الفصل الرابع

«الاندماج» والتفاوت الطبقي و«الترابط المجتمعي»

مع تسارع وتيرة رد الفعل العنيف المضاد للتعددية الثقافية، حل محلها «الاندماج» كموضوع رئيسي للسياسات الوطنية والمحلية الموَجَّهة إزاء الأقليات العرقية في جميع أنحاء أوروبا. وإضافةً إلى ذلك حظيت أفكار «الترابط المجتمعي» و«التلاحم الاجتماعي» و«المواطنة» بقدر كبير من الدعاية المسبقة — لا سيما في المملكة المتحدة — باعتبارها الطريق الجديد للمضي قدمًا في إدارة مسألة احتواء الأقليات العرقية في التكوين السياسي الوطني. فالحكومة البريطانية لديها الآن وزراء للمجتمعات، ولجنة للاندماج والتماسك، وإدارات حكومية جديدة. وفي جميع أنحاء أوروبا الغربية، كان ثمة تركيز مستجد على توضيح معنى «الهوية الوطنية» بهدف دمج الأقليات العرقية في الثقافات الوطنية على نحو أفضل. وقد يحلو للمتشككين القول إنه ثمة رسالة حضارية أوروبية جديدة — وإن لم يعلن عنها رسميًّا — قد انطلقت على ما يبدو.

بيد أن المغزى المنشود من تلك الأفكار والسياسات التي تنبثق عنها أثار جدلًا حتميًّا، وكذلك لم يتلاشَ مؤيدو التعددية الثقافية؛ فثمة نقاش محتدم يجري حاليًّا، مع أنه قد يبدو أحيانًا أن المدافعين الوحيدين عن التعددية الثقافية حاليًّا يوجدون في الأوساط الأكاديمية وبعض معاقل الناشطين والأقليات العرقية.

(١) شِراك «الاندماج»

إنَّ الفكرة القائلة إن المشكلة الرئيسية في العلاقات العرقية تكمن في فشل الأقليات في «الاندماج» في المجتمعات الأوروبية التي هاجروا إليها هي فكرة نمطية أساسية ضمن النَّهج الجديد الذي حلَّ محل التعددية الثقافية، إلا أنه — كما رأينا — لا يظهر وجود خط واضح يربط سياسات التعددية الثقافية بالاضطرابات المدنية أو الإرهاب أو التفجيرات الانتحارية. وإضافةً إلى ذلك، لا يوجد اتفاق حول الأدلة المتاحة بشأن درجة الانفصال والانعزال القائمة، على الأقل في بريطانيا. وحتى في هولندا وفرنسا، إلى جانب بريطانيا، كانت السمة الناقصة والفاترة للتعددية الثقافية هي التي سلَّط عليها الضوء، بالقدر ذاته من الرجاحة، باحثون ومعلِّقون كُثُر حسنو الاطلاع، باعتبارها المشكلة الحقيقية.

لا يتضح أبدًا في الحياة الاجتماعية ما الذي يُعَدُّ اندماجًا كاملًا، ولا من يمكن الحكم عليه بأنه مندمج اندماجًا كاملًا؛ فالأهداف يمكن تغييرها حسب الرغبة. وفي ثمانينيات القرن العشرين في بريطانيا، ابتكر عالم السياسة المحافظ نورمان تيبيت اختبار الكريكيت، وبموجبه لا يمكن للأقليات أن يدَّعوا الاندماج حتى يشجِّعوا بريطانيا بدلًا من الهند أو باكستان أو جزر الهند الغربية في مباريات الكريكيت التي تخوضها إنجلترا ضد تلك البلدان. وفي أوائل القرن الحادي والعشرين، قرر ديفيد بلانكيت وزير داخلية حكومة حزب العمل الجديد أنَّ تحدُّث الأقليات اللغة الإنجليزية في المنزل هو السبيل للاندماج فضلًا عن كونه أحد المؤشرات الرئيسية عليه.

لذا فمن المرجَّح للغاية أن يتساءل المرء: الاندماج في ماذا بالضبط؟ وتتضمن إحدى الإجابات التي أتت بها العديد من الحكومات الأوروبية فكرة القيم الوطنية المحورية، التي يُطلق عليها «السمة البريطانية» أو الهوية الوطنية الفرنسية، على سبيل المثال. إلا أن ذلك النوع من التفكير — كما سنرى — تعترض طريقه بعض المشكلات المستعصية.

لطالما ذهب علماء الاجتماع إلى أن الاندماج عندما يُطبَّق على الحياة الاجتماعية، ولا سيما على عمليات الهجرة، يكون مفهومًا متعدد الأبعاد؛ فلا يوجد مقياس واحد لتلك العملية. ويمكن للاندماج أن يتم على المستويات المكانية (على سبيل المثال: الأنماط السكنية) والمستويات الهيكلية (على سبيل المثال: في مجال التعليم وسوق العمل) والمستويات الثقافية (على سبيل المثال: في التمسُّك بالقيم المشتركة). وإضافةً إلى ذلك لا توجد علاقة ضرورية بين المستويات الثلاثة، بحيث يمكن للجيران أن يتبنوا قيمًا مختلفة للغاية، ومن الجائز أن تُحقَّق إنجازات تعليمية ومهنية كبيرة بالرغم من الوجود في أماكن منفصلة، وهكذا.

وقد حُذِّرت حكومة المملكة المتحدة من التعقد الاستثنائي لعمليات الاندماج وتعددية أبعادها بعد مرور فترة قصيرة على اضطرابات ۲۰۰۱، وذلك في وثيقة أصدرتها المراكز البحثية التابعة لجامعة أكسفورد، المعنية بالهجرة والسياسات ودراسات اللاجئين، التي كلَّفتها وزارة داخلية المملكة المتحدة بتقديم تقرير استشاري عن ذلك الموضوع، جاء تحت عنوان: «الاندماج: تخطيط الساحة» (۲۰۰۲).

(٢) تواصل صعود «الترابط المجتمعي»

سرعان ما طغى خطاب «الترابط المجتمعي» على مفهوم الاندماج في بريطانيا، وهو الخطاب الذي تداخل مع الترابط المجتمعي وإن اختلف عنه، والذي ظهر في النقاشات البريطانية في الوقت ذاته تقريبًا؛ إذ جاء ذكره في تقريرَيْ كانتل ودينام الواردَين عن وزارة الداخلية البريطانية (۲۰۰۱، ۲۰۰۲)، وجاء تقرير دينام تحت عنوان صريح، هو: «بناء مجتمعات مترابطة».

وقد أبعد ذلك التغيير جدول الأعمال أكثر فأكثر عن الالتزام بالتعددية الثقافية، وبدا أن أصداء مطالبة المهاجرين فيما سبق بالخضوع للاستيعاب في سبيلها إلى أن تطفو على السطح، وشرعت تنافس تدابير مهمة مثل قانون حقوق الإنسان (۱۹۹٨)، والتشديد على محاربة العنصرية المؤسسية كما أوصى تقرير ماكفيرسون الصادر بشأن ممارسات الشرطة بعد إماطة اللثام عن إخفاقاتها في أعقاب جريمة قتل المراهق الأسود ستيفن لورنس، والقانون المعدِّل لقانون العلاقات العرقية (۲۰۰۰).

وقد احتلَّت مسألة «الترابط المجتمعي» مركز الصدارة لدى السياسات الحكومية للمملكة المتحدة في أعقاب أحداث ۲۰۰۱. وسوف أتناول مصادر مفهوم الترابط المجتمعي الثلاثة بالدراسة، منوِّهًا إلى بعض الانتقادات التي اجتذبها كل جانب، قبل دراسة الفكرة ككل والسياسات المنبثقة عنها.

(٣) مصادر «الترابط المجتمعي»

(٣-١) النزعة المجتمعية

كانت النزعة المجتمعية قد نشأت في تسعينيات القرن العشرين كنوع من منظور «الطريق الثالث»، الذي ينتقد كلًّا من اليمين واليسار الجديدين لإضعافهما «التماسك الاجتماعي» الذي كان يُبقي على وحدة المناطق المحلية والمجتمع ككل، فتلقَّى الأول اللوم على تجاوزات النزعة الفردية والنزعة التحررية اللتين يتسم بهما السوق الحر، واللتين ساعدتا على تقويض أخلاقيات المسئولية الاجتماعية وقواعد المعاملة بالمثل، وهو ما جسَّده دواء السيدة تاتشر الشهير لكل داء: «لا يوجد ما يسمَّى المجتمع.» وتلقَّى اليسار توبيخًا على تبنِّيه المركزية البيروقراطية المفرطة التي تسحب السلطة من المجتمعات المحلية، وما صحبها من نظم رعاية اجتماعية عجزت عن مساندة الشبكات الاجتماعية المستقلة كما ينبغي ولم تقدِّم سوى القليل من العون لمؤسسة الأسرة.

إلا أن مفهوم المجتمع — كما أشار علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا مرارًا وتكرارًا — مبهم بصورة مثيرة للدهشة. ومن الصعوبة بمكان أن يُعَرَّف بأي قدر من الدقة. فمتى تُشكِّل جماعة اجتماعية ما «مجتمعًا» حقيقيًّا؟ وما مقدار الوحدة التي ينبغي أن تبديها؟ وما خصائصها؟ ويسلط التساؤل عما إذا كانت شبكات الإنترنت تشكِّل «مجتمعات» الضوء على الصعوبات المتضمَّنة في تلك المسألة بوضوح. ويحاكي التساؤل عن متى يكون المجتمع مجتمعًا المشكلات المتضمنة في تحديد متى تكون الجماعة مندمجة اندماجًا حقًّا مع جماعة أخرى أو في داخلها. وعند إعمال الفكرتين معًا — كما في مفهوم «المجتمعات المتكاملة»، اللصيق بمفهوم الترابط المجتمعي — تتفاقم الصعوبات. وترتبط المسألة هنا أيضًا بمشكلة النزعة الجوهرية التي خضعت للمناقشة سابقًا؛ فمن السهولة بمكان أن نفترض أن المجتمعات متجانسة ومحكمة الحدود.

وقد قيل أيضًا إن خطاب «المجتمع» أتاح إبعاد الصبغة العرقية عن القضايا، بحيث لا يرد ذكر العنصرية، ويُعاب على مجتمعات الأقليات عدم سلوكها حياة «بريطانية» سليمة دون الإقرار أيضًا بأن منشآت تعلُّم اللغة كثيرًا ما يتعسَّر الوصول إليها ويندر توافرها، وفي الوقت ذاته الإقرار بأنَّ نساء الأقليات من الجيلين الثاني والثالث حَظَيْن بنجاح متزايد في المجالين التعليمي والمهني، وأنَّ التمييز العنصري والتحرُّش يشكِّلان سببين مهمين لاستمرار الأقليات في البقاء معًا في مناطق استقرارها الأصلية.

أي إن مفهوم «المجتمع» هو مفهوم باهت بما فيه الكفاية، لكنه في حالة «الترابط المجتمعي»، كثيرًا ما يواري أوصافًا منحرفة عن الصواب ومجحفة في حق الفئات الاجتماعية المنتمية إلى الأقليات العرقية.

(٣-٢) نظرية «رأس المال الاجتماعي»

كان نشر كتاب روبرت بوتنام، عالم السياسة بجامعة هارفرد، عام ۲۰۰۰ تحت عنوان «لعب البولينج منفردًا: انهيار المجتمع الأمريكي وصحوته» هو ما ساعد على الدفع بمفهوم رأس المال الاجتماعي المؤثر أصلًا في ساحة النقاش العالمي الجاد، وأتاح له أن يخلِّف أثرًا مهمًّا في السياسة الاجتماعية عبر أنحاء عدة من العالم، لا سيما عن طريق تبنِّي هيئات دولية مثل البنك الدولي لذلك المفهوم.

ومفهوم «المجتمع» محوري في هذا الإطار، وينسجم جيدًا مع فكر النزعة المجتمعية، ويتيح ذلك سهولة إدراج مفهوم رأس المال الاجتماعي في أجندة الترابط المجتمعي.

ويعرِّف بوتنام رأس المال الاجتماعي بأنه: «الصلات القائمة بين الأفراد؛ الشبكات الاجتماعية وما ينبثق عنها من قواعد المعاملة بالمثل والمصداقية»، ويؤكد أن ارتفاع مستوى رأس المال الاجتماعي يتيح للمشاركين في الشبكات المزدحمة أن يثق بعضهم ببعض، وأن يتضافروا في تتبع الأهداف المشتركة وتحقيقها. وثمة تمييز قائم، من حيث المبدأ، بين رأس المال الاجتماعي «الترابطي» ورأس المال الاجتماعي «التواصلي»؛ فرأس المال «الترابطي» يتعلَّق بخلق التلاحم «داخل» مجتمعات محددة؛ فهو يجمع بين الأشخاص الذين «يشبه بعضهم بعضًا»، سواء فيما يتعلق بالطبقة أو الانتماء العرقي أو النوع أو العمر، أما رأس المال «التواصلي» فيشكِّل جزءًا من عملية تكوين شبكات متداخلة «بين» مجتمعات بعينها، بحيث يجمع بين الأشخاص الذين لا يشبه بعضهم بعضًا. ويدرك بوتنام وأتباعه أن توافر قدر كبير من رأس المال الترابطي قد ينطوي على جانب «مظلم»؛ إذ يسهم في إقامة حدود منيعة بين الموجودين بالداخل و«الآخرين» الذين يُقصَون بتلك الطريقة وقد يتعرَّضون للوصم؛ لذا فرأس المال التواصلي هو عنصر حيوي إذا كان من الممكن تحقيق ترابط اجتماعي على نطاق أوسع.

وفي هذا السياق تكتسب فكرة «القيم المشتركة» أهمية أيضًا؛ فالاختلاف الثقافي المفرط يعني قدرًا أقل من وحدة القيم، وهو ما يُعتبر مؤديًا لمستويات منخفضة من رأس المال التواصلي.

والسرد الذي قدَّمه بوتنام مرثاة طويلة لانقضاء فترة كانت يومًا مثالية في التاريخ الأمريكي، تقع بين تسعينيات القرن التاسع عشر وعشرينيات القرن العشرين، يُفترض أن المجتمع اتسم إبَّانها بروابط مدنية متينة، ومستويات مرتفعة من المشاركة المدنية والسياسية، ودرجات عالية من الثقة.

ومما يثير الجدل أنَّه يلوم ثلاثة تطورات على ما يراه خللًا في الوقت الحالي: التلفاز، والأسر التي يعمل فيها الأبوان، والزحف العمراني. والتوصية التي قدَّمها من أجل إيقاف تدهور المجتمع في الولايات المتحدة الأمريكية هي بدء فترة جديدة من الصحوة المدنية، مصحوبة بتنمية الجمعيات الأهلية والمشاركة المدنية والسياسية، وهو ما ينشئ صورًا جديدة من رأس المال الاجتماعي الترابطي ورأس المال الاجتماعي التواصلي يمكنها أن تؤلِّف بين عناصر أمة معرَّضة لخطر «التمزُّق» على نحو كارِثي.

من المفترض وضوح سبب جاذبية هذا التشخيص و«الحل» في نظر واضعي السياسات البريطانيين المقتنعين بأن بيت القصيد فيما يتعلق بكل من «مشكلة الأقليات العرقية» والقضايا الاجتماعية الأشمل التي تواجه بريطانيا هو تمزُّق العلاقات المجتمعية. وقد أقام بوتنام ندوات في مقر الحكومة البريطانية، وترسَّخت فكرة بناء رأس المال الاجتماعي في المدن البريطانية ترسُّخًا ثابتًا في السياسات الحكومية كبديل للتعددية الثقافية والاحتفاء «بالتنوع» وتشجيعه.

ركَّز بعض عمل بوتنام على التنوع العرقي، وخلص إلى أن التنوع العرقي يسهم عمومًا في تدهور الثقة، وقد ذهب إلى أن ثمة حاجة مُلِحَّة إلى بناء رأس مال تواصلي بين المجتمعات المتباينة، ويقرُّ كذلك بأن هذا أصعب من بناء رأس المال الترابطي الأكثر انغلاقًا على نفسه. ويذهب بوتنام، مستشهدًا بالبوسنة وبلفاست، إلى أن رأس المال التواصلي ضروري من أجل «التوفيق بين الديمقراطية والتنوع».

ويتناقض التأثير واسع النطاق المتولد عن الصيغة التي قدَّمها بوتنام لأطروحة رأس المال الاجتماعي وطريقة إعمالها في تحليلاته التاريخية وتحليلاته المعاصرة مع القصور الحاد الذي يعتريها من الناحية المفاهيمية والمنهجية والتجريبية. وتتجلَّى بعض أوجه ذلك القصور بوضوح عند وضع الأبحاث الاجتماعية الأكثر كفاءة الواردة عن المملكة المتحدة في الاعتبار، مما يجعل نقل أطروحة بوتنام إلى المملكة المتحدة أمرًا شديد الإشكالية وغير ملائم بالمرة.

فمن الناحية المفاهيمية، يظهر رأس المال الاجتماعي كما يعرِّفه بوتنام ويُعمله في هيئة فكرة محايدة وفعالة تسهم في تسليط الضوء على قضايا الثقة والمعاملة بالمثل، وهي قضايا مفيدة اجتماعيًّا، لكن المعنى الذي يُعمله يتجاهل ما أشار إليه العديد من علماء الاجتماع الآخرين، من أن رأس المال الاجتماعي يوجد أيضًا في شكل «رأس مال ثقافي» يتيح للطبقات العليا أن تنشئ شبكات حصرية وسلسلة من الامتيازات، لا سيما النجاح التعليمي، تسمح باحتكار عملية خلق الفرص والوصول إلى غير ذلك من الموارد. وبإضافة عامل التمثيل المفرط للأقليات العرقية في الطبقات العاملة بأوروبا، وإلى حد ما في الولايات المتحدة الأمريكية، لا سيما بالنسبة إلى الأمريكيين الأفارقة، تكون النتيجة المستخلصة واضحة: لا يمكن النظر إلى رأس المال الاجتماعي على أنه مجرد مورد محايد يصب في مصلحة المجتمع بأكمله.

وثمة خصوصيتان أخريان للصيغة التي قدَّمها بوتنام لأطروحة رأس المال الاجتماعي، فالتركيز ينصبُّ بالأساس على كَمِّ العلاقات لا نوعيتها، مثل الود والنزعة المساواتية، وإضافةً إلى ذلك، فهو يتناول نطاقًا تاريخيًّا واسعًا، ومن ثم يعجز عن التعامل مع الخصوصية التاريخية للمناطق المحلية والأحياء والتقاليد والذكريات الاجتماعية وأوجه التفاوت الاجتماعي والاقتصادي والسياسي التي تؤثِّر على نوعية العلاقات بين مختلف الفئات الاجتماعية في مختلف الساحات الاجتماعية.

ويغفل تحليل بوتنام ما حدث من تغيرات اجتماعية مهمة، ومن ثم تتناقص صلة مؤشراته وقياساته لرأس المال الترابطي ورأس المال التواصلي بالواقع. وكما أشارت باربرا أرنيل، فما فتئ بوتنام يقيس المشاركة في الأحزاب السياسية التقليدية وغيرها من الجماعات والمؤسسات التقليدية، مما يتجاهل صعود السياسة البديلة والأشكال الأكثر مرونة للمشاركة الثقافية، مثل: النشاطات كالرياضات النسائية، والجماعات السياسية النسائية (تلعب المرأة دورًا محوريًّا في تحليل بوتنام دون أي إقرار بكيفية إخلال ذلك بالنتائج التي توصل إليها بوتنام وتوصياته)، ومجموعة كاملة من أساليب اختلاط الأفراد وتقارُب الجماعات في الولايات المتحدة الأمريكية في نهايات القرن العشرين، التي تختلف كثيرًا عن الفترة التي تمثِّل أساس المقارنة التي أجراها بوتنام ومرثاته بشأن تدهور المجتمع.

ولا تثبت صحة النتائج التي توصل إليها بوتنام عند نقلها، بمزيد من الرقيِّ المفاهيمي والتاريخي، إلى السياق البريطاني. ويكشف تحليل بيتر هول للدراسات البريطانية عن صورة مختلفة؛ فبالنسبة إلى بريطانيا، يخلص هول إلى عدم وجود اختلاف يُذكر بين الأجيال في معدلات المشاركة في الجمعيات، ومن ثم عدم وجود أدلة تُذكر على تدهور رأس المال الاجتماعي. وفي حالة المرأة، تضاعفت المشاركة المدنية والسياسية في الفترة ما بين السبعينيات والتسعينيات من القرن العشرين. ويرجع أحد الأسباب الرئيسية لتباين النتائج إلى مراعاة هول الكاملة للتغيرات التي طرأت على خبرات المرأة وإنجازاتها التعليمية، فكما أوضح هول، كانت ۱٤٪ من البريطانيات، بحلول عام ۱۹۹۰، قد حصلن على بعض التعليم عقب المرحلة الثانوية، مقارنةً بنسبة بلغت بالكاد ١٪ عام ۱۹٥۹. ويُسقط تحليل بوتنام من حساباته آثار التغير الذي طرأ على تعليم المرأة الأمريكية (زيادة بنسبة ١٢٪ في الخبرات التعليمية بعد المرحلة الثانوية)، ومن ثم يستخف بالزيادة في معدلات مشاركتها وفي رأس المال الاجتماعي استخفافًا جسيمًا. ويلمح تحليل هول إلى أن الدولة وسياساتها التعليمية تضطلعان بدور مهم في زيادة المشاركة المدنية والسياسية.

وإنَّ اختلاف أنواع الجمعيات المتضمنة في الدراسة التي أجراها هول مقارنةً بالمتضمنة في دراسة بوتنام لذو أهمية بدوره. فيدرج هول، بالنسبة إلى الفترات الأحدث، نتائج بشأن المشاركة في حركات بيئية وجمعيات دينية غير كَنَسية، وجماعات نسائية، وفي الرياضات وسُبُل الترفيه، فضلًا عن الجمعيات الأهلية المحلية المعنية بقضايا مثل الفقر والإسكان والمساواة العرقية، وجميعها أوثق ارتباطًا بتقييم المشاركة المدنية والسياسية لدى أجيال ما بعد ستينيات القرن العشرين من التنظيمات الكَنَسية والسياسية قديمة الطراز التي ركَّز عليها بوتنام. والواقع أن أولئك الذين تناولوا معلومات أكثر ارتباطًا بالواقع عن المشاركة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، كالانخراط في مجالَيْ حقوق الإنسان وأنشطة حماية البيئة — مثل واثنو — انتقدوا بدورهم أطروحة بوتنام.

ويعطي أحد الإغفالات المهمة في تحليل بوتنام مؤشرًا قويًّا لنوع الانتقائية التي يقوم عليها عمله برمته؛ فبوتنام يركِّز على التدهور العام في الثقة، لكنه لم يقل الكثير عن الفروقات الكبيرة في الثقة المدنية التي يبديها كلٌّ من الجماعات ذات الحظوة ومثيلاتها المهمَّشة. فتشير الأبحاث إلى وجود فرق هائل في مقدار الثقة بين البيض والأمريكيين الأفارقة؛ فيبلغ متوسط نسبة الثقة لدى السود عبر الفترة كلها ١٧٪ فحسب، مقارنةً بنسبة ٤٥٪ لدى البيض. والواقع أن أحد الاستنتاجات التي خلص إليها الباحثون الآخرون تتمثل في أن الكثير مما يعتبره بوتنام تدهورًا عامًّا في الثقة في السنوات العشرين المنصرمة من القرن العشرين في الولايات المتحدة الأمريكية يفسِّره تدهور مستويات الثقة لدى أولئك الذين صارت حياتهم أكثر صعوبة وأقل أمنًا، لا سيما في ظل ظروف التفاوت الاجتماعي المتنامي.

وبالنسبة إلى المملكة المتحدة، يكشف تحليل هول عن فجوة كبيرة في الثقة بين الطبقتين الوسطى والعاملة في الدراسات البريطانية ذات الصلة؛ فالأشخاص الأفضل حالًا يُبدون مستويات ثقة أعلى من العاطلين عن العمل وذوي الدخول المنخفضة وذوي الوظائف غير المضمونة والمقيمين بصفة عامة في الأحياء المحرومة المتردِّية الأوضاع. وقد وجد تحليل ليتكي لبيانات من إنجلترا وويلز حول التنوع العرقي شيئًا من فقدان الثقة بين الجماعات العرقية، لكنه يبيِّن أن السمة الاجتماعية والاقتصادية العامة للأحياء السكنية كان لها الإسهام الأكبر في إحداث التفاعلات والمواقف السلبية بين الجيران.

وهذه النتيجة وثيقة الارتباط أيضًا بالنقاشات الدائرة حول ادعاء ديفيد جودهارت بأن التنوع يقوِّض تأييد دولة الرفاه، و«النقاش الدائر بشأن الطبقة العاملة البيضاء»، واللذين نتناولهما بالنقاش في القسم القادم.

ويمكن تفسير أسباب المشكلة التي اختارها بوتنام، لا سيما الأسر التي يعمل فيها الأبوان والتلفاز، تفسيرًا مختلفًا للغاية باعتبارها جزءًا من عملية لإعادة تكوين المجتمعات المعاصرة ليست حتمًا ضارة بمعنى الكلمة «بالمجتمع» و«رأس المال الاجتماعي»، وإنما تنشئ أشكالًا مختلفة من الشبكات الاجتماعية وتكوينًا جديدًا للأنماط القديمة المتعلقة بسيادة الذكور والإذعان الثقافي والأنشطة الشبابية.

وتستند مخاوف بوتنام، ومخاوف الحكومات الأوروبية بدورها، إلى الحنين إلى عصر ذهبي خرافي إلى حد ما اتسم بالوحدة المجتمعية، مما يؤدي إلى الإفراط في التركيز على القيم الثقافية المشتركة. ومرة أخرى، يمثِّل ذلك اعتبارًا مهمًّا عند دراسة مقترحات حكومة المملكة المتحدة بشأن الترابط المجتمعي.

وتوضح الأبحاث المحلية التي أجراها روجر زيتر وزملاؤه عن عمليات تكوين المجتمعات في أوساط المهاجرين الجدد في بريطانيا السبب في كَون مجرد عرض التباين القائم بين رأس المال الترابطي ورأس المال التواصلي، وإثناء المهاجرين عن الأول، استجابة سياساتية غير مُرضية؛ أي إن مجرد الحثِّ على «الترابط» بين مختلف المجتمعات في إطار القيم المشتركة وقواعد المعاملة بالمثل وما إلى ذلك يغفل أن العديد من جماعات المهاجرين ما زالت بحاجة إلى تنظيم نفسها بحيث يتاح لها الوصول إلى موارد الرعاية الاجتماعية المحلية وفرص العمل. فتصبح الأصول الوطنية أو العرقية المشتركة — الرومانية أو الكردية مثلًا — أسسًا شبه حتمية لإقامة شبكات التواصل وللتنظيم، لا سيما حيث توجد العدائية العنصرية، وحين تُستَشعَر الحاجة إلي التعبير عن احتياجات وتفضيلات ثقافية مميزة في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والدين.

وتبيِّن كذلك الأبحاث التي أجرتها ماريا هدسون وزملاؤها في توتنهام بشمال لندن، وموس سايد بمانشستر، كيف أنه ليس مهمًّا فحسب لجماعات مثل الصوماليين أن تكوِّن تنظيمات منفصلة، لكن المهم أيضًا معرفة سبب الظهور المفاجئ للجماعات النسائية الصومالية وإسهامها الفعلي في توسيع نطاق اندماج النساء الصوماليات، حيث انتقلت بعض النساء من حيز الاهتمامات الأكثر خصوصية إلى تنظيم مشاركتهن في الكرنفال المحلي. ومن الظاهر للعيان أن هذا ليس شكلًا من أشكال «رأس المال الترابطي» يخلِّف عواقب وخيمة على الترابط الاجتماعي أو المجتمعي؛ «فالبوسنة» و«شمال أيرلندا» ليسا بالسيناريوهين اللذين ينبعان على نحو حتمي من السماح بنشأة تلك الأشكال من التضامن.

وعامةً يبدو أن مفهوم رأس المال الاجتماعي — مثله مثل مفهوم المجتمع — يشكِّل أساسًا واهيًا لصنع السياسات، ولا يمكن له أن يوفِّر أساسًا تتجاوز الأجندة بناءً عليه صور التعددية الثقافية، وهي خطوة أراها ضرورية.

(٣-٣) الطبقة العاملة البيضاء ومشكلة «الإنصاف»

في ۱٤ أكتوبر عام ۲۰۰۹، أعلن جون دينام، وزير المجتمعات بحكومة المملكة المتحدة آنذاك، بدء خطة بتمويل قدره ۱۲ مليون جنيه استرليني موَجَّهة إلى المناطق التي تغلب عليها الطبقة العاملة البيضاء في أنحاء عدة من البلاد، وكان من المخطط أيضًا إنشاء منتديات مجتمعية خاصة تتيح للسكان المحليين رفع مظالمهم. وقد وُضِعَت تلك المِنح والتدابير صراحةً للحيلولة دون تغذية مشاعر السخط التي تكنُّها الطبقة العاملة البيضاء بسبب التعامل المجحف معها مقارنةً بالمهاجرين، للاتجاه المتنامي لدى تلك المجتمعات إزاء التصويت للحزب الوطني البريطاني اليميني المتشدد، فقد كان عضوان من ذلك الحزب قد انتُخبا بالفعل — أحدهما نيك جريفين زعيم الحزب — عضوين في البرلمان الأوروبي، وربح الحزب عددًا من المقاعد في انتخابات المجالس المحلية.

وفي ديسمبر عام ۲۰۰۹ وَبَّخ دينام الطبقات الوسطى لعدم تفهمها وطأة الهجرة على العمال الأفقر، نظرًا لأنها كانت معزولة عن التنافس على الوظائف والموارد؛ لذا كان بإمكانها أن تستشعر «إثراءً ثقافيًّا» متولدًا عن الهجرة، لكن المنتمين للطبقة العاملة عانوا الضغط على الوظائف والمساكن وفرص التدريب وتولَّد لديهم «شعور بالإجحاف» يمكن تفهُّمه.

ومما لا شك فيه أن التقارير الصادرة بشأن اضطرابات ۲۰۰۱ أبرزت جميعها أن المجتمعات البيضاء في المدن الشمالية — لا سيما الطبقة العاملة وطبقة الفقراء — دأبت على التعبير عن شعور عارم بالغضب إزاء ما ارتأت فيه إجحافًا في تخصيص الأموال العامة لمشروعات لمصلحة الجاليات الآسيوية مقارنةً بالاعتمادات المخصصة للمجتمعات البيضاء، وقد نفت جميع السلطات المحلية ذلك، مشيرةً إلى أنها كانت تتحرَّى الإنصاف في طريقة تخصيص المِنَح.

وبعد عام ۲۰۰۱ دخلت مسألة مشاعر السخط لدى الطبقة العاملة البيضاء حيز نقاش ذي صلة وإن كان مختلفًا في بريطانيا، وقد انبثقت هذه المشاعر عن مقالة كتبها ديفيد جودهارت — رئيس تحرير مجلة «بروسبكت» ذات التوجه اليساري الوسطي التي لها ثقلها — تحت عنوان: «متنوع أكثر من اللازم؟» واعتمد جودهارت في الأساس على الحجج الأمريكية التي اقترحت أن الهجرة والتنوع العرقي (ومن ثم التعددية الثقافية) في الولايات المتحدة الأمريكية قد منعا تكوُّن ذاك النوع من التضامن الجماعي الذي كان له أن يفرز دولة رفاه قوية ذات طابع أوروبي. ويبدو التشابه بين منطق أطروحة بوتنام وهذه الحجة ظاهرًا للعيان؛ فقد استقرأ جودهارت ذلك التأويل للتاريخ الأمريكي خالصًا إلى استنتاج مفاده أن الهجرة والتنوع المتزايد (ومن ثم التعددية الثقافية التي تحتفي بالتنوع) يقوِّضان ذاك النوع من الثقافة المشتركة والثقة والتضامن الذي كان قد سمح في الماضي بنشأة ثقافة المشاركة ومثَّل دعامة دولة الرفاه البريطانية.

ويتمثل الافتراض الرئيسي الذي ترتكز عليه أطروحة جودهارت في أنَّه من المرجَّح ألا يؤيد المواطنون — وبدا أنه يقصد الطبقة العاملة البيضاء تحديدًا — منْح إعانات الرعاية الاجتماعية إلا لمن يَبدون مشابهين لهم من حيث القيم وأسلوب الحياة. فكلَّما زاد اختلاف ثقافة جيرانهم، وكلَّما قلَّ الشعور بالتاريخ والكفاح المشتركين وبالمساهمة الجماعية في دولة الرفاه، ضعفت مشاعر التعاطف والشفقة والتضامن التي قد يكنُّها السكان البيض الأصليون للمهاجرين وسلالتهم فيما يتعلق بدعم الدولة.

وينطوي الطرح المبدئي لجودهارت على مشكلات خطيرة، كما أشار بانتينج وكيمليكا وباريك وتايلور جوبي وغيرهم من باحثين كُثُر. فمن ناحية، افترض جودهارت — مثل بوتنام — وجود عملية مقايضة ميكانيكية حتمية بين التضامن الاجتماعي أو الوطني العام والتنوع العرقي، إلا أنه لم يُلحَظ وجود مثل تلك العلاقة القطعية عبر التاريخ. ويعتمد جودهارت في المقام الأول على النموذج الأمريكي، لكن حتى إذا كانت تلك الأطروحة صالحة هناك، فلا يتضح أبدًا إذا كان يمكن تعميمها على الدول القومية الأوروبية. فكما أشار تايلور جوبي، استتبع وجود حركات يسارية وعمالية قوية نسبيًّا، وحقيقة أن دولة الرفاه كانت قائمة بالفعل، أو أنها تأسست مع بداية الهجرة غير الأوروبية الجماعية، أن التنوع العرقي المتزايد في أوروبا — الذي مكَّن الجماعات المعادية في الولايات المتحدة الأمريكية من تقسيم التحالفات العمالية وتحالفات الرعاية الاجتماعية قبل أن يتمكنوا من إقامة نظم رعاية اجتماعية — لم يتأتَّ له إحداث الأثر ذاته، فما زال تأييد دولة الرفاه كبيرًا في البلدان الأوروبية على الرغم من الهجرة. وقد أشرتُ أيضًا أنا وباريك إلى أن العمالة المهاجرة غير الأوروبية — لا سيما في بريطانيا — قدَّمت دعمًا جوهريًّا لإقامة دولة الرفاه، وكانت فترة صعود الليبرالية الجديدة في عهد السيدة تاتشر هي فترة وضع قيود صارمة على الهجرة، حين عانت دولة الرفاه أسوأ تخفيضات في نفقاتها. وإضافةً إلى ذلك، تعرَّضت دول الرفاه لضغوط في جميع أنحاء أوروبا، حيث تعرَّضت جميعها لإعادة هيكلة وتخفيضات سواء حازت معدلات هجرة مرتفعة أو منخفضة.

سكت جودهارت عن الكلام إلى حد ما فيما يتعلق بالتعددية الثقافية، وإن كان المعنى المتضمن في آرائه واضحًا، إلا أن سياسات التعددية الثقافية، مثلما أشار بانتينج وكيمليكا، بقدر ما تساعد على حشد الدعم لمصلحة التنوع العرقي، فبإمكانها أن تخفف من الآثار الهدامة المحتملة للهجرة، مما يبيِّن مرة أخرى أنه ليس ثمة مقايضة حتمية بين التنوع والتضامن. ومن الممكن تلطيف الآثار المترتبة على الهجرة والتنوع الثقافي والتأثير عليها إيجابًا من خلال المبادرات السياسية والمبادرات السياساتية التي تهيئ مناخًا أكثر ترحابًا لدى السكان المضيفين، وهي تتأثر أيضًا بشدة بالظروف المحلية المتعلقة بندرة الموارد كالمساكن والمدارس والوظائف.

وهنا تدخل مسألة الطبقة العاملة البيضاء في المعادلة مرة أخرى، في سياق حدوث الصراعات في ميادين الهجرة والتنوع العرقي ودولة الرفاه بصورة مغايرة إلى حد ما. وفي المملكة المتحدة، عاد ذلك الحوار، الذي كانت تقارير عام ۲۰۰۱ قد أنذرت به بالفعل، إلى الظهور بقوة عارمة مصاحبًا لنشر دراسة أثارت خلافًا وجدلًا واسعًا، بشأن منطقة إيست إند الآخذة في التغيُّر بلندن، تحت عنوان: «إيست إند الجديدة: القرابة والعِرق والصراع»، أجراها جيف دنش وكيت جافرون ومايكل يونج، ونُشِرت عام ۲۰۰٦.

ويلخِّص سرد هذه الدراسة سيناريو تم في مناطق محلية لا حصر لها في بريطانيا، وكان له تأثير لا يستهان به على التفكير الحكومي فيما يتعلق بالترابط المجتمعي والسياسات الجديدة الموجَّهة صوب الطبقة العاملة البيضاء، وهو ما أثبته الإعلان عن تعيين وزير للمجتمعات والذي تصدَّر هذا القِسم.

وقصة «إيست إند الجديدة» هي، في موجزها، كالآتي: بين عامَيْ ۱۹۷۱ و۲۰۰۱ ارتفعت نسبة سكان تاور هاملتس، ذوي الأصول البنغالية من ٢٪ إلى ٣٠٪ من إجمالي عدد سكان تلك البلدية. وشهدت تلك الفترة أيضًا «ارتحال البيض» ونزوحهم على نطاق واسع؛ إذ انتقل عدد متزايد من سكان إيست إند من الطبقة العاملة البيضاء إلى مناطق مجاورة في مقاطعة إسيكس؛ بغية الابتعاد عن المهاجرين وسلالتهم، واضطُرَّ آخرون من سكان إيست إند، عادةً الأصغر سنًّا، ممن ينتمون إلى الطبقة العاملة البيضاء إلى الرحيل بسبب النقص الحاد في الإسكان الحكومي أو الإسكان الخاص المعقول التكلفة، لينضموا إلى الأجيال السابقة التي أُعيد إسكانها في إسيكس في أعقاب مرحلة إعادة الإعمار وإعادة التنمية التالية على الحرب العالمية الثانية.

وترسم الدراسة، عمومًا، صورة تتسم ببالغ العداء والسخط والشعور بالخيانة لدى البيض لما ارتأَوْا فيه معاملة شديدة الإجحاف في حقهم، في الوقت الذي لُبِّيَت فيه جميع احتياجات الوافدين الجدد. وعلى وجه التحديد، يخبرنا مُعِدُّو الدراسة أن السكان من الطبقة العاملة البيضاء يستشيطون غضبًا من جرَّاء الثقافة والممارسة الجديدتين المتعلقتين بالاستحقاق المبني على أساس الحاجة لا الإسهامات المُقدَّمة إلى الثروة المحلية والوطنية. وكذلك الجيل الأكبر سنًّا من البيض ساوره القلق إزاء ما بدا نسيانًا لمساهمته في المجهود الحربي في ظل حقبة جديدة تتسم بالانشغال بقدر أكبر بالمهاجرين والوافدين الجدد. ومما أثار استياء الطبقة العاملة البيضاء أنها شاهدت تغير سمات دولة الرفاه. وشرع مبدأ الحاجة، لا سيما الحاجة إلى السكن، يتغلَّب على مناقب «انتظار الدور» على سُلَّم كان طول الانتظار عليه يكافأ، وكذلك الروابط العائلية، بحيث كان لأبناء السكان المقيمين وبناتهم الأولوية.

ويلمح مُعِدُّو الدراسة إلى أن انهيار الوظائف في مجال أرصفة السفن وغيرها من الصناعات التحويلية إبَّان السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين تزامن مع قرار الرجال البنغال جلب أُسرهم، خوفًا عليهم أثناء الحرب مع باكستان، وتلهفًا إلى لمِّ الشمل معهم قبل أن تزيد التشريعات المقيدة للهجرة الأمر صعوبةً أو حتى تجعله مستحيلًا. وفي الآنِ ذاته، جُمِع بين نظام تخصيص الرعاية الاجتماعية الجديد القائم على الاحتياجات وتركيز السلطة في أيدي موظفي السلطة المحلية المنتمين إلى الطبقة الوسطى، الذين غَضَّ الكثير منهم الطرف عن شكاوى الطبقة العاملة باعتبارها مجرد شكاوى عنصرية.

وإضافةً إلى ذلك، أدى توسُّع المركز المالي — المنطقة التجارية — الذي يقع بدوره في شرق لندن، إلى توافد «الشباب المترفين» الذين لم تعنِ لهم المنطقة أكثر من مجرد ساحة للأطعمة العالمية الأذواق والسكان الغريبي الأطوار، وإن لم يكن ثمة ما يربطهم بالمجتمعات المحلية ويمكنهم الرحيل كيفما ووقتما شاءوا، بينما تستهلك مساكنهم الفاخرة الجديدة حيزًا ثمينًا وتمعن في تأجيج مشاعر الغضب والسخط المحلية لدى الأهالي المنتمين إلى الطبقة العاملة البيضاء المقيمين منذ زمن بعيد.

ومما نكأ الجراح — إن جاز التعبير — أن العديد من الأطفال البنغال البريطانيين المنتمين إلى الجيلين الثاني والثالث، بعد أن تلقَّوا عونًا إضافيًّا في سبيل تعلُّم اللغة الإنجليزية وتوطيد أقدامهم في الحياة البريطانية، كانوا قد بدءوا يبلون بلاءً حسنًا في المدارس، وارتادوا الجامعات، والتحقوا بالمهن، وانتقلوا إلى مساكن أفضل بكثير في الضواحي.

ويذهب مُعِدُّو الدراسة إلى أنه لا يوجد ما يدعو إلى الدهشة في أن يشهد عام ۱۹۹۳ أول انتخاب لنواب من الحزب الوطني الديمقراطي اليميني المتشدد في مجالس المناطق المحلية، صوَّتت له قطاعات من الطبقة العاملة البيضاء التي شعرت بالمرارة وبأن النخب السياسية والطبقات الحاكمة الجديدة قد تخلَّت عنها وتجاهلتها وخانتها.

بيد أن دراسة «إيست إند الجديدة» واجهت نقدًا لاذعًا لتقديمها سردًا مضلِّلًا ومفرط التبسيط للأحداث وردود الأفعال المحيطة بالتغيرات التي طرأت على المنطقة منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وهنا أستند في حديثي تحديدًا إلى الانتقادات التي وجَّهها أولئك الذين عملوا موظفي سلطات محلية في تاور هاملتس، فضلًا عن علماء اجتماع وجغرافيين كُثُر — لا سيما مايكل كيث — الذي كان أحد قيادات حزب العمل بمجلس تاور هاملتس، وفي الوقت ذاته كان أيضًا أستاذًا في كلية جولد سميث بجامعة لندن.

بادئ ذي بدء، ثمة إغفال خطير لمعلومات سياقية مهمة من دنش وجافرون ويونج، فعلى الرغم من أن الدراسة التي أجروها غطَّت عقدًا من الزمان، فإن الأهالي البيض الذين يأتي ذكرهم لا يُحَدَّد أبدًا وضعهم على نحو سليم من حيث الزمان والمكان. فلا ترد إشارة إلى متى وأين بالتحديد يدلي الأهالي البيض بتعليقاتهم، مما يجانسهم في كتلة واحدة ويعجز عن تقديم أي بيان بالظروف المحددة — مثل نقص الموارد المتركِّز في مناطق بعينها — التي أثارت تعليقاتهم.

وهذا يضاعف الخطأ الناشئ عن مجانسة الطبقة العاملة البيضاء من ناحية مضلِّلة أخرى، فالواقع أن «البيض» هم خليط من الناس ينتسبون إلى أصول أيرلندية وبولندية ومالطية ويونانية، وقبرصية يونانية، وقبرصية تركية، ممتزجين بسلالة الإنجليز ذوي الأصول الريفية، والمتبقين من سلالة اللاجئين اليهود من أوروبا الشرقية، والوافدين الجدد من الاتحاد الأوروبي. ولا يوجد «مجتمع طبقة عاملة بيضاء» منفرد بذاته يمكن التعامل مع رؤاه على أنها موَحَّدة ومعبَّر عنها بأسلوب غير متمايز.

وثمة ميل أيضًا إلى معاملة القطاعات الأفقر من الطبقة العاملة، الأكثر تأثُّرًا بنقص المساكن والوظائف وغيرها من الموارد، على أنها مرادفة للطبقة العاملة البيضاء ككل. وقد سرى ذلك أيضًا على نحو أكثر عمومية بالنسبة إلى تغطية وسائل الإعلام الشعبية لهذه المسألة، حيث يُقارَن أكثر البيض فقرًا في كثير من الأحيان بالأقليات العرقية ككل، مع تجاهل التقسيمات الطبقية داخل هاتين الفئتين من المجتمعات. فعلى سبيل المثال: عند مقارنة التحصيل التعليمي، يُقارَن أكثر البيض فقرًا بالآسيويين البريطانيين جميعًا، أو الآسيويين البريطانيين من الطبقة العاملة جميعًا.

وتوحِّد دراسة «إيست إند الجديدة» الأقليات بغير ذلك من الأساليب المضللة؛ فالمنطقة بها أيضًا مهاجرون من الجزر الكاريبية وأفريقيا وسلالتهم. ولا يجوز تلخيص الديناميكيات المحلية في سرد يقتصر على وضع البيض في مواجهة البنغال، وإضافةً إلى ذلك، ثمة روابط متشابكة تجمع البيض والسكان من الأقليات وتميِّز بينهم بطريقة معقَّدة، لا سيما من النواحي الدينية: فتلك المنطقة تحتوي على كاثوليكيين، وإنجيليين وغيرهم من البروتستانتيين، ويهود، وأنواع عدة من المسلمين.

ولم يَرِد كذلك ذكر التحسُّن الملحوظ الذي طرأ على مجالَي الخدمات والتعليم في تاور هاملتس، حتى إن مخطط الشراكة الاستراتيجية الخاص بالإدارة المحلية للخدمات الاجتماعية كان قد نال الثناء باعتباره «الأفضل في البلاد»، ومُنِحَ كلٌّ من الرقيب الوطني على السلطة المحلية ووكالة التحسين والتطوير تاور هاملتس جائزة لتفوقهما في ميدان «الترابط المجتمعي».

والأكثر إضرارًا من ذلك كان إغفال أدلة دامغة على تمييز المجلس المحلي ضد المهاجرين البنغال، لا سيما في تخصيص المساكن. والواقع أن الشكاوى المقدَّمة ضد المجلس لارتكابه الأعمال التمييزية السابقة، بما في ذلك تخصيص أسوأ المساكن للبنغال، بلغت حد فَتْح لجنة المساواة العرقية تحقيقًا رسميًّا، وإصدارها في سبتمبر عام ۱۹٨۷ إخطارًا بعدم التمييز ضد تاور هاملتس، ولم يظهر لذلك تأثير يُذكَر؛ ففي عام ۱۹۹۱، أصدرت المحكمة العليا إخطارًا بعدم الامتثال ضد المجلس، وقد وَرَد، بالمثل، ذكر جرائم قتل عنصرية للبنغال، لكن لم يُترجَم هذا في صورة أي مناقشة جادة للكفاح الطويل الذي خاضه البنغال لمجرد التمكُّن من السير في شوارع تاور هاملتس بقدر يسير من الأمان.

ومن المدهش بحق ألا يُولَى اهتمام يُذكر لحقيقة أن جزءًا كبيرًا جدًّا من النقص في المساكن التابعة للمجالس — المسبب الرئيسي للصراع المحلي — ارتبط إلى حد بعيد ببيع المساكن الحكومية في ظل سياسة «حق الشراء» التي تبنَّتها السيدة تاتشر، التي طُرِحَت في تاور هاملتس عام ۱۹٨۰؛ فقد بدَّلت تلك السياسة نمَط استئجار المساكن. في سبعينيات القرن العشرين، كان ثمة ما يقرب من ٤۰ ألف مستأجر للمساكن التابعة للمجلس في تاور هاملتس، تصحبهم ۲۰ ألف أسرة أخرى. وبحلول عام ۲۰۰۰، كان «حق الشراء» قد خفض عدد المساكن المستأجرة من المجلس إلى ۲۰ ألفًا. وفي رواية «إيست إند الجديدة»، يؤخذ بهذا النقص المتنامي في الموارد العامة أمرًا مسلّمًا به دون أي دراسة لسبب وجود مثل تلك الندرة الحادة.

لقد تكررت قصة «إيست إند الجديدة» بجميع أنحاء البلاد، واستتبعت سياسات «حق الشراء» — كما أشار ستيف جارنر — أنه على الصعيد الوطني، ارتفع مستوى ملكية المنازل في الفترة ما بين عامي ۱۹۷۱ و۲۰۰۲ من ٤٩٪ إلى ٦٩٪، إلا أن نسبة الأُسَر التي تستأجر المساكن التابعة للمجالس هبطت من نسبة مرتفعة بلغت ٣٤٪ عام ۱۹٨۱ إلى ١٤٪، ورصدت الأبحاث التي أجراها جارنر وزملاؤه في أنحاء عدة من البلاد شعورًا قويًّا بالضياع والخيانة والإجحاف أخفته في نفسها الطبقات العاملة البيضاء عند تنافسها على المزايا النادرة الممنوحة من الدولة، بصفة خاصة في مجال الإسكان، لكن ليس في مجال الإسكان فحسب.

وتصلنا من جارنر نقطة ما فتئ عدد من المعلقين الآخرين يشيرون إليها بصدد النقاش الكامل حول الطبقة العاملة البيضاء؛ ففي حين تنظر روايتَيْ «إيست إند الجديدة» والحزب الوطني البريطاني إلى البيض على أنهم يخسرون لمصلحة المهاجرين، يذهب جارنر والآخرون إلى أن الطبقات العاملة من البيض والأقليات العرقية تخسر لمصلحة الطبقات العليا والوسطى. ومن المثير للاهتمام أن كيت جافرون، إحدى مُعِدِّي دراسة «إيست إند الجديدة»، اقتنعت الآن بوجهة النظر ذاتها القائلة بوجود حرمان مشترك مقارنة بالطبقات الوسطى، إلا أن الشعور بالإجحاف لدى الطبقة العاملة البيضاء ما زال قائمًا، وسيظل كذلك حتى تُعَمَّم الروايات الأكثر اتزانًا حول الحرمان المشترك بينها وبين مجتمعات الأقليات العرقية مقارنة بالطبقات الوسطى تعميمًا أكثر قوةً وإقناعًا.

(٤) هل الترابط المجتمعي هو المشكلة والحل؟

إن المبادئ والأدلة التي يستند إليها صنع سياسات الترابط المجتمعي على الصعيد الرسمي لم تجتَز التمحيص النقدي على نحو طيب.

لكن كيف يمكن على أي حال تعريف الترابط المجتمعي؟ وكيف يمكن إصلاح فقدان الترابط؟ زادت تحديات عام ۲۰۰۱ إلحاحًا من جرَّاء الاحتجاجات على غزو العراق عام ۲۰۰۳، التي نُسبت إلى حد ما إلى استياء المسلمين الآسيويين البريطانيين من الدولة البريطانية وعدم ولائهم لها، ولا سيما تفجيرات يوليو ۲۰۰٥ في لندن التي ارتكبتها مجموعة صغيرة من الشباب المسلم الآسيوي البريطاني ذي النزعة الراديكالية الإسلامية.

وقد أُنشئت وحدة ترابط مجتمعي في وزارة الداخلية بعد فترة قصيرة من صدور التقرير المسمَّى «بناء مجتمعات مترابطة» عام ٢٠٠٢، ووُضِعَت برامج كاشفة لمسارات الترابط المجتمعي، وأصبح على السلطات المحلية أن تُعِدَّ خططًا للترابط المجتمعي تحدد كيفية تعزيز التواصل الثقافي بين المجتمعات المختلفة وتفكيك الحواجز القائمة بينها، وأُقيمَت مشروعات بحثية ذات صلة بالاشتراك مع تنظيمات خيرية وتطوعية مثل مؤسسة جوزيف رونتري ورانيميد تراست وصندوق التراث واليانصيب.

وقدَّمت شتى الهيئات الحكومية تعريفات عدة متداخلة للترابط المجتمعي، تستند في الأصل إلى دراسات أكاديمية أجراها فورِست وكيرنز. ويُدرِج توجيه حديث للسلطات المحلية (۲۰۰٦) الملامح الثلاثة التالية باعتبارها تشكِّل الترابط المجتمعي:
  • (١)

    وجود رؤية مشتركة وشعور بالانتماء لدى المجتمعات كلِّها.

  • (٢)

    يحظى القادمون من خلفيات متشابهة بفرص معيشية متشابهة.

  • (٣)

    تنمية مشاعر قوية وإيجابية بين الأشخاص من مختلف الخلفيات والظروف، في أماكن العمل والمدارس وداخل الأحياء السكنية.

وما زال العديد من المعلِّقين والباحثين، وإن لم يكن جميعهم، متشككين إزاء الفكر الرسمي بصدد موضوع «الترابط المجتمعي»، وقد رأينا بالفعل أن التشكيك المشروع في درجة الانفصال والانعزال القائمة بين الجماعات العرقية المختلفة أمر وارد.

علاوة على ذلك، ثبت أن النزعة المجتمعية التي تستند إليها المقترحات الحكومية، والاعتماد الرسمي المفرط على نظرية رأس المال الاجتماعي، ومشروعية شعور الطبقة العاملة البيضاء بالإجحاف، مشكوك فيها بقوة كأسس لدعم أجندة الترابط المجتمعي.

وإضافةً إلى ذلك، توجد ثلاثة مواطن ضعف رئيسية في أجندة الترابط المجتمعي:

أولًا: وربما يكون ذلك النقد الأكثر انتشارًا الموجَّه إلى السياسات الحكومية؛ أنها تكتفي بالكلام فقط عن مسألة أوجه التفاوت الطبقي المشتركة بين الأقليات العرقية ومجتمعات الطبقة العاملة البيضاء التي تعيش على مقربة جغرافية شديدة من الأقليات العرقية. وعلى الرغم من الذكر الدائم في الوثائق الحكومية لأهمية تكافؤ الفرص المعيشية، فإنها لا تتعرَّض كثيرًا لكيفية التغلُّب على عدم تكافؤ الفرص، ولم تُقَدَّم مقترحات جادة تستهدف إعادة التوزيع الشامل للثروة والدخل.

وكما توضِّح جميع الأبحاث، لا سيما استجابةً لأفكار بوتنام المتعلقة برأس المال الاجتماعي، تقع أدنى مستويات الثقة بين المجتمعات والثقة في الحكومة في المناطق الأكثر فقرًا. وفي حين أن مخططات التجديد المحلي مفيدة، من الواضح أنها بحاجة إلى العمل بالتوازي مع سياسات تستهدف إعادة التوزيع، علمًا بأن الفترة بدءًا من ثمانينيات القرن العشرين شهدت زيادةً صارخة في تفاوت الدخول والثروة وتباطؤًا في معدلات الحراك الاجتماعي الصاعد.

ويكمن أحد المؤشرات الدالة على زيادة التفاوت وعلى خصخصة المزيد من المساحات الحضرية القابلة للاختراق، في تكاثر الأحياء المسيَّجة؛ إذ يشيِّد الأغنياء مساكن وسبل ترفيه فاخرة، تحميها تدابير أمنية خاصة مشددة. ويكمن المزيد من الانعزال الحقيقي وسلوك «المعايش المتوازية» بين قطاع الأثرياء وما عداه من قطاعات — لا سيما الطبقة العاملة من جميع الانتماءات العرقية — مما يخلِّف عواقب وخيمة على الترابط الاجتماعي وتنامي الشعور بالإقصاء لدى الطبقات العاملة من جميع الانتماءات العرقية.

ويترتب فعليًّا على عدم إحراز تقدم جاد في مسألة أوجه التفاوت الاجتماعي والاقتصادي، وجود ما بات يُدعى «ثقفنة» سياسات الترابط المجتمعي. فعادةً ما تُلام ثقافات الأقليات العرقية والفقراء على فقدان الترابط المجتمعي. وإضافةً إلى ذلك، تتأرجح الخطابات الحكومية بين النظر إلى القواسم المشتركة على أنها ارتباط بالأحياء السكنية وبين «الهوية البريطانية» غير محددة المعالم التي أصبحت مهمة بدورها في النقاشات الدائرة حول الترابط المجتمعي. وهنا أيضًا تتحمل الأقليات وحدها — كما سنرى — وطأة صور التملُّق في الخطاب بغية تمسُّكها بالقيم الوطنية.

وفي حين تتمتع تلك الانتقادات العامة بثقل كبير، فإننا بحاجة إلى التحول إزاء المشروعات البحثية الأكثر تفصيلًا التي فتحت التحقيق في قضايا الترابط المجتمعي على المستويات المحلية، فهي توفر أساسًا أكثر ثراءً يستند إلى الأدلة لتقييم صلاحية الاستراتيجيات المتَّبَعة من أجل المضيِّ إلى ما يتجاوز التعددية الثقافية.

وقد نفَّذت ماري هيكمان وزملاؤها أحد أفضل تلك المشروعات؛ إذ بحثوا في مناطق تقع في مدن إنجليزية وأيرلندية واسكتلندية. ويدعم بحثهم بقوة الرأي القائل بالأهمية المحورية لكل من القضايا والمبادرات «الترابطية» و«الهيكلية» بالنسبة إلى نشأة الترابط والتضامن بين المجتمعات، واتضح خطأ الرأي القائل إن المسألة تقتصر على معالجة الحرمان الهيكلي، الذي يتمثل في: نقص الموارد المحلية والبطالة والفقر وما إلى ذلك، كما أشار العديد من نقاد سياسات الترابط المجتمعي. فلا يوجد اتصال مباشر بين الحرمان وضعف العلاقات المجتمعية.

ففي بعض المناطق — على سبيل المثال — لم يتعرَّض الوافدون الجدد والمهاجرون القدامى إلى الاستقواء والتحرش العنصريَّين؛ فقد كانت الظروف والثقافات المحلية ذات أهمية محورية. فمن ناحية، حظيت بعض المناطق بتراث محلي قوي قائم على فكرة أن الجميع من «الجوار» ومتجانسون ثقافيًّا (على عكس غيرها من المناطق المحلية التي كانت قد كوَّنت تصوُّرًا قائمًا على تضمُّن المنطقة «أشخاصًا من هنا ومن مناطق أخرى»). وعملت النزعة المحلية ضد تكوين علاقات جيرة ودِّية مع الوافدين الجدد المختلفين عرقيًّا. ومن ناحية أخرى، أظهرت تلك الثقافات المحلية المنعزلة قدرة على تحويل مواقفها وسلوكها في أعقاب مبادرات حساسة ومدروسة بعناية اتخذتها الهيئات المحلية.

وثمة سياسات عدة مميزة على تلك الشاكلة؛ أولًا: حيثما صاحب وصول الوافدين الجدد توفير موارد إضافية عادت بالنفع على جميع المجتمعات، باتت المواقف المتَّخذة من المهاجرين أقل عدائية وأكثر استيعابًا لهم، واسْتُغِلَّت الموارد الجديدة في توفير معلومات أفضل وفي «القضاء على الخرافات» المتعلقة بفرق التمويل بين المجتمعات. وثانيًا: استطاعت السلطات المحلية التي أوجدت مساحات ترفيهية وغيرها من المساحات للتفاعل بين المجتمعات أنْ تحسِّن العلاقات الاجتماعية. وثالثًا: الهيئات المحلية — التي اختصَّت بالعمل مع مجموعات مثل النساء من أجل تحسين الوصول إلى الموارد بالنسبة إلى جميع المجتمعات — هدَّأت مشاعر العداء وأحدثت تغييرات في اتجاه إقامة علاقات أفضل مع الجيران الجدد.

وإضافةً إلى ذلك، أتاحت المنتديات التي أُنشئت بغرض إتاحة المناقشة الأكثر حرية للمواقف الصعبة القائمة بين العرقيات خفض حدة التوترات بدرجة أكبر. في ليستر، أدَّى هذه الوظيفة الفريق الاستشاري للتعددية الثقافية الذي يعمل على نطاق المدينة، والأهم أن هذا الجهاز تضمَّن فرع هيئة الإذاعة البريطانية في ليستر والصحيفة المحلية واسعة الانتشار «ليستر ميركوري».

وتقدِّم ليستر نموذجًا مثيرًا للاهتمام في إدارة «التنوع الفائق» المستجد؛ فقد أدَّى وصول الصوماليين — المنتمين عادةً إلى الطبقة الوسطى في الأصل الذين كانوا قد استقروا في هولندا والدنمارك في البداية — إلى منطقة هايفيلدز ذات التنوع العرقي الكبير إلى نشأة عداء ظاهر بين الشباب الصومالي والشباب المستقرين بالفعل ذوي الأصول الأفريقية الكاريبية، وعُبِّئَت المبادرات في مدارس ليستر وغيرها من الأنحاء، لكنَّ جزءًا كبيرًا من نجاحها يُعزى إلى أن المجلس المحلي كان قد وظَّف بالفعل أعدادًا كبيرة من الأقليات العرقية التي كان لديها القدرة على القيام بدور الوسيط.

ويُبرز هذا النموذج أيضًا تحوُّلًا مهمًّا في المنظور شجَّعه تقرير البحث، فلا يقتصر الأمر على «رد فعل عنيف أبيض» فحسب، لا سيما ضد الهجرات الجديدة، وإنما كانت الجاليات المستقرة منذ زمن طويل من جميع الخلفيات العرقية، بما في ذلك الكاريبيون الأفارقة والآسيويون، هي التي تحنق على الوافدين الجدد، سواء أكانوا سودًا، كما في حالة الصوماليين، أم بيضًا، كما في حالة المهاجرين الأوروبيين الجدد من بولندا وغيرها من البقاع. ولاحظ أيضًا أن البحث كشف عن اتجاهات عنصرية لدى المهاجرين البيض الجدد من أوروبا الشرقية إزاء السود والآسيويين، وهو ما كان يعالَج بدوره في ليستر، لا سيما على صعيد المدرسة.

ومن المثير للاهتمام، في ضوء التعليقات الساخرة الكثيرة الصادرة عن ناقدي المشروعات على غرار المهرجانات الثقافية وغيرها من الأنشطة الثقافية المشتركة، مثل تعاون النساء في الصناعات اليدوية والنسيج، أن تلك المشروعات ثبت أنَّها تخلِّف آثارًا مفيدة بصفة عامة. فالنقد الموجَّه إلى «ثقفنة» سياسات العلاقات العرقية يمكن التمادي فيه أكثر من اللازم.

ثمة أمور عديدة أخرى ذات قيمة في نتائج ذلك المشروع البحثي، إلا أنني أود أن أكرر الاستنتاج الذي خلص إليه الباحثون، ومفاده أن كل منطقة محلية تتسم بخصائص متفرِّدة، وهو ما أثبتت صحته أيضًا الأبحاث التي أجراها ليز باك في لندن. لذا فليستر ليست بالضرورة نموذجًا يُحتذَى، بمعنى أنه لا بد من نسخ المبادرات التي اتخذتها في كل مكان. ولا يوجد شك كبير كذلك في أن هناك مشاعر عدائية باقية ذات صبغة عرقية في ليستر أكبر بكثير مما أقرَّه البحث.

ويجدر التذكير أيضًا بأنَّ المشروعات القائمة بين المجتمعات تواجه صعوبات كبيرة في التوفيق بين الاحتياجات والتوقُّعات والخبرات المتباينة التي ازدادت قوتها على مدى فترات طويلة من الزمن، وتتطلب مثل تلك المشروعات صبرًا ورؤى بعيدة النظر. وقد حذَّر المشاركون في مثل تلك المشروعات، مثل أليسون جيلكريست التي تعمل في مجال الخدمة المجتمعية، من السياسات الحكومية القائمة على الأهداف والنتائج السريعة.

ومن الواضح أنه لا يوجد إطار بسيط موحَّد وحزمة من الممارسات يمكنها أن تقدم حلولًا لمعضلات تنمية «الترابط المجتمعي»، ويترك الغموض العام للمفهوم ذاته حيزًا كبيرًا للتنوع والارتجال المحلي.

كان من المشجِّع رؤية فكر حزب العمل الجديد إبان سنواته الأخيرة وقد طفق يتناول ذاك النوع من الاستنتاجات التي خلص إليها البحث المحلي الذي أجرته هيكمان وزملاؤها، ومن ثم يمكن إيجاد نهج رسمي أكثر تطورًا في تقرير «مستقبلنا المشترك» (۲۰۰۷) الذي صدر استجابةً لتفجيرات لندن التي وقعت في يوليو عام ۲۰۰٥، فقد أبدت تلك الوثيقة تفهُّمًا جادًّا لأهمية السياقات المحلية، مؤكِّدة على عدم إمكانية وصف استراتيجية واحدة لجميع الأحياء السكنية، وعلى أنه من ثم لا توجد علاقة ارتباطية تلقائية بين الحرمان واندلاع الأعمال العدائية بين العرقيات؛ فعادةً ما يكون لدى المناطق التي تعاني مستويات مرتفعة من الصراع قضايا متعددة تواجهها، لا سيما التركيبة المكوَّنة من التوافد السريع للعمال الجدد في منطقة تتسم بانخفاض فرص العمل ونقص المساكن. وترحب الوثيقة بتعدد الهويات التي يحملها الأفراد الآن، مكوِّنين روابط متشابكة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤