المقدمة

بقلم  شكيب أرسلان
 جنيف ١٩ ربيع الأول ١٣٥٢

بسم الله الرحمن الرحيم

ربنا إليك نفزع من مداحض القدم، وبك نستعصم في ما يجري به القلم، ونشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، بارئ النسم ومفيض النعم، وباسط الوجود على العدم، شهادة نعدها للنجاة إذا اشتدت الغمم، ونتقي بها النار ذات الضرم، ونشهد أن محمدًا عبدك ورسولك سيد من دعا إلى توحيدك من بين الأمم، وسلطان من طهّر الأرض من عبادة الصنم، المُنزَّل عليه كلامُك الموصوف بالقِدم، المبعوث بالآيات الباهرة والحكم. اللهم صلِّ عليه وعلى آله لهاميم العرب ومعادن الكرم، وأصحابه حملة الكتاب وليوث الكتائب في المزدحم، الذين أشرقت شموسهم في الشرق والغرب فأماطت الظلْم وأنارت الظلَم، وسلم يا رب كثيرًا.

وبعد، فإنه مما يجب أن يخلد في الصدور قبل السطور، وأن يُكتب على الحدق قبل الورق، أن حفظ التاريخ هو الشرط الأول لحفظ الأمم ونموّها، ورقيّ الأقوام وسموها، وأنه لا يتصور على وجه الكرة وجود أمة تشعر بذاتها وتعرف نفسها قائمة بنفسها إلا إذا كانت حافظةً لتاريخها واعيةً لماضيها، متذكرة لأوليّاتها ومبادئها، مقيدة لوقائعها مسلسلة لأنسابها حاشدة لأحسابها خازنة لآدابها، مما لا يقوم به إلا علم التاريخ الذي هو الواصل بين الماضي والمستقبل، والرابط بين الآنف والمستأنف، وأنه لا جدال في كون الأمة العربية التي تتحفز لتنباع وتستوفز لتمد طائل الباع، لم تكن لتحدث نفسها بالنهوض الذي جعلته نصب نواظرها، والاتحاد الذي سيّرته شغل خواطرها لو لم تكن رقَّت من رئاسة الممالك فيما غبر هاتيك الدرجات العالية، وطالعت من تاريخها تلك الصفحات المتلالية فجعلت الحاضر منها يخجل أن يقصر عن شأو الغابر، ويستطار أن يعلم أباه سيدًا في الأوائل وهو عبد في الأواخر، فكان إذن تاريخ العرب هو عمدة العرب فيما يطمحون إليه من معالٍ، ووسيلتهم فيما يندفعون إلى تحقيقه من آمال، ولعمري إن هذا التاريخ المجيد وإن سقته سيول المحابر واخضرَّت له أعواد المنابر، وسبقت فيه تآليف استولى أصحابها على الأمد إخراجًا، ولمعت فيه كتب أو لاحت لكانت بروجًا، ولو نضدت لكانت أبراجًا، لا تزال فيه نواقص بادية العوار ومعالم طامسة الآثار، ومظانّ متوارية غامضة، ومعلومات قاعدة غير ناهضة، تحتاج إلى همم بعيدة من الأفواج الآتية ليثيروا من دفائنها، وإلى معارف واسعة عند السلائل المقبلة لينثلوا من كنائنها، وإن من أخصّ ما أهمل العرب فيه التأليف مع أنه من أمجد ماضيهم وألمع ما لمعت فيه مواضيهم هو الدور الذي كان لهم في القارة الأوربية خارجًا عن الأندلس، وذلك كفتوحاتهم في ديار فرنسة وإيطالية وسويسرة، وما كانوا يقولون له: الأرض الكبيرة، وكفتوحاتهم لجزائر البحر المتوسط التي رفعوا فوقها أعلامهم حقبًا طويلة، وأثّروا فيها آثارًا كثيرة أثيرة، فإن هذا الدور من أدوارهم يكاد يكون عند أبنائهم مجهولًا، بل إن كثيرًا من ناشئتهم لا يعرفون عنه كثيرًا ولا قليلًا، والحال أنه من أقعس فتوحاتهم مجدًا وأوعر مغازيهم غورًا ونجدًا، وأدلّ أعمالهم على ما أوتوه من علو الهمم ومضاء العزائم، وما كان غالبًا على أخلاقهم يومئذ من احتقار الطوائح واستصغار العظائم، فلهذا خصصت بهذا الموضوع كتابًا مستقلًا أسميته «الخبيئة المنسية في مقام العرب بجبال الألب والبلاد الإفرنسية»، وجعلت هذا الكتاب أشبه بجزء من أجزاء كتابي الذي أنا مباشر تأليفه عن الأندلس باسم «الحلة السندسية في الرحلة الأندلسية»، وسيكون فيما أحزر أربعة أو خمسة أجزاء إن لم يكن أكثر.

هذا وقد رأيت أن أتوج هذا الكتاب باسم الملك العربي الصميم منزعًا ونسبًا، ذؤابة بيت الرسول الكريم وحسبك بذلك شرفًا وطهرًا وأمًّا وأبًا، الذي وقف نفسه الأبية على خدمة أمته العربية عاملًا لنهضتها بعد ربضتها، ومجاهدًا في ربوتها بعد كبوتها فيصل بن الحسين ملك العراق والرافدين، أطال الله أيامه ونصر أعلامه وسدد آراءه وأحكامه، وأبلغه من مجد العرب مرامه، وذلك بالاتفاق مع أخويه الإمامين الهمامين العاهلين العادلين ملكي الجزيرة العربية في هذا العصر، المكتوب لهما فيه بإذن الله التمكين والنصر، الإمام يحيى بن محمد بن حميد الدين صاحب مملكة اليمن السعيدة، والملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود صاحب الدولة العربية السعودية، أيدهم الله جميعًا لتأييد هذه الأمة وصيانة ذمارها، وألهمهم دوام الائتلاف والاتحاد لما به تجديد مجدها وإقامة عثارها، حتى يعود أمرها كما بدا وترجع أيام عزِّها جددًا، وما ذلك على الله بعزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤