السيدة والكلب

هذا الفيلم درة من درر السينما السوفييتية؛ إذ إنه عُرِض سنة ١٩٦٠م إبان وجود الاتحاد السوفييتي، وقبل أن يتقلص الآن ليصبح الاتحاد الروسي. وترجع أهمية هذا الفيلم بصورة أساسية إلى أنه مأخوذ عن قصة للكاتب الروسي العظيم أنطون تشيكوف، وإذا كان الكُتَّاب الروس في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين قد خرجوا من «معطف جوجول»، فإن كُتَّاب القصة القصيرة بصفة عامة — بما في ذلك في مصر — قد خرجوا من معطف تشيكوف، ولا يزال جيلي يذكر الأمثلة القصصية الرائعة لتشيكوف، والتي تتلمذنا عليها في دراسة ونقد فن بناء القصة وتطورها ونسيجها المحكم.

وعنوان الفيلم الصحيح هو: «السيدة صاحبة الكلب الصغير»، وإن كان العنوان الآخر المختصر قد شاع كترجمة لهذه القصة وهذا الفيلم، وقد أنتج الفيلم وأخرجه وكتب السيناريو له «جوزيف هايفيتز» وقام بدور البطلين فيه «إيا سافينا» و«إلكساي باتالوف». وأهم ما يتميز به الفيلم هو الحرفية الفنية البارعة التي نجح بها كاتب السيناريو والمخرج في نقل روح تشيكوف ونصه أيضًا إلى الشاشة الفضية ذات الوسيط الفني المختلف؛ فنحن إذ نتابع مَشاهِد الفيلم وأحداثه نخرج بنفس الانطباع الذي تتركه فينا مطالعة هذه القصة الشائقة، بل ونسمع معظم ما ورد فيها من حوار.

وتعكس القصة، التي كتبها تشيكوف عام ١٨٩٩م، الموضوع الذي شغل بال الكاتب وعمد إلى تصويره في أكثر أعماله الفنية من قصص وروايات قصيرة ومسرحيات، وهو حالة الاضمحلال والركود والضجر التي سادت المجتمع الروسي في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، وقد برع تشيكوف في تصوير ما اتصفت به الحياة والناس في ذلك الوقت من بلادة وخمول، وإن كان دائمًا ما يبشِّر بأمل البعث والميلاد الجديد، وخاصة في مسرحيتيه «بستان الكرز» و«الشقيقات الثلاث».

وفيلمنا مثال على ذلك، وهو يبدأ في الثغر الروسي «يالطا» منتجع يؤمُّه سراة القوم للاصطياف والاستشفاء. ونرى البطل ديمتري يقضي هناك فترة إجازة مملة، تماثل حياته في العاصمة موسكو؛ فهو موظف في بنك في منتصف العمر، ولا يشعر بالسعادة في زواجه التقليدي الذي أثمر ثلاثة أطفال. ويقطع هذا الملل متابعته سيدة تخطر على الشاطئ كل يوم مع كلبها الصغير، فيستغل ديمتري ملاطفته للكلب كي يتعرف على السيدة التي نعرف عنها أن اسمها «آنَّا» وأنها تصطاف وحدها أيضًا، وتنشأ بينهما علاقة حب ودود، وتقع هي في غرامه شيئًا فشيئًا رغم إحساسها بالذنب وخشيتها البريئة من احتقار ديمتري لها، ونعرف أنها هي الأخرى قد تزوجت زواجًا تقليديًّا، وتعيش في مدينة ساراتوف مع زوجها الذي لا تشعر بطعم الحياة ولا الحب معه، وهي لا تعلم بالضبط العمل الذي يمارسه زوجها، رغم تكرارها أنه مجرد متسلق متزلف للآخرين. ثم يقدم لنا الفيلم العاشقين وهما يقومان بسلسلة من النزهات الخلوية، يتضح منها مدى التوافق العاطفي والنفسي الذي يجمع بينهما، ويعزز المخرج تلك الفكرة بمشاهد رائعة لجمال الطبيعة وانسجامها، من جبال وسحب وأمواج هادرة، تصاحبها موسيقى تنقل للمُشاهِد نفس الإحساس.

وحين يعود ديمتري إلى موسكو، وينخرط مرة أخرى في سلك الحياة التقليدية الضجِرة الرتيبة، يكتشف أن تلك المغامرة العاطفية التي ظن أنها مجرد علاقة عابرة قد نمت وتمكَّنت من فؤاده، وعمَّقت إحساسه بتفاهة الحياة الزائفة التي يحياها، والتي تنحصر في المحادثات والمجاملات الروتينية المتكررة، والتطلعات البورجوازية القاتلة للأحاسيس الرقيقة والعمق العاطفي تجاه الحياة والجمال، ويقتله الإحساس بالعقم وبأنه يعيش في سجن وراء قضبان، وتتراءى له دائمًا صورة «آنَّا» وأيامه معها التي امتلأت بالشعور الحقيقي بالحياة، والتي أحسَّ معها بالحب لأول مرة في حياته. ويدفعه شوقه إلى زيارتها في مدينتها الصغيرة، حيث يلقاها في مسرح المدينة فيتحادثان خفية، وتعترف له بأنها هي الأخرى لا تستطيع أن تنساه، ويتواعدان على اللقاء في موسكو كلما سنحت لها الفرصة بزيارتها ملتمسة بذلك الأعذار لزوجها. ونراهما بعد ذلك في أحد لقاءاتهما في فندق بالعاصمة، حيث يجتاحهما شعور بأن هذا اللقاء سيكون الأخير بينهما؛ إذ إنها لا تستطيع الاستمرار في اختلاق أعذار جديدة للسفر، وتقول له أشهر جملة في القصة: «ما نحن إلا كطائرين عابرين، أرغموهما على البقاء في قفصين منفصلين، وسيبقيان هناك حتى يطويهما الموت»، أما هو فيقول إنه واثق أن هناك حلًّا ما لمشكلتهما، وأن هذا الحل يمكن أن يكون قريبًا في متناول اليد، ولكن الفيلم ينتهي بنغمة متشائمة رغم الأمل الماثل دائمًا؛ إذ نرى البطلين يطلَّان من النافذة فيرتسم وجهاهما وراء مربعات النافذة كأنما هما وراء قضبان القفص الذي أشارت إليه «آنَّا»، ثم تبقى وحدها تنظر إلى ديمتري يحييها مودعًا برفع قبعته وسائرًا نحو المجهول. وهذا الانتقار إلى الوصول إلى حل للحالات المعقدة التي تواجهها الشخصيات صفة أصيلة متكررة في قصص تشيكوف ومسرحياته؛ إذ إنه كان يؤمن بأن واجب الفنان لا يكمن في حل المشكلات، بل في «تصوير المشكلة تصويرًا صادقًا صحيحًا» كما أن تشيكوف لا يعمد إلى إصدار أحكام على شخوصه، مثل آنَّا وديمتري، فهو يقول: «يجب ألا يصدر الفنان أحكامًا على الشخصيات التي يكتب عنها، بل يكون مجرد شاهد عدل». وقد أبدع المخرج في نقل كل فلسفة الكاتب الفنية في هذا الفيلم، وقد ذكر مرة في مقابلة صحفية له: «لقد تعلَّمت من تشيكوف كيف يكون الفن إنسانيًّا» ولا عجب إذن أن ينال الفيلم جائزة خاصة في مهرجان «كان» عام ١٩٦٠م بسبب «إنسانيته الرفيعة وامتيازه الفني».

وفي النهاية، تجدر الإشارة إلى مكان هذا الفيلم في إطار السينما السوفييتية بوجه عام، فهو ينضوي تحت تلك المجموعة من الأفلام ذات القيمة الفنية المتميزة التي تم إنتاجها في الفترة التي تلت عام ١٩٥٦م، حين خرجت روسيا من ظل حكم ستالين الخانق، الذي تحوَّلت السينما فيه إلى أداة دعائية عقائدية محضة، واختفى منها الجانب الفني الخلَّاق، وقد ظهرت في المرحلة الجديدة معظم الأفلام الفنية المتميزة مثل «عطيل»، «روميو وجولييت»، «نهر الدون الهادئ»، «اللقائق تطير»، «دون كيشوت»، وفيلمنا هذا: «السيدة والكلب». كذلك شهدت تلك المرحلة الإفراج عن الجزء الثاني من فيلم «إيفان الرهيب» للسينمائي العظيم أيزنشتاين صاحب «المدرعة بوتمكين»، والذي كان قد تعرَّض للاضطهاد في الفترة الستالينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤