في الواقع — بسبب الاختلافات اللغوية، أو بسبب درجات معيَّنة من الثُّنائية اللغوية. ومع ذلك ففي التقاليد الغربية والصينية جميعًا، بدأ نشاط الترجمة، فيما يبدو، بالترجمة الفورية للُّغة المنطوقة، لا الترجمة التحريرية للنصوص المكتوبة. وهذا مهم لسببين على الأقل؛ الأول — وإن لم يكن الأهم — أن نشاط الترجمة لم تكن له أصول في ترجمة النصوص المقدسة أو حتى النصوص الأدبية، ولكن في ترجمة التواصل الشفاهي المتعلق بالتجارة. وهذه الحال تؤكد دور المفسِّر (وهو الاسم الذي سوف نُطلِقه على المترجم مؤقَّتًا) باعتباره شخصًا أو وسيطًا، كما تؤكد أهمية الموقف الفعلي الذي يحدث فيه التفسير.

وعلى مستوى نشأة الترجمة في التقاليد الصينية والغربية. كان التواصل مباشرًا وردُّ الفعل فوريًّا إلى درجة أكبر مما حدث في حالات الترجمة اللاحقة. كان المهم أن يفهم المتحدثان بعضهما بعضًا. وكان المترجم التحريري/الفوري يعتبر أنه أنجز مهمته بنجاح حين يجد أن هذا التفاهم قد وقع فعلًا. وكان من اليسير على المترجم الفوري، بطبيعة الحال، أن يقيس مدى الفهم في أي موقف. وكان أيسر ما يمكن في مواقف المعاملات التجارية، ولم يكن المترجم الفوري يملك في حالات كثيرة، إن أراد النجاح في عمله، أن يترجم ترجمة حرفية؛ أي كلمة بكلمة، وفي معظم الحالات كان يقتصر على نقل خلاصة ما يقوله المشارك في الحديث إلى المشارك الآخر؛ فكان يُعدِّل الموازين والمكاييل بهدوء، ويعدل التوقعات الثقافية دون جَلَبة. ولا عجب إذن في أن يبني المترجمون الفوريون لأنفسهم في تلك الأيام، كما لا يزالون يفعلون الآن، حشدًا من العملاء استنادًا إلى صيتهم، وهو الذي يستند بدوره إلى نجاح أدائهم. ولكن الجانب المهم في هذا هو أن العميل لا يستطيع حقًّا أن يحكم على جودة الأداء، بل على نتيجته فقط؛ فالمترجمون الفوريون الذين ساعدوا على إبرام صفقةٍ رابحة مترجمون ممتازون، بغضِّ النظر عن مدى تشويههم لما قيل في الواقع. ولا تزال بعض آثار ذلك الموقف القديم من المترجمين قائمةً في عبارة هوراس المشهورة fidus interpres المستخدمة في كتابه فن الشعر حيث لا تعني الصفة fidus «الأمين مع الأصل أو حتى مع صياغة الأصل»، على نحو ما فُسرتْ به على ضوء التطورات اللاحقة، بل تُفيد معنًى قريبًا من «يُعتمَد عليه؛ أي شخص لا يخذلك».

ولم يكن يُتاح في عملية الترجمة الأولى المذكورة وقتٌ يكفي للتصحيح، أو لاحتمال العذاب في الترجمة، فما إن تُنجَز الترجمة حتى ينتهي الأمر، وكان يُنظَر إليها باعتبارها عارضة وتعتمد على موقف معيَّن. لم تكن تحفر في الحجر، ولا تنقش في الصلصال، على نحو ما تحوَّلت إليه في الحضارة السومرية والأكادية.

والحُجَّة التي أسوقها تقول إن التقاليد الصينية والغربية قد تطوَّرت مبتعدةً عن موقف الترجمة الفورية الأولى في اتجاهين يختلفان اختلافًا شاسعًا. وربما كانا يتناقضان تناقضًا تامًّا؛ إذ إن التقاليد الصينية — وهي التي أسمح لها بأن تنتهي، في حدود ما يرمي إليه هذا البحث، بترجمات المترجمَين يان فو ولي شوه في القرن التاسع عشر — كانت تميل، بصفة عامة، إلى البقاء قريبًا من حالة الترجمة الفورية. وهكذا فإنها تُولِي أهميةً أقل نسبيًّا للترجمة «الأمينة» التي غَدَتْ من الأفكار الرئيسية في التفكير عن الترجمة الذي نشأ في الغرب.

ولا شك أن ابتعاد الغرب بهذه الصورة الجذرية عن موقف الترجمة الفورية له أسباب كثيرة، ويُورِد فيرمير في تاريخه للترجمة في الغرب ثلاثة أسباب؛ أولها أن المجتمع الذي نشأت فيه الترجمة في الغرب، المجتمع السومري والأكادي، كان ثنائيَّ اللغة بدايةً، وغير متجانس. وكانت الحضارة السومرية التي ازدهرت مبكِّرًا من نحو منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، سرعان ما سقطت (ولم تقم لها قائمةٌ بعد عام ٢٠٢٤ق.م. تقريبًا) على أيدي الأكاديِّين. ولكن اللغة السومرية استمرَّت تُستخدَم زمنًا طويلًا بعد ذلك باعتبارها اللغة التي كُتِبَتْ بها النصوص المقدسة، واللغة المستعملة في نقل المعلومات. ومن ثم كانت الحاجة إلى الترجمة واضحة. ولكن الترجمة لم تكن سهلة؛ لأن اللغة السومرية التي لم يربطها الباحثون بأية لغة معروفة أخرى، واللغة الأكادية، وهي من اللغات السامية، كانتا تختلفان اختلافًا شاسعًا. ولم يكن ذلك حال الصينية الكلاسيكية وصورها غير المعتمدة، ولا حال شتَّى اللهجات المنطوقة في اليونان إبَّان العصر الكلاسيكي.

ومن جديد نرى أن القضية تتعلق بما هو أكثر من مجرد الاختلاف بين اللغتين ودرجة الصعوبة في الترجمة. فلمَّا كانت اللغتان، على الرغم من اختلافاتهما، قد استمرَّ استعمالهما جنبًا إلى جنب. ولمَّا كانت اللغة السومرية قد استمرَّ اعتبارها اللغة ذات الصِّيت والمهابة، في حين أن اللغة الأكادية كانت الأكثر استعمالًا في شئون الحياة اليومية، فإن الأصول السومرية للترجمات الأكادية لم تختفِ اختفاءً كاملًا من الوعي بالثقافة كلها؛ فالواقع أن العكس هو الذي حدث؛ إذ ظل الأصل دائمًا قائمًا باعتباره المحك «اللازمني»، وظل يتميز بالمرتبة العليا والطابع الكهنوتي الخاص كلما قُورِنَت الترجمة بالأصل. ويقول فيرمير إن الترجمة لم يُقصَد بها في يومٍ من الأيام أن تحلَّ محلَّ الأصل، بل مجرد استكماله، وذلك فقط بالنسبة للذين لا يستطيعون قراءة الأصل. وقد أسهمت هذه الحقيقة في الحكم بمرتبة اجتماعية وثقافية منخفضة على الترجمة والمترجم.

ولكن هذا القول يحتاج إلى بعض التعديل، فما دامت الترجمة في معظم حالاتها فورية، فإن المترجم/المترجم الفوري كان يعرض مهاراته علنًا، ويتمتَّع بمكانة اجتماعية عليا، لسببٍ لا يُستهان به وهو قدرته على التحول من لغة إلى لغة أخرى؛ ومن ثم على التلفُّظ بحروف لا بد أنها بدت قريبة من التعاويذ السحرية في أسماع الذين لا يعرفون اللغة أو اللغات التي يتكلمها في لحظة من اللحظات. ولا بد أنهم كانوا يُنزلونه منزلةً قريبة على الأقل من منزلة السحرة إن لم يُنزلوه فعلًا منزلة الساحر. ولم تنخفض مكانة المترجم في الغرب إلا بسبب نشأة مفهوم الترجمة الأمينة، وهو الذي أوجد مفهوم الترجمة باعتبارها تغيير الشفرة اللغوية. ومن اليسير أن ندرك السبب؛ ألا وهو أن كل فرد يستطيع مضاهاة الكلمات اعتمادًا على القوائم ثنائية اللغة. ولكن النص المترجم ظلَّ دائمًا، منذ أيام الحضارتين السومرية والأكادية ما يسميه الألمان Fremdköreper أي الجسد الغريب في اللغة المستقبِلة له؛ لأنه كان يتميز دائمًا بأنه ترجمة، كما ظل الأصل أيضًا جسمًا غريبًا، على الدوام، في الثقافة كلها؛ لأنه ظلَّ بعيدًا عن أفهام معظم الناس الذين كانوا، على أية حال، منتمين إلى تلك الثقافة.
وقد يبدو التشابه مع الصين خلَّابًا للوهلة الأولى، ولكنه تشابهٌ سطحيٌّ في أحسن حالاته، للأسباب المذكورة آنِفًا. وأما التشابه الحقيقي فهو أولًا مع العصور الوسطى الأوروبية، وثانيًا مع أوروبا، وبعدها مع بقية العالم — تدريجيًّا — بعد عصر النهضة. ففي العصور الوسطى كانت اللاتينية تشغل مكانةً شبيهة باللغة السومرية؛ أي لغة الصِّيت والمهابة. وكانت شتَّى اللهجات القومية المحلية، التي كانت تُسمَّى آنئذٍ أيضًا vernaculars أي اللهجات العامِّية، والكلمة تعني حرفيًّا «لغات العبيد»، وهو ما يُفصِح بوضوح عن مكانتها الثقافية المُضمَرة، تشغل موقعًا شبيهًا بموقع اللغة الأكادية. وأما بعد عصر النهضة وفي القرون التالية فلم تَعُد اللاتينية لغة الصِّيت والمهابة، وتدريجيًّا حلَّت محلَّها اللغة الفَرنسية أولًا، ثم الإنجليزية. ولكن المعادلة الأساسية ظلَّت كما هي، خارج فرنسا وإنجلترا بطبيعة الحال.

ولكننا نجد وجهًا آخر للتشابه ينطبق على الصين، مثلما ينطبق على الحضارة السومرية/الأكادية وعلى أوروبا في العصور الوسطى وما بعد عصر النهضة. ففي كل ثقافة من هذه الثقافات كانت توجد طبقة من «المتأدِّبين» — كانت تقتصر أولًا على الكُهَّان، ثم غدت تضمُّ الكُهَّان والنُّسَّاخ ومن يمكن أن نُطلق عليهم اليوم، بصفة عامة و«نوعية» صفة «المثقفين»، وهم الذين كانت لهم مصالح مكتسبة في الاحتفاظ بلغة الصِّيت والمهابة لأنفسهم لأنها كانت تُمكِّنهم من الوصول إلى السلطة، وإبعاد تلك السلطة عن الغالبية العظمى الذين لم يكونوا يتمتَّعون بالمقدرة ذاتها. وأما الاختلاف الأكبر فهو أنه بينما انهار النظام السومري/الأكادي بعد نحو عشرة قرون، وانهارت شتَّى النُّظُم الأوروبية بسرعة أكبر، فإن النظام الصيني ظلَّ صامدًا فترة أطول كثيرًا؛ إذ كُتِب له البقاء بعد انهيار أشكال منفصلة من التنظيم السياسي، مثل نُظُم الأسرات الحاكمة، وظلَّ في هيمنته حتى بداية القرن العشرين.

ويجوز لنا أن نقول إنه بينما تمكَّن النظام الصيني الذي كان يكفل الهيمنة السياسية والثقافية للغة الصِّيت والمهابة حتى مطلع القرن العشرين بالصورة نفسها إلى حدٍّ ما، حتى انهار فجأةً من الداخل، فإن محاولات قيام نظام مشابه في الغرب لم تلقَ إلا نجاحًا يزداد تضاؤله باطِّراد. وعلى الرغم من أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية حاولت أن يكون الكتاب المقدس، وهو نصها المقدس، غير متاح بغير اللغة اللاتينية في أوروبا الغربية، فقد ظهرت ترجمات جزئية له بعِدَّة لغات قومية في نحو عام ١٠٠٠م، مما طعن في هيمنة اللغة اللاتينية. ولم تكن اللغات التي خَلَفَت اللغة اللاتينية في الصِّيت والمهابة مثل الفرنسية والإنجليزية تتمتَّع بسلطة تحديد توزيعها إلى أي درجة تُقارب سلطة اللغة الصينية الكلاسيكية.

وكان مما أعان الترجمة في الثقافة السومرية/الأكادية أن اللغتين كانتا تستخدمان نظام الكتابة نفسه؛ ألا وهو نظام الحروف المسمارية [الآشورية القديمة] التي اخترعها السومريون، فمجموعة العلامة نفسها كانت تعني «البيت» في اللغتين السومرية والأكادية، ولكنها كانت تُنطَق «جال» بالسومرية، وتُنطَق «بيتو» بالأكادية، وعلى غِرار ذلك نجد أن رقم «٥» يُنطَق إلى هذا اليوم «وو» بلغة ماندارين الصينية ويُنطَق «نج» بالكانتونية الصينية.

ومع ذلك فإن وجود نظام الكتابة المشترَك المُشار إليه نفسه يؤدي بصورة غير مباشرة إلى السبب الأول الذي يُورده فيرمير لابتعاد الغرب ابتعادًا جذريًّا عن حالة الترجمة الفورية؛ ألا وهو ظهور الكلمة المفردة باعتبارها وحدة الترجمة، ويعزو فيرمير هذا الظهور إلى وضع قوائم للألفاظ بالسومرية/الأكادية. ولمَّا كانت الثقافة السومرية/الأكادية ثنائية اللغة، فقد كانت قوائم الألفاظ المذكورة ثنائية اللغة بطبيعة الحال. وكانت قد وُضعت قبل وَضْع أول معجم صيني، وهو «شوو-وين» الذي وضعه «هسو شو»، بعدَّة قرون. وعلى الرغم من أن قوائم الألفاظ المذكورة كانت مقصورةً على الكلمات المستخدمة في الطقوس الدينية والكلمات اللازمة لنقل المعرفة، فإن تجميعها في ذاته، كان يكفي، حسبما يقول فيرمير، لتركيز الاهتمام بالكلمة بالمعنى الذي ذكرته آنِفًا.

ولكن ظهور الكلمة باعتبارها وحدة الترجمة لم يكن في ذاته مسئولًا عن الانشقاق الجذري بين التفكير الصيني والتفكير الغربي في الترجمة، بقدر ما كان السبب راجعًا إلى ما صاحبَ ذلك من نَزْع الكلمة من سياقها. ومعنى هذا أنه ما إن تُكتَب الكلمة، حتى يتسنَّى لك معادلتها بكلمة أخرى؛ أي إنه ما دام من الممكن تجريدها من الموقف الفعلي الذي يتخاطب فيه متحادثان من خلال مترجم تحريري/فوري فإن من الجائز لهذا المترجم أن يقنَعَ بمجرَّد المقابلة بين الألفاظ، بغضِّ النظر عما إن كانت هذه الألفاظ مناسبةً لمواقعها الجديدة أو لا، ويزيد من ترجيح هذا أنه لن يواجه أي رد فعلٍ مباشر من المتحادثَين، فهما الآن غائبان. وقد يقومان في أفضل الأحوال بانتقاد الترجمة بعد فترة «طويلة»، وهو عاملٌ من شأنه تقليل تأثير رد الفعل في المترجم.

ويقول فيرمير إن السبب الثاني لظهور الأمانة باعتبارها المعيار السائد للتفكير الغربي في الموضوع يكمُن في مُماهاة الوحدة النحوية؛ أي «الكلمة»، بالصورة التي اكتُشِفَت بها في الثقافة السومرية/الأكادية، بالمفهوم الأفلاطوني الذي يُسمَّى «لوجوس»، ولا شك أنه مما ساعدَ على ذلك وأعانه أن تلك الوحدة النحوية أي «الكلمة»، كان يُشار إليها في اللغة اليونانية الكلاسيكية بلفظ «لوجوس» أيضًا. ويقول فيرمير «طرح المدلول الذي تُستعمَل الكلمة في الإشارة إليه «موضوعيًّا» باعتباره شيئًا لا يتغير؛ أي باعتباره العنصر الثالث أو الوسيط في المقارنة، وهو ما كان يُسمَّى tertium comparationis الذي يظلُّ كما هو متجاوزًا جميع اللغات المفردة. وهكذا أصبحت الترجمة تحويلًا للشفرات اللغوية.» (فيرمير، ١٩٩٢م).

وهكذا أصبحت الترجمة في الغرب تنحصر في تحويل الشفرات اللغوية بصورة مستقلة عن أي موقف معيَّن، وبغضِّ النظر عن أي قرَّاء معيَّنين، بدرجةٍ زادت كثيرًا عن حالها في الصين في أي يوم من الأيام، حيث يستمر ما يسميه فيرمير «بلاغة التفكير الوظيفية» (فيرمير ١٩٩٢م)؛ فالمترجمون الصينيون كانوا يترجمون واضعين جمهورًا معيَّنًا نُصْبَ أعينهم. وكانوا يُكيِّفون ترجماتهم بلاغيًّا لتُناسِب ذلك الجمهور. وربما وجدنا أنصعَ مثالٍ على الجانب السلبي لهذا المنهج في عبارة «يان فو» الشهيرة التي تقول إنه لو قُدِّرَ للذين لم يقرءوا الكلاسيكيات الصينية أن يقرءوا ترجماته لها فلن يفهموها، وإن كان ذلك «عيب القرَّاء، ولا ذنب للمترجم في هذا» (فيرمير ١٩٩٢م) لأن هؤلاء القرَّاء ليسوا القرَّاء الذين صاغ المترجم ترجماته بلاغيًّا من أجلهم، ومما له دلالته أن وجود هؤلاء القرَّاء يعني اتِّساع نطاق الجمهور عما كان عليه قرونًا عديدة.

وإذن فإن فكرة «لوجوس» الأفلاطونية أدَّت إلى تخفيض قيمة «المُلاءَمة»، أو ما كانت بلاغة الأسلاف في الغرب الكلاسيكي تُسمِّيه to prepon باليونانية، وهو ما ينهض بدورٍ كبير إلى حدٍّ ما في كتاب فيرمير، ويعني «كل ما هو ملائمٌ لموقف معيَّن». والمعنى المُضمَر عدم وجود حقيقة «مُطلَقة»، وأن الحقيقة دائمًا، على الأقل إلى درجة معيَّنة، تتوقَّف على الموقف الراهن، أو إن شئنا التعبير عن ذلك بمصطلح علم اللغة قلنا إنه إذا كانت للألفاظ مَعانٍ يمكن تثبيتها في قوائم للألفاظ فإن هذه الألفاظ لا تكتسب معانيها الفعلية إلا في موقفٍ معيَّن.
وزاد من تدعيم تركيز الغرب على الكلمة تحوُّلٌ آخر لمفهوم «لوجوس» الأفلاطوني؛ أي تحوُّله من مفهومٍ تجريدي إلى صورة مُجسَّدة؛ إذ إن «الوسيط الثالث» أي tertium comparationis المجرَّد قد اندمج في مفهوم «يهوه» العبراني، وأتى زمن الإيمان بالإله المسيحي.

ولا بد من تأكيدنا الشديد أن الإله المسيحي، مثل نظيره العبراني، يتمتَّع بالرحمة وبالصرامة في الوقت نفسه؛ ومعنى ذلك استحالة الاستهانة بغضبه، خصوصًا من جانب المترجمين الذين يحاولون ترجمة كلماته المكتوبة في النصوص المقدسة. وهكذا فإن السلطة القصوى التي ينبغي على المترجم الغربي للنصوص المقدسة أن يعمل حسابها سلطة الإله نفسه، والسلطة التي لديه لا تقتصر على سلطة الحياة والموت، ولكنها سلطةٌ تتجاوز الموت نفسه ويمكن أن تُدخِله الجنة أو تُلقِيه في الجحيم. وغنيٌّ عن البيان أن «الحضور الأقصى» وراء النصوص المقدسة البوذية؛ ألا وهو البوذا نفسه، يختلف اختلافًا شاسعًا عن الإله المسيحي في هذا الصَّدَد. وربما كان ذلك قادرًا، إلى حدٍّ ما، على أن يُوضِّح لنا لماذا يقِلُّ التفكير الصيني عن الترجمة عن نظيره المسيحي في الشعور بالقلق والإحساس بالذنب، فلقد تعلَّم مترجمو الكتب البوذية المقدسة في وقتٍ مبكِّر أن يتعايشوا مع الواقع الذي يقول: إن ترجماتهم من صُنع البشر وإنها لن تصل إلى الكمال بالضرورة، ولا نجد ما يُقارب هدوء البال المذكور نفسه على الإطلاق في التفكير الغربي عن الترجمة.

كان يوزيبيوس هيرونيموس (القديس جيروم) يؤمن إيمانًا راسخًا، مع أسلافه ومَن ينتقصون من قدره، بأن الكتب المقدسة التي يترجمونها كانت مُوحًى بها من الإله نفسه. وكانت من ثَمَّ صحيحةً لا يرقى إليها أدنى شك، ويجب أن تُترجَم إلى اللغة المستهدَفة دون تغييرٍ إن شئنا المثالية، أو بأقل تغييرٍ ممكن في الواقع العملي. فإذا قبِلنا هذا الكلام بمعناه الحرفي، وهو المعنى الذي ظلَّ سائدًا في الغرب ردحًا طويلًا من الزمن، وقَطْعًا في ترجمة الكتاب المقدس التي أصبحت بدورها المِحَكَّ الذي تُقاس به شتَّى أنواع الترجمة الأخرى، وجدنا أنه يُمثِّل مطلبًا مستحيل التحقيق.

وقد يُفسِّر لنا هذا سبب نغمة الاعتذار الأساسية التي نجدها في الكثير من المقدمات المُرفَقة بالترجمات في التقاليد الغربية؛ فلقد شهدنا مترجِمًا بعد مترجم يبدأ بإقرار استحالة المهمة التي سيقوم بها، ثم ينتقل إلى الإفراط في الاعتذار عن عجزه عن أداء هذه المهمة المستحيلة.

وهذا التعارض الجوهري بين التراثَين هو الذي مكَّن التفكير الصيني عن الترجمة من وَضْع نصوصه الأصلية في سياقها التاريخي، بطرائقَ لم يتمكَّن التفكير الغربي عن الترجمة من تحقيقها يومًا ما، ما دامت ترجمة الكتاب المقدس قائمةً في المجال اللاهوتي، ولن نجدَ في المراحل المبكِّرة للتقاليد الغربية عبارةً تُرجِع صدى عبارة «داو آن» التي تقول إن على «القديس أن يُقدِّم مواعظه وفقًا لأعراف زمانه؛ فالأعراف تتغير على مَرِّ الزمن» (الكتاب ٥٥، ٥٢).

ولهذا السبب نفسه، كان من المحال، دون مبالغة، أن يُحاكي القديس جيروم استراتيجية المترجمين الصينيين للكتب البوذية المقدسة، وهي التي كانوا يُطبِّقونها منذ أيام «زي قيان»؛ أي باستعارة بعض المفاهيم من كتابات «لاوتسو» [مؤسس الطاويَّة] ابتغاءَ التكييف الثقافي للمفاهيم البوذية عند نَقْلِها إلى اللغة الصينية، حتى وإن كان بعض آباء الكنيسة الآخرين قد سبقوه إلى أداء شيءٍ مشابه إلى حدٍّ بعيد، عندما حقَّقوا (ما كانوا يرجون أن يكون) مزيجًا متوازنًا بين التقاليد البازغة للمسيحية، على نحو ما وضعها القديس بولس والمسيح نفسه، وبين الفلسفة اليونانية التي كانوا يألفونها منذ طفولتهم. وكانوا يُقدِّمون ذلك في صورة تعليق، أو بحث، أو صورةٍ أخرى من صور الكتاب حول النص، ولكنهم لم يكونوا يتصوَّرون قطُّ أن يفعلوا ذلك في نطاق الترجمة؛ إذ إن ذلك يمكن اعتباره تغييرًا في النص، خصوصًا بعد أن ثبتت الصورة المعتمَدة لنص الكتاب المقدس. ولم يكن ذلك قد سبق قيام «داو آن» بتثبيت النص المعتمَد للنصوص البوذية المقدسة بزمنٍ طويل.

ولا يُفهَم من كلامي، بطبيعة الحال، أن أي مترجم في الغرب يقوم الآن بترجمة الشعر أو دليل استعمال الكمبيوتر وقد وضع في ذهنه صورةً للإله المنتقم الجبار، أو أن نظيره الصيني يشعر باطمئنانٍ أكبر عند أدائه المهمة نفسها لأنه واثقٌ أن البوذا سوف يُبدي الرحمة آخر الأمر قبل الموت أو بعده. ولكنني أقول إن هذه المواقف كانت من بين عوامل متعدِّدة قائمة في أصل التفكير في الترجمة في الصين وفي الغرب، وبأنها كانت ذات تأثير في تشكيل تقاليد التفكير في الترجمة، وبأنها لا تزال تحيا، مهما يكن طابعها العلماني اليوم، في جانبٍ كبير من التفكير حول الترجمة اليوم.

فلْنُنْعِم النظر الآن في ترجمة الكتب المقدسة، في الصين وفي الغرب، ألا وهي ترجمة النصوص البوذية المقدسة إلى اللغة الصينية، وترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية من المصادر اليونانية، والعبرية، وهي التي قام بها القديس جيروم.

فإذا بدأنا بمنهج الترجمة، وجدنا أن أول اختلافٍ واضح بين المشروعَين هو أنه عندما تُرجِمَت النصوص البوذية أول مرة إلى اللغة الصينية، لم تكن تتوافر نصوصٌ مكتوبة تُذكَر. وأما النصوص المتوافرة فكان من الممكن أن تكون قد كُتِبَت بلغات آسيا الوسطى واللغات الهندية مثل السنسكريتية، واللغة التي كانت مكتوبة هنا أقل أهميةً من الحقيقة الساطعة التي تقول إن الوسيط المستعمَل في نقل النصوص المقدسة يرتبط ارتباطًا لا تنفصم عُراه بما أسميته الترجمة الفورية، على الرغم من أن النصوص التي تُلقَى على السامعين قد كُتِبَت بعد ذلك في مرحلة التسجيل للترجمة الفورية. وأما جيروم فقد كان يعمل استنادًا إلى وثائق مكتوبة، ووجد نفسه في موقف الترجمة التحريرية منذ البداية. ومن الواضح أن التمييز بين الحالين لم يستمر، كما أن الفصل بينهما لم يكن حاسمًا؛ إذ إن النصوص المكتوبة للكتب البوذية المقدسة أصبحت متاحة، تدريجيًّا، للترجمة إلى اللغة الصينية، ولكن حُجَّتي تقول، من جديد. إن المحاولة الأولى لأداء شيءٍ ما لا بد أن تُنشِئ تقليدًا، وإن هذه التقاليد تُعتبر من أسباب الاختلاف بين التفكير حول الترجمة في الصين وفي الغرب.

وربما كان أنصع اختلافٍ بين التُّراثَين يتمثَّل في التعارض ما بين «الأمانة» و«الحرية» في الترجمة، وهو الذي ابتُلِيَ به التفكير الغربي في الموضوع منذ عهد شيشيرون، ولم تُؤَدِّ ترجمة الكتاب المقدس إلا إلى تَفاقُمِه، وهو الذي تخلو منه التقاليد الصينية، فيما يبدو، إلى حدٍّ بعيد. وكانت الترجمات الأولى للنصوص البوذية المقدسة إلى اللغة الصينية تتميز، بطبيعة الحال، بما يُشار إليه بتعبير الأسلوب «البسيط»، أو «وين». ولكن السبب الأساسي كان يرجع إلى أن أوائل المبشِّرين البوذيين، مثل «آن شيجاو» وهو من قبيلة بارثيا، ومثل «زي لوجياتشان»، من قبيلة سقيثيا، الذين ترجموا تلك النصوص، لم يكونوا يُجيدون اللغة الصينية الإجادة المطلوبة.

وربما كانت أكبر مُفارَقةٍ تكشف عنها المقارنة بين أسلوبَي التفكير حول الترجمة، وهي أن الأسلوب البسيط، «وين»، الذي تخلَّى عنه المترجمون الصينيون بعد جيلٍ واحد، أو بعد جيلَين على الأكثر، يشبه الأسلوب الذي استخدمه يوزيبيوس هيرونيموس في ترجمته للكتاب المقدس، فهي ترجمةٌ زاخرة بنقل صور الكلمات من العبرية كما هي، وبأبنيةٍ للجُمَل على غِرار أبنيتها في اليونانية، وإلى حدٍّ أقل في العبرية. وكانت هاتان على وجه الدقة الظاهرتَين الترجميَّتَين اللتَين اختَفَتَا من الترجمات إلى اللغة الصينية بمجرَّد أن تولَّى الصينيون أنفسهم القيام، أساسًا، بالترجمة، وذلك منذ عهد «زي قيان». وأما بعد عهد «زي قيان» فقد كانت الترجمات تتميز برشاقة الأسلوب، أو «زي»، وهو الذي يُلائم الإبداع الأدبي، ولا شك أن السبب كان إدراك المترجمين أن ذلك هو الأسلوب الوحيد الذي يمكن احترامه وأخْذُه مأخذ الجد في أوساط الجمهور المستهدَف من المسئولين والأدباء والمثقَّفين. وقد ظلَّ هذا أسلوب الترجمة المعتمَد حتى أخلَت اللغة الصينية الكلاسيكية مكانها للصينية المنطوقة أيضًا باعتبارها لغة التواصل بين فئات النخبة في بداية القرن العشرين.

ومن الاختلافات البارزة الأخرى بين التراثَين، وهي التي تتَّضِح لنا على الفور، أن التقاليد الصينية تؤكد ما نسميه اليوم «عمل الفريق»، وهو المفهوم الذي تنفر منه التقاليد الغربية. ومن المعروف أن الترجمات الأولى للنصوص البوذية المقدسة إلى اللغة الصينية قد وُضعت في ثلاث مراحل منفصلة. كانت المرحلة الأولى، وهي التي تُسمَّى كوشو، مرحلة الترجمة الفورية أي الشفاهية للنص التي كانت كثيرًا ما تُكتَب أثناء الترجمة نفسها. وكانت المرحلة الثانية، التي تُسمَّى شوانيان، مرحلة التلقين الشفاهي والنقل والإلقاء. وكانت المرحلة الثالثة، التي تُسمَّى بيشو، مرحلة الكتابة باللغة الصينية. ولم تكن الترجمة في الصين إذن — منذ البداية — العملَ المقصور على فردٍ واحد يعمل دون مشاركة أحد، كما كانت الحال أساسًا في الغرب. والواقع أن «عمل الفريق» تحوَّل إلى نظامٍ ثابت يشترك في أدائه اثنا عشر شخصًا مختلفًا، لكلٍّ منهم لقبٌ خاص، ويقومون معًا بأداء اثنتي عشرة مهمة مختلفة.

ومن المشهور أيضًا أن جيروم كان يعمل مع مجموعة من المساعدين، محيطًا نفسه في معزله بمدينة «بيت لحم» بالرُّهبان والنبيلات الرومانيات، لكننا نشك في أنه عيَّن لمساعدته عددًا يُقارب العدد الذي كان كوماراجيفا يستعين به، وقيل إنه بلغ ٨٠٠ شخص. وفي حدود ما نَحدس عما كان يجري في معزل جيروم. في بيت لحم، وهو المعادل ﻟ «حديقة البال الخالي» التي أُنشِئَت في مدينة شانجان برعاية فوجيان، قبل أن يبدأ جيروم ترجمته للكتاب المقدس بثلاث سنوات، كان جيروم يستخدم مساعديه باعتبارهم معاجم بشرية أكثر من كونهم شركاء له في الكتابة الفعلية للنص المترجَم.

ومن المُضلِّل إلى أقصى حد أن يُزعَم أن الفوارق بين التفكيرَين الصيني والغربي عن الترجمة يمكن اختزالها في مجرد المنهج المُتَّبَع؛ إذ نجد إلى جانب هذا أمرًا ربما يزيد في أهميته عن المنهج، وإن كان لا ينبغي التهوين من تأثير أية تقاليد بعد إرسائها؛ ألا وهو دور النص المترجَم في الثقافة المُستقبِلة له؛ فأما في الثقافة الصينية فكانت القضية قد حُسِمَت في وقتٍ مبكِّر نسبيًّا، كما ذكرنا آنِفًا. ولم يكن أحدٌ يرجع إلى الماضي رجوعًا يُذكَر، أو يرجع إليه على الإطلاق، بعد حَسْم القضية؛ إذ إن النص الجديد — الترجمة — قُدِّرَ له أن يحُلَّ في الثقافة المستقبِلة محلَّ النص القديم، وأن يقوم بوظيفته. وقد قام بها فعلًا، سواء أكانت الترجمة دقيقةً أم لا.

كما كانت التقاليد الصينية تتَّسِم بظاهرةٍ أخرى، على الأقل منذ «زي قيان»؛ ألا وهي أن الشكل كان دائمًا يُعادل المضمون في الأهمية، وذلك مع مراعاة شرطٍ قد يكون ذا أهميةٍ أكبر؛ ألا وهو أن «شكل» الترجمة لا بد أن يكون شكلًا صينيًّا، لا شكلًا يحاول أن ينقل ولو إيحاءً عابرًا بشكل الأصل. ولم يحدث ذلك إلا عندما اقتربت التقاليد الصينية من نهايتها، وبعد ذلك، لا قبله، حاول بعض الشعراء مثل «فنج شي» محاولة استيعاب الشكل الغربي للسونيتة مثلًا في اللغة الصينية.

وأما في التقاليد الغربية، من ناحيةٍ أخرى، فقد كان المُعتاد اعتبار الشكل أقل أهميةً من المضمون، خصوصًا في حالة ترجمة الكتاب المقدس، حيث لم ينهض المفهوم الصيني لرشاقة الأسلوب — ويسمونه «يا» — بأي دورٍ مهم. ولم يصبح مفهوم «يا» مفهومًا سائدًا في التقاليد الغربية؛ لأن الترجمة في إطار تلك التقاليد لا يُفترَض فيها الحلول محلَّ نصٍّ آخر، ولا يُقصَد بها قَطْعًا طَمْس النص الأصلي الذي يواصل احتفاظه بحضوره خلف الترجمة أو متجاوزًا إياها؛ فهو دائمًا قائمٌ باعتباره المِحَك، بل — وهو الأهم — يحتفظ بسلطته القصوى. ونقول بتعبيرٍ آخر إن الترجمة لا تقوم أبدًا باعتبارها نصًّا مستقلًّا، باستثناءات نادرة، والمترجِم مضطرٌّ دائمًا إلى النظر من فوق كتفه إلى الأصل. ويفسر لنا هذا سر تكرار ترجمة النصوص في الماضي والحاضر، في الغرب، أو بالأحرى في شتَّى التقاليد الغربية، إلا حين تَحظى بعض الترجمات بالرضى فتُعامَل معاملة الأصل تقريبًا.

وهذا، على وجه الدقة، ما حدث في ترجمة جيروم للكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية (وهي التي كانت تُمثِّل أيضًا، وإلى حدٍّ ما، تنقيحًا لترجمات سابقة) وأصبحت تُعرَف باسم الترجمة «الشعبية» أي the Vulgate وأُعلِن أنها الصورة الرسمية للكتاب المقدس للكنيسة الكاثوليكية الرومانية. ومثل هذا الإقرار من جانب السلطة يزيد من دعم غموض مكانة هذه الترجمة، بحيث يمكن رفع منزلتها لتصل إلى مرتبة الأصل، حتى وإن تكن أساسًا ترجمة. ويوضح هذا أيضًا سبب القيود الشديدة المفروضة على الترجمة في الغرب. وكان ذلك على وجه الدقة لأنها كانت تُعتبر أيضًا موطن الضعف المحتمَل في هيكل السلطة؛ إذ ما عسى أن يكون عليه الحال لو اتَّضح أن النص الذي يُمثِّل أساس ثقافةٍ ما يتَّسِم بوجود أخطاء ولو في بعض أجزائه على الأقل؟ إن وجود مثل هذه الأخطاء فيه قد يؤدي إلى تقويض أُسُس السلطة ذاتها. ولا عجب إذن أنْ حاولت الكنيسة الكاثوليكية إثناء المترجمين (بالتخويف) ومنعِهم (بالقسر والإعدام) من وضع ترجمات للنص المذكور إلى اللغات القومية المختلفة في أوروبا، أو إجراء أية تعديلات تنقيحية لهذا النص نفسه فترةً لا تقل عن عشرة قرون، وإن لم تُصادِف النجاح الكامل في تحقيق هذه الغاية.

ومن الواضح أن السلطة قامت بدور معيَّن في ترجمة النصوص البوذية المقدسة إلى اللغة الصينية، ويُذكِّرنا الباحثون بعبارة «داو آن» التي تقول ما معناه «إن قضية البوذية لن تتقدَّم من دون دعم الملك لها». ولكن، خلافًا لما حدث في الغرب، نجد أن ترجمة النصوص البوذية المقدسة فقدت رعاية الدولة لها في الصين بعد نحو ثلاثمائة سنة، وأن الدعم الرسمي لنص الكتاب المقدس المذكور، على الأقل من جانب الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، لايزال قائمًا إلى اليوم. والواقع يقول: إن النص المذكور ظلَّ قائمًا دون أن يطعن أحدٌ فيه حتى القرن السادس عشر، عندما نشر إرازموس ترجمته ﻟ «العهد الجديد»، وإن كان قد اشترط ألا يقرأ ترجمته إلا العلماء، وأن تظل الترجمة «الشعبية» ساريةً بين أيدي الناس.

ولم تكن الترجمات الغربية الأولى للكتاب المقدس إلى اللغات القومية المختلفة في أوروبا تضع الأصل في موقعه التاريخي إلا حين تخرج عن نطاق اللاهوت وتدخل في مجالات الأدب. فكانت عندما تكُفُّ عن التظاهر بالترجمة بالمعنى الدقيق لتحويل الشفرة اللغوية، كما يسميها فيرمير، تصبح بمثابة إعادة سرد ﻟ «ملاحم الكتاب المقدس»، على نحوِ ما يُطلَق عليها في كتب التاريخ المكتوبة بالإنجليزية القديمة، وآداب اللغة الألمانية الرسمية القديمة. ويتَّضح هنا من جديدٍ مدى التشابه مع التقاليد الصينية، على نحو ما يحدث كثيرًا عند المقارنة مع بعض عناصر التقاليد الغربية التي لم تصل قطُّ إلى حد السيادة، أو التي كانت سيادتها قصيرة العمر نسبيًّا. وربما كان أقربَ نوعٍ إلى التقاليد الصينية في الغرب هو ما حدث خلال الفترة القصيرة التي سادت فيها في فرنسا موجة ترجمات «الخيانة الجميلة». والمؤكد أن هذا النمط من الترجمة لم يشِعْ إلا خارج النطاق الديني/اللاهوتي، ولكن سيادته كانت تعتمد على موقفٍ شبيه بالموقف السائد في التقاليد الصينية؛ أي اعتبار ثقافتها الثقافة الرئيسية، وما يصاحب ذلك من التكييف الثقافي ﻟ «الآخر» على ضوء هذه الثقافة وحدها. وأما المَثَل الأعلى للترجمة التي لا تتغير لكلمة الإله؛ لأنها كلمة الإله، فما زال يعيش إلى الآن في الغرب في صورة مفهوم الترجمة الأمينة.

ما الذي يمكن أن تدلَّنا عليه مقارنةٌ مثل المقارنة التي حاولتُ هنا إجراءها عن ظاهرة الترجمة في ذاتها؟ الأمر الأول والأوضح أن الترجمة تُمثِّل مجالًا يتَّسِم بسعة شديدة ويفوق إلى حدٍّ بعيد مجرَّد النشاط التقني للترجمة. وإذا شئنا التعبير بكلماتٍ أشد صرامةً قلنا إن تأثير اللغة في الترجمة تأثيرٌ هامشيٌّ وحسب؛ فهو في أفضل حالاته يعادل تغيير الشفرة؛ فالواقع أن العوامل التي تُشكِّل أسلوب تحديد إحدى الثقافات للترجمة عندها عوامل مستقلة عن اللغة، فيما يبدو، ولكنها مرتبطة بالثقافة إلى حدٍّ بعيد. وهذه العوامل تتضمَّن السلطة، سواء كانت في أيدي الكنيسة الكاثوليكية الرومانية أو في أيدي أباطرة أُسرات «هان»، أو «سوي» أو «تانج»، وأيضًا الصورة الذاتية للثقافة، ودرجة تجانُس ثقافةٍ ما أو عدم تجانُسها. وربما كان أقوى هذه العوامل كلها يتمثَّل في أمرٍ أتردَّد في الاعتراف به بعد هذا العرض المُسْهَب في إطار رصد الأنساب المقارَنة؛ ألا وهو المصادفة! أفليس لنا أن نتساءل عما كان يمكن أن يكون عليه الحال لو أن المترجمين الصينيين للنصوص البوذية المقدسة كانت لديهم نصوصٌ مكتوبة يعالجونها منذ البداية؟

ملاحظة

(١) أودُّ أن أقول إنني أدين بدَينٍ كبير إلى شخصين فيما كتبتُه؛ الأول زميلي الألماني هانز ج. فيرمير، الذي وضع تاريخًا للترجمة يشهد بتبحُّرِه الشديد ويُميِّزه إلى حدٍّ ما عن غيره. وهو الذي يسميه تاريخ الترجمة في الغرب؛ إذ جعلني هذا الكتاب أفكِّر — وفي بعض الحالات أُعيد التفكير — في الكثير من القضايا الجوهرية المرتبطة بالموضوع المطروح. والآخر طالب دراسات عليا عندي يُدعَى يان يانج، وهو أصلًا من شنغهاي ويعمل حاليًّا في مدينة أوستن؛ إذ إن رسالته للدكتوراه عن التفكير الصيني حول الترجمة قدَّمَت لي نظرات ثاقبة جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤