الفصل الخامس

الحكم الأخير

عندما عُرِضت حياة المغنِّية إيمي واينهاوس المليئة بالاضطرابات والمشكلات على الشاشة الكبيرة من خلال الفيلم الوثائقي «إيمي»، كان بمنزلة إهانة، بالأخص لوالدها ميتش واينهاوس، الذي اكتشف أنَّه أُقحِم في قصة حياة ابنته على أنه «أبٌ غائب لاهث وراء المال وجذب الاهتمام». فاحتجَّ بقوة قائلًا: «ما كانت إيمي لتريد ذلك؛ لأنَّ إيمي تعلم أن هذه ليست الحقيقة.»1 وكذلك تبرَّأتْ عائلة واينهاوس كلها من الفيلم مُدَّعية أنَّه «غير متوازن» و«مُضلل»، بينما ردَّ صُناع الفيلم قائلين إنَّ القصة التي سرَدوها «تعكس نتائجنا» التي استُمِدَّت من ١٠٠ حوار شخصي، وجرى التعامل معها ﺑ «موضوعية تامة».

ومهما كانت مزايا الفيلم وجدارةُ الادِّعاء القائلِ إنَّه كان انعكاسًا مُنصفًا لحياة إيمي واينهاوس، يبدو واضحًا أنَّ «الموضوعية التامة» لا وجود لها. السؤال الأوجهُ هو ما إذا كانت الشِّباك الوصفية التي أوقَعوا فيها حياة إيمي واينهاوس قد صيغت بعناية كافية. عادةً ما يُحكَم على المشاهير بطريقةٍ علنية جدًّا، والأحكام على حياتهم ككلٍّ ستكون مشوَّهة لا محالة. وهذه التشوُّهات تتَّخِذ عدةَ أشكال. ففي بعض الحالات، تُختزَل شهرتهم في موضوع مكرَّر أو فكرةٍ واحدة: مثل اشتهار جيمس دين بأنه كان شابًّا متمردًا، والأم تيريزا بأنها قديسة، وما إلى ذلك. ومن المؤكد أنَّ هذه الاختزالات، حتى عندما تُعرَض باستفاضةٍ في السِّيَر الذاتية، تُقدِّم نُسخةً ناقصة حتمًا من حياة المرء. وكما قال كاري جرانت مرةً: «الكل يريد أن يكون كاري جرانت. حتى أنا أريد أن أكون كاري جرانت.» إذا قرأت كتاب كريستوفر هيتشنز عن الأم تيريزا، سرعان ما سترى أنَّ الأمر، كما هو الحال في عددٍ هائل من النُّسَخ المعروضة من حياة الشخصيات العامة، ليس بهذه البساطة إطلاقًا.

إن فكرة الحُكم على حياة شخصٍ ما من كل الجوانب مستحيلةٌ بقدرِ ما هي مُغرية. المشكلة لا تتعلق بالاختزال فحسب. بل تتعلَّق أيضًا بالمتطلبات اللازمة لسرد قصةٍ متَّسقة. فقد قال كيركجارد إنَّ الحياة تُعاش بالمُضيِّ قُدُمًا فيها إلى الأمام لكنها لا تُفهَم إلا بالرجوع فيها إلى الوراء. غير أنَّ هذه الصياغة تُشير إلى مستوًى مُعيَّن من الفهم، ومن اليقين السردي، لا يمكن أن يجتمع مع الدقة.

ومن ثَمَّ، يتوجَّب أن يُواجِه الراوي مفاضلةً بين سرد قصةٍ دقيقة وسرد قصةٍ متَّسقة (فضلًا عن أن تكون مُسلِّية). صحيحٌ أننا نستمتع بالمنحنى السرديِّ الذي يُضفي شكلًا على الحياة، ولكن يمكننا أن نُدرك أنه يجب أن يكون محبوكًا إلى حدٍّ يُضفي بعض الغموض على صاحب الحياة الفعلي.

ومهما بلغ قَدرُ «الموضوعية» التي يشعر صناع فيلم «إيمي» بأنهم تحلَّوْا بها، فإن الفيلم تضمَّن أداءً تمثيليًّا إبداعيًّا بارزًا، من خلال اختزال الأحداث الحقيقية وتصفيتها وانتقائها، كما تضمَّن مُتطلَّبات السرد التي تعني أنَّ حياة إيمي واينهاوس المعروضة مُحرَّفة حتمًا عن القصة الكاملة من عدة جوانب. ولكننا نريد أن نرى القصة مُسرودةً على أي حال.

سرد القصص

لمحاولة «معرفة» الناس؛ يضع بعض علماء النفس الأفراد في مزيجٍ من ظروفٍ مُعينة تتراوح بين الاختلافات في الخصائص البيولوجية، والتجرِبة الفردية، والتنشئة الاجتماعية الثقافية التي تُميز تَفرُّدهم. وهنا يُعَد نموذج الشخصية2 الثلاثي المستويات الذي وضعه دان ماك آدامز، الباحث في موضوع الشخصية، مثالًا جيدًا على ذلك. فقد استخرج خُلاصةَ أبحاثه التي أجراها عبر مجالاتٍ عديدة في علم النفس ليوضح أنَّ معرفة شخصٍ ما تعتمِد على رؤيته على ثلاثة مستويات: «الفاعل الاجتماعي»، و«الفاعل المُحفز»، وأخيرًا «مؤلف سيرته الذاتية».
يصف المستوى الأول، أي مستوى الممثِّل، طبعَك ويتكوَّن من «سمات سلوكية طبيعية» كامنةٍ فيك. وعلى مدار الأعوام العشرين الماضية تقريبًا، توصَّل واضعو النظريات المتعلقة بالشخصية إلى توافق بشأن ما يُعرف في هذا التخصص ﺑ «السمات الخمس الكبرى» للشخصية. وتلك السمات هي:
  • الانبساطية: الميل إلى مرافقة الآخرين، والهيمنة الاجتماعية، والحماس، والسلوك الساعي إلى المكافأة.
  • العصابية: القلق، وعدم الاستقرار العاطفي، والميول الاكتئابية، والمشاعر السلبية.
  • يقظة الضمير: الاجتهاد والانضباط والالتزام بالقواعد والتنظيم.
  • الوفاق: الدِّفء، والاهتمام بالآخَرين، والإيثار، والتعاطف، والتواضع.
  • الانفتاح: الفضول، والخروج عن الأنماط التقليدية، والخيال، والاستعداد لتقبل الأفكار الجديدة.
هذه سِماتٌ عامة نختلف فيها جميعًا فيما بيننا إلى حدٍّ ما، سِمات تسري عبر حياتنا وتؤثر في كيفية تجاوبنا عاطفيًّا وإدراكيًّا للتجارِب بوجهٍ عام. فعلى سبيل المثال، يرى ماك آدامز، في تقييمه لدونالد ترامب أنه رجل لديه:
مستوًى عالٍ للغاية من «الانبساطية» (مما يشير إلى غزارة انفعالاته الشعورية والهيمنة الاجتماعية) ومستوًى مُتدنٍّ جدًّا من «الوفاق» (مما يشير إلى «نقص» واضح في التعاطف ومراعاة الآخرين واللطف والإيثار). وهذا المزيج الاشتعالي، الذي يندُر وجوده بين الساعِين إلى المناصب الحكومية على وجه الخصوص، يُسفر عن فاعلٍ اجتماعي سريع الانفعال وخَطِر ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته.3
وبينما يبدو أنَّ السمات توضح شيئًا ما عنَّا، يرى ماك آدامز أنها تكشف عمَّا هو أعمقُ بقليلٍ من مجرد معرفة شخصٍ غريب. فأوصاف السمات غيرُ مرتبطة بسياق معُيَّن؛ ولذا لا تمنحنا قدرًا كافيًا من التفاصيل القيِّمة الخاصة بفردٍ بعينه. لذا يُولي ماك آدامز أهميةً كبيرة لِما بين هذه المستويات من اختلافاتٍ قد تتعرض لاختبارات عسيرة عندما نُواجِه الطُّرُق المتداخلة الفوضوية التي نتصرف بها في الواقع. ولكن من أجل الشرح والتوضيح، سيكون من المفيد اعتبارُ المستويات مختلفةً من الناحية المفاهيمية، حتى وإن كان ذلك مثاليًّا إلى حدٍّ ما. ومن ثَم، فالمستوى الثاني من المعرفة، الذي نُعتبر فيه «فاعلين» لسلوكنا، يتمثَّل في «تكيفات مميزة» أو «شواغل شخصية» خاصةٍ بكل شخص، وأكثر ارتباطًا بظروف وسياقات معينة مقارنة بالسِّمات. وهذه التكيفات والشواغل تتضمن الأهدافَ والقيم التي يُمكن اعتبارها مَساعيَ أخلاقية. ويُمكن أن تتغير تلك التكيفات المميزة على مرِّ الحياة تغيرًا أسهلَ من السمات الطبيعية المتأصلة، وعادةً ما تكون أكثر اقتصارًا على سياقات فردية. وفي هذا الإطار يقول ماك آدامز عن ترامب مجددًا:

يتوافق أسلوب ترامب المدفوعُ بطبعه الاندفاعي مع هدفه الأساسي في الحياة؛ ذلك الهدف النرجسي الذي يسعى فيه إلى تعزيز صورة دونالد ترامب. فمنذ أن التحقَ دونالد ترامب بأكاديمية نيويورك العسكرية التي تُكافئ المدارس الثانوية، سعى بإصرار إلى اتباع أجندةٍ تحفيزية من توسيع الذات وتمجيدها واستعراضها والمبالغة في الإعجاب بها.

يكشف هذا المستوى من المعرفة عمَّا هو أعمقُ من مجرد سِمات الشخص الطبيعية المتأصلة، لكنه لن يوضح لنا ما يكفي. لذا لدينا مستوَى ماك آدامز الثالث، وهو مستوى «المؤلف» الذي يسرد «قصصًا تكامُلية عن حياته». وهذه الهُوية السردية هي موضوع هذا الفصل، سواءٌ من حيث ما توضحه القصصُ عن أنفسنا للآخرين، أو حدود هذه القصص الكاشفة. هذه القصص هي الروايات التي ينسجها الناس ليفهموا أنفسَهم، بطريقةٍ تضع قيمَهم ومعتقداتهم في إطارٍ متَّسق. وغالبًا ما سوف تصف هذه الرواياتُ بكل وضوحٍ الكيفيةَ التي وصل بها الفرد إلى المواقف السياسية والأخلاقية التي يتبنَّاها في حياته.4
ومن وجهة نظر ماك آدامز، تركز رواية دونالد ترامب الشخصية على أنَّ العالم مليءٌ بالأخطار، وأنَّ المرء يجب أن يكون مستعدًّا للقتال. ويسرد ترامب قصصًا عديدة لدعم وجهة نظره هذه عن العالم، وفيما يلي واحد من أبرز الأمثلة على هذه القصص:

كوَّن فريد ترامب (والد دونالد) ثروةً من بناء مجمَّعات سكَنية في كوينز وبروكلين وامتلاكها وإدارتها. وفي عطلات نهاية الأسبوع، أحيانًا ما كان يصطحب واحدًا أو اثنين من أطفاله لتفقُّد المباني. يتذكر دونالد قائلًا في كتابه «أمريكا العرجاء»: «كان يسحبني معه وهو يجمع الإيجارات الصغيرة في مناطقَ شديدةِ الخطورة والعنف في بروكلين. ليست متعةً أن تكون مالكًا لعقارات مؤجَّرة. عليك أن تكون صُلبًا.» وفي إحدى هذه الرحلات، سأل دونالد أباه فريد عن سبب وقوفه دائمًا إلى جانب باب المستأجِر بعدما يرن الجرس. فأجاب أبوه قائلًا: «لأنهم أحيانًا يُطلقون النار عبر الباب مباشرة.»

يُمكن النظر إلى كل الحيوات، حين تُسرد قصصها، عبر تلسكوب أو ميكروسكوب، فتبدو صغيرةً وعادية أو مُفصَّلة وذات نسيج مليء بالتحولات والمنعطفات. فالقصص، على كل نواقصها التي تحدُّ من دقتها، ضرورية إذا أردنا أن نتوصل إلى أيِّ فهم تفصيلي للحيوات من كل الجوانب. فحياتنا، رغم كل شيء، لها أول ووسط وآخِرٌ حرفيًّا. والأهم من ذلك أنَّ القصص، في إطار السعي إلى المغزى، تعرض أسبابًا ونقاطًا أساسية ودروسًا مستفادة، وقادرة على جذب اهتمامنا. صحيحٌ أنَّ الخطاب غير السردي قد يُمدُّنا بمعلوماتٍ مفيدة، لكنَّ القصصَ وحدها هي ما يُمكن أن تكون شائقة. القصص وحدها هي ما تخلب الذهن، بصياغةِ روابطَ بين العاديِّ وغير العادي. توجد قصة من سبع كلمات منسوبة في الغالب إلى هيمنجواي توضِّح هذه النقطة بشكلٍ أفضل ممَّا أستطيع توضيحه:

للبيع: حذاءُ طفل رضيع لم يُنتعل قَط.

تقدم القصة أمزجةً متناقضة بين العادي وغير العادي، وتجمعهما معًا بطريقة تستحضر إجابةً على سؤال يتردد عبر حيواتنا: ألا وهو «لماذا؟» إن كلمة «لماذا» في السؤال تتناول الدوافع البشرية، وتتطلب شرحًا ذا إطارٍ سردي. فنحن لا نسأل «لماذا» إلَّا عند حدوث شيءٍ غير عادي. تحكي أمي قصةً عن أنها فقدَت عدساتٍ لاصقةً في أحد البنوك قبل سنواتٍ عديدة. وبينما كان العديد من الأشخاص جاثمين على الأرض ليُساعدوها في العثور عليها، سمعوا صرخة. كانت عميلةٌ جديدة قد دخلت البنك، وحَسبت عندما رأت الناس جاثمين على الأرض أنَّه يتعرض لسطو مسلَّح. كانت العميلة تحاول أن تضع هذا المشهد غيرَ العادي في سياقِ سرديةٍ مناسبة يمكن إدراكها واستيعابها (وإن كانت مُستبعَدة). لم تقف في مكانها متحيرة، بل اختلقت السببَ الذي جعل هؤلاء الناسَ جاثين على أياديهم ورُكَبِهم. فنحن دائمًا ما نتوقع أنَّ الناس يفعلون الأشياء غيرَ العادية «لسببٍ ما». فحين تحدث الأشياء ضِمن الإطار التقليدي والعادي، تبدو واضحةً على الأرجح؛ ولذا لا تحتاج إلى تفسير مقارنةً بالأشياء غير العادية. أمَّا عندما يحدُث شيءٌ خارج توقعاتنا، فإنَّنا نستحضر روايات تُمكننا من وضع هذه اللحظة غير العادية في سياقِ قصةٍ أكثر قابلية للفهم.

إذا رويتُ قصة حياتي المبكرة في الشرق الأوسط، وشرحتُ سبب انتقالنا إلى المملكة المتحدة قبل أن أبلغ العاشرة من عمري، فإني أستطيع القول إنني وُلِدت في بغداد لمهندس ومقاول أردنيٍّ ومعلمةٍ أيرلندية، وإنَّ المدينة بدَت لهما مكانًا مناسبًا لتكوين أسرة وكانت مليئةً بفرص العمل، ما جعل والديَّ يقضيان عشرَ سنواتٍ سعيدة هناك. لكننا غادرنا العراق؛ «لأنَّ» صدام حسين كان قد ظهر على الساحة وكان سيجعل الحياةَ لا تُطاق للرعايا الأجانب مثل والدي. عِشنا سعداءَ في لبنان لاحقًا، لكننا غادرنا بيروت متوجِّهين إلى بيرلي في جنوب لندن «بسبب» اندلاع الحرب الأهلية في عام ١٩٧٥، ولأن والديَّ تعرَّضا لإطلاق نار عندما كانا عائدَين إلى المنزل من حفلٍ في الجزء المضطرب من المدينة. وهكذا فإنَّ ما تشمله هذه القصةُ البسيطة من أجزاء تبدو كأنها تغيُّرات، أو نقاط تحوُّل، مثل الحاجة إلى الهجرة، هو الذي يتطلَّب تفسيرًا، أمَّا «عشر سنوات سعيدة» في مدينة واحدة، فلا تكاد تتطلَّب جملة عادية موجزة.

إن وضع الحياة ضِمن إطارٍ من الصياغة السردية بمنزلة إيجاد طريقةٍ لمنحها معنًى ومغزًى. وقد علَّق العديد من الكُتَّاب بدءًا من أرسطو على ذلك قائلين إنَّ الشكل السرديَّ يخضع لبعض العناصر والسِّمات المتكررة. وكمثالٍ على هذه الجهود الساعية إلى وضع تصنيفٍ نوعي خاص بسرد القصص، أمضى الكاتب كريستوفر بوكر معظمَ حياته العمَلية عاكفًا على استكشاف تَكرار سبع حبكاتٍ أساسية فقط من الحبكات التي يبدو أنها تُضفي طابَعًا حيويًّا حرَكيًّا على الأدب وبعض الأشكال أخرى من سرد القصص، مثل الأفلام بأشكالها المختلفة.5 ويُمكن أن تساعد هذه الأشكالُ في تعميق فهمنا لآليات تسيير الحبكة التي قد نستخدمها في سرد قصص حياتنا. وهي كالتالي:
  • (١)
    التغلُّب على الوحش: يروي هذا الشكلُ القصصيُّ حكايةَ قهرِ شكلٍ من أشكال التهديد. وعلى وجه الخصوص، نجد أنَّ الأبطال الخارقين الذين تحدثنا عنهم سلفًا ويُظهرون مهارتَهم بهذه الطريقة مُقنِعون جدًّا عند صياغة حكايتهم في شكل قصصي. وفي هذا الإطار يُقارن بوكر بين فيلم «أسماك القرش المفترسة» (جوز)، وحكاية «بيوولف» الإنجليزية القديمة لإظهار التشابهات الواضحة بينهما ومدى استمتاعنا في كلتا الحالتين بقصة انتصارٍ بطولي على عدوٍّ مُخيف. لكنَّ هذه الدراما يمكن أن تحدث على عدة مستويات أيضًا. فعندما بدأتْ دراستي في المدرسة الثانوية في بيرلي، كان بعض الصِّبية يتنمَّرون عليَّ من حينٍ إلى آخر. وكان أحدهم بالأخص مغرمًا بالسخرية منِّي. عانيتُ الإهانة مِرارًا خلال السنة الأولى من المدرسة. وفي عصر أحد الأيام، بعدما سخر مني مجددًا بجوار مختبر الفيزياء، لكَمتُه على ذقنه المدبَّب. لم تكن لكمةً قوية، لكنَّ التنمُّر توقَّف بعدها. وبذلك أكون قد رويتُ جزءَ التغلب على الوحش وجزءًا آخر من سيرتي الذاتية!
  • (٢)
    من الفقر إلى الثراء الفاحش: حيث يكسب بطلُ الرواية المُعدم شُهرةً وثروة. وأحيانًا ما يكون هذا مصحوبًا بتطور مفاجئ في الأحداث؛ إذ يخسر البطلُ ثروته الجديدة، لكنه يستعيدها لاحقًا مع جُرعة كافية من الحكمة المتواضعة. وهذا الشكل القصصي ليس مقصورًا فقط على التحول من الفقر إلى الثراء. بل يتعلق بالكيفية التي يُصبح بها المُهمَّشون والمتواضعون والمُهمَلون في دائرة الضوء، ويتلقون الاستحسان والإطراء. ومن الأمثلة على ذلك سندريلا، وتحوُّل كلارك كِنت إلى سوبرمان، أو الرجل الخارق، في كابينة الهاتف العمومي. وعلى هذا المنوال تسير القصة التي يسردها والدي عن إفلاسه، في ظل تراكم ديونٍ هائلة عليه بعدما ترك عمله في بيروت، التي كانت مدينةً حلَّ بها الخراب والدمار بعد الحرب الأهلية في عام ١٩٧٥، واضطراره إلى إعادة بناء كل شيء من الصفر.
  • (٣)
    السعي: يُركز هذا الشكل القصصي على السعي إلى شيء ذي قيمةٍ فارقة. وتتضمن القصصُ الخيالية المرويَّة بهذا الشكل رواية «موبي ديك» و«الكأس المُقدسة» وفيلم «إنقاذ الجندي رايان» (سيفينج برايفت رايان). والمُصطلح العام المُستخدَم في هوليوود، والمنسوب غالبًا إلى هيتشكوك، لوصف هذا الشكل هو «ماكجافن». ويُمكنك أن ترى هنا كيف أنَّ قصص حياة الأفراد أيضًا يُمكن أن تسير وَفْق هذا المنطق. فإذا كان لديك هدفٌ في الحياة، وسعيتَ خلفه ونجحت في تحقيقه، يُصبح لديك قصةٌ جديرة تمامًا بالسرد. ليس شرطًا أن تكون فرانسيس كريك وجون واطسون وروزاليند فرانكلين وهُم يكتشفون التركيب اللولبي المزدوج. بل يُمكن أن تكون قصتُك عظيمة بالقدر نفسِه إذا تدرَّبتَ على المشاركة في ماراثون لندن وركَضتَ فيه.
  • (٤)
    رحلةٌ وعَودة: هذا شكل قصصي يُمكن تمييزه بسهولة شديدة؛ فالرحَّالة مثل أفراد طاقم «ستار تريك» أو «عوليس» ينطلقون في مغامراتهم، ويواجهون تجارِب، ومِحَنًا في بعض الأحيان، تُغير حياتهم، ثم يعودون إلى أوطانهم لسرد حكاياتهم. صحيحٌ أنَّ البعض قد يكونون قد خاضوا رحلةً فعلية حول العالم ليسردوا حكايتها، لكنَّ الكثيرين لم يخوضوا رحلات فعلية؛ ومن ثمَّ، فمجرد سرد تجرِبة التحاقهم بالجامعة ستَّتخذ هذا الشكل. ويُعد هذا النوع من القصص جزءًا مألوفًا من معظم روايات حياتنا؛ حتى لو اقتصر عند الكثيرين منَّا على مجرد وصف عطلة حافلة بالأحداث.

أمَّا الحبكتان الخامسة والسادسة التاليتان، فهُما الكوميديا والتراجيديا، اللتان تُغطي كلٌّ منها مجموعةً ضخمة من الظروف، لكنهما تختلفان في الكيفية التي تُحَل بها عُقَدهما في نهاية الرواية. فسواءٌ أكنت تُصور شخصًا يواجه خَسارةً فادحة ويعيش وسط قدرٍ هائل من الحزن والألم لعلَّه يخرج بشيء إيجابي من ذلك حتى لو لم يأتِه تعويضٌ حقيقي. حتى لو أدَّت الظروف إلى نتيجةٍ كارثية — مثل عطيل وغيرته التي كانت عيبَه القاتل — يظلُّ لديك القالب لحكاية شائقة يُمكن سردُها. أم في حبكة الكوميديا، تُحَل عُقدة المعاناة وخطر التراجيديا المُحتمَل أو يُتجنَّبان بإضفاء ظل أقلَّ قتامةً من اللامنطقية المثيرة للضحك أو خفة الظل المُنقذة، وغالبًا ما يكون هذا على حساب بطل الرواية. فالكوميديا عادةً ما تحمل بين طيَّاتها كآبةً مظلمة متوارية تجعلنا نضحكُ على مصادر آلامنا العديدة. ففي فيلم مثل «وصيفات العروس» (برايدميدز)، نستطيع أن نرى كيفية تنحية آلام النقد والرفض والحيرة وفقدان الاعتبار من خلال تيَّار مستمر من الحلول الطريفة الساخرة والمفعمة بالمحبة، وإن كانت مؤقتةً في الغالب.

وأمَّا حبكة بوكر السابعة، فهي الميلاد من جديد. وعنها يقول:

نُصادف في بدايات حياتنا نوعًا من القصص ليس له مثيل. وفي الشكل الذي نُواجهه فيه لأول مرة، في قصص الطفولة، عادةً ما يتركَّز حول طاقم شخصيات القصص الخيالية المألوف المكوَّن من أبطالٍ خارقين وأمراء صِغار، أو بطلات خارقات وأميرات صغيرات، يصطدمون بسحَرة أشرار أو ساحرات شريرات أو زوجات آباء بَغيضات. لكنَّ مثل هذه القصص لا تُعَد من القصص التقليدية المُصنَّفة ضِمن حبكة التحول من الفقر إلى الثراء أو حبكة التغلب على الوحش. بل تتضمن عنصرًا حاسمًا يُميزها عن كلٍّ منهما. (١٩٣)

هذا العنصر ينطوي على نوعٍ من التحول الشخصي، وكأنَّ لسان حال البطل يقول لقد ضللتُ الطريق لكنِّي وُجِدتُ الآن. توجد قصة تتضمن تطورًا وتحسنًا ودروسًا مستفادة، غالبًا ما تكون نِتاجَ فعل مُنقِذ مفعَم بالمحبة. لننظر مثلًا إلى قلق الطفولة الذي ينتقل مع المرء إلى مرحلة البلوغ، ويُحَل، أو يُتعايَش معه، في النهاية من خلال عمليةِ تصالُح أو من خلال مواجهة الخوف.

لقد استغرقتُ ما استغرقت من الوقت في وصفِ سعي بوكر إلى تلخيص الحبكات الأساسية السبع6 كوسيلةٍ لنستكشف ما يتضمَّنه سردُ القصص عمومًا، ونعرف كيف أنه قد ينطبق على الطريقة التي نشرح بها أنفسنا عندما نسرد قصصَ حيواتنا. فمثل هذا السرد مهمٌّ في سعينا إلى تلقِّي أحكامٍ إيجابية من خلال عَرض الأحداث التي تُمكِّننا، تمكينًا مباشرًا أو غير مباشر، من أن نُبيِّن للآخرين أننا طيِّبون ومسيطرون. يعترف بوكر بوجود صور مختلفة من هذه الأفكار الأساسية، وبأنَّ العديد من القصص يجمع عدة أفكار ضِمن رواية واحدة. وتعجبني حقيقةُ وجود شيء مُختلَق في هذا التصنيف النوعي؛ لأنها تُذكرنا بأنَّ سرد القصص ليست مجردَ سردٍ للقصة كاملة إطلاقًا. فيجدُر بنا أن ندرك أنَّ أي حكاية لكي تكون جذابة، يجب أن تُنسَج بإبداع ومهارة، ويجب أن تخضع لمبادئ السرد إذا كان لها أن تكون شائقةً أو قابلة للتصديق حتى، وإذا كان لها أن تكون قابلةً للحُكم عليها أصلًا. وسعيًا إلى منح قصصِ حياتنا اتساقًا سرديًّا؛ نحتاج إلى أن نُضيف إليها أحداثًا ونقاطًا جاذبةً للاهتمام. نحتاج إلى خلقِ مُعضلات وحلول وأحداث وتشويقٍ للأحداث التالية لتكون الحكاية جديرةً بالسرد.
وفوق ذلك، أحتاج إلى أن أستطيع القولَ إنَّ هذه الأحداث جزءٌ من سيرتي الذاتية وإن كان يبدو أنها وقعَت منذ أمدٍ بعيد جدًّا، وقائمة إلى حدٍّ كبير على نُسخٍ مُحدَّثة وليس على ذكريات فعلية لدرجة أنني أتساءل ما علاقتي بذاك الصبيِّ الصغير الذي أحكي عنه. إنه أنا وليس أنا. ويذهب الفيلسوف ألسدير ماكنتاير إلى أنَّ الذاتَ ليست كِيانًا مفردًا بسيطًا. بل إنك تُعتبر بطلَ قصةٍ تبدأ بالميلاد وتنتهي بالموت؛ ما يعني أنَّك يُمكن أن تكون مُطالَبًا بشرح الأفعال والخيارات التي تؤلف هذه القصةَ عن حياتك.7 وإذا لم تستطع أن تشرح نفسَك على هذا النحو، نبدأ في التشكيك في أنك هذا الشخص الذي تدَّعي أنه أنت. وهذا بدوره يتطلب منك أن تكون مسئولًا عن أن تجعل حكايتَك مفهومة. فلا بد أن يتوافق سردي مع روايات الآخرين عن أيٍّ من أفعالي؛ ولذا يجب أن يتوافق سردي للحكاية مع سردياتهم لها.
نحن نُقدِّر قيمةَ الاستمرارية. فنُحب أن نؤطِّر قصصنا على أنها منسوجةٌ بطبيعتها عبر خطٍّ سردي يتضمن رابطًا بين الماضي والمستقبل يقع في مكانٍ ما بين الواقع والخيال. وبخصوص هذا الشأن، طَرَح فتجنشتاين استعارةً مفيدة، وإن كانت في سياق مختلف، قائلًا:
نجد أن ما يربط بين كل حالات المقارنة [أي استخدامنا لكلمة «مقارنة ﺑ » …] هو عددٌ ضخم من التشابهات المتداخلة، وحالما نُدرك ذلك، لا نعود مُضطرِّين إلى قولِ إنه لا بُد أن تكون بينها جميعًا سِمةٌ واحدة معيَّنة مشتركة. فما يربط السفينةَ برصيف الميناء حبل، والحبل يتكوَّن من ألياف، لكنه لا يستمدُّ قوته من أي ليفةٍ واحدة تمر عبره من طرَفٍ إلى آخَر، بل من وجود عدد هائل منها متضافرٍ معًا.8

وهذا يعني أننا، عندما نشرح التغييرات والتناقضات الظاهرة، نشرعُ في حلِّ خيوط القصص الموجودة ونُحِل محلَّها قصصًا جديدة. فالشخص الذي يقول في وقتٍ مبكر من حياته «أنا لستُ بارعًا في الرياضيات» يحل محلَّه تدريجيًّا شخصٌ يقول «أنا مستثمر ممتاز في سوق الأسهم.» غير أنَّ فقدان القصة غالبًا ما يَنطوي على بعض الخطورة؛ لذا نُحبِّذ أن نتشبَّث بها. نحبذ أن نعزز قيمتَها بإضافة معنًى إليها، ونُضفِيَ عليها طابَعًا يجعل الآخرين يُسلِّمون بها دون جدال. ولكن حالما نُدرك بحَدْسِنا (أو يُبين لنا أحدهم) أنَّه لا أحد يُسلم بها دون جدال، وأنَّ قدرًا كبيرًا جدًّا منها من وحي تأليفنا الشخصي غير المقصود، لا يسَعنا سوى أن نرى القصة تتلاشى. يجب أن نأخذ في حُسباننا التأثيرَ غير المتوقَّع لماضينا علينا؛ لرغباتنا التي شكَّلتْها قُوًى يصعُب علينا للغاية أن نراها ونتحدَّاها.

ترتبط إحدى السِّمات الأساسية لتذكُّر قصص الحياة بالمشاعر. فقد قالت مايا أنجلو مرةً إنها تعلمَت أنَّ الناس «سينسَون ما قُلته، سينسون ما فعلتُه، لكنَّهم لن ينسَوُا المشاعر التي جعلتهم يُحسون بها أبدًا.» وهذه الحكمة المتبصِّرة تنطبق إلى حدٍّ ما على تأمُّلاتنا في حياتنا نحن أنفسنا؛ إذ نميل إلى تذكُّر المشاعر التي بثَّتها فينا الأحداث، سواءٌ أكانت سيئةً أو مثيرة أو محرجة. وحالما نتوصل إلى الحالة الشعورية المحيطة بحدثٍ معيَّن، يجب أن نعمل على نسج القصة بإقناع، قصة تُغلِّف تلك المشاعر بحيث تُبرر الاستجابة الشعورية نفسها، ثم إيجاد الكلمات المناسبة لشرحِها لاحقًا. فالواثقون، أي أولئك الذين يتذكَّرون شعورًا مبنيًّا على الفخر أو موحيًا بالقوة، يتذكرون تفاصيلَ أكثر وأكثر، ويُزينون القصة لتعزيز المغزى منها. أمَّا الأقل ثقة، المُبتَلَون بشعورٍ أقلَّ إرضاءً لذواتهم، فيميلون إلى إعادة سردِ قصصهم مراتٍ أقلَّ وأقل، ليُحيطوا رواياتهم بهالةٍ من الغموض كافيةٍ لتحميَهم وسط الضباب.

تتَّسم روايتي الخاصة من القصة التي تحكي كيفية تحوُّلي من الكاثوليكية إلى الإلحاد أثناء سنوات مراهقتي بأنَّ لها تسلسلًا معينًا يبدو عقلانيًّا حين تُسرَد في ضوء تأمُّل أحداث الماضي، حتى وإن كانت المشاعر الكامنة بين طيَّاتها تعكس صورةً أصحَّ لما حدث. تسير القصة العقلانية على هذا المنوال: أولًا، أتذكر أنني شكَكتُ فيما إذا كان يحقُّ للبابا تقبيلُ مدرج المطارات في البلدان الفقيرة في أمريكا الجنوبية التي قُدِّر لها أن تتزايد معدلاتُ وفَيَات الأطفال بها بسبب آراء الكنيسة عن الإجهاض. وكان هذا يعني حينها أنني ينبغي ألَّا أَقصُرَ تفكيري في إطار المذهب الكاثوليكي، بل في إطار أعم، وهو كوني مسيحيًّا. لكن أتذكر أنني تساءلتُ بعد ذلك لماذا ترتبط بعضُ الديانات المعينة ارتباطًا شديدًا جدًّا بالجغرافيا (إذ لم تكن مَدينة كرويدون فيها الكثيرُ من مُعتنقي الشنتوية آنذاك، في حين أنَّ ستةً في المائة فقط من الأردنيِّين كانوا مسيحيين) ورأيت أن هذا يجعل فكرةَ اعتناق دينٍ معين معتمدةً اعتمادًا سخيفًا غيرَ منطقي على الزمان والمكان. ولكن لماذا إذن لا نُعمِّم الإيمان بربٍّ دون الانتماء إلى أي دين بعينه؟ حسنًا، كان هذا منطقيًّا حتى اكتشفتُ كتاب «لماذا لستُ مسيحيًّا» لبرتراند راسل، الذي دحَض فيه أيَّ مبرر لمواصلة الإيمان بأيِّ ربٍّ دحضًا دقيقًا ومُقنعًا، وأبقاني على إلحادي منذ ذلك الحين.

كنتُ أودُّ القولَ إنَّ بقية القصة معروفة، لكني أعرف أنها لا يُمكن أن تكون بهذه البساطة والترتيب المُنظَّم. لكني أشدُّ يقينًا نوعًا ما من مزيج المشاعر التي راودَتني في تلك المدة التي كانت منعطَفًا فارقًا في حياتي. الهم والقلق اللذان نبَعا من شكِّي فيما كنتُ أعتبره صحيحًا قبل تلك المرحلة، والشعور بمدى خيبة الأمل والقلق اللذَين سينتابان أُمي التي ما زالت كاثوليكية. يراودني شعورٌ بالخزي حين أتذكر شعوري بالحرج عندما التقيتُ بالقسِّ روتشفورد، الذي كنتُ قد أدليتُ له باعترافي الأخير قبلها ببضعة أيام، في اللحظة التي صادفتُه فيها في غرفة الموسيقى بالمدرسة؛ فقد كنا نعلم، هو وأنا، ما قلتُه في الاعتراف الذي من المفترض أن يكون صاحبُه مجهولًا؛ ما ولَّد بداخلي شعورًا بضيقٍ عميق. أتذكر شعور الابتهاج الذي نبع من تفكيري في أنني استطعتُ اتخاذ قراري بنفسي بخصوص أمرٍ مهمٍّ جدًّا. أتذكر غضبي الشديدَ من بعض أصدقائي المتدينين بسبب آرائهم عن المثلية الجنسية. ومن ثَمَّ، فمهما كانت روايتي المُعتمَدة معقولةً ومتَّسقة، فأنا أعلم أنَّ أحداثها لا يُمكن أن تكون قد جرَت هكذا بالفعل. لكني أكثرُ يقينًا من المشاعر التي تتضمَّنها، ومدى سهولة تكييف التفسيرات لتُلائم تلك المشاعرَ لاحقًا بعد إدراجها في الرواية بالفعل. ولكن لأنَّ كل ما لديَّ الآن هو نُسَخي المُحدَّثة من قصة هذا التحول من الإيمان إلى عدم الإيمان، فسيتوجَّب أن تكون النسخةُ المُعتمَدة هي القصةَ التي ألتزم بها. وعلى غِرار محاولة تَذكُّر ما جرى في إحدى العطلات من الصور التي التقطتُها خلالها بدلًا من تذكُّرِها مباشرة من التجرِبة نفسها، نتوه وسط نُسخٍ تُعطينا صورةً تقريبية على الأقل عمَّا شعرنا به آنذاك. ولهذه الأسباب، يجب ألَّا نُصدق كلَّ ما يُقال في الروايات المُنمَّقة عن الكيفية التي جرت بها الأمور، وأن نعرف أنَّ أحكام بعضنا على بعضٍ ستكون مبنيةً إلى حدٍّ ما على أدلة غير موثوقة. حتى راوي القصة نفسه لا يستطيع أن يعرف كلَّ تفاصيل ما حدث بالضبط آنذاك.

وإذا لم يكن من الممكن الوثوقُ بنا فيما نسرده من نُسخٍ محدَّثة عن الأحداث الفردية أو النقاط الفردية المثيرة للاهتمام في حياتنا، فإلى أي مدًى يكون الآخرون أقلَّ موثوقية في سرد القصص عنَّا؟ لقد عُرِضَت علينا قصةُ حياة إيمي واينهاوس بعد وفاتها، ورفضَت عائلتها الرواية الواردةَ فيها. وهذا خطرٌ يُهدد المشاهير بالأخص. فمعظم الناس العاديِّين لا يُضطرُّون إلى مكابدة مأزق تأويلات صُنَّاع الأفلام وكتَّاب السير الذاتية. فنحن لا نكاد نُدرج قصصهم ضِمن فئة «مات أيضًا». وقد استخدمَت دوناتيلا موس هذه العبارة في فيلم «الجناح الغربي» (ذا ويست وينج) عندما أدركت مدى أهميتها في سُلم ترتيب أفراد الإدارة الأمريكية الهرمي وفق مكانتهم لو وقع حادثٌ عنيف في رحلة دبلوماسية. فالتقرير الإخباري الذي أدركته سيقول إنَّ «نائب رئيس موظفي البيت الأبيض جوش ليمان (رئيسها) قُتل اليوم بطريقة مأساوية في تفجير إرهابي. وماتت أيضًا ديان موس.» ونظرًا إلى أنَّ «ماتت أيضًا» مجرد جملة عابرة مُضافة لاحقًا، فقد لا يُكتب اسم صاحبها بشكل صحيح حتى، هذا إن كُتِب أصلًا.

وبينما لا تُعرَض حياة الأشخاص العاديين في أفلام تتضمَّن تعليقاتٍ وآراءً شخصيةً عنها مثل فيلم «إيمي»، فإن جنازات معظم الناس تشهد بعضَ محاولات الحُكم على حياتهم ككل، وتحديد السمات والتجارِب التي تجعل تلك الحياة مميزةً عن غيرها. ففي حين أنَّ قصص حياة المشاهير عُرضةٌ للتحريفات الناتجة من الحاجة إلى الاختزال والإثارة الدرامية، فإنَّ قصة حياة معظم الناس العاديين أيضًا تُحرَّف في الجنازات، ولكن لسببٍ مختلف في الغالب. فأنت تُكوِّن حُكمًا أخيرًا يحمل لُطفًا مبالَغًا فيه، وعادةً ما يكون سببُ ذلك أنَّ كل من في الجنازة يكون حزينًا، ومتواضعًا أمام هيبة الفَناء، ولا يرغب على أقلِّ تقدير في «التحدث بالسوء عن الموتى.»

وهكذا فالحيوات اليومية، عندما تنتهي، تبدو في الظهور طاهرةَ الذيل إلى حدٍّ ما، ويدفعنا إلى تبجيل حياةٍ يُنظَر إليها ككل. وهذا مفهوم. لعلك تتذكر إعلانًا ترويجيًّا مشهورًا لمتجر جون لويس الشامل عُرِضَ قبل بِضع سنوات وظهرَت فيه طفلةٌ رضيعة تكبر حتى صارت امرأةً مسنَّة. ونرى طَوال الإعلان نقاطَ التحول في حياتها. فالطفلة اللاهية تتحول إلى تلميذة ثم تتحول إلى شابة. ثم نراها تتزوج، وتُنجب أطفالًا، ثم يصير لديها أحفاد، وهلُم جرًّا؛ فيما تُعرَض في خلفية كلِّ ذلك أغنية بيلي جويل المؤثرة «دائمًا ما أراها امرأة» (شيز أولويز أَوومن تو مي). ومع أنَّ هذه القصة نمطية وعامة وتقليدية ومع أنَّ صاحبتها مجهولة، ثمة شيءٌ مؤثر في رؤية تصوير هذه الحياةِ الفانية التخيلية التي تعيشها «كل امرأة» بهذه الطريقة. ففي ذلك الإعلان الترويجي البسيط، يُعرَض مقطعٌ من الأغنية التي أسماها جوني ميتشل «لعبة الدائرة» (ذا سيركل جيم) في دقيقة وإحدى وثلاثين ثانيةً للترويج لمتجرٍ شامل، غير أنَّ الفيديو شوهد نحو مِليونَي مرة، وحصل على الكثير من التعليقات العاطفية المُعبِّرة.

تتضمَّن أفلام السيرة الذاتية لشخصيات حقيقية ومنشورات النعي والخطب الجنائزية قصة أثرى ممَّا يُمكن أن تُنتجها الحياة التي عاشها المرء حقًّا، وبذلك فهي عادةً ما تُعيد صياغة الحياة وتُضفي على قصتها لمساتٍ نهائيةً مُنمَّقة. إن حُكمي على قصة حياتك مُقيَّد بما تختار أن تُدْرِجَه فيها أو تُبرزه أو بما تختار ألَّا تذكره أصلًا. ولإصدار حكم كامل على حياةٍ ما، سوف تحتاج إلى شيء كالخريطة التي وردَت في قصة «عن الدقة في العلوم» القصيرة التي ألَّفها بورخيس، وتقوم على فكرةِ أنَّ الوصول إلى أدقِّ رسمٍ ممكن لخرائط أيِّ منطقة يستلزم استخدام مقياس رسمٍ نسبته واحدٌ إلى واحد؛ بمعنى أنَّ حجم الخريطة يجب أن يكون مساويًا لحجم الشيء الذي تُعبر عنه. لكنَّ كل مَن يكتب نعيًا يكون لديه منظورٌ معيَّن وعددُ كلمات محدَّد يحاول تسييرَ ما يكتبه وفقًا لهما.9

وعندما نحاول الإمساكَ بكل جوانب حيواتنا في هذه الشباك السردية، فإنَّ سِمات السرد التقليدي المختلفة عادةً ما تجعل أنسجة الحيوات الخشنة المليئة بالتفاصيل سلسةً ومبسَّطة، في إطار السعي إلى التبسيط. ففي نهاية فيلم «إنقاذ الجندي رايان» (سيفينج برايفت رايان)، نرى رايان، الذي سُمي الفيلم نسبةً إليه، مع عائلته الممتدَّة الكبيرة عند شاهِدِ قبر الرجل الذي أنقذ حياته في الحرب العالمية الثانية قبل أكثر من ٥٠ عامًا. فالضابط (الذي أدى دورَه توم هانكس) الذي مات وهو ينقذ حياة الجندي رايان، قال له وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة كلمةً ظل صداها يتردد طَوال حياته: «استحِقَّها!» ولذا يلتفت رايان إلى زوجته ويسألها باكيًا عمَّا إذا كان رجلًا صالحًا أم لا، وكأنَّ سؤالًا كبيرًا كهذا يُمكن أن يُرَد عليه بإجابة قصيرة.

لكنَّ هذه التناولات الباهتة العاطفية بقدرٍ أكبرَ ممَّا ينبغي ليست ملائمةً حقًّا. فنحن نعرف أنَّ حيواتنا تتضمَّن تعقيدًا أشدَّ من ذلك. والكُتَّاب الذين لا يوقِّرون المُقدسات واحتاجوا إلى أن يكونوا هُم مَن يَضحك أخيرًا يُساعدوننا في أن نرى الحياة بطريقةٍ أقلَّ قُدسية واتساقًا. فمقولة أوسكار وايلد التي قال فيها: «نتقاتل أنا وهذه الخلفية في مبارزة حتى الموت. فإما أن ترحل أو أرحل أنا»، أو المقولة التي طرحها جروتشو ماركس لتُكتَب على ضريحه «معذرة، لا أستطيع الوقوف» تُساعداننا على ألَّا نشعرَ بالتقزُّم أمام التأثير الهائل الذي يستحضره الموتُ وما يُصاحبه من أجواء مُفعَمة بالرهبة.10 لا يُحدثنا هؤلاء الكتَّاب عن الموت في حدِّ ذاته، بل يُعطوننا لمحةً عن الكيفية التي عاش بها كلٌّ منهم حياتَه.

وإذا كانت الجنازات تُعطينا المنظور المؤثر الذي نرى منه حبلَ حياةٍ ممتدًّا من البداية إلى النهاية، فيجب أن نحذر ونَضَع في حسباننا أنَّ المنظور الذي يُرينا الحياةَ ممتدةً هكذا يجعلها بذلك أنظفَ وأكثر استقامةً من اللازم. لا مفر من سرد القصص، ولكن ليس كلُّ القصص يحتاج إلى أن يكون بهذه البساطة.

التعلُّم من الأدب

يقتبس جيمس وود عبارةَ والتر بنجامين في مقاله «راوي القصص»، قائلًا: «الموت هو النار التي يُدفِّئ القرَّاءُ أياديَهم حولها.»11 فيرى وود أنَّ الموت يُتيح منظورًا يُمكن من خلاله إدراكُ معرفةٍ كلية معيَّنة، مُولِّدًا بذلك سُلطةَ الرواة على الحياة الكاملة التي تُحكَى على هذا النحو؛ ومن ثَم يجعل قصصَهم قابلةً للتناقُل والتداول. فتستطيع أن تقول مثلًا إنَّ بطلة الرواية لم تَعِش الحُب الحقيقي سوى مرتَين في حياتها.
يقول وود إنَّ هذه المجموعة الفضفاضة من الخيارات المتاحة للراوي في عرض قصته هي الفائدة الكامنة في الأدب القصصي الخيالي، ويُبين كيف أنَّ الروايات تربط الأحداثَ التي يعيشها المرءُ بالأحداث المُتذكَّرة، أو الوقائع بالقالَب الخارجي العام. فنحن لا نستطيع فعل ذلك بهذه السهولة في الحياة الواقعية. فنحن نتوه وسط الأحداث ونَعجز عن رؤية القالب الخارجي العام إلى أن ننظر إلى الماضي. لكننا نستطيع تعلُّم المزيد عن كيفية الحُكم على نسيج حياةٍ ما إذا لجأنا إلى الرِّوائيين الأدبيين. فبينما تتَّسم طريقةُ عرض القصص التي يستخدمونها باتساقٍ سردي، يظل فيها متسَع للتفاصيل الدقيقة والفريدة. وعلى عكس ما نشهده في القصص الأبسط، يُمكن أن نرى كيف أنَّ سياقًا من تفاصيلَ معقدةٍ لا حصر لها يُمكن أن يُسفر عن مغزًى ومعنًى وادعاءاتٍ أو مطالَبات موجَّهة إلى الأجيال القادمة. فالمبالغة في التبسيط تجعل قصةَ الحياة عامةً بقدرٍ أكبرَ ممَّا ينبغي، والمبالغة في تقليله يتركنا تحت رحمة الأحداث غيرِ المسرودة. هذا، وتُبيِّن مارجريت آتوود كيفية وجود تناقض بين الأحداث والقالب العام الخارجي بشرحٍ وجيه، قائلة:

عندما تكون منخرطًا وسطَ قصةٍ ما، لا تكون قصةً أصلًا، بل مجرد حيرة؛ جَلَبة مُبهَمة، عَمًى، حُطام زجاج مُهشَّم وخشبٍ متكسِّر؛ كبيتٍ وسط زوبعة، أو قاربٍ تحطم بعدما اصطدم بجبل جليدي عائم أو جُرِف عبر منحدرات النهر، وعَجَز كلُّ من على متنه عن إيقافه. ولا تُصبح قصةً من قريب أو من بعيد إلَّا لاحقًا. عندما تسردها، لنفسك أو أي أحدٍ آخر.

تُعَد قراءة الشخصيات الخيالية بعيوبهم وأدوارهم بمنزلة انجرافٍ إلى نظرة عين الربِّ إليهم. فحينئذٍ ننظر إلى داخل عقولهم، ونُقنع أنفسنا بأنَّ لدينا «قدرات مراقبة». وعلى حدِّ تعبير وود، لدينا صلاحيةُ «إفراغ جَيب الأفكار الشخصية السرية لدى شخصٍ ما، ومشاهدة عيوبه وأخطائه تتساقط على الأرض، كالعملات المعدنية، مُجرِّمةً إياه». ولكن لأنَّ الشخصيات خيالية، ولأنَّ تأثير أفعالهم يقع ضمن حدود الرواية ولا يتفاعلون مباشرةً مع الحياة الحقيقية، يمكننا أن نترفَّق في الحكم عليهم. ويذهب وود إلى أبعدَ من ذلك ويقول إنَّ «تدقيقنا دائمًا ما ينحرف رويدًا بعيدًا عن الأحكام (المنتمية إلى النوع الأخلاقي)، نحو القُرب، والشعور بالآخرين، والشفقة والتعاطف، وتَشارُك الأفكار والمشاعر. نحن نملك القدرات الخارقة التي كانت لدى يسوع الرقيب، ولكن لدَينا البصيرة الإنسانية التي كانت لدى يسوع الغفور …» قد يكون في ادِّعاء وود بعضُ المبالغة هنا. فينبغي أن نتساءل هنا إن كان هذا الكلام الذي يحمل هذا الحبَّ والعطف يَسري على كل شخصيةٍ خيالية نُصادفها في المؤلفات الأدبية. فقد لا تكون مشاعرنا مُحبَّة هكذا تجاه همبرت همبرت وهو يفترس دولوريس هيز في فيلم «لوليتا» أو أوبراين وهو يُعذب وينستون سميث في فيلم «١٩٨٤». غير أنَّ الحكم على حياةٍ ما، سواءٌ أكان الحكم إيجابيًّا أو غير ذلك، يُعَد تقييمًا أخلاقيًّا وجماليًّا معًا؛ ما يعني أنَّ القارئ الجيد يُشبه الناقد الفنيَّ من جوانبَ مُعينة، وذلك بملاحظة التوازن، والدراما، والأصالة، والزَّيف، والخَواء، بالإضافة إلى التأثير الذي وقع على الآخرين. ومن هذا المنظور، فإصدار أحكامٍ جيدة يستلزم أن يكون مُصدرها قارئًا جيدًا.

يُمثِّل الاهتمامُ بتفاصيل حيوات الآخرين، وممارسة ما يُسمِّيه وود «الملاحظة الجادة»، طريقةً جيدة للحفاظ على بريق وشغف الفرد، وإصدار أحكام أكثرَ إنصافًا، بقدرٍ أكبر من الحرص والدقة، مما قد يَصدُر من عينٍ ضعيفة أنانية عادة. بالعودة إلى رواية «الوصمة البشرية» لفيليب روث، قد نتساءل كيف ينبغي أن نحكم على كولمان سيلك حكمًا شاملًا؟ هل نغفر له رغبتَه العنيدة، والوحشية أحيانًا، في الهروب، أم لا؟ ومَن الذي ينبغي أن يحكم عليه؟ يبدو أنَّ روث يريد أن يكون ناثان زوكرمان، الراوي، هو الجمهورَ المؤثِّر. فكيف يحكم ناثان على كولمان؟ مع أنَّه يرى عيوب كولمان ﺑ «قدراته المراقِبة»، يظل أكثرَ ميلًا، مثل «يسوع الغفور»، إلى تفسير أفعاله من إدانته. بل يذهب ناثان إلى أبعدَ من ذلك في الواقع، ويُدافع باستماتةٍ عن حياة صديقه المعقَّدة المعيبة. فبينما يُشاهد «عيوبه تتساقط على الأرض كالعملات المعدنية»، يرفض رفضًا قاطعًا أن يعتبر ما يراه إدانةً له.

نعرف في بدايات الرواية من ناثان أنَّ كولمان وفونيا قد ماتا. وقد وُصِفَت جنازتاهما لاحقًا، في فصلٍ بعُنوان «طقوس التطهير». وكما ذُكر سلفًا، فالخطبة الجنائزية أشبهُ بنوعٍ من التلخيص الذي يُقدم صورةً خاطئة بمقتضى الضرورة عن تعقيدِ حياة الشخص المتوفَّى، وغالبًا ما يحدث ذلك بدفنِ هذا التعقيد هو والشخص الذي عاشه وسط الخُطب الوعظية والرياء والتظاهر بالتقوى. وهذا ما ينطبق على كولمان وفونيا، اللذين كان الموتُ هو الخائنَ الأساسيَّ لجوهرهما الحقيقي. فعلى حدِّ تعبير ناثان، «يتدخل الموت لتبسيط كلِّ شيء. فكل الشكوك، وكل الهواجس، وكل انعدام اليقين يُتجاهَل من أكبر مُستهين بكل ذلك؛ وهو الموت». (٢٩٠) تصوغ الملخَّصات الجنائزية حياة كولمان وفونيا بألسنةِ آخَرين، لإعادة تشكيلها في قصةٍ متَّسقة تزيل عنهما وصماتهما، دون أن يكون لهما حقُّ الرد. فتُختزَل قصة حياة فونيا، على سبيل المثال، عند جوار قبرها في أنها «ساعية إلى اليقين الروحاني» كانت تحب قطيعَ الأبقار الصغيرَ في المزرعة، وكانت دافئةً وَدودة وجدَت نُبلًا في تنظيف المراحيض. وبذلك يُسكَت صوتها المختلف عن أصوات الآخرين كصوت الغراب.

فيما مرَّ كولمان بطقوسٍ تطهيرية أكبر في جنازته. فيخبرنا ناثان، الحاكم على مَن يحكمون عليه، بأنَّ أناسًا كثيرين قد احتشَدوا لمشاهدة زميل سابق لكولمان لم يوفِ بوعده بمحاولة تطهير قصة انهيار سُمعة كولمان المفاجئ، في فعلٍ ينطوي على جَلْد الذات. فيقول «كان هيرب كيبل مجرد شخص يعتزم تبرئة ساحته وتطهير سجلِّه، وإن كان ذلك بطريقة جريئة وشائقة، بإلقاء الذنب على نفسه، لكن ظلت الحقيقة أنَّه لم يستطع التنفيذ حين كان لِزامًا عليه ذلك؛ ولذا قلتُ لنفسي، نيابةً عن كولمان، اللعنة عليه.»

يدافع ناثان بشراسة عُداونية عن أقربِ أصدقائه، ويعترف بأنَّ مَن يُفسرون قصة كولمان من بعيد قد يؤيدون تمرُّدَه الساعيَ إلى مطاردة الحرية أو يعارضونه، لكنه يُقرُّ في الوقت نفسه بأن هذا ليس من شأنهم.

هل كان مجرد أمريكي آخر، وفي ظل سيره في رَكْب تقاليد التُّخوم الأمريكية العظيمة، قَبِل الدعوةَ الديمقراطية إلى هجر أصوله إذا كان ذلك سيُسهِم في سعيه إلى نيل السعادة؟ أم أنَّ الأمر كان أكثرَ من مجرد ذلك، أم كان أقل؟ إلى أي مدًى كانت دوافعه تافهة؟ إلى أي مدًى كانت مَرَضية؟ ولنفترض أنها كانت تافهة ومرضية على حدٍّ سواء، فماذا في ذلك؟ ولنفترض أنها لم تكن كذلك، فماذا في ذلك؟ (٣٣٤)

صحيحٌ أنَّ كولمان كان مَعيبًا وموصومًا من عدة جوانب، لكنَّ علاقتَيه بناثان وفونيا تُكفِّران عنه مساوئه إلى حدٍّ ما في عين هذا القارئ. فبعينَي ناثان (على عكس عينَي والدة كولمان وأخيه اللذين نبذَهما بكل قسوة) يُمكن أن نراه بقدرٍ أكبر من التعاطف ضحيةَ ظروفٍ قاسية. «واقع بين شِقَّي رَحَى أنيابِ هذا العالم الضارية. والعداء الذي يغمر هذا العالم». (٣١٦)

وهنا يتبين أنَّ حُكم ناثان على كولمان متعاطف ومرتبط جزئيًّا بوجود تفهُّمٍ شخصي من جانبه لرغبة كولمان المُلحَّة في التحرر. ثمة شيءٌ عجيب في الأحكام غير الانتقادية وغير الكاملة التي يُصدرها الصديق المخلص. فيُشبِّه الفيلسوفُ الحادُّ البصيرةِ ألكسندر نيهاماس، في كتابه «عن الصداقة»، الصديقَ باستعارةٍ تشبيهية حية. والاستعارةُ الحية، كأن نقول مثلًا إنَّ «التصميم المعماري موسيقى مجمَّدة»، هي استعارةٌ يُمكن أن نجد فيها دائمًا المزيدَ من المعاني الأعمق والأثرى، على عكس الاستعارة الميتة التي تنحدِر إلى أن تُصبح تعبيرًا نمطيًّا متكررًا، ويُمكن تلخيصُها بدقة. فعندما نقول عن أحدٍ إنه «قضى نَحْبه»، فهذا يعني ببساطة أنه قد مات. لا يُوجَد ما يُقال أكثرُ من ذلك. وتتَّسم العلاقات النفعية كذلك بشيءٍ من طابَع قابلية الاستبدال. فإذا كنتَ تقضي وقتًا مع شخصٍ ما لمجرد أنه قصَّ شعرك، سيكون من الممكن إلى حدٍّ ما أن تستبدل به شخصًا آخرَ يستطيع أداءَ المهمة نفسِها. أمَّا الصديق الحقيقي، فهو كالاستعارة الحية أو العمل الفني المهم، له طابَعٌ فريد لا يوصف ويتطلب اهتمامًا دائمًا وفريدًا. «ماهيتك الحقيقية تُحدث فارقًا هائلًا: فمثل الاستعارة الحية، لا يمكن أن يحل أحدٌ محلَّك.»12 ويوسِّع نيهاماس نِطاقَ هذه الفكرة قائلًا إننا «كما هو حال الاستعارات، لا نكون على دراية تامة أبدًا بالدور الذي ستؤديه في حياتنا.» وهكذا فالصداقة الحميمية هي نقيض إمكانية الاستبدال، والتفسيرات المحتملة لا تنتهي أبدًا.

كان ناثان محظوظًا بالعثور على صداقةٍ بهذا الطابَع في وقتٍ متأخر من حياته. كان قد جرَّب الحريةَ بطريقته الخاصة، متصورًا نفسَه، حتى حان وقتُ صداقته بكولمان سيلك، شخصًا يهرب من زِحام الحياة صخبها و«يعيش بعيدًا عن كل التشابكات والإغراءات والتوقعات المثيرة للأعصاب، ويعيش بالأخص بعيدًا عن توتُّر وحدة المرء نفسه»؛ ما يعني أنَّك يجب أن «تُنظم الصمت … الصمت المحيط بك بصفته مصدرَ أفضليتك المُختار وصديقك الحميم الوحيد.» لكنَّ هذا السعي إلى الانعزال ليس كافيًا لناثان؛ لأنَّه لا أحد يُلاحظه. فهو يُدرك الحدود التي تُقيد الرغبة في التحرُّر إذا لم يُشاركه الآخرون، وسواءٌ لنفسه أو لصديقه، فإن «السر في القدرة على العيش وسط زحام أحداث العالم وسرعتها بأقلِّ قدر ممكن من الألم هو جعلُ أكبر عدد ممكن من الناس يوافقونك في أوهامك.» (٤٤)

•••

ناثان هو مَن يستطيع أن يُعبِّر عن كولمان بطريقةٍ تعكس خصوصيةَ قصته. وقد استحضر روث، وهو يُقدم لنا ناثان وهو يُقدِّم لنا كولمان، ما يُسمِّيه جيمس وود بمصطلح «الحياة الموازية»، الذي يتضمن الحقيقةَ الحتمية المتمثلة في عدم موثوقية السرد. صحيحٌ أنَّ الحياة الموازية قد تكون أقربَ شيءٍ إلى الحياة، لكنها تظلُّ مختلفةً عن الحياة نفسها. إذا كان ناثان يستطيع التعبير عن كولمان وكان روث يستطيع التعبير عن ناثان من منظوره الشبيه بمنظور عين الرب، فمن يستطيع التعبير عن بقيتنا؟ بينما قد نشعر بتعاطفٍ أكبرَ تجاه الشخصيات الخيالية، من الأرجح أن نُبادر برميِ أول حجرٍ على أشخاصٍ حقيقيِّين لأنَّ الأشخاص الحقيقيين لهم تأثيرٌ حقيقي علينا وعلى الآخرين، ومن الضروري أن نُصدر عليهم حكمًا أقوى أو مختلفًا. لذا فحتى لو كان من الممكن أن نعتبر الأدبَ مُحرِّكًا للتعاطف يساعد في تشكيل علاقات التبادل والتشارك مع «الآخر»، فيجب أن توضع حدودٌ للتعاطف في المواقف التي نُصادفها في الحياة الواقعية، والأحكام تدخل ضِمن نسيج لقاءات بعضنا ببعضٍ، شِئنا أم أبَينا. لكنَّ ما يمكن أن نتعلمه من الأدب طريقة لنجعل أحكامَنا مؤقتة. لنُدرك التناقضات، ولنرى، مثلًا، كيف أنَّ مشاعر الحبِّ والكراهية تُحرِّكها الغددُ نفسُها (على حدِّ تعبير جراهام جرين). فالأدب يدعونا إلى أن يرى بعضُنا بعضًا من منظورٍ دائم التغير سنكون فيه أقلَّ سذاجةً وأكثر حذرًا في تصوراتنا.

يُجري الفيلسوف جوليان باجيني في كتابه «خدعة الأنا: ما معنى أن تكون أنت؟» حوارات شخصية مع عدة خبراء لتجميع تصورٍ عن الذات أقلَّ اتساقًا وأدق من التصور الذي عادةً ما نميل إليه. ويقول إننا نميل إلى أن نرى أنفسنا لؤلؤةً في صَدَفة متينة وصُلبة. لكنَّ هذه استعارة خاطئة لن تساعدنا في فهم حقيقة ما يجري بالفعل. فنحن لسنا لؤلؤةً داخل صدفة مثلما أننا لسنا وجهًا مُستترًا بقناع، ولا حتى ممثلًا يصعد على خشبة المسرح ثم ينزل متواريًا عن الأنظار، ومثلما أنَّ الشجرة المجردة من الأوراق في الشتاء تكون هي نفسها الشجرة المكسوَّة بالأوراق. بل نبدو أشبهَ بأداءٍ مُستمر تؤديه مجموعةٌ محتشدة من المؤدِّين يأخذ كلٌّ منهم دورَه دون أن يدَّعيَ أيُّ واحدٍ بعينه أنَّ لديه حقيقةً ثابتة أصلية، أو بدايةً أو نهاية؛ على الرغم من أننا قد ندرك عبر هذا المزيج الذي يختلط فيه الكل، أفكارًا أساسية وقيمًا.13 لذا فمن الأفضل أن نتخلى عن استعارة اللؤلؤة تلك ونستخدم بدلًا منها صورةً لحُزمةٍ من الخواطر والذكريات والأفكار ونُسَخٍ تتغير على مر الوقت. ويبدو أنَّ الفيلسوف جيلن ستروسون، أحد الذين حاورهم باجيني، لديه شعور أشدُّ تطرفًا من الغالبية بعدم الاستمرارية. فهو يتحاشى فكرة الذات السردية التي يرى أنها وهمٌ ليس معرضًا له إطلاقًا: «يوجد أناسٌ مِثلي لا ينشغلون فعليًّا إلا باللحظة الحاليَّة، ولا يظنون في الحقيقة أنَّ حال ذاتهم الحاليَّة كانت هي نفسها قبل دقيقةٍ واحدة حتى.» يتمثل جوهر خدعة الأنا في إبقاء الحزمة طيَّ الكتمان، والسماح باستمرارية الاتساق السردي الذي يتَّسِم به منظور اللؤلؤة: «سر الخدعة أن يبتكر المرءُ شيئًا يُعطي إيحاءً قويًّا بوحدة الشكل وتفرُّده ممَّا هو في الواقع مُجرد تسلسلٍ فوضوي مفتَّت من التجارِب والذكريات، في دماغ ليس له مركزُ تحكم.»14 ويمكن أن تساعدنا هذه المهارة، أي مهارة «الملاحظة الجادَّة» والتقييم الدقيق والاستعداد لمراجعة الأحكام في ضوء الأشياء الجديدة التي نعرفها، في تحقيق التوازن الضروري بين الإيمان بعدم اتساق التجرِبة المَعيشة بالفعل وبين شيء أوضح. ومهما كنا بارعين في أداء هذه الخدعة، فلسنا بحاجةٍ إلى أن يكون لدينا البديهياتُ المُشتِّتة الموجودة لدى أمثال جيلن ستروسون لندرك أنها مهما أُدِّيت ببراعة، تظل خدعة.

الأهمية

من المؤثر أن نقرأ أشعار فيليب لاركن، الذي كان يخشى موتَه بشدةٍ ويترقَّبه، وكتب ذلك في الكثير من أشعاره، مثل قصيدة «أنشودة فجرية» وقصيدة «مواصلة العيش». وما يجعلها أشدَّ تأثيرًا أننا صِرنا نعرف الآن بدقةٍ مُحزنة، ردًّا على ما كان مجردَ توقعات منه، أنه قد مات عن عمرٍ يُناهز الثالثة والستين في كينجستون أبون هال في الثاني من ديسمبر عام ١٩٨٥.

غير أنَّ التأثير المحزن يتجاوز هذا المنظورَ المشابه لمنظور عين الرب. فلم يكن لاركن يخشى موته الحتميَّ فحسب، بل كان يخشى كذلك أن تكون حياته التي عاشها بلا أهميةٍ في النهاية. فالحيوانات ذاتُ النزعة الاجتماعية الفائقة، أي نحن، لدَيها حاجةٌ ماسة إلى الشعور بأنها تتلقَّى أحكامًا جيدة، لكنَّ هذا التفضيل يُخفي بين طيَّاته الحاجةَ إلى تلقِّي أحكام أصلًا. وهذا يتطلب أن نكون بالأهمية الكافية في أعين الآخرين لكي نكون جديرين بتقييمهم. ويُصوِّر لاركن في قصيدته «مواصلة العيش» تلك اللحظة الأخيرة من تأمُّل الماضي، تلك «الأمسية الخضراء التي يبدأ فيها موته»، ويتخيل كشف حساب «نحدد فيه جزءًا طفيفًا من البصمة الضبابية/التي تحملها كلُّ أفعالنا»؛ وقتًا تُقيِّم فيه ما فعلتَه وما لم تفعله وتفهمُ تأثير ذلك على العالم وعلى الآخَرين. وعندئذٍ ستُدرك أنَّ «قائمة الأوزار» هذه «ليست مُرضيةً/لأنها كانت تنطبق على رجل واحد في وقتٍ ما/وهذا الرجل الآن يحتضر.» المغزى الضمنيُّ لتلك الكلمات أنَّ أهميَّتنا ستُفلت منَّا في النهاية. فالتراب يعود إلى التراب، والبصمة الضبابية تتلاشى وتختفي عن الأنظار. لننظر مثلًا إلى تعليق ماكبث بعد وفاة الليدي ماكبث، قائلًا كيف أنَّ:

الحياة ليست سوى ظلِّ شبَح
سائر، ممثل سيِّئ،
يمشي مُتبخترًا، ويستشيط قلقًا
طَوال ساعته على خشبة المسرح،
ثم لا يُسمع صوته مجددًا. إنها حكاية
يسردها أبله، مليئة بالصخب والغضب،
وليس لها أيُّ معنًى.15

المفارقة الساخرة بالطبع أنَّ لاركن نفسه، على عكس الحيوات الكثيرة التي تتلاشى بالطريقة التي يصفُها، أي تكون مملوكةً لشخصٍ واحد في وقتٍ ما «وهذا الشخص الآن يحتضر»، قد خُلد في الأذهان بتعبيره عن هذا الخوف من أن تكون حياتُه بلا قيمة؛ فحياته حكايةٌ يرويها شاعر، وليس شخصًا أبله، بطريقة جعلتْها تظل ذاتَ قيمة منذ ذلك الحين.

صحيحٌ أنَّه ليس كل الناس تُجسَّد قصةُ حياتهم في أفلام، بل ولا يُذكَر اسمهم ولو ذكرًا هامشيًّا ضمن أخبار «مات أيضًا» (حتى ولو بكتابته بطريقةٍ غير صحيحة)، ولكن أحيانًا ما تصير الحيوات العادية أشبهَ بفيلمٍ سينمائي، وتُصبح حكايةً مسرودة أيضًا. فالأعراس، شأنها شأن الجنازات، تُتيح مسرحًا مشابهًا حيث يُصبح الزوجان اثنين من المشاهير بكل تأكيد لهذا اليوم الواحد فقط، ويجب أن تُلقَى خُطَبٌ عنهما ويجب أن يُمنحا الاهتمام. وهكذا يشعر ضيوف العُرس بأنهم مميَّزون ومحظوظون حين يتحدث إليهما «العروسان السعيدان». هذا مثالٌ على ما تشهده الحياة من لحظاتٍ عظيمة بارزة ونادرة، يكون فيها السردُ العام مطلوبًا. ولكن في معظم الأحيان تمر حياتنا مرور الكرام دون شيء يميزها.

إنَّ القيمة البسيطة والدقيقة لأفعالنا يُمكن أن تظهر لاحقًا بالطبع، لكن هذه حقيقةٌ لا تُكشَف إلَّا من خلال انتباهٍ مُتمعِّن. لقد اختتَمَت جورج إليوت رواية «ميدل مارش» بطريقةٍ لطالما وجَدتُها مؤثرة، بهذه الكلمات عن بطلة الرواية دوروثيا، التي عاشت حياةً غير حافلةٍ بالبطولات والإنجازات بمقتضى الحال في بلدةٍ صغيرة:

لكنَّ تأثير وجودها على المحيطين بها كان متغلغلًا إلى حدٍّ لا يُمكن حصره؛ لأنَّ الخير المتزايد في العالم يعتمد بعضَ الشيء على أفعالٍ بسيطة لا أهمية لها، ولأنَّ الفضل في عدم تدهور أحوالك وأحوالي إلى الحد الذي كان من الممكن أن يبلغه يرجع بقدرٍ ما إلى أناسٍ عاشوا حياةً مُستترة بإخلاصٍ ويرقدون في قبور لا يزورها أحد.

تؤدي إليوت في هذا السياق مهمةَ ردِّ الأهمية والقيمة إلى الأفعال البسيطة لاحقًا بكل هدوء، الذي يُعد أمرًا مهمًّا جدًّا في تقدير قيمة التأثيرات الدقيقة التي يمكن أن تكون لبعضنا على بعضٍ، والأهمية التي تنتُج من القوة التراكمية لهذه التأثيرات. وهكذا حُفِظَت الأهمية الدقيقة لحياة دوروثيا؛ إذ أنقذتها عينُ الروائية التي كانت هنا بمنزلة عين العناية الإلهية. ولكن نادرًا ما يُتوقَّع من الجمهور العادي أن يُقدِّم هذه النوعية من العناية والاهتمام. إذ تحمل إليوت وجهةَ نظرٍ أكثر مأساويةً عن الأحكام اليومية ترى فيها أننا «وُلِدنا جميعًا في غباءٍ أخلاقي، مُعتبرين العالَم ضرعًا لإرضاع ذواتنا العُليا». فما يَدين به بعضُنا لبعضٍ من حدةِ ملاحظة الأشياء الدقيقة والعناية والاهتمام «لم ينسج نفسَه بعدُ ضِمن نسيج المشاعر البشرية القاسي، وربما لا تكون إطاراتنا الخارجية قادرةً إطلاقًا على حمل الكثير منه. فلو كان لدَينا بصرٌ ثاقب وشعور قوي بكلِّ ما في الحياة البشرية العادية، فسيكون ذلك كسماع صوت العشب وهو ينمو وسَماعِ نبض قلب السنجاب، وسنموت من شدة الضجيج الكامن على الطرف الآخر من الصمت.

ومن ثَم، فبدون جمهور مُراعٍ ومُهتم، ما الذي يستطيع بقيتُنا فعله لصدِّ هذا الشعور بانعدام الأهمية وانعدام الجدوى في ضوء نظرات الآخرين المُحدقة التي تنِمُّ على عدمِ فهم؟ أحد الخيارات المتاحة لذلك يعرف ﺑ «أسلوب جورج بيلي» نسبةً إلى اسم الشخصية التي أدَّاها جيمس ستيورات في فيلم «إنها حياة رائعة» (إتس أَووندرفُل لايف) الذي أخرجه فرانك كابرا في عام ١٩٤٦. نرى جورج في المشهد المحوري فقيرًا مُعدِمًا عشية عيد الميلاد، نراه مُفلسًا مكتئبًا وراغبًا في الانتحار لأن «قيمته وهو ميت أعلى من قيمته حيًّا» بفضل بوليصة التأمين على حياته. لكنه يرى رجلًا يبدو أنه يغرق في النهر فينقذه. ليتبيَّن أنَّ الرجل هو ملاك جورج الحارس، كلارنس أودبودي. يُقرر كلارنس أن يُري جورج كيف كان سيُصبح حال البلدة لو لم يولَد قَط. وبالطبع كانت تأثيراته على جوانبَ عديدة من البلدة إيجابية جدًّا، أو لنقُل «متغلغلة إلى حدٍّ لا يُمكن حصرُه»، على حدِّ تعبير إليوت. صحيحٌ أنَّ آلية الحبكة هنا بسيطة جدًّا، لكنها مؤثرة، ويرجع ذلك تحديدًا إلى أنها تقلب شعور جورج بانعدام أهميته ببراعة مُحكَمة.

تُقدم لنا القصة فكرةً عن الأساليب التي يمكننا تجربتها لتخفيف عبء الشعور بانعدام الأهمية. إن سبب نجاح هذه القصة في التغلب على شعور جورج بانعدام الجدوى ليس متعلقًا بإحصاء النعم التي تغمره في حدِّ ذاته. فقد اقترح البعض أنَّ إحدى الطرق لتقدير قيمة حياتك هي الاحتفاظ بدفتر امتنانٍ يومي تُدرِج فيه الأشياء التي تجعلك ممتنًّا. لكن الأبحاث تُظهر أنَّ قيمة ذلك محدودة. فيشير أستاذ علم النفس تيم ويلسون في كتابه «إعادة توجيه»، إلى أننا مُعرَّضون لمعضلة السعي إلى المتعة. فإذا عكَفنا على إحصاء ما لدينا من نِعم أكثرَ مما ينبغي، كما هي الحال عندما نُدرجها في دفتر الامتنان اليومي، تتضاءل قيمة الأخبار السارة كلما أُعيد سردُها مرارًا. ومن ثَمَّ، فالطريقة الأفضل فاعليةً بكثير أن تتعلم الدرس الحقيقي من أسلوب جورج بيلي، وهو أن تتخيل أنَّ التجارِب أو العلاقات التي تُقدر قيمتها لم تحدث قط، وتُدرك كم أنت محظوظ لأنَّ هذا الوضع المؤسف لم يحدث فعليًّا قط. فهذا يجعل الشعور بالقيمة أقوى بكثير. يقول ويلسون إنك إذا طلبتَ من بعض الأشخاص التركيز مثلًا على تخيُّل انفصالهم عن شركاء حياتهم، فإن هذا «يجعل [علاقتهم] تبدو مدهشةً ومميزة مجددًا، وربما غامضة بعض الشيء، وهي السِّمات نفسُها التي تطيل فترة المتعة التي نستمدُّها من ملذات الحياة.»

لكننا ليس لدَينا ملائكةٌ حارسة تُطمئنُنا بأنَّ حياتنا ذات قيمة، ومن المُرجح أنْ تكون المتعة التي يُمكن أن نستمدَّها حتى من أسلوب جورج بيلي محدودة. فنحن نعتمد على الجماهير الحقيقية المختلفة التي نواجهها، وكما رأينا، فهُم مُتقلِّبون للغاية في أحكامهم. وفي هذا الإطار يصف ويلسون حالةَ عدم التماثل التي نُعايشها عندما يتعلق الأمر بالتفكير في الأحكام الإيجابية أو السلبية. لنفترض مثلًا أنَّ شخصًا ما ضايقَك بتوجيه نقدٍ قاسٍ إليك. إن أفضل طريقةٍ للتعامل مع ذلك هي أن تنأى بنفسِك عن النقد، وتُعيد سرده كما لو أنه كان موجَّهًا إلى شخصٍ آخر. أمَّا إذا كان ما عِشته تجرِبةً جيدة، فيمكنك الاستمتاعُ بما يُسمِّيه «ملذَّات عدم اليقين». هذه مشكلةٌ عامة من مشكلات عدم التماثل بين الأحكام السلبية والإيجابية. إذا كنتَ تمدح شخصًا ما، يمكنك أن تكون غامضًا. أمَّا إذا كنتَ توجِّه له نقدًا، فيجب أن يكون كلامك ملموسًا ومحددًا، مع الحرص على التركيز على الخطيئة بدلًا من المخطئ.

ومن الطُّرُق الأخرى لتجنُّب الخوف من انعدام الأهمية إنكار أهمية حكم الآخرين، وهذا يعني في جوهره أن تُحاول تجاهُل الشعور بالتجاهل. كان هذا هو الطريق إلى الحرية الذي نوقش في الفصل الأخير، ويُمثِّل جزءًا كبيرًا من قصة حياة كولمان سيلك. وقد اقترح الروائيُّ فيكرام سيث، حين حلَّ ضيفًا على برنامج «ديرزت آيلاند ديسكس» الإذاعي، طريقةً ذات طابَع أقلَّ دراميةً لرؤية ذلك. فقد تحدَّث خلال اللقاء عن امرأةٍ مُسنَّة كان يعرفها، تتبع نهجًا جيدًا في التعامل مع الحياة والآخرين. فكانت تقول إنها، بدلًا من أن تقضي وقتًا أكثر ممَّا ينبغي في التفكير في آراء الآخرين «عنها»، تُركز على آرائها «هي» عن الآخرين. فقرر أن يُحاول تعلُّم هذا الدرس في وقتٍ أبكر قليلًا في حياته.

ثمة طابَعٌ بسيط وقوي في هذا التحول العقلي الذي يقلب الأوضاع. وأنا على يقينٍ من أنه يُعَد نصيحةً جيدة لأولئك الذين يَعلقون منَّا في شِبَاك الانشغال بآراء الآخرين، مُبالِغين في الشعور بالقلق والخجل من أن يكونوا محطَّ أنظار الآخرين. وغالبًا ما يُلاحَظ أنَّ القلق من أحكام الآخرين يتضاءل في مراحلَ لاحقةٍ من الحياة. ولعلَّ قصيدة «تحذير»، التي ألَّفتْها جيني جوزيف وتُستهلُّ بعبارة «حين أكون امرأةً مسنة سأرتدي اللون الأرجواني»، تُجسد جزءًا من هذه العقلية المتمرِّدة. وإلى جانب ارتداء ثيابٍ أرجوانية، ستخرج إلى العالم وسوف «ألتهمُ عيِّنات السلع المعروضة في المتاجر، وأضغط أجراس الإنذار/وأمرِّر عكازي عبر الأسْوِجة العامة.» ستُعوِّض ما فاتها بسبب «رصانة شبابها»، وستتعلَّم البصق. ثم تُنهي القصيدة مُحدِّثةً نفسها بفكرة. لِمَ الانتظار؟ إذ قالت «ربما يجب أن أمارس ذلك قليلًا الآن» بعقلية فيكرام سيث وهو يتعلم ألَّا ينتظرَ حتى بلوغ السبعين من عمره قبل أن يُصبح أكثرَ تركيزًا على آرائه عن الآخرين.

لكن هذا الأمل أيضًا مُقيدٌ بحدودٍ معيَّنة، كما استكشفنا في الفصل السابق. فلا يُمكن أن نُبالغ في التحرُّر من جمهورنا المؤثِّر. فالانحدار إلى هُوَّة الخروج عن المألوف أو مجرد الإفراط في التركيز على آرائك عن الآخرين وعدم الاهتمام إطلاقًا بآراء الآخرين عنك يعني أن تُعانيَ انفصالًا بطيئًا عن مصادر التبرير. فالنجاح في تحقيق هذا التحوُّل بقدرٍ أكبر ممَّا ينبغي يجعل المرءَ منعزلًا؛ فهو لا يعود مُساءَلًا أمام آراء الآخرين، فتتضاءل قيمة حياته ومعناها مجددًا. وعلى أي حال، تخيَّل عالَمًا ينجح فيه الجميع في هذا الجانب. سنُصبح جميعًا منخرِطين في إصدار الأحكام على الآخرين، دون تلقي أي أحكام أبدًا. فاتخاذ هذا المسار ينطوي على ابتعادٍ تام عن خطر الشعور بألم التعرُّض للأحكام السلبية، وللسبب نفسِه لن يحظى المرءُ أبدًا بفرصةِ الشعور بأنَّ أقواله وأفعاله مُبررة.

وبالطبع، إذا أخذ المرء أحكامَ الآخرين في الحُسبان واهتمَّ بآرائهم، فإنه يُعرِّض نفسه لخيبات أملٍ متكررة. لذا نحتاج إلى أن نُدرك أنَّ هناك أمورًا كثيرة خارج نطاق سيطرتنا المباشرة، وأننا سنلقى أحكامًا بناءً على هذه الأشياء من حينٍ إلى آخر، وأنَّ هذا سيُشعرنا بالظلم والإجحاف إلى حدٍّ مؤلم للغاية. لقد رأينا في هذا الكتاب كثيرًا مما يُثبِّطنا في طبيعة الأحكام البشرية. فالضغوط التطورية لا تكترثُ حقًّا بما إذا كنا قد خُلقنا لنحظى بالسعادة والازدهار أم لا. فنزعاتنا الطبيعية مُنتقاةٌ لتُمكِّننا من النجاح في التكاثر؛ ما يؤدي بنا إلى منظورٍ قد يكون مأساويًّا؛ إذ نرى من خلاله أننا محكومٌ علينا بتَكرار الإخفاقات نفسِها. وفي ظل عُرضتنا للعوامل التي تجعل أحكامَ بعضِنا على بعضٍ غيرَ موثوقة بقدرِ ما هي خادمةٌ لمصالحنا الذاتية، من خداع الذات والنفاق وتصوُّر أننا أكثرُ خُلُقًا واستقامةً من الآخرين والتحيُّز، نكون محكومين بحركة الفيل اللاواعي الذي يترنَّح يمينًا ويسارًا حسبما افتَرض هايت، ولا نستطيع أن نفعل أي شيءٍ تقريبًا حيال ذلك.

إن العالم يعجُّ بالأحكام السيئة، وفيه قدرٌ كبير من اللامساواة التي تتكاثر ذاتيًّا دائمًا. وعلى غِرار ما نراه في اللامساواة الاقتصادية، قد نرى حتى ما يُعرَف بتأثير ماثيو، حيث يتلقَّى الأغنياءُ بالأحكام الإيجابية مزيدًا منها (إذ يتسامح الآخرون مع عيوب الشخص الذي يحظى باستحسانهم، ويعتبرونها تميزًا عن المألوف)، وأما أولئك الذين يحصلون على قدرٍ أقلَّ منها، فيكونون أكثرَ عُرضة للاستنكار، فيما قد يبدو أشبهَ بحلقاتٍ مفرغة يصير فيها الحسَن أحسنَ والسيئ أسوأ. إنَّ أحكام الآخرين مؤثرةٌ بقدر ما هي غير محكومة بضوابطَ معينة. وعندما يُصبح الظلم مؤلمًا، نحتاج أحيانًا إلى أن نقول «هذا ليس ذنبي» أو «لا أبالي» أو حتى «لا أحد سيفهمني حقًّا أبدًا.»

في النهاية، نحن لا نحظى بالكثير من السيطرة على الكيفية التي يُصدر بها الجمهورُ المؤثر أحكامَه علينا. فالجمهور لن يكون مؤثرًا إذا استطعنا التحكُّمَ فيه إلى هذه الدرجة. لسنا في وضعٍ يسمح لنا بالوقوف على الحياد، وإذا كنتَ تحسب أنك كذلك، فستستفيقُ من وهمِك بقراءة المؤلفات المتعلقة بالتحيز الضِّمني. ما نستطيع فعلَه هو إدراك أن أحكامنا غالبًا ما ستكون خاطئةً ومتحيزة وخادمة لمصالحنا الذاتية. لذا، فلتُصدر تلك الأحكامَ ولكن لا تتوقف عند هذا الحد. اعلم أنها مؤقتةٌ وتحتاج إلى مراجعة في ضوء ظهور المزيد من الأدلة. وهذا ما لا نفعله بالقدر الكافي إطلاقًا. وهذا هو السبب الذي جعل جون مينارد كينز يسألنا قائلًا: «عندما تتغير الحقائقُ أُغير رأيي، فما الذي تفعلونه؟» حسنًا، أنا أعرف ما أفعله. فمثل الكثيرين منَّا في العالم الذي نعيش فيه اليوم وسط غرف الصَّدى وثقافة التعصب للجماعة ونُصرتها بغضِّ النظر عن كل الاعتبارات الأخرى، من الصعب الهروب من الفقاعة، من قاعة المرايا الرقمية التي لا يُمكن أن تعكس سوى عارضتِنا الخشبية المعوجة. لذا أشعر بالارتياح في أحكامي، وأبدأ في اعتبارها حقائقَ مفروغًا منها في عالمي الاجتماعي. ولا يتشابهُ تفكيري بما يكفي مع تفكير الرِّوائيين وعلماء الأنثروبولوجيا الذين يُسميهم الفيلسوف ريتشارد رورتي بوكلاء المحبة. ووكلاء المحبة هؤلاء هُم النقيض المقابل لوكلاء العدالة في أي مجتمعٍ صحِّي سليم. فوكلاء العدالة هُم متعهِّدو السلوكيات المعيارية التي تعتبرنا كلَّنا سواسيةً أمام القانون، وهي عدالةٌ عمياءُ نظريًّا، لا تُفرق بين الناس وإنما تُقيِّمهم تقييماتٍ نزيهةً مجردة من المشاعر الشخصية بغضِّ النظر عن ظروفهم الخاصة. كل هذا سليم ومنطقي جدًّا من الناحية النظرية، لكنه لا يعترف بأنَّ العديد من تفاصيل أوضاعنا الخاصة، سواءٌ أكانت ماديةً أو تاريخية أو اجتماعية، تُميز بعضَنا عن بعض. وهكذا يكون وكلاء العدالة معصوبي الأعين بدون وكلاء المحبة. لذا يحتاج الجانب الذي يُقيم العدالة من أنفسنا إلى النزوع بالقدر نفسِه إلى التحلِّي بالحساسية الممزوجة بالمحبة للتفاصيل الخاصة. وكلاء المحبة هُم أولئك الذين يجلبون ما كان مرفوضًا من الهوامش ويضعونها في نطاق اهتمام وكلاء العدالة. توجَد قوانينُ ضد التمييز على أساس العِرق والجنس والعمر تطلَّبَت من وكلاء المحبة التعبيرَ عن أشكال المعاناة التي كانت مُسكَتة أو متجاهَلة حتى تلك اللحظة. فوكلاء المحبة لديهم هذه الحساسية، وهُم مستعدُّون لجعل غير المألوف مألوفًا، وتعقيد القصة. وفي هذا الصدد، يقدم الروائيون الأدبيون العديد من الروايات التي تتناول هؤلاء الوكلاء، تُظهر هذه النزعة، ويمكننا التعلمُ منها. فلأنهم فاغرون أعيُنَهم، ويتمتعون بالملاحظة الدقيقة الجادَّة، ومنفتحون على الشعور بالاندهاش، يساعدون على تجنُّب «الموت البطيء الذي نُسببه للعالَم بغياب انتباهنا» على حدِّ تعبير جيمس وود.16

مهما كنتَ وكيلَ محبةٍ جيدًا، فستعرف، مثل ناثان زوكرمان، حدود هذا الطموح. «فبالرغم من كل هذا، يعجُّ العالمُ بأناسٍ يتجوَّلون هنا وهناك مُعتقِدين أنهم استطاعوا فهمك وفهم جارك، وفي الحقيقة فإن بئر المجهول لا قاع لها. لا نهاية للحقائق المتعلقة بنا. ولا الأكاذيب». (٣١٥)

تحكي قصيدة روبرت هاس «امتياز الوجود» قصة زوجين متحابَّين يُدركان أثناء إحدى لحظات علاقتهما الحميمية أنَّ كلًّا منهما لا بد أنه في الأساس غريبٌ ومجهول للآخَر إلى حدٍّ لا يُمكن تبسيطه. فتقول له:

استيقظتُ صباحًا يعتصرني حزنٌ عميق؛
لأنني أدركتُ
أنك لم تستطع، بقدرِ ما أحبك
يا معشوقي الحبيب، أن تشفيَ وحدتي،
ولامسَت خدَّه لتُطمئنه أنها لم تقصد
أن تَجرحه بهذه الحقيقة. والرجل لم يُجرَح بالضبط؛
فهو يتفهَّم أنَّ الحياة لها حدود، وأنَّ الناس
يموتون صغارًا، ويفشلون في الحب،
ويفشلون في بلوغ طموحاتهم.

يتَّسم هذا الرأي بطابَعٍ مثير للشفقة يُمكن قراءته على أنه مُكئِبٌ أو مُنقذ. وثمة شيءٌ في هذا التناقض توضِّحه عبارةُ المحلل النفسي جاك لاكان التي قال فيها إنَّ الحب يتضمنُ «تقديم شيء لا تملكه لشخصٍ لا يريده».

اندهشتُ حين سمعت بناتي يصفنَ كيف أمكَن أن يشعرن بأنهنَّ محبوبات حقًّا من أحد أقربائهن الذي لم يكن يعرفهن معرفةً فردية حقيقية، لكنه أحبَّ كلَّ واحدةٍ منهن حُبًّا ملموسًا ومميزًا جدًّا. كان سبب دهشتي أنني كنتُ أميل قبل ذلك إلى التفكير في مدى اعتماد الحبِّ على التخلُّص من فجوة المعرفة بين الناس. لكن هذا النوع من الألفة، ذلك الشعور بأننا نعرف الآخرين وأنهم يعرفوننا، لا يستمر سوى وقتٍ قصير جدًّا ويصعُب الاحتفاظُ به، ولا يكفي ليكون أساسًا لشيءٍ قوي ومُنقِذ مثل الحب، أو لدعم أنواع أخرى كثيرة من العلاقات التي تُشعِر المرء برضًا عميق.

تعلمتُ أثناء كتابة هذا الكتاب أنَّ إدراك أنَّه لا أحد سيفهمك حقًّا ليس فشلًا في النهاية. بل تعلمت حتى أن أرى أنَّ محاولة الفهم ليست عقيمةً في الأساس فحسب، بل تُقوِّض الصلة التي تدَّعي أنها تسعى إلى تكوينها، بطرقٍ ما. فعندما نكتشف «الحقيقة» بعد بحثٍ مُضنٍ، يوحي ذلك إلينا بأننا نعرف كل شيء كالرب، وذلك قد لا يتوافق أحيانًا مع الحاجة إلى تقبُّل جهلِنا وتقبُّل الاختلاف التامِّ بيننا وبين الناس الذين ندَّعي أننا نعرفهم. حتى أنت لا تفهم نفسك تمام الفهم. ونظرًا إلى أنَّ حُكمي عليك لن يكون قصةً كاملة أو دقيقة أبدًا، فيجب أن أُدرك أن محاولة الاقتراب من فهمك تُبقيه بعيدًا، من منظورٍ ما. فمثل السير نحو أفقٍ يتراجع باستمرار، يمكنني الاقتراب دون أن أصبح قريبًا إليه إطلاقًا.

غير أنَّ إرجاء الفهم بهذه الطريقة، هذا الجهل المتبادل، يخلق نوعًا مُعينًا من الأمل. فبالرغم منه، يُمكننا أن نحكم، وسنظلُّ يحكم بعضنا على بعضٍ، كما لو كنا نفعل ذلك عبر زجاجٍ مظلم، ولكن في حالةٍ من الترقُّب المستمر. فمدى مُتناوَل يدي «يجب» أن يتجاوز قبضتي. وتُعَد هذه وصفةً لإعادة النظر في أحكامنا مُدركين أنها دائمًا ما ستكون ناقصةً مُتحيزة، ودعوة إلى التواضُع أمام يقيننا بأننا أفضلُ خُلُقًا من الآخرين، وهو اليقين الذي يأتي بسرعةٍ مُبالَغ فيها ومرارًا أكثرَ مما ينبغي. والاعتراف بهذا النقص في المعرفة، وحدود التدقيق الحتمية، قد يكون عاملَ تمكينٍ بطريقةٍ مختلفة. فبِوُسع كلٍّ منا أن يدفع نفسه نحو نسخةٍ أفضلَ منه في هذه الفجوات. فبدلًا من الشعور بفجوة غير مريحة بين القصص التي نرويها بأنفسنا وتلك التي يرويها الآخَرون عنا، ربما يُمكننا استخدام هذه الفجوات لإتاحة مُتَّسَعٍ يكفي لتغيير هذه النُّسخ بحيث تتجاوز حدودَ التفكير الرغبوي القائم على الأمنيات الفردية. فإذا كان الجميع يظن أنني ألطفُ مما أظن، يمكنني التركيز على هذه الفجوة ومحاولة رأبها في المستقبل. وبذلك قد نُطور عاداتٍ وفضائلَ واهتمامات جديدة بمرور الوقت، بدلًا من الشعور بأننا عالقون كلآلئَ في أصدافِ الحقيقة المقدَّرة سلفًا. وهكذا يمكن للفجوات في المعرفة أن تمنحنا مثل هذا الأمل غير الأكيد. فهكذا يدخل الضوء في النهاية.

شئتَ أم أبيت، لا مفر من حقيقة أنَّه لا أحد سيعرفك حقًّا. ينبغي أن نتذكَّر الوشم الذي دُقَّ على جسد كولمان سيلك قبل مدةٍ طويلة من تلك الليلة الشنيعة التي شعر فيها بالعار ولوم الذات إبَّان المدَّة التي قضاها في القوات البحرية. فقد كان ناثان أقربُ أصدقائه يرى أنَّ هذا الوشم كان «رمزًا صغيرًا جدًّا، إذا احتجنا إلى أي رموز، لملايينِ الظروف في حياة رجلٍ آخر، لتلك العاصفة من التفاصيل التي تُشكل الالتباسَ الذي تتَّسم به قصةُ حياةٍ بشرية. رمز صغير يذكرني بأنَّ فهمنا للآخرين حتمًا ودائمًا يكون خاطئًا ولو بقدرٍ طفيف في أفضل الأحوال».

كلا، لا نستطيع الكفَّ عن إصدار أحكامنا غير الموثوقة، بل ولن يُحكَم علينا، نحن أنفسنا، أحكامٌ منصِفة أو دقيقة على الدوام. ولكن يُمكننا أن نلاحظ «الطريقة» التي يحكم بها بعضُنا على بعضٍ، ونلاحظ متى نتوقف عن الملاحظة أيضًا. إذا استطعنا القيامَ بذلك، فعندئذٍ سنعرف المزيد عن الأشخاص الموجودين في حياتنا، وسنعرف المزيد والمزيد، إن لم يكن كل شيء، منهم في المقابل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤