الفصل السابع والعشرون

كشف السرَّ

فاتكأ كل منهما على سريره والسريران متقابلان وفي الغرفة شمعات مضيئة على مائدة وقد هدأَ الليل واستولى السكوت على ذلك الصرح لذهاب الناس إلى منامهم إلَّا ما كانوا يسمعونهُ من صهيل خيول في معسكر حاشية جبلة عن بعد.

فبدأ جبلة بالكلام قائلًا: «عهدت إليك مهمة منذ أيام وكنت أتوقع قدومك إلينا بخبر إتمامها فأبطأت حتى استبطأَ الحارث جوابي فجاء يستعجلني فيهِ وقد آنست منهُ تغيرًا لما كان يتوقعهُ من سرعة الإجابة خصوصًا بعد ما سمعهُ من قدوم هؤُلاء العدنانيين فانهُ يرى التعجيل في الاقتران قبل وصولهم.»

فأحست سعدى بما جرَّتهُ على نفسها من المشاق بما أكدت لهند من الوعود فترددت برهة في الجواب.

فابتدرها جبلة قائلًا: «ما بالك لا تجيبينني ألعل في الأمر مندوحة للتردد.»

قالت: «لا أَعلم ذلك ولكنني اعلم أن هندًا لم ترصحة منذ ذكرت لها هذا الأمر.»

فقال: «وماذا كان جوابها.»

قالت: «لا سلبًا ولا إيجابًا.»

قال: «إذن هي راضية.»

قالت: «لا يدل السكوت على الرضاء في كل حال.»

قال: «وقد بغت وماذا إذن العلك فهمت ما يدل على الرفض.»

قالت: «لا أدري … ولعلي مخطئة في ظني.»

فقال وقد استغرب جوابها: «قولي أفصحي فإني أرى وراء توقفك ما يأول إلى خطر جسيم.»

فقالت: «وأي خطر تخافهُ.»

قال: «ألا تعلمين أن رفض هذا الأمر يأول إلى نفور بيننا وبين الحارث.»

فقالت: «وهي تتجاهل مراده وأي علاقة بين الأمرين أيكون الزواج قسرًا.»

فهبَّ من مجلسهِ وقد زاد استغرابًا وقال: «أبلغَ من هند أن ترفض ما اختاره لها والداها.»

قالت: «لا تقل (والداها) بل قل (والدها) فقط.»

فحملق وقال وقد علا صوتهُ: «العلك مجارية لها على قحتها يا سعدى.»

فأجابتهُ بصوت خافت قائلة: «لا لم أجارها في شيء ولكنني خفت عليها الموت فإذا كنت ترى أن تجود بهند فريسة لذلك الرجل زوَّجها بهِ.» قالت ذلك وأطرقت وقد شرقت بدموعها.

فبهت جبلة عند سماع تلك العبارة ولبث برهة يحسب نفسهُ في منام ثم قال: «وماذا تعنين يا سعدى أَلعلك تتكلمين عن ثقة.»

قالت: «لم اذكر لك إلَّا ما تحققته بعد جدال طويل وإذا كنت لا تصدق مقالي فهذه هند ادعها إليك وخاطبها وجهًا لوجه فقد نفذت حيلتي فيها.»

فرجع جبلة إلى صوابهِ وتذكر حبهُ هندًا وما يعجب بهِ من شهامتها وتعقلها ولكنهُ ما زال على ما يخافهُ من عواقب ذلك الرفض فقال لها: «ادعيها إليَّ لأخاطبها واسمع اعتراضها.»

فوقفت سعدى وهمت بالخروج إلى غرفة هند ولكنها علمت أن مجيئها وجبلة في حال غضبهِ قد ينتهي إلى عاقبة وخيمة فرأت من الحكمة أن تخفف من غضبهِ وتهدئَ روعه قبل مجيئها فتقدمت منهُ والدموع ملءُ عينيها وقالت: «ها أني ذاهبة لاستقدامها ولكنني أنبهك إلى أمر أرجو أن لا يبرح من بالك.»

قال: «وما ذلك.»

قالت: «أنت تعلم شهامة هند ورقة إحساسها وخصوصًا بعد ما عانتهُ من الضعف على أَثر حديثي معها بشأن ثعلبة وتعلم أيضًا أن ثعلبة كما نعرفهُ نحن ليس كفوءًا لها مع ما خبرناه من خساستهِ وغدره ولا تظنهُ يحبها بل هو يريد قتلها فإذا علمت ذلك تدبر الأمر بالحكمة وخاطبها بالحسنى ولا تطمع في إكراهها لئلَّا تسوقها إلى حتفها فنندم حين لا ينفعنا الندم فمن الحكمة أن نأخذها بالين والمطل ريثما نتغلب على عواطفها.»

فقال جبلة: «لقد نطقت بالصواب ولكنني لا أراني قادرًا على التخلص من شرَّ أَتوقعهُ بسبب ذلك على أني لم أفهم سبب رفضها إياه وهو ابن عمها ولا اعرف في غسَّان من هو اقرب نسبًا منهُ ولا أليق بمقامها فما سبب هذا البغض.»

قالت: «أما كرهها لهُ فسببهُ دناءَتهُ وخساستهُ فقد عاشرتهُ أعوامًا طوالًا فلم تجد فيهِ شيئًا من أنفة الرجال وكرم أخلاق بني غسَّان وطالما حدثتني بذلك عنهُ منذ أعوام وكثيرًا ما كنا نذكر سيئاتهِ بحضورها فلا يسعنا بعد ذلك إقناعها بنزاهتهِ وكرم أخلاقه.»

فقال جبلة: «لا أنكر عليك ذلك يا سعدى ولكنك تعلمين ما بيننا وبين ابن عمنا الحارث من المنافسة المستترة برداء القرابة تحت ظل المجاملة ولا ريب عندي أن رفض طلبهِ يجرُّنا إلى حرب ونحن في حال تدع إلى اجتماع الكلمة لما سمعنا من أخبار الحجاز.»

فقالت: «أني موافقة لك على ما تقول ولكنني على ثقة مما قلتهُ لك وأقوله أيضًا وهو أن إصرارنا على اقترانها بثعلبة يقودنا إلى ما نندم عليهِ ساعة لا ينفعنا الندم فهي لا تحبهُ ولا ترضاه ولا يمكن أن ترضاه فهل يهون علينا أن نخسر هندًا وهي ثمرة حياتنا ومرجع آمالنا أَنضعها بين يدي ذلك الجبان الخسيس وهو لا يحبها.» قالت ذلك والدموع تتناثر من عينيها.

قال: «أراك واثقة بعدم حبهِ لها ولو كان كذلك لم يطلبها.»

قالت: «أنا متحققة ذلك مما سأقصهُ عليك في فرصة أخرى اما الآن فإني داعية هندًا إليك لتسمع كلامها شفة لشفة والتمس منك أن ترفق بعواطفها ما استطعت لأن العنف لا يجدينا نفعًا.»

قالت ذلك وخرجت والمصباح بيدها حتى أتت غرفة هند فرأَت الباب موصدًا وآنست في الغرفة صوتًا فأصاخت بسمعها فسمعت بكاءً يتخللهُ شهيق فعلمت أن هندًا تبكى فطرقت الباب ونادتها باسمها فأبطأت قليلًا ثم فتحتهُ فأَدنت سعدى المصباح من وجه هند ونظرت إليها فإذا هي ذابلة الأجفان محمرة العينين كاسفة البال فانفطر قلبها لذلك المنظر المريع فوضعت المصباح على الأرض وهمَّت بها وجعلت تقبلها ودموعها تتساقط حنوًّا وشفقة وهي تقول: «لا تبكى يا ابنتي لا تبكى ولا تحزني فلا يكون إلَّا ما يسرك.»

فقالت: «كفاني يا أماه تعزية ومسايرة فقد سمعت غضب والدي بأذني.»

قالت: «وما الذي أسمعك كلامهُ وأنت هنا.»

قالت: «مررت بالباب فسمعتهُ ينهرك وهو مصرٌّ على قولهِ وما ذلك إلَّا لتعاستي فإذا كان لا يزال على عزمه فاستودعك الله.» قالت ذلك وعادت إلى البكاء.

فقبلتها سعدى وقالت: «لقد أخطأَ ظنك يا هند فان والدك يكاد يسلم معي برفض ثعلبة وهو إنما ينتظر مخاطبتك في شأنهِ ليسمع الجواب من فيك فهيَّا بنا إليه فإنهُ ينتظرنا في الغرفة.» وأرادت سعدى أن تدخل على زوجها بهند وهي باكية لعلهُ يرقُّ لها فيجاريها على مرامها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤