الفصل الثامن

الأضاحي البشرية في أوروبا

(١) الأوربيون والتضحية البشرية

مارس الأوربيون التضحية البشرية بأشكالٍ مختلفة ذبحًا وحرقًا وغرقًا، ولقد انتشرت تلك الممارسات في شمال غرب أوروبا؛١ إذ حفظت برودة المناخ نماذج عدة من هياكل وأجسام لأضاحي بشرية فيما عُرف بأجساد المستنقعات، أقدمها يرجع للعصور المجهولية فصاعدًا، وأثبتت الدراسات أن أغلب تلك الأضاحي البشرية كانت لأشخاصٍ من الشامان أو كانت لأناسٍ تمَّت التضحية بهم ضمن ممارسات الديانة الشامانية.٢

ولقد لوحظ على معظم هذه الأضاحي الآدمية وجود سمات معينة تنوَّعت بين ما يلي:

(١-١) العنف المفرط بما في ذلك تفكيك/قطع الرأس/الطعن

تتضمن الرحلة إلى العالم الآخر في العقيدة الشامانية الإثنوجرافية أمورًا معينة لا سيما الأولى، قطع الرأس وتفكيك الجسم رمزيًّا لتفكك الروح التي يجب أن تحدث لإعادة الميلاد، ادعى ديودوروس سيكلوس المؤرخ اليوناني في القرن الأول قبل الميلاد، أن الكاهن الذي تم تفسير ممارساته الطقسية على أنها شامية، استخدم الضحايا البشرية المقدمة كقربان كأدوات للروح وذلك بأن يتم طعن الضحية فوق الحجاب الحاجز ثم يتم التنبؤ بالمستقبل عن طريق تشنُّجات جسده، وسكب دمه وفي بعض الحالات ملاحظة أحشائه؛ فالعنف المفرط هو واحد من السمات الأكثر شيوعًا بين أجساد المستنقعات التي عُثر عليها بشمال غرب أوروبا.٣

(١-٢) الاختناق يتجلَّى من خلال وجود الحبال أو الوتر

يمكن أن يُحدث الاختناق حالةً من الغشية والنشوة المؤقتة وذلك من خلال نقص الأكسجين،٤ وهذا هو ما حدث مع الشامان الأتراك والسياميين السيبيريين حيث قاموا بشنق أنفسهم بالحبال من أجل إحداث حالةٍ من النشوة، وكان من أشهر الأمثلة على ذلك شامان فايكينغ أودين الذي شنق نفسه من أعلى شجرة يغدراسيل من أجل اكتساب المعرفة الروحية.٥ و«أودين» تعني «سيد النشوة»، وقيل إنه نام كأنه ميت، وخلال ذلك الوقت كان يستطيع أن يُشكل تحولات بأشكالٍ عدة كأن يأخذ شكل دب، أو ذئب أو طائر جارح. من الناحية الفسيولوجية، من المعروف أن الخنق الجزئي يكون شبه مهلوس ويمكن أن يزيد من الإثارة الجنسية، ويبدو أن الاختناق شائع جدًّا بين أجسام المستنقعات.٦

(١-٣) تناول مواد الهلوسة

في الشامانية الإثنوغرافية يمكن استخدام ابتلاع أو استنشاق المواد ذات الخصائص المسببة للهلوسة للحث على نشوة، أو إحداث حالة متغيرة من الوعي، فالسم أو المخدِّر يؤدي إلى الموت، وهو ضروري لرحلات الشامان إلى العوالم الأخرى.٧

(١-٤) التشوُّهات الجسدية أو السمات الجسدية غير العادية

غالبًا ما يتم اختيار الشامان على وجه التحديد لأن لديهم تشوهاتٍ جسديةً أو إعاقاتٍ حيث يُعتقد أنهم قد تأثروا بالأرواح،٨ فكان الشامان الأراوكانيون في تشيلي عادةً ما كانوا يعانون من ضعفٍ عام وأمراض أخرى،٩ ويُعتبر مرضى الصرع من صفات الشامان في جزر أندامان وهم من السحرة العظماء، وقد يمتلك الشامان سماتٍ غير عادية أخرى تُميزهم عن مجتمعهم مثل الوشم أو الوحمة أو مكانة استثنائية أو ربما الغموض الجنسي.١٠

(١-٥) الأيدي غير القاسية والأظافر المشذبة

كان للشامان وضعٌ خاص في المجتمع حيث يتم اختيارهم من قبل الأرواح، فهم أفراد من النخبة الصوفية المختارة، ويرى العديد من الباحثين أن الشامان والكهنة كانوا من الطبقة العليا في المجتمع،١١ وعلى هذا النَّحْو يبدو أنه من غير المحتمل أنهم كانوا يشاركون في العمل اليدوي؛ فالأظافر من الأشياء المهمة في القيام بالممارسات الشعائرية والطقوس السحرية.١٢

(١-٦) العري أو شبه عري

يدخل العديد من الشامان إلى العوالم الأخرى في حالة خلع ملابس أو العري، فقبل أن يدخل الشامان في حالة من الغيبوبة يكون الجزء العلوي من أجسادهم عاريًا، وذلك كما في حالة الشامان الكنديين، وفي الأمثلة الإثنوغرافية الشامانية الأخرى، هناك «حكماء عراة» هم كهنة الشامان في العقيدة الهندية.١٣

(١-٧) وجود أغطية الرأس والأحزمة ومعاصم الأذرع الجلدية بالقرب من الجسم العاري

يمكن لرجل الشامان أن يرتديَ ملابس من الجلد أو الصوف أو من الفراء مثل أغطية الرأس والقبعات والسراويل؛ من أجل تمثيل شخصية حيوان الشامان التي تساعد في نقله إلى عالم الروح، وهذا كله من الأمور الرمزية المساعدة لتحوُّله إلى شخصية الشامان.١٤

(١-٨) التركيز على الرأس أو الشَّعر

في ثقافة العصر الحديدي تم تكريم الرأس حيث كان يُعتقد أنه يحتوي على القوة الروحية للفرد، وكان يُعتقد أن الرأس المحرر رمزٌ للخصوبة؛ فللرأس خصائص تجدُّدية وقدرة على التوسط بين العالمين وبالمثل في الشامانية الإثنوغرافية يُعتقد أن الروح موجودة في الرأس؛ ولذا فالشامان لا يقطعون شعرهم لأنهم يعتقدون أن الشعر هو المكان الذي تعيش فيه أرواح العشائر، فلدى قبائل الأسكيمو الشعر والأظافر مهمة في تنفيذ الطقوس السحرية، ويؤمن أتباع إنويت في كندا أنه في قطع الشعر ينفصل جزء من الروح؛١٥ وبالتالي فإن قطع الشعر قد يدل على تحرير الروح، أو على العكس من ذلك، قد لا تتمكن الروح غير الكاملة من السفر إلى العوالم الأخرى.١٦

(١-٩) القيود مثل العوارض الخشبية، والحبال، والحواجز، والأربطة

جزء من طقوس الديانة الشامانية قد ينطوي على أن يكون الشامان مقيدًا بطريقةٍ ما. يرى بعض الباحثين أن ربط الشامان هو أعظم المفاخر الشامانية،١٧ وفي بعض الأحيان تم العثور على أجساد للشامان وقد تم فك أربطتهم نوعًا ما، وكان تفسير ذلك أن مساعدي الروح قد ساعدت على فكِّ قيوده.١٨

(٢) نماذج من الأضاحي البشرية

عثر الباحثون على جثث في حالة جيدة للغاية بالرغم من أنه مضى عليها حوالي ٢٠٠٠ سنة. وكان من بينها جثة رجل أطلق عليه اسم Tollund man الذي عُثر عليه في تيلاند الدنماركية أدهش الجميع بتعابير وجهه الفتية. هذا بخلاف الجثة التي أُطْلِق عليها Bockstensman، والتي عُثر عليها في قرب مدينة فاربيرغ الدنماركية، كانت لا تزال في ملابسها العائدة للعصور الوسطى. التحاليل التي أُجْرِيَت على هذه الجثث، تشير إلى أنهم ماتوا كقرابين للآلهة المتعطِّشة للدماء، وأن تقديم البشر كقرابين كان عادةً منتشرةً في العصر الحديدي، خصوصًا في اللحظات الحرجة.١٩
هذه الجثث كانت محفوظةً بشكلٍ جيد إلى درجة أن مَنْ يراها للمرة الأولى يعتقد أنها جريمة قتل حديثة إلا أن الطرق المتطورة في التحليل أمكنها أن تُوقف هذا الجدل القديم وتبرهن على أنها جثث من الماضي السحيق. أغلب الجثث من هذا النوع ترجع إلى الفترة ما بين ٣٧٥–٢١٠ قبل الميلاد.٢٠
وهناك رجل أولدكراجون الذي عُثر عليه عام ٢٠٠٣، خلال حَفْر قناة الصرف في مستنقع Cloner وأرَّخَه الكربون المشع بما بين ٣٦٢ و١٧٥ قبل الميلاد. وقد طُعن في صدره، وقُطع رأسه، ونزع من جسمه، وقطع جسده من منتصف الجذع. كان هذا الشاب في منتصف العشرينيات من عمره، يتمتَّع بمكانةٍ ووضعٍ اجتماعي مميز يتبين ذلك من خلال يديه غير القويتين وأظافره المشذبة التي توحي بأنه لم يشارك في العمل اليدوي على الأقل لفترة ما قبل وفاته، وقد عُثر حول ذراعه اليسرى على جلد مزين بزخارف معدنية٢١ (شكل ٨-١).
fig51
شكل ٨-١: جسد رجل أولدكراجون. (Brennan, B., 2014, plate 11.)
وكان من بين جثث ضحايا الطاعون التي ترجع إلى العصور الوسطى تلك الجثة التي عُثر عليها وكان قد وضع بقوةٍ بين فكيها قطعة من الصخر أو لبنة تم كسرها، وكانت هذه الطريقة تستخدم مع مصاصي الدماء المشتبه بهم في أوروبا خلال هذا الوقت، خاصةً عندما أدَّت العمليات البيولوجية الطبيعية بعد الموت إلى سائلٍ شبيهٍ بالدم يتدفَّق من الفم، الجثة كانت لسيدةٍ مسنةٍ وقد قرَّر الباحثون أن هذه السيدة لم تكن من مصاصي الدماء بعد وفاتها فحسب، بل ربما كانت قد اتهمت بممارسة السحر قبل أن تقابل نهايتها، فلم يكن معظم الناس يعيشون في سنِّها، وقدرت أعمارهم ما بين ٦٠–٧١ سنة، وكان العديد من الأوروبيين في العصور الوسطى يعتقدون أن الشيطان أعطى قوى المسنين لخداع الموت، كانت النساء الأكبر سنًّا مشتبهًا بهنَّ بشكلٍ خاصٍّ لأنه كان يُفترض أنه ليس لديهنَّ سوى القليل ليعشْنَ فيه، كما أنَّهن معرضاتٌ لعروض القوة٢٢ (شكل ٨-٢).
fig52
شكل ٨-٢: مصاص دماء البندقية بإيطاليا جنوب أوروبا. (https://www.pinterest.com/pin/344806915191204887/.)
ومن بيرو في غرب أمريكا الجنوبية عُثر على مومياء مقيدة أُطْلِق عليها «المومياء الصارخة»، ويبدو عليها آثار التعذيب والفزع قبل الموت ويتأكد ذلك من القيود ومن الفم المفتوح بالصراخ٢٣ (شكل ٨-٣).
fig53
شكل ٨-٣: مومياء بيرو الصارخة. (Rogers, S., Frightening Archaeological finds: 15 Odd Human Remains, in: https://weburbanist.com/2013/04/03/frightening-archaeological-finds-15-odd-human-remains/.)
ولقد عُثر في أيرلندا على الكثير من الجثث في مناطق المستنقعات هناك وتبين بدراستها أنها ربما كانت أضاحي بشرية، وكان من بين تلك الجثث جثةُ رجل أطلق عليه «رجل غروبال»، تظل هذه الجثة فريدةً نوعًا ما؛ إذ لا تزال في حالةٍ جيدة من الحفظ ولم يزل شعر الرجل وأظافره كما هما، ومن الممكن تحديد أسباب الوفاة اعتمادًا على الدلائل الموجودة في جسمِه وحوله، استنادًا إلى أثر جرحٍ كبير يمتد على عنقه من الأذن إلى الأذن، يمكن القول إن هذا الرجل كان قربانًا تمَّت التضحية به أملًا في موسم حصادٍ وفير٢٤ (شكل ٨-٤).
fig54
شكل ٨-٤: رجل غروبال، أيرلندا.
وفي السويد وهي ثالث أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي عُثر أثناء التنقيب الأثري في بحيرة جافة في متوالا على جماجمَ آدمية تخترقها أوتادٌ عبر محاجرها، علاوة على جمجمة حُشرت بداخلها قطعٌ من الجماجم الأخرى، ويؤرخ ذلك بنحو ٨٠٠٠ عام، وهو قطعًا لم يكن أمرًا مستساغًا٢٥ (شكل ٨-٥).
fig55
شكل ٨-٥: جماجم تخترقها أوتاد.
وفي الدنمارك غرب السويد عُثر على غرار ما عُثر عليه في أيرلندا؛ فقد عثر على جثة رجلٍ أطلق عليه «تولدن مان» بدت الجثة كمومياء طبيعية، تم اكتشافها في أحد مناجم الفحم في الدنمارك عام ١٩٥٠ وتعود المومياء إلى القرن الرابع قبل الميلاد أو ما يطلق عليه العصر الحديدي في أوروبا، وأهم ما يميز هذه المومياء هو وجهها، حتى إن من يراها يظن أن صاحب الجثة قد توفِّيَ حديثًا. كانت الجثة مدفونةً على عمق ٥٠ مترًا، متخذة وضع القرفصاء، وكان هناك قبعةٌ جلدية مخروطية الشكل على رأس الجثة، وباستثناء هذه القبعة كانت الجثة عارية، وكان شعر الرأس قصيرًا والذقن محلوقًا بصورة جيدة باستثناء بعض الشعر الناعم الذي يدل على أن صاحب الجثة لم يحلق ذقنه في اليوم السابق لمماته. وكان هناك حبل جلدي يلتف بإحكامٍ حول عنقِه ويتدلَّى على كتفه ويمتد إلى الأرض بجوار الجثة٢٦ (شكل ٨-٦).
fig56
شكل ٨-٦: تولند مان، الدنمارك. (Brennan, B., 2014, plate. 13.)

ولقد تنوَّعت الآراء بشأن هذا الرجل، فرأى البعض أنه ربما كان لصًّا سقط فمات بهذه الوضعية، ورأى البعض الآخر أنه ربما كان أضحية بشرية تم تقديمُها بهذه الكيفية، وأعتقد أن الرأي الأخير هو الأصوب، لا سيما أن المومياء تكاد تكون خاليةً إلا من القليل من الملابس، فمن غير المعقول أن يقوم لص بالسرقة عاريًا! هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وجود الحبل المتدلي حول عنقه يؤكد هذا الافتراض، ووجود القبعة يذكرنا بالتقاليد المتبعة في أضاحي حضارة الأزتك حيث كانوا يحرصون على وَضْع تاجٍ على رأس الأضحية وتخفيف الملابس، وصاحب المومياء هنا لم يَرْتدِ كثيرًا من الملابس ولكنه وضع غطاءً للرأس، فالأوقع أن يكون أضحية بشرية قُدمت في ظل ممارسات طقسية أحاط بها الغموض.

وهكذا من كل ما سبق يمكن القول إن عادة تقديم الأضاحي البشرية تعد ممارسة قديمة وحديثة معًا، لها أسبابها وأدلتها في كل زمانٍ ومكان، وكان للسحر والأسطورة دورٌ هام في أسباب القيام بها، فما بين أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين دارت صفحات الكتاب بإيجازٍ وبشيءٍ من الإيضاح، تم إلقاء الضوء على أسباب تلك العادة، ودوافعها وكيفية القيام بها ومدى التشابُه والاختلاف في ممارستها من مكانٍ إلى آخر.

١  Iping-Petterson, M. A., Human Sacrifice in Iron Age Northern Europe: The Culture of Bog People, Leiden, 2011, p. 33.
٢  Brennan, B., 2014, p. 1.
٣  Brennan, B., 2014, p. 30.
٤  Stutley, M. Shamanism, an Introduction. London, 2004, p. 37.
٥  Eliade, M. Shamanism: Archaic Techniques of Ecstasy, Princeton, 2004, p. 380.
٦  Brennan, B., 2014, p. 30.
٧  Stutley, M. 2004, p. 16.
٨  Williams, M. Prehistoric Belief, Shamans, Trance and the Afterlife, London, 2010, p. 231.
٩  Eliade, M., 2004, p. 25.
١٠  Williams, M. ‘Tales from the dead. Remembering the bog bodies in the Iron Age of North-Western Europe’. In: Williams, H. (ed) Archaeologies of Remembrance: Death & Memory in Past Societies. New York, 2003, p. 102.
١١  Parker Pearson, M., The Archaeology of Death and Burial, Gloucestershire, 2012, p. 71.
١٢  Brill, E. J. Visible Religion, in: Annual for Religious Iconography. Volume 1, Leiden, 1982, p. 103.
١٣  Brennan, B., 2014, p. 31.
١٤  Brennan, B., 2014, p. 32.
١٥  Brennan, B., 2014, p. 32.
١٦  Williams, M. Prehistoric Belief, Shamans, Trance and the Afterlife, London, 2010, p. 233.
١٧  Merkur. D., Becoming Half Hidden: Shamanism and Initiation Among the Inuit, London, 1993, p. 132.
١٨  Brennan, B., 2014, p. 32.
١٩  Iping-Petterson, M. A., Human Sacrifice in Iron Age Northern Europe, p. 14.
٢٠  Iping-Petterson, M. A., Human Sacrifice in Iron Age Northern Europe, p. 18-19.
٢١  Brennan, B., 2014, p. 35.
٢٢  Rogers, S., Frightening Archaeological finds: 15 Odd Human Remains, in: https://weburbanist.com/2013/04/03/frightening-archaeological-finds-15-odd-human-remains/.
٢٣  Rogers, S., 2013.
٢٤  Brennan, B., 2014, p. 36.
٢٥  أضخم الاكتشافات الأثرية في تاريخ البشرية، شبكة أبو نواف، ٢٢ / ٩ / ٢٠١٢.
٢٦  Brennan, B., 2014, p. 37.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤