الفصل الثاني

هل التعددية الثقافية ضارَّة بالمرأة؟

إذا كان من الممكن تتبُّع أصول التعددية الثقافية وصولًا إلى ثورة حقوق الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين وما أعقبها من نشأة حركات اجتماعية تقدُّمية تضمنت الحركة النسائية، فقد يبدو مُستَغرَبًا للوهلة الأولى أن يُشار إلى احتمال أن تكون التعددية الثقافية ضارَّة بالمرأة، لكنه لا يكون غريبًا إلا إن كانت حركات المطالبة بالحقوق والاعتراف والدمج وإعادة التوزيع دائمًا ما تتناغم معًا، مُكَوِّنة كُلًّا متجانسًا.

في الواقع، ما من سبب يحتم ألا تتعارض المطالبات بالحقوق نيابةً عن الجماعات المختلفة بعضها مع بعض. وعلى أي حال، فالحركة النسائية ذاتها ظهرت جزئيًّا بسبب عدم الرضا عن اليسار والحركات الثقافية البديلة لفترة ستينيات القرن العشرين التي دعمت مصالح الطبقة العاملة وثقافات الشباب الجديدة، لكنها أخفقت في إدراك التبعية المجتمعية للمرأة، التي كانت أيضًا راسخة ومسلَّمًا بها في ممارسات اليسار والحركات الثقافية البديلة، وفي التصدي لها.

بات وضع المرأة في أي إطار من أُطُر التعددية الثقافية يشبه اختبارًا حاسمًا لمقبولية التعددية الثقافية، ومن المفارقة أنه حتى المحافظين الاجتماعيين والسياسيين — الذين لم يُعرف عنهم تعاطفهم مع حقوق المرأة والنهوض بها — كثيرًا ما استغل العديد منهم قضية النوع في تعضيد موقفه في مواجهة التعددية الثقافية.

وقد وصل الأمر — كما أشار بعض المعلِّقين — إلى أنه بقدر ما يمكن القَول إن التعددية الثقافية في أزمة، عادةً ما يُستغل جسد المرأة في ذلك.

(١) كيف يمكن أن تكون التعددية الثقافية ضارة بالمرأة؟

يسهل توضيح القضية الرئيسية الموضوعة على المحك، فإذا كانت التعددية الثقافية تتضمَّن دعم بقاء ثقافات الأقليات العرقية وتقاليدها، وإذا كانت تلك التقاليد في حقيقتها مجحفة بالمرأة، فمن الواضح إذن أن التعددية الثقافية تضر بالمرأة ولا ينبغي أن تحظى بتأييد أي شخص يؤمن بالمساواة بين المرأة والرجل.

والدول القومية الغربية — على الرغم من ارتكازها على المساواة الرسمية بين المرأة والرجل في المجال العام: الوظائف والتنظيمات والمجالس السياسية والتعليم وما إلى ذلك — هي في الواقع أبعد ما تكون عن المساواة حين يؤخذ بقياسات الدخل والوضع المهني وعضوية المجالس النيابية وغيرها من المؤشرات في الحسبان. والواقع أن الحركات النسائية والمساواتية في الغرب عاكفة عن حق على تسليط الضوء على أوجه عدم المساواة هذه، وشنِّ الحملات ضدها، لكن ربط مسألة النوع بانتقادات التعددية الثقافية كثيرًا ما نَزَع إلى التركيز على ممارسات مجتمعات الأقليات العرقية ذات الأصول غير الغربية المقيمة الآن في الدول القومية الغربية، وعلى تبعية المرأة في المجتمعات غير الغربية. ويرجع ذلك إلى أن العديد من تلك المجتمعات — أو أجزاءً منها — لا تقبل حتى المساواة الرسمية بين المرأة والرجل.

وقد دخل عدد من الممارسات غير الغربية في دائرة الضوء وأثار جدلًا واسعًا، أبرزها: ارتداء المسلمات الحجاب والنقاب وغيرهما من الثياب، والممارسات المتمثلة في الزواج المدبَّر والزواج القسري، وتعدد الزوجات، وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث أو بتر أجزاء منها. وسوف نتناول جميع تلك الممارسات بالدراسة في هذا الفصل.

وكما سنرى، تثير قضية النوع أيضًا قضايا جوهرية أخرى بشأن كيفية النظر إلى «ثقافات» الأقليات، من منطلق نمطي وجوهري في كثير من الأحيان، والعلاقة بين الثقافات والأفراد، وحقوق الأفراد في مواجهة ثقافاتهم.

(٢) فرضية التنافر الشديد

إن الافتراض القائل إن ثمة توترًا جوهريًّا بين حقوق المرأة والتعددية الثقافية عرضته عالمة السياسة الأمريكية الراحلة سوزان مولر أوكين عرضًا شديد الإقناع والوضوح في مقال حظي بمناقشة واسعة النطاق، واستخدمتُ عنوانه عنوانًا لهذا الفصل: «هل التعددية الثقافية ضارة بالمرأة؟» كذا سألتْ مولر في مقالة نُشِرَت لأول مرة في مجلة «بوسطن ريفيو» عام ۱۹۹۷، وكانت إجابتها «نعم» شبه قاطعة، وإن كانت قد خففتْ فيما بعد من مناصرتها المبدئية لما سميتُه «فرضية التنافر الشديد».

كان لافتراضاتها صدى واسعٌ لدى العديد من أنصار الحركات النسائية، ومن الليبراليين الذين كان لديهم تحفُّظات على ما اعتبروه حماسًا عصريًّا لسياسات التعددية الثقافية وممارساتها ومبادئها التي تبنَّتها العديد من الدول القومية الغربية بدءًا من سبعينيات القرن العشرين فصاعدًا، لكنه حماس مفتقر إلى الحكمة.

وكانت أوكين على قناعة بأن ما سمته منح حقوق الجماعات — الذي اعتبرته لصيقًا بالتعددية الثقافية — زاد من سوء وضع المرأة في الثقافات الذكورية للأقليات العرقية في الدول القومية الغربية؛ فسياسات التعددية الثقافية من خلال تعاملها المزعوم مع ثقافات الأقليات على أنها «كيان واحد»، ومن ثم تجاهلها تباينات القوى الداخلية بين المرأة والرجل، بل أكثر من ذلك من خلال اعتبار أي تدخل في الدائرة الخاصة للحياة الأسرية والمنزلية لا يتوافق والحفاظ على أسلوب حياة الجماعة — ساعدت على استمرار تبعية المرأة في تلك المجتمعات.

وفي معارضة لأفكار التعددية الثقافية القائلة إن الحرية واحترام الذات لدى جماعات الأقليات يكمنان في قدرتها على الحفاظ على ثقافاتها الخاصة، تشير أوكين إلى أن المرأة في ثقافات الأقليات:

قد يكون حالها أفضل بكثير إنْ انقرضت الثقافات التي نشأت في كنفها (حتى يندمج أعضاؤها في الثقافة المحيطة بهم الأقل في التفرقة على أساس النوع)، أو حبذا إن شُجِّعت على التغيير من طبيعتها بغية دعم حق المرأة في المساواة، على الأقل بالدرجة التي عندها تتمسك ثقافة الأقلية بتلك القيمة. (التوكيد في النص الأصلي.)

وقد توصَّلت أوكين إلى هذا الاستنتاج الذي كثيرًا ما يُستشهد به وكثيرًا ما يثير الجدل على أساس دراسة أجرتها عن ثقافات الأقليات، ألقت فيها الضوء على سيادة مجموعة متنوعة من الممارسات التي تجحف بالمرأة وتضر بها على نحو بالغ، وتتسبب في معاناتها وتبعيتها المستمرة للرجل.

أولًا: تعدد الزوجات: لم تكتفِ أوكين بالإشارة إلى سماح الفرنسيين إبَّان ثمانينيات القرن العشرين للعديدين بالهجرة بصحبة أكثر من زوجة، مما أدَّى إلى وجود ما يفوق ۲۰۰ ألف أسرة متعددة الزوجات في باريس بحلول أواخر تسعينيات القرن العشرين، بل أشارت أيضًا بالتأكيد إلى أن تعدد الزوجات هو مثال واضح على تغليب مصالح الرجل ورغباته على مثيلاتها لدى المرأة، وساقت أدلة من البلدان التي تخرج منها الهجرات إلى فرنسا على أن النساء هناك لا يستسغن تعدد الزوجات، وأيضًا أن الرجل يعتبره وسيلة لتأديب المرأة؛ فإن «أساءت التصرُّف» زوجةٌ يمكن تهديدها بمجيء أخرى.

ثانيًا: ألقت الضوء على الممارسة المتمثلة في الاغتصاب المفضي إلى زواج؛ ففي أمريكا اللاتينية وبعض أنحاء جنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا، يمكن تبرئة المغتصِب قانونيًّا من الجريمة إذا تزوج الضحية.

ثالثًا: تشير إلى ما سُمِّيَ في الولايات المتحدة الأمريكية «دفاعًا ثقافيًّا» في المحاكم الجنائية؛ فعلى سبيل المثال: حاول الهمونج بهذا الأسلوب الدفاع عن ممارساتهم التقليدية للزواج عن طريق «الخطف والأسر». وتتعلق إحدى ممارسات «الدفاع الثقافي» الأخرى التي تستشهد بها بالأمهات ذوات الأصول اليابانية والصينية اللائي قَتَلْنَ أبناءهن وحاولْنَ أيضًا قتل أنفسهن إثر عار خيانة «الزوج».

وأخيرًا: تشير إلى الممارسة المتمثلة في استئصال البظر، التي يشار إليها أيضًا في المعتاد باسم تشويه الأعضاء التناسلية للإناث أو ختان الإناث، التي تجري وسط بعض الأقليات العرقية في الغرب، لا سيما تلك التي تمتد أصولها إلى غرب أفريقيا وشرقها. وتقول أوكين إن التبريرات المقَدَّمة بخصوص تلك الممارسة بيِّنَة التعارض مع مصالح المرأة؛ فاستئصال البظر يُجرَى بهدف الحد من المتعة الجنسية لدى المرأة، ومن ثَم تشجيع العذرية قبل الزواج والإخلاص الجنسي بعد الزواج. فأغلب الظن أن المرأة التي لا تستشعر متعة من الجِماع — كما يذهب تبرير عملية استئصال البظر — ستلتزم بأدوار الأم والطاهية والزوجة.

ومما لا شك فيه أن أوكين أبدت إدراكًا بأن العديد من نساء الأقليات العرقية يشاركْنَ أيضًا بمحض إرادتهن في بقاء تلك الممارسات التي تقهر المرأة، لكنها ترى أن الأخذ بهذا الدفاع يعني إغفال حقيقة أن قدرًا كبيرًا من التمييز الجنسي يتوارى في المحيطات الخاصة — لا سيما محيط الأسرة — حيث «تغرس الثقافة» في المرأة أدوارًا اجتماعية معينة و«تفرضها» عليها.

(٣) نقَّاد أوكين

ومن المفارقات أن أوكين نفسها — علمًا برأيها القائل إن أنصار التعددية الثقافية عادةً ما يغفلون تباينات القوى الداخلية لدى مجتمعات الأقليات العرقية — تعرَّضت للنقد القائل إن تناولها لتلك المجتمعات فاته ما تتسم به المجتمعات من تشابك داخلي. فأوكين ترى تلك المجتمعات كوحدات تامة الانفصال ومندمجة داخليًّا، تقوم أساسًا على تبعية المرأة (وهي نزعة ظاهرة أيضًا لدى نقاد التعددية الثقافية الأحدث مثل حسن، الذين يهاجمون التعددية الثقافية لجوهريتها، ثم يَعرِضون ثقافات الأقليات العرقية — ولا سيما الثقافات الآسيوية — من منطلق كاريكاتيري ونَمَطي).

ويشير النقاد إلى أن أوكين — بتمسكها بهذا النوع من الجوهرية — تكاد تحصر تركيزها على حالات متطرفة من تبعية المرأة والإساءة إليها جنسيًّا، مثل: تشويه الأعضاء التناسلية للإناث والاغتصاب والقتل، ومن ثم تقع في فخ قَوْلَبَة مجتمعات الأقليات بأسلوب جاف وعقيم، وهي بذلك تُقَوْلِب أيضًا «المرأة» في الأقليات العرقية باعتبارها إلى حد بعيد ضحية سلبية.

ويترتب أيضًا على تصوير مجتمعات الأقليات العرقية على طريقة أوكين — وهو بدوره مَلمح شائع في الانتقادات المعارضة للتعددية الثقافية — الأثر المؤسف والمضلِّل المتعلق بتكوين نوع من التعارض الثنائي الصلب بين الغرب وما عداه؛ بتمثيل الغرب (أو «نحن») على أنه محب للحرية والمساواة، بينما يُصَوَّر ما عداه («هم») على أنه «آخر» غير متحضِّر وهمجي لا يكِنُّ احترامًا يُذكَر لكرامة المرأة وحقوقها.

ويرسم علماء الأنثروبولوجيا من أنصار الحركة النسائية وناشطات الأقليات العرقية — أحيانًا يكونون نفس الأشخاص — صورة أكثر دقة لمواقف المرأة وفعاليتها في الثقافات التي أدانتها أوكين.

(٤) تشويه الأعضاء التناسلية للإناث

لا يوجد اتفاق كبير حول طول فترة ممارسة صور ختان الإناث، ولا يتضح عدد البلدان التي تشيع فيها هذه الممارسة في الوقت الحالي، لكن في الماضي يبدو أنها كانت تُمارَس فعليًّا في مصر القديمة، ولم تكن نادرة الحدوث في فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة الأمريكية إبان القرن التاسع عشر (وتشير بعض الأدلة إلى ممارستها حتى خمسينيات القرن العشرين)، حيث وُصِفَ استئصال البظر لعلاج «الهستيريا» و«السحاق» والجنون والصَّرَع (على الأرجح دون نجاح). وهو في الوقت الحاضر أكثر شيوعًا في بعض البلدان الأفريقية، لكن أيضًا إلى حد ما في بعض أنحاء الشرق الأوسط والهند وسريلانكا وإندونيسيا وماليزيا.

ويثير ختان الإناث اشمئزازًا بالغًا لدى كافة البلدان الغربية، وهو الآن محظور فيها كافة؛ ففي سبتمبر عام ۲۰۰۱ أصدر البرلمان الأوروبي قرارًا بشأن تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، طلب إلى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ملاحقة أي مقيم يرتكب تلك الجريمة والتحفظ عليه ومعاقبته، حتى إن ارتكبها خارج الاتحاد الأوروبي، وطلب إليها إقرار حق اللجوء للمرأة والفتاة المُعَرَّضة لخطر تشويه أعضائها التناسلية. ويُجَرَّم تشويه الأعضاء التناسلية للإناث على وجه التحديد في بلجيكا والدنمارك والنرويج وإسبانيا والسويد والمملكة المتحدة، وتتناوله بلدان أخرى مثل فرنسا ضمن تشريعات أعَمَّ، وتحظره أيضًا أستراليا وكندا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية. لكن لم تسمح سوى الولايات المتحدة الأمريكية بقبول الخشية من تشويه الأعضاء التناسلية للإناث سببًا لطلب اللجوء.

في كثير من الأحيان تتوافر في البلدان الغربية أحكام قانونية تتيح للنساء إجراء جراحات تناسلية إذا كان شكل أعضائهن التناسلية يسبب لهن ألمًا نفسيًّا بالغًا، وعادةً ما يُتاح ختان الذكور في جميع البلدان الغربية — وليس للمسلمين واليهود فحسب — على الرغم من عدم الاتفاق حول فوائده الصحية أو أضراره المحتملة على المتعة الجنسية.

وفي حين تَلْقَى عادة بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث استنكارًا واسعًا لدى الغرب، لا يتضح مدى الاستيعاب الشعبي لأنواع الممارسات المختلفة التي تندرج تحت هذا العنوان العام؛ فالصورة الأقل عدوانيةً وإضرارًا تتضمن إزالة القلفَة وطرف البظر. وبالنسبة إلى البعض لا يختلف هذا عن ختان الذكور، ويرى ذلك البعض أنه ما دام يُجرَى وفق ظروف طبية ملائمة، فينبغي السماح به.

وتتضمن صورتان أخريان تدَخُّلين جراحيين أكثر عنفًا؛ ففي استئصال البظر، يُزال البظر وجزء من الشفرين الصغيرين، أو يزالان برمتهما، ويتألَّف الختان التخييطي — الذي يُعرف أيضًا باسم «الختان الفرعوني» — من إزالة البظر والشفرين الصغيرين وجزء من الشفرين الكبيرين، إضافةً إلى تخييط جانبي الفَرْج.

ومن غير المعتاد أن نجد أي دفاع حقيقي عن أي صورة من صور بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث في الغرب، وإنَّ في الاستخدام الشائع لمصطلح «تشويه الأعضاء التناسلية للإناث» لدلالة على المعارضة واسعة النطاق لجميع صور هذه الممارسة. لذا فمن قبيل النفاق أن يظل النقاد يستخدمون موضوع تشويه الأعضاء التناسلية للإناث مبررًا للوم أنصار التعددية الثقافية وتصويرهم بمظهر المتبنِّين الخطِرين للنسبية الثقافية الذين لديهم استعداد لتعريض صحة المرأة وحياتها للخطر بسبب تحرُّجهم من التشكيك فيما يُفتَرَض أنه «تقاليد» مهمة.

وتشير التقديرات إلى أنه على الصعيد العالمي خضعت حوالي ۱۰۰ مليون إلى ۱۳۰ مليون امرأة لصورة أو أخرى من صور ذلك الإجراء، وأنه كل عام يُختن تقريبًا مليونا فتاة وامرأة، والعديد منهن يُختَنَّ بصورة غير قانونية في الغرب. ويُؤخَذ عدد مجهول من الفتيات خارج البلاد لإجراء العملية والمراسم المصاحبة لها.

وقد استطلع عالم الأنثروبولوجيا الثقافية الأمريكي ريتشارد شويدر وغيره الأبحاث المتعلقة بتشويه الأعضاء التناسلية للإناث، وقالوا إن المخاطر الصحية مبالَغ فيها، وأن ثمة أدلة لا يستهان بها على استمرار النساء في استشعار المتعة الجنسية على الرغم من الختان، وأنه ما من مبرر لفرض المعايير الجمالية الغربية على المجتمعات القائمة — على سبيل المثال — في السودان والصومال وتشاد ومالي والمجتمعات القادمة منها، التي تفضِّل شكلًا «أكثر انسيابية» للأعضاء التناسلية الأنثوية. فهم يذهبون إلى أنه إذا كان زرع الثدي لأسباب تجميلية بحتة مقبولًا لدى الغربيين، فينبغي كذلك السماح بالجراحات الشفرية للنساء اللائي اخترن إجراءها بمحض إرادتهن.

لكن القليل من أنصار التعددية الثقافية الغربيين يهتز موقفهم من جراء تلك الحجج. لننظر رفض باريك بالغ الحزم والقطع لختان الإناث، بعبارات تبيِّن كذلك التزامه بالعالمية لا النسبية الثقافية التي يُتَّهَم بها العديد من أنصار التعددية الثقافية:

تتعارض هذه الممارسة مع بعض القيم الإنسانية أو العالمية الأساسية، إضافةً إلى القيم العامة السارية في المجتمع الليبرالي؛ فهي تلحق ضررًا بدنيًّا غير قابل للرد، وهي متحيِّزة جنسيًّا في جوهرها، وتنتهك سلامة الطفلة، وتتخذ قرارات لا رجعة فيها نيابةً عنها، وتزيل مصدرًا مهمًّا للمتعة؛ لذا فهي تستحق الحَظْر ما لم يقدِّم أنصارها أسبابًا مقنعة تعادل فداحتها.

ويشير كذلك إلى عدم وجود سند ديني لها؛ إذ لم يَرِد ذكرها في القرآن، ولا يتضمن «الحديث» سوى ذكر مبهم وعابر لها.

وفي كثير من الحالات يمكن أيضًا التشكيك في درجة رسوخ ختان الإناث كعادة في الثقافات «التقليدية»؛ ففي السنغال شُنَّت حملة ناجحة ضد بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث عندما أدركت «توستان» — منظمة غير حكومية محلية — أن السبب الرئيسي وراء تمسُّك أهل القرى بممارسة يعلمون أنها مؤلمة وخطيرة كان توقُّعهم شبه المؤكَّد أن بناتهم سيصرن غير صالحات للزواج إنْ أصبحوا الأسرة الوحيدة التي تمتنع عن ختان بناتها. فأطلقت نساء من منظمة «توستان» تعهدًا جماعيًّا كَفَل تخلِّي أهل القرى جميعًا عن هذه الممارسة في تاريخ محدد. ويبدو أن ذلك العهد سرعان ما اكتسب زخمًا؛ فتخلَّت المزيد من القرى عن ختان الإناث بعد عام ۱۹۹۷، وفي عام ۱۹۹۹ تمكنَت الحكومة من سنِّ تشريع يحظر ممارسة بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث.

وفي حين أن هذا المثال يوضِّح سهولة المبالغة في توقُّع التزام المجتمعات «التقليدية» بممارسة من هذا النوع — ومن ثم تذهب آن فيليبس إلى أن دعم بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية في هذه الحالة لا يتطلب صياغة نظرية خاصة بشأن الاختلاف الثقافي — فلا شك أن ختان الإناث يحظى فعلًا بدعم قوي بين نساء جماعات عرقية أفريقية متعددة.

يثير هذا مسألة: هل ينبغي السماح للنساء البالغات المقيمات في الغرب اللاتي يردن إجراء تلك العملية في بلدانهن الأصلية بأن يجرينها؟ ويستشهد شويدر وآخرون، منهم باريك، بحالات عديدة حرصت فيها نساء على درجة عالية من الثقافة ذوات أصول أفريقية ويُقِمنَ بالولايات المتحدة الأمريكية أو أوروبا على أن يُختنَّ، لا سيما بعد الزواج. فهل ينبغي منع امرأة بالغة عاقلة كينية الأصل ومواطنة بريطانية من إجراء ختان تحت إشراف سليم في كينيا؟

ويجدر التنويه إلى أننا إذا كنا ننوي منح المرأة الوكالة، وافترضنا أنها لا تؤدي دورًا ثقافيًّا دون وعي، يجب أن تكون اختياراتها تستحق الاحترام، وفي تلك الحالة — وفقًا لباريك — ينبغي للمرء أنْ يرتئي ضرورة السماح للمرأة البالغة العاقلة التي ترغب في إجراء مثل تلك العملية في بلدها الأصلي بأن تجريها.

لكن لا يجوز لها ذلك قانونًا بصفتها مقيمة في البلدان الغربية.

إلا أن وجود ذلك الحَظر، قد يوعِز إلى البعض — بما في ذلك النساء المتأثرات به — بالقول إن التعددية الثقافية ليست هي الضارة بالمرأة، وإنما اتباع نهج متصلِّب لا يلتفت إلى الاعتبارات الثقافية. لكن إلى أي درجة يمكن السماح للبالغة العاقلة بأن تؤذي نفسها تحت مسمى «الثقافة»، هذا بافتراض أنه يمكننا التثبُّت من درجة الأذى الناتج عن شكل معيَّن من أشكال ختان الإناث؟

أيًّا كانت الإجابة التي قد يقدِّمها المرء في مواجهة هذه المعضلة، فيبدو أن ثمة توافقًا دوليًّا متناميًا على أن بتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث بطريقة ممارسته المعتادة يشكِّل خطرًا محققًا على الصحة وانتهاكًا لحقوق الإنسان. وقد حُظِرَت تلك الممارسة مؤخرًا في العديد من البلدان الأفريقية، منها: بِنين وبوركينا فاسو وتشاد ومصر وغانا وغينيا وكينيا والنيجر ونيجيريا والسنغال وتنزانيا وتوجو، ورُفِعَت دعاوى قضائية في العديد من هذه البلدان. وفي السودان، يُحظر الشكل الأكثر تطرُّفًا فحسب — أي الختان التخييطي — وإن كان ثمة أدلة تشير إلى أنه ما زال متاحًا إلى حد بعيد.

ونظرًا لأنه ليس ثمة بلد أوروبي يسمح ببتر أجزاء من الأعضاء التناسلية للإناث، وأنَّ قلة قليلة من أنصار التعددية الثقافية تؤيِّد تلك الممارسة، فإنه إنْ كانت التعددية الثقافية ضارة بالمرأة، فلن يكون ذلك بسبب أي تعاطف منها مع تشويه الأعضاء التناسلية للإناث، سواء أكان يستند على أساس النسبية الثقافية أم غيرها من الأسس.

(٥) الزواج القسري والقتل «دفاعًا عن الشرف»

ظهرت قضية الزواج القسري على الملأ إلى حد بعيد عندما نصَّ التشريع الدنماركي عام ۲۰۰۲ — الذي استهدف منع الزواج القسري بين مجتمعات الأقليات — على أن مواطني الدنمارك الراغبين في الزواج من أجانب لا يجوز لهم ذلك إلا إذا كان الطرفان قد بلغا ۲٤ عامًا من العمر. وكان عليهم كذلك أنْ يثبتوا أن صلتهم بالدنمارك أقوى من صلتهم بغيرها من البلدان، وهو ما أوضح كيفية تداخل مسألة الزواج القسري مع الأجندة المعادية للهجرة، وكذلك مع رد الفعل العنيف ضد التعددية الثقافية.

إلا أن النقاشات الدنماركية لا تتضمن على ما يبدو تناولًا جديًّا لأي تمييز بين الزواج «المدبر» والزواج «القسري»؛ فالزواج المدبر، الذي يُمارَس على نطاق واسع في مجتمعات الأقليات التي تمتد أصولها إلى جنوب آسيا — الهنود والباكستان والبنغال — يتضمن عادةً ممارسات توافقية تلعب فيها كلتا الأسرتين دورًا كبيرًا في الجمع بين الزوجين، إلا أنه من المهم أن ندرك درجة الضغط غير الرسمي الذي يمارَس في أغلب الأحيان على كلٍّ من الزوجين المحتملين في إطار الزيجات المدبَّرة، وتجدر الإشارة إلى أن البريطانيين الجنوب آسيويين عادةً ما يتزوجون مبكِّرًا، وهو اتجاه متأثر بالضغط الذكوري و«المجتمعي».

أما الزواج القسري فيتضمن في أغلب الأحيان استدراج مراهقات مولودات في بلدان أوروبية غربية إلى باكستان أو غيرها من البقاع تحت ذريعة قضاء إجازة، ثم تزويجهن قسرًا من أحد أبناء عمومتهن أو غيرهم من ذوي الصلة بعشيرة أو قرية ينتمي إليها أهل الفتاة. وفي بعض الحالات يكون ثمة اختطاف صريح، وتُحمَل الفتيات إلى خارج البلاد رغمًا عن إرادتهن. وثمة زيجات تُتَمَّم أيضًا في المملكة المتحدة وغيرها من أنحاء أوروبا الغربية، حيث تُزَوَّج الفتاة ببساطة دون إرادتها، ويصحب ذلك في أغلب الأحيان تَوَعُّدات باستخدام العنف وتذرُّعات بصَوْن «شرف العائلة».

وتشير جميع الأدلة المتاحة إلى أن الزواج القسري — وإن كان مؤكَّد الحدوث — لا تمارسه إلا قلَّة ضمن الأقليات العرقية، ويلقى استنكارًا واسعًا من زعمائها الثقافيين والدينيين. وفي المملكة المتحدة — على سبيل المثال — كانت الجمعيات النسائية للأقليات العرقية في طليعة الكفاح ضد تلك الممارسة؛ فقد شنَّت منظمات «أخوات ساوثول السوداوات» — التي تأسست منذ عام ۱۹۷۹ — و«مشروع نيوهام للنساء» و«خط مساعدة النساء المسلمات» حملات شرسة على ممارستَي الزواج القسري والعنف ضد المرأة، وقدَّمت الحماية والمشورة إلى المئات من النساء اللاتي تمَكنَّ من طلب المساعدة أو اللاتي اضطلعت تلك المنظمات بقضيتهن.

وقد شكَّلَت وزارة الداخلية البريطانية مجموعة عمل معنية بالزواج القسري عام ۱۹۹۹ تضمَّنت عضوًا بارزًا من منظمة أخوات ساوثول السوداوات. وفي عام ۲۰۰٥ تحوَّلت وحدة الاتصال المجتمعي إلى وحدة الزواج القسري. ويبدو أنه بالتعاون مع المفوضية السامية البريطانية وقوات الشرطة في الهند وباكستان وبنجلاديش، يُعاد سنويًّا حوالي ۲۰۰ فرد إلى وطنه بعد أنْ كانت أسرته قد أخذته بغرض الزواج. ورُفِع كذلك الحد الأدنى لسن الزواج في الخارج إلى ۱٨ عامًا لكلا الزوجين.

وتسلِّط مويرا داستن وآن فيليبس، من معهد شئون النوع التابع لمدرسة لندن للعلوم الاقتصادية، الضوء على العديد من السمات المهمة لهذه الأنشطة؛ أولًا: تحولت هذه الممارسة من الاعتماد السابق على وساطة أفراد الأسرة وقادة المجتمع المحلي إلى دعم أكبر للنساء الشابات كأفراد. وثانيًا: أنه ليس في الإمكان تقديم الكثير من العون لمن زُوِّجنَ قسرًا في المملكة المتحدة. وثالثًا: أن التركيز على الزيجات التي تتم في الخارج يعني تداخل القضية مع المسائل المتعلقة بالهجرة بدلًا من إدراجها ضمن التدابير المتَّخَذة للتعامل مع القضية الأشمل المتعلقة بالعنف الأُسَري. ورابعًا: أنه بتأسيس نظام مكَوَّن من مستويين لا يتحتَّم بمقتضاه إلا على من يتزوجن خارج الاتحاد الأوروبي أن ينتظرن حتى بلوغ ۱٨ عامًا من العمر، قد تساعد القوانين بهذا على استمرار إعمال قالب نمطي ضار «يصوِّر الآباء من [الأقليات] على أنهم أكثر استخدامًا للإكراه بالفطرة، والأبناء على أنهم أقل قدرةً بالفطرة من أولئك المنتمين إلى الأغلبيات على ممارسة استقلاليتهم أو اتخاذ قراراتهم الخاصة.»

فإلى أي درجة كانت سياسات التعددية الثقافية أو المشاعر المتعاطفة معها مذنبة بالتورط في ممارسة الزواج القسري كما ادَّعى العديد من النقَّاد؟

ثمة أدلة في أواخر الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين على ميل الأحكام القضائية الصادرة في المملكة المتحدة نحو النسبية الثقافية إلى حد ما؛ فقد ألغت محكمة الاستئناف أمر رعاية صدر بحق فتاة نيجيرية تبلغ من العمر ۱۳ عامًا، وذلك في عام ۱۹٦٩، على الرغم من زواجها من رجل يبلغ من العمر ۲٦ عامًا، على أساس أن مثل تلك الزيجات «طبيعية تمامًا» في نيجيريا حيث عُقِد القران، مع أن ما حدث كان من شأنه أن يثير الاشمئزاز لدى «أي فتاة إنجليزية وأسلوب حياتنا الغربي». وفي عام ۱٩۷٥ صدر حكم بأحقِّية الأرامل من نكاح «ربما تضمَّن عدة زوجات» في الحصول على معاش الأرامل على الرغم من أن تلك الزيجات لم يَكُن معتَرَفًا بها في القانون البريطاني، وفي تلك الحالة الأخيرة يمكن القول إن النسبية الثقافية عملت لمصلحة المرأة.

لكن كما يتضح من نجاح الحملات التي شنَّتها الجمعيات النسائية كأخوات ساوثول السوداوات ونشاطات وحدة الزواج القسري، فقد انقلبت الموازين على تلك النسبية الثقافية غير المسئولة.

ويسري ذلك على البلدان الأوروبية الغربية الأخرى، كالنرويج؛ فقد تحوَّل استعدادها السابق للتعاطف مع ما سُمِّيَ قضايا «الدفاع الثقافي» إلى ردود أفعال أكثر حزمًا إزاء استغاثات الفتيات ذوات الأصول التركية وغيرها من أصول الأقليات العرقية اللاتي يخشين الزواج القسري.

في المقابل، استُغلت قضية الزواج القسري عمدًا — في العديد من البلدان، أبرزها الدنمارك، وبدرجة ما في المملكة المتحدة أيضًا — بما يتلاءم مع الأجندات المعادية للهجرة؛ إذ أدَّى وضع القيود العمرية على الأزواج المحتملين وطرح اختبارات المواطنة إلى تقييد الهجرة، لا سيما من خارج الاتحاد الأوروبي. ولا ريب أنه لدى المخيِّلة الشعبية، نزعت الروايات التهويلية الواردة عن قضية الزواج القسري — لا سيما عن طريق الصحافة الصفراء وغيرها من وسائل الإعلام — إلى تعزيز النظرة إلى مجتمعات الأقليات غير الغربية على أنها ثابتة الرجعية وغير قابلة للاندماج. فسكان بريطانيا العارفون بمسألة الزواج القسري أكثر بكثير من العارفين بوجود أخوات ساوثول السوداوات — على سبيل المثال — اللائي لعبن دورًا خاصًّا في محاربة تلك الممارسة وعلى التأثير في سياسات الدولة.

إن رفض الدول الأوروبية المتزايد للسماح بالدفاع الثقافي — الذي يأتي في مصلحة الزواج القسري — لهو خطوة مرَحَّب بها تجاه دعم الأفراد في مواجهة تذرُّعات صون ما يفترَض كونه تراثًا ثقافيًّا وعادات يدفع بها أوصياء مشكوك فيهم على «تقاليد» مشكوك فيها بدورها، عادةً ما تمارسها قلَّة قليلة داخل مجتمعات الأقليات العرقية.

وما يسري على الزواج القسري يسري أيضًا على الممارسة المروعة المتعلِّقة بالقتل «دفاعًا عن الشرف»، وهو مصطلح يستخدَم كنايةً عن قتل الشابات (المتعمَّد في أغلب الأحيان) اللاتي يُفتَرَض أنَّهنَّ جَلَبْنَ «العار» على شرف أُسَرهن. وفي المملكة المتحدة، على الرغم من بدء المبادرات الحكومية الرسمية عام ۱٩٩٩، لم تنشئ هيئة شرطة العاصمة «مجموعة العمل الاستراتيجية لمنع جرائم القتل المعني بالقتل دفاعًا عن الشرف» إلا عام ۲۰۰۳، التي بدأت — ضمن أمور أخرى — برنامجًا لتدريب الموظفين المشاركين في التحقيقات.

وقد أشار المعلِّقون المتفكِّرون مثل داستن وفيليبس إلى المعضلات اللصيقة بتدخلات الشرطة وغيرها من الهيئات؛ فإذا عومِلَت جرائم «الشرف» على أنها منفصلة عن صور العنف الأُسَري الأخرى، ثمة خطر يكمن في قولبة مجتمعات الأقليات باعتبارها أكثر تقبُّلًا للعنف الأسري، وقد يُكَرَّس تمييز عقيم بين جرائم «الشرف» المُمَيِّزة للشرق وجرائم العاطفة المرتبطة بالغرب، ويشوب ذلك أيضًا النظر إلى الأفراد المنتمين إلى الأقليات على أنهم أكثر تقيدًا «بالثقافة» والمنتمين إلى الأغلبية على أنهم عُرضَةً للانحرافات الفردية. ويكمن خطر آخر في احتمال تصوير جميع نماذج العنف الأسري والإساءة في مجتمعات الأقليات تصويرًا مضلِّلًا على أنها جرائم «شرف».

إلا أن وجود موظفين على درجة جيدة من الاطلاع والتدريب في وحدة متخصصة قد يضمن على الأرجح ألا تَحُول القوالب الثقافية النمطية دون إدراك الخطر المحدق، ودون سماع تضرُّعات الفتيات طلبًا للحماية. ولا يعني ذلك بالضرورة الاستهانة بحقيقة أن العنف الذكوري ضد المرأة ممارسة لا تقتصر على الأقليات؛ ففي المتوسط، تلقى امرأتان حتفهما أسبوعيًّا في المملكة المتحدة على يد رفيق أو زوج حالي أو سابق، ومعظم تلك الجرائم يرتكبها رجال من مجتمعات الأغلبية بالطبع، وفي كثير من الأحيان يكون السبب سوء سلوك جنسي مفتَرَض.

ومن المؤكَّد أن جميع تدخلات الدولة يمكن أن تسبب الضرر لأنواع الإصلاح الأخرى. فكما اكتشف باحثون مثل هيج شايا وبيرتا سيم، سمح التركيز — في النرويج والدنمارك مثلًا — على جرائم «الشرف» والزواج القسري وتشويه الأعضاء التناسلية للإناث بتهميش مسألة التمثيل المحدود للأقليات العرقية في الهيئات العامة كالبرلمان، وكما ذكرنا آنفًا، فقد استغلَّ اليمين الراديكالي المخاوف المرتبطة بالنوع في تعضيد حملاته ضد الهجرة. وفي هولندا، يذهب الباحثون الاجتماعيون مثل باوكييه برينز وساويتري ساهارسو إلى أنه على الرغم من نزوع الخطاب العام إلى اعتبار المرأة في الأقليات — ولا سيما المرأة المسلمة — ضحية سلبية ومتواطئة مع ممارسات من قبيل جرائم «الشرف»، فعمليًّا ثمة وعي أكبر بأن قضايا النوع ليست «ثقافية» فحسب، وإنما تنطوي على أبعاد اقتصادية واجتماعية.

يقال إن هذا النهج الأكثر تطورًا لم يظهر إلا نتيجة التخلي عن التعددية الثقافية في هولندا، لكنه يمثِّل مرحلة أكثر رُقِيًّا للتعددية الثقافية، مرحلة تجمع على نحو أكثر برجماتية بين حساسيات التعددية الثقافية والوعي بالقضايا ذات الصلة بها، من فقر وبطالة والتشديد على «الاندماج».

وعلى أي حال، من السهولة بمكان تهويل التجاوزات المفترضة للتعددية الثقافية عند الحديث عن الاتهامات بالنسبية الثقافية فيما يتعلق بالعنف ضد المرأة لدى مجتمعات الأقليات العرقية. وتختتم آن فيليبس دراستها عن درجة تَقَبُّل «الدفاع الثقافي» المزعوم في إطار الجرائم المرتكَبَة ضد المرأة في الأقليات العرقية بوجهة النظر الآتية:

أنا لا … أرى الكثير من الأدلة على تشجيع ما يُسَمَّى تعدديةً ثقافية للمحاكم على تبرئة الرجال المنتمين إلى أقليات ثقافية عند ارتكابهم أعمال عنف ضد المرأة.

بل إنها تذهب إلى أن المحاكم نَزَعَت إلى التساهل مع الرجال من مختلف الجماعات — بما فيها الأغلبية — عند التماسهم تخفيف العقوبة؛ نظرًا لأن رفيقاتهم اللاتي اعتدوا عليهن قد ضاجَعْنَ رجالًا أو نساءً آخرين، أو أنهن ببساطة أَرَدْنَ إنهاء العلاقة.

(٦) حروب الحجاب الفرنسية

إنَّ حجاب الرأس، و«البُرقُع» والنقاب، الذي يمتزج أيضًا في كثير من الأحيان بارتداء «الجلباب»؛ أي الرداء الذي يستر الجسد بأكمله، كلُّها يُنظَر إليها على أنها ترمز لعدم المساواة التي تتعرض لها المرأة في ظل الإسلام، ومن ثم لا تتفق والتقاليد الفرنسية المتعلقة بالمساواة بين الجنسين.

وفي يوليو لعام ۲۰۰٨ رفضت فرنسا منح الجنسية لامرأة مغربية الأصل ترتدي «البرقع» على أساس أن ممارستها «الراديكالية» للإسلام تدلُّ على تقبُّلها لعدم المساواة بين الجنسين؛ مما يعني بدوره أنها لم «تُستَوعَب» بالقدر الكافي؛ إذ يُفتَرَض أنها نبذت قيمة فرنسية جوهرية تتعلق بالمساواة بين الجنسين. (يشير «البرقع» في هذه الحالة إلى الثياب التي تكسو الرأس والوجه والجسد تاركة العينين فحسب مرئيتين.) وفي استئنافٍ لحكم مشابه عام ۲۰۰٥، احتجَّت امرأة تبلغ من العمر ۳۲ عامًا — لا تُعرَف إلا بلقب فايزة إم، تجيد اللغة الفرنسية، ومتزوجة من مواطن فرنسي، ولديها ثلاثة أطفال مولودون بفرنسا — بالحق الدستوري الفرنسي في الحرية الدينية، وقالت إنها لم تكن ترتدي النقاب في المغرب، لكن الخدمات الاجتماعية الفرنسية أفادت بأنها «تعيش في ظل خضوعٍ تامٍّ لأقاربها الذكور». وفي أكتوبر عام ۲۰۱۰ حُظِر ارتداء النقاب في الأماكن العامة.

تطرح القرارات الفرنسية عددًا من القضايا المحورية التي تتصدَّر النقاشات الدائرة حول العلاقات القائمة بين المرأة والتعددية الثقافية والهوية الوطنية والدين — لا سيما الإسلام — والتي شكَّلت الموضوعات الرئيسية لهذا الفصل. كان الفرنسيون — خلافًا للبريطانيين والهولنديين وغيرهم — شديدي العلمانية، وكانوا أيضًا معارضين بقوة للتعددية الثقافية، فهم ما فتئوا يؤكِّدون أن الثياب على شاكلة الحجاب هي رموز ظاهرية للدين لا يمكن ارتداؤها في المدارس، على الرغم من أن النساء البالغات يُسمَح لهن بارتدائها من حيث المبدأ؛ فهي تُتَرجَم إلى رموز ظاهرية للدين في مؤسسة عامة، وهي لا تخالف تقليد العلمانية الفرنسي فحسب، وإنما يقال أيضًا بإشارتها إلى كيفية ضلوع التعددية الثقافية في قهر الفتيات التي تسمح لهن بارتداء تلك الثياب الحاجبة.

وقد مثَّلت مسألة الحجاب إشكالية في بلدان أوروبية أخرى، لكن ليس بالقدر الذي بلغته في فرنسا بأي شكل من الأشكال. وتركِّز مناقشاتي على الحالة الفرنسية لأنها تكشف عن بعض المفارقات والتناقضات الأعم التي تتمحور حولها النقاشات المتعلقة بالتعددية الثقافية ومذهب الاستيعاب وتبعاتهما فيما يخص المرأة، وهي في الوقت نفسه جزء من المسألة الأشمل المتعلقة بالكيفية والشروط التي يمكن السماح بمقتضاها لرعايا المستعمرات السابقة بأن يصيروا أوروبيين مقبولين تمام القبول، وبمدى قدرة الدول القومية الأوروبية على أنْ تستوعب مقوِّمات العنصرية المستديمة التي تشوِّه ثقافاتها، وعلى أنْ تتحدَّاها.

بحلول عام ۱٩٩۳ كان الفرنسيون قد غيَّروا قواعد الجنسية بالفعل، فلم تعد تُمنَح تلقائيًّا للأطفال المولودين في فرنسا لأبوين أجنبيين، بل صار على هؤلاء المقيمين من الجيل الثاني أن يتقدَّموا بطلبات رسمية للحصول على الجنسية، يعبِّرون بمقتضاها عن رغبتهم «الفردية» في دخول عقد اجتماعي، تاركين وراءهم الولاءات الطائفية كافة.

إلا أن قواعد المواطنة لعام ۱٩٩۳ كشفت مدى وقوع المسلمين والعرب — الذين يُنظر إليهم على أنهم مترادفون على الرغم من أنه لم يكُن جميع المسلمين الفرنسيين عربًا، ولا كان جميع العرب مسلمين — ضحية عدد من الثنائيات المزدوجة الصارمة التي باتت تشكِّل جزءًا من الإطار الذي دارت ضمنه المناقشات الفرنسية بخصوص وضع المواطنين ذوي الأصول المسلمة والعربية، من ضمنها: التقاليد والحداثة، الهمجية والتحضُّر، الهوية والمساواة، النظام الذكوري (الإسلامي) والمساواة بين الجنسين (الفرنسية)، الأصولية الدينية والعلمانية، الانتماء الطائفي والفردية، التعددية الثقافية والوحدة الوطنية، قابلية الاستيعاب وعدم قابليته.

ومن الضروري ألا ننسى أنه على الرغم من الاستقطاب القوي للحوارات الفرنسية حول أوجه التعارض تلك، فمن الممكن أن نلقى صدى لها في جميع البلدان الأوروبية — بما فيها المملكة المتحدة — التي أرَّقتها التعددية الثقافية، ولا سيما وضع المسلمين. وكما يشير الباحث الأمريكي جون بوين، فقد أصبح الحجاب البسيط، الذي كان زيًّا شائعًا فعلًا لدى الأوروبيات خلال فترة كبيرة من خمسينيات القرن العشرين، وما يزال جزءًا من لباس المرأة الفرنسية، رمزًا فائق القوة لتخوُّف أشمل بكثير يتضمن «صراع حضارات» بين الغرب والإسلام. وعلى حد قول بوين: «المسألة ليست أبدًا مسألة أغطية رأس فحسب.» فحينما شرعت النساء ذوات الأصول الأفريقية الشمالية تستقر في فرنسا إبَّان الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، لم يثُر جدل كبير حول كون بعضهن يرتدين حجابًا، فهو «زيٌّ شائع في منطقة البحر المتوسط، ولا يختلف كثيرًا عن زيِّ النساء الكاثوليكيات في جنوب إيطاليا وإسبانيا وفرنسا ذاتها».

وكما هو الحال عادةً، أفرطت أوجه التعارض البسيطة التي كَبَّلَت الحوارات في تبسيط الحقائق الثقافية على أرض الواقع وحَرَّفَتها، لا سيما بصدد هويات النساء المسلمات ودوافعهن ومكانتهن الاجتماعية. وكما قالت جوان سكوت، فقد تمكَّن الفرنسيون بذلك من صرف الانتباه عن القضايا الحقيقية والملِحَّة الخاصة بعدم المساواة والتمييز العنصري والتهميش الاجتماعي والاقتصادي التي تواجه مواطنيها سابقي الذكر من الأقليات العرقية، بمن في ذلك النساء، أو أن الفرنسيين — كما يرى بوين — بدوا في الواقع وكأنهم «يلومون» الحجاب على عدد كبير من المشكلات الفرنسية، التي تتضمن معاداة السامية، والأصولية الإسلامية، وتنامي النزعة إلى الانعزال في الضواحي، وانهيار النظام داخل الفصول المدرسية.

وقد اتسمت الثنائيات الثقافية التي انتظمت الخلافات حولها بالتشابك والتداخل، ومن ثَم نشأت قوتها الشعبية، وهو ما يعني أيضًا ضرورة أن تتناول أي مناقشة حولها العديد منها معًا في أي وقت من الأوقات.

فبتناولنا مسألة التقاليد مقابل الحداثة، نجد أن الحجاب أصبح رمزًا لتمسك السكان المسلمين الفرنسيين ليس بالتقاليد في مقابل الحداثة فحسب، وإنما كذلك بثقافة رجعية غير متحضِّرة، وكان أحد الدلائل على رجعيتها هو ذكوريتها غير المقبولة التي يفترَض أنها أرغمت الفتيات والنساء على ارتداء الحجاب.

وقد تفجَّرت قضية الحجاب المشتعلة في صورة جدل عام لأول مرة في أكتوبر عام ۱٩٨٩، عندما فُصِلَت ثلاث تلميذات من مدرستهن الإعدادية في كريل — على بعد حوالي ٤٨ كيلومترًا من باريس — لرفضهن خلع الحجاب. ويجدر التنويه إلى أن المدرسة كانت تقع في منطقة محرومة ومختلطة العرقيات من المناطق ذات الأولوية التعليمية الخاصة، ووصفها ناظر المدرسة — وهو فرنسي أسود تمتد أصوله إلى جزر الأنتيل — بأنها «سَلة مهملات اجتماعية».

لكن هل اتخذت الفتيات موقفًا (فرضته سلطة ذكورية) لمصلحة تقاليد دينية إسلامية أصولية على حساب العلمانية الفرنسية الحديثة؟ وهل كان ذلك جزءًا مما سماه ناظر المدرسة — يوجين شينيير — فيما بعد «جهادًا ماكرًا»؟ هل دُفعت الفتيات رغبة في إحداث ثورة إسلامية على الطريقة الإيرانية؟ يبدو أن إجابات تلك الأسئلة هي النفي القاطع.

وقد اتضح عندما سُمِعَت أخيرًا أصوات الفتيات أنفسهن أنهن اخترن ارتداء الحجاب «ضد» رغبة ذويهن. ولم تقتنع اثنتان منهن بخلعه في الفصل إلا عقب تدخل ملك المغرب الذي جاء إثر ضغط قادة المجتمع المحلي المسلمين الفرنسيين على الفتيات لحملهن على الامتثال لمطالب مسايرة المعايير «العلمانية» الفرنسية. وإضافةً إلى ذلك، أفادت الاستطلاعات بأنه حتى بعد مرور أكثر من عشر سنوات، لم ترتدِ «الحجاب» سوى قلَّة قليلة من النساء المسلمات تقع ما بين ١٠٪ و١٥٪، بالرغم من قول أغلبهن إنهن يمارسن شعائر دينهن بصورة نشطة.

لم يكن من العسير إذن تأويل خيارات الفتيات على أنها مفروضة عليهن من الثقافة الذكورية الإسلامية التقليدية ومن الرجال في أُسَرهن ومجتمعاتهن فحسب، وإنما صار جليًّا أيضًا أن ارتداء الحجاب هو ممارسة تقتصر على قلة قليلة جدًّا من المسلمات الفرنسيات. وعلى الرغم من ذلك — وكما أشار معلِّقون كُثُر — عادةً ما كان النقاش العام الدائر في فرنسا يرى في تصرُّفات الفتيات رفضًا معمَّمًا من جميع المسلمين الفرنسيين للمُثُل العلمانية الفرنسية وللتقليد الفرنسي الخاص بالمساواة بين الجنسين، حتى قضية «الأختين ليفي اليهوديتين» — اللتين اعتنقتا الإسلام عام ۲۰۰۳ بالرغم من معارضة والديهما وجَدَّتهما اليساريين — لم تُحدِث فارقًا كبيرًا في القوالب النمطية السائدة عن سبب ارتداء الفتيات المسلمات للحجاب.

بالطبع كان ثمة أصوات فرنسية معارضة؛ فقد ذهب الزعماء الكاثوليكيون وبعض الزعماء البروتستانتيين واليهود إلى أن العلمانية لا تعني إخراس التعبير الديني بالكامل، وفسَّر عالِم الاجتماع أوليفييه رُوي تصرُّفات مختلف الفتيات المسلمات بأنها تضاهي تصرفات نظرائهن من الشباب غير المسلمين الذي يسعون إلى الروحانية في زمن مُفرِط العلمانية والمادية. ومن هذا المنطلق وغيره ينظر روي إلى صعود الإسلام الحالي على أنه نتاج التغريب وردة فعل له، لا مجرد رِدَّة إلى «التقاليد». وكذلك رأى علماء اجتماع فرنسيون آخرون فجوة بين الأجيال، وأشاروا إلى الدين باعتباره سبيل المجموعات المهمَّشة إلى تأكيد هويتها، وأجمعوا على أن الفتيات لَسن ملتزمات بالسياسة الإسلامية الراديكالية، التي لم تحظَ على أي حال إلا بدعم أقلية من المسلمين الفرنسيين (كما في باقي أنحاء أوروبا).

أوصت «لجنة ستازي» في تقريرها «العلمانية الجمهورية» بأنه تماشيًا مع مبادئ العلمانية الفرنسية لا يجوز ارتداء أي من علامات الانتماء الديني «الظاهرة» — مثل الحجاب والقلنسوة والطاقية اليهودية والعمامة السيخية — في المدارس الحكومية، ودَعَت في الوقت نفسه إلى اتِّباع نهج عام أكثر شمولية للشعائر الدينية، بل أوصت بتوفير مكاتب لرجال الدين الإسلامي في المستشفيات والسجون، وبدائل للحم الخنزير والسمك في مقاصف المدارس والسجون والمستشفيات أيام الجُمَع، وبإقرار عيد الغفران (يوم كيبور) والعيد الكبير كإجازتين رسميتين. وكان ما حدث أن التوصية الوحيدة التي شكَّلَت جزءًا من تشريع جديد عام ۲۰۰٥ كانت المتعلقة بحظر الحجاب وغيره من المظاهر الجليَّة، على الرغم من إجراء مفاوضات برجماتية سابقًا بشأن تقديم مجموعة من التنازلات على غرار وضع الإيشارب على الكتفين.

وتمامًا مثلما فُسِّرَ العنف الأُسَري في إطار النقاشات التي دارت في البلدان الأخرى على أنه انحراف فردي في حين اعتُبِرَ القتل دفاعًا عن «الشرف» وليد الثقافة، كذلك في فرنسا اعتُبِرَ ارتداء التنورة القصيرة قرارًا فرديًّا لا يرتبط بالضغوط الثقافية للموضة، لكن أصبح الحجاب يُفَسَّر على أنه ظاهرة ثقافية، بل ظاهرة ناجمة عن ثقافة إسلامية يقهَر فيها الرجال الشهوانيون النساء باستمرار. وأُغفِل التنوع الهائل الذي ينطوي عليه الإسلام، وأُغفِلت حقيقة أن «التحجيب» المزعوم لم تمارسه إلا قِلَّة قليلة، في خِضَمِّ موجة المشاعر التي وضعت الجمهورية الفرنسية في مواجهة مع الإسلام.

ولم يتمكَّن الفرنسيون بتجاهلهم جميع الفروقات الدقيقة من إضفاء نظرة أحادية على الإسلام فحسب، وإنما أيضًا من تحريف تاريخ علمانيتهم ذاته، وحوَّلوا وَحدة الثقافة الوطنية الفرنسية وتقدميتها إلى أسطورة. فعلى الرغم من الفصل الرسمي بين الكنيسة والدولة، دعمت الدولة الفرنسية — كما أشرتُ في فصل سابق — مؤسسات كاثوليكية وبروتستانتية ويهودية وموَّلتها، ومنها المدارس، وكذلك قُدِّمت معونات رسمية بغرض تشييد المساجد والمقابر للمسلمين. ويمكن القول إن التحدي الذي مثَّلته رغبة المسلمين في إذابة الفصل بين الخاص والعام لم يسهم إلا في مفاقمة التناقض الذي ظَهَر في سيادة المذهب الكاثوليكي في إطار ثقافة يُفتَرَض أنَّها علمانية. وإضافةً إلى ذلك، على الرغم من أن حجاب الفتيات المسلمات يُفتَرَض أنه يخالف قيمة جمهورية فرنسية «تقليدية» تتعلق بالمساواة بين الجنسين، فقد أغفل ذلك الافتراض حقيقة أن التركيز ذاته من النظام الجمهوري على المواطن المُجَرَّد منع النساء فعليًّا من اكتساب حق التصويت حتى عام ۱٩٤٥.

وبالإضافة إلى قضيتَي العلمانية والمساواة بين الجنسين اللتين طُرحتا على نحو مضلِّل، تكمن أهمية الخلافات المتعددة الدائرة حول الحجاب على ما يبدو في الدور الذي كُلِّفَت به المدرسة في إطار تكوين الثقافة الفرنسية الجمهورية أيضًا، وفي التحديات الملحوظة أمام الثقافة الوطنية الفرنسية التي ظهرت على نحو واضح بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين، لا سيما تقلُّص السيادة الوطنية عقب زيادة اندماج الاتحاد الأوروبي والمعدل المتسارع للعولمة في ظل الهيمنة الأمريكية (ومن ثم الناطقة بالإنجليزية)، والقلق المتزايد إزاء الإسلام الراديكالي على الصعيد العالمي وداخل الحدود الفرنسية. وشاب كل ذلك عدائية ذات صبغة عرقية غالبًا ما اتسمت بالتعصُّب تجاه الشباب الذي يشارك في الاحتجاجات والاضطرابات المنتظمة والمتواصلة في الضواحي المحرومة للمدن الفرنسية.

افترض الفرنسيون أنهم بمقاومتهم تأكيد الهوية الإسلامية الفرنسية التي يرمز إليها الحجاب، كانوا بصدد وقف إضفاء الانتماءات الطائفية على الهوية الوطنية الفرنسية وتفتيتها، وهو ما ألصقه الفرنسيون بتأثير الإسلام، إلا أن علماء الاجتماع الفرنسيين، الذين تجاهلت لجنة ستازي أصواتهم لمصلحة آراء فلاسفة ومؤرخين شديدي العلمانية — كما أوضح بوين — أشاروا أكثر من مرة إلى أن الانعزال والتفتت المرتبطَين بالسكان المهاجرين المسلمين في فرنسا ليس لهما علاقة تذكر بالتزامهم (شديد التباين) بالإسلام.

فالسبب الحقيقي وراء الانعزال — كما رأينا — يكمن في سياسة الحكومة الفرنسية المتعلقة بتعمُّد تسكين العمال المهاجرين الذين كانت تحثُّهم على المجيء إلى فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية في أحياء كبيرة فقيرة أو في مناطق صناعية محصورة لم تُبذل فيها أي محاولة لإشراكهم في الثقافة الفرنسية السائدة. وفي الواقع بُذِل جهد واعٍ لتعليم الأطفال «لغاتهم وثقافاتهم الأصلية» بغرض تيسير عودتهم المرتقبة إلى بلدانهم الأصلية؛ أي إنه كان ثمة محاولة متعمَّدة للحيلولة دون الاستيعاب. وترتب على تأكيد السمة الفردية الذي منع أي جَمْع رسمي للإحصاءات حول مصير تلك الجاليات أنه لم يكن من ضبط أو إدراك رسمي للتمييز العنصري الجسيم، والحرمان ذي الصبغة العنصرية المترتب عليه، الراسخَين في الأطراف الخارجية للمدن.

ويجدر الانتباه إلى نتيجة بالغة الأهمية مترتبة على النقاشات الدائرة في المملكة المتحدة وغيرها من البلاد بشأن التعددية الثقافية ودورها المفترض في إحداث التفتيت: فكما يظهر في حالة فرنسا تحديدًا، لم تكن قوة الدفع الحقيقية وراء تكوين مجتمعات منفصلة هي «التعددية الثقافية»، وإنما التمييز العنصري، الذي عضَّدته السياسات الرسمية وحرَّضت عليه بكل ما أوتِيَت من قوة. وهي قضية أعتزم الرجوع إليها لاحقًا.

وتشير التحليلات مُحكَمة السند لجوان سكوت وغيرها على نحو ضمني إلى أن العنصرية الشديدة المعادية للإسلام شَكَّلَت قيْدًا مزدوجًا على المواطنين الفرنسيين المسلمي الأصل؛ فمن ناحيةٍ — مسايرةً للأيديولوجية الاستيعابية الرسمية المتصلة بالنظام الجمهوري الفرنسي — يتأتَّى السبيل الوحيد لتمتع الجاليات ذات الأصول حديثة الهجرة بمكانة شرعية في فرنسا عن طريق الاندماج الكامل في الثقافة الفرنسية، إلا أن الإسلام يُنظَر إليه، من ناحية أخرى، على أنَّه يتعارض تعارضًا جوهريًّا لا يتزحزح مع المساواة بين الجنسين (ويُفَسَّر الحجاب على أنه دليل ظاهر على عدم المساواة بين الجنسين). ويُنظَر إلى الإسلام أيضًا على أنه غير فرنسي بالمرة برفضه للعلمانية (على الرغم من وجود مختلف الدول الإسلامية العلمانية القائمة والقبول واسع النطاق لصور العلمانية لدى المسلمين الفرنسيين)، ويتضمَّن ذلك أيضًا افتراضًا قويًّا بأن الإسلام سيظل دائمًا حضارة دُنيا. لذا فإن «أي» تمسُّك بالإسلام يضع الفرد بالتبعية في نصاب غير الفرنسي وغير القادر أبدًا على أن يُستَوعَب أو يندمج على نحو تام وكامل في الثقافة الفرنسية.

ويُلاحَظ بوضوح أن النقاشات الفرنسية نَزَعَت إلى تهميش ما توصَّل إليه علماء الاجتماع الفرنسيون من أن الأسباب التي قدمتها الأقلية المرتدية للحجاب فعليًّا من التلميذات الفرنسيات يصعب تأويلها على أنها رموز ولاء للإسلام الراديكالي أو قبول سلبي بمكانة المرأة المتدنية. وقد حاولت بعض التلميذات الفرنسيات إثبات ذلك بارتداء حجاب يضم ألوان العَلَم الفرنسي الثلاث وكلمة أو أكثر من الإعلان الجمهوري الفرنسي «الحرية والمساواة والإخاء». والحقيقة أن ارتداء الحجاب جزء من عملية أكثر تعقيدًا بمراحل، لعب فيها عجز فرنسا المعاصرة عن إتاحة فرص اجتماعية واقتصادية حقيقية وإحساس بالانتماء لدى سكانها المسلمين دورًا مهمًّا. وهو كذلك جزء من العملية التي يحاول بمقتضاها الجيلان الثاني والثالث من النساء الفرنسيات ذوات الأصول المسلمة إيجاد سُبُل لمواءمة ولائهن للإسلام مع رغبتهن التي لا تقل قوة في الانتماء إلى الثقافة الفرنسية.
fig3
شكل ٢-١: تلميذات مسلمات فرنسيات يتظاهرن في الشوارع، ويعلنُ حجابُهن عن التزامهنَّ بكلٍّ من الهوية الفرنسية والإسلام.1

لا ريب أن القضايا المتعلقة بمخاوف التفتت الاجتماعي، وإضعاف الثقافة والهوية الوطنيتَين، والتخوُّف من تنامي الإسلام الراديكالي، ليست حِكرًا على فرنسا، فكل الأدلة المتاحة تشير إلى أن ارتداء الحجاب في المملكة المتحدة وألمانيا وهولندا وغيرها من أنحاء أوروبا، وردود أفعال السلطات والشريحة السكانية الأكبر تجاهه، ينطويان على أكثر من مجرد صدى للمخاوف الوطنية ذاتها، ولآثار الوضع الاجتماعي والاقتصادي لمجتمعات الأقليات، وبحث السكان المسلمين نساءً ورجالًا عن صور جديدة للانتماء، لكن في معظم البلدان الأوروبية الأخرى كانت المواءمة بين حجاب المرأة المسلمة والتقاليد الثقافية الوطنية مسألة أقل إشكاليةً.

ويَتَجَسَّد تشابك هويات الشابات المسلمات اللائي يرتدين الحجاب في مثالين لافتين للنظر؛ أولًا: حالة ريمونا علي وصديقاتها في بريطانيا اللائي يرتدين الحجاب لكنهن معجبات بموسيقى الروك — بدءًا من ليد زيبلين ويو تو إلى ميوز وبون جوفي — ويلقين في الموسيقى تعبيرًا «عن هموم عدم الانتماء، وهو ما تتفهمه النساء المحجبات»، لكنها تضيف أن ذلك يجعلهن أكثر ثقةً في «بريطانيتهن». ثم نجد أيضًا أسماء عبد الحميد في الدنمارك، التي تبلغ من العمر ثمانية وعشرين عامًا، وهي محجبة، ونائبة بمجلس المدينة، وتصف نفسها بمناصرة النسائية والديمقراطية والاشتراكية، ولديها أصدقاء مثليون، وتعارِض عقوبة الإعدام وتؤيد الحق في الإجهاض. فهي — كما تصفها إحدى الصحف — «إسكندنافية وأوروبية متسامحة»، لكنها ترفض مصافحة الرجال لأسباب دينية. وفي أكثر الحركات علمانية وديمقراطية في الشرق الأوسط لعام ۲۰۱۱، لعبت النساء المحجبات من جميع الأعمار دورًا بارزًا في المطالبة بالحريات السياسية والتمثيل الشعبي. فكما يقولون: إنه لأمرٌ يثير علامات استفهام كثيرة.

هوامش

(1) Charles Platiau/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤