الفصل العشرون

السفر

في أحد الأيام أتى أديب إلى غرفة بديعة وأدلة السرور بادية على وجهه، ولما اقترب من سريرها وجدها مبرقعة بهيئة محزنة ومفرحة معًا.

محزنة لأنها صفراء كالموتى، ومفرحة لأن هذه الصفرة ذاتها كانت مثال هيئة ملائكية وجمال غريب وهي مغمضة العينين، وقطرات العرق كحَبٍّ من اللؤلؤ المنثور على جبهتها، ولمَّا لم يشأ إزعاجها مشى بهدوء مفتشًا عن جميلة التي وجدها في المطبخ تُعِدَّ لها طعامًا.

فقال مبتسمًا: قد أتيت لبديعة ببشارة حسنة فوجدتها نائمة. فقالت هذه بلهفة: وما هي؟

أجاب: إن نسيبًا ولوسيا قد غادرا هذه المدينة إلى نيويورك لأجل السكن هناك.

فخرت تلك الفتاة المسكينة عند قدمي الشاب وقبلت الأرض قائلة: أشكرك يا الله فإن عزيزتنا قد أبلت مرضها.

فقال وهو معجبٌ بإخلاصها: لا عُدم هذا الإخلاص الشريف من البشر.

أجابت: إنني لا أكافئ بديعة بأضعاف أضعاف هذا الإخلاص لو كان لي.

فقال: لا غرابة فإن الجزاء الحق من جنس العمل، وبديعة مخلصة، وكلتاكما أهل لهذا الحب.

قالت: أطلب من الله أن يستجيب قولك فيقدرني على إنقاذ بديعة من المرض كما أنقذتني هي من الموت غرقًا. فظهرت على وجه أديب لَوَائِحُ الاندهاش وقال لها: من الموت غرقًا؟

قالت: نعم. وقصت عليه قصتها بتمامها، فلما فرغت قال الشاب متأسفًا: إن مصيبتك ومصيبة بديعة متشابهتان، ومن الظلم أن يكون هذا جزاء فتاتين شريفتين من البشر.

فتنهَّدت جميلة وسكتت؛ لأنها كانت تسكُت أكثر مما تتكلم في أغلب الأحيان، وفي برهة سكوتها سمعت صوت بديعة تناديها فهرولت مسرعة إليها وتبعها أديب والفرح بادٍ على وجه الاثنين، ولم تقدر جميلة على كتمان ذلك الأمر المُفرِح عن بديعة فأكبت على عنقها وقبَّلَتْها قائلة: قد أتاك أديب ببشارة تسرك وتشفيك إن شاء الله.

فتنهدت بديعة وقالت: ما هي يا ترى؟ ولكن قبل أن تقصَّاها عليَّ دعاني أخبركما بحلم مزعج حلمت به، هو أنني كنت سائرة في طريق مقفرة وحدي، وكانت الأرض موحلة فسقطت رجلي في حفرة هناك إلى ركبتي والتصق بها الوحل، فعانيت كثيرًا في سحبها منه ومشيت مسرورة. وبعد قليل وقعت في حفرة أعمق من الأولى بكثير، وإذ رأيت نفسي فيها خفت وصرتُ أصرخ إليكما وأقول: لتكن مشيئتك يا رب فإنني لا أكاد أخلص من حفرة في الحياة حتى أقع في أعمقَ منها، ولولا أنني انتبهت الآن لكنت جننت لا محالة من الخوف.

عند ذلك اقترب أديب من سريرها قائلًا: أبشري يا بديعة فإن حلمك قد صدق من جهة وكذب من أخرى؛ لأن نسيبًا ولوسيا قد سافرا إلى نيويورك وسوف لا يرجعان، وهذه هي الوحلة التي خلصت منها، أما البئر فلم تقعي بها وحلمك من هذه الجهة كاذب.

فأغمضت بديعة عينيها عند سماع كلام أديب، وكأنها أرادت بهذا أن تحجب عن نظرها إخلاصه وحبه العظيمَيْن، واللذين لا تقدر أن تبادله أحدهما كما يريد.

ومع أن بديعة لم تسترِحْ كل الاستراحة من جهة حلمها، فإنها فرحت بذهاب نسيب كثيرًا ورضيت بالحاضر مسلِّمة المستقبل لله.

ولا حاجة للكلام بأن بديعة أخذت تتقدم إلى الصحة؛ لأن الأمراض مهما كانت يؤثر بها الهم كثيرًا، فكيف متى كانت مسببة عن الهم ذاته! ولما أخذ ذلك الهم بالتناقُص، أخذ مرضها بالزوال شيئًا فشيئًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤