دنانير

قد لا يعلم القراء أن هذا العنوان هو عنوان فرعي لهذا الفيلم، وأن العنوان الأصلي له هو «هارون الرشيد»، ومن هنا يستبين سبب اعتباري هذا الفيلم من الأفلام الجديرة بالتقدير، بالرغم من أن ذلك الاختيار قد يثير دهشة الكثيرين. وفيلم دنانير يُعتبَر علامة مضيئة في سجل الأفلام التاريخية، خاصة وأنه قد أنتِج عام ١٩٤٠م خلال الحرب العالمية الثانية، حين كانت الإمكانات الفنية في مصر لا تزال في بدايتها، وإن ما عوض عن هذا هو الأشخاص الذين تولوا العمل في الفيلم، وعلى رأسهم أحمد بدرخان الذي كان استوديو مصر قد أوفده لدراسة الفن السينمائي في باريس ثم عاد ليصبح أحد أعمدة السينما المصرية التي أسهم فيها بالكثير من الأعمال المرموقة بدءًا من عام ١٩٣٦م حتى وفاته في عام ١٩٦٩م. ومن أهم عوامل النجاح الفني لفيلم دنانير — في رأيي — مؤلفه وكاتب السيناريو له، الشاعر الكبير أحمد رامي، فقد قام أحمد بوضع قصة درامية محكمة، مستلهمًا فيها حقبة معروفة في التاريخ العربي الإسلامي، هي الخلافة الإسلامية في ظل حكم هارون الرشيد، أشهر الخلفاء العباسيين ممن ازدهرت في عهدهم المدنية الإسلامية ازدهارًا عظيمًا. وقد اختار رامي لدرامته قصة البرامكة وتاريخهم مع الرشيد، ناسجًا في إطارها قصة حب جعفر البرمكي لجاريته المغنية دنانير.

فالفيلم تقع أحداثه في بغداد عاصمة الخلافة العباسية، ويحكي قصة راعية تعيش مع شيخ تبناها في بادية العراق، ويمرُّ بها يومًا جعفر البرمكي وزير الرشيد وهو عائد من رحلة صيد فيغرم بصوتها الجميل ويصحبها معه إلى بغداد حيث يعهد بها إلى إبراهيم الموصلي — أشهر ملحني عصره — حتى تبلغ قمة الغناء والموسيقى، وتصبح دنانير (أم كلثوم) الجارية الأثيرة لدى جعفر (سليمان نجيب) وتبادله حبًّا بحبٍّ بكل إخلاص وتفانٍ، وتغني دنانير بين يدي الخليفة هارون الرشيد (عباس فارس) فيعجب بغنائها، ويرغب في ضمِّها إلى جواريه، ولكن جعفر يعتذر له في أدب لأنه لا يستطيع لها فراقًا، ولكنه يعد بأنها ستتردد على الخليفة كلما شاء أن يستمع لغنائها. ويحيك حسَّاد جعفر دسائسهم حوله ليوقعوا به، وعلى رأسهم زبيدة زوجة الرشيد والفضل بن الربيع حاجبه وأمين الدولة، ويصورونه للخليفة على أنه قد أبطرته النعمة، وأنه يجمع حوله الأعوان والموالي ذوي الأصل الفارسي حتى يتغلَّب بهم على العنصر العربي في الدولة، ويوغرون صدره أكثر فأكثر بإبلاغهم إياه أن جعفر قد تجرَّأ وأطلق سراح أحد أكبر أعداء العباسيين من سجنه دون إذن الخليفة. ويعمل جعفر، وقد أحس بتغير قلب الرشيد تجاهه على الإسراع بالتوجه إلى خراسان واليًا عليها من قِبَل الرشيد، ولكن في الليلة التي كان يستعد للسفر فيها مع جاريته دنانير، يأمر الرشيد سيَّافه مسرور بضرب عنق جعفر كبداية لمذبحة كبرى يقوم فيها جيش الرشيد بالقضاء على أعوان جعفر ومواليه فيما عُرِف بعد ذلك في التاريخ باسم نكبة البرامكة. ويحرم الخليفة ذكر اسم البرامكة بعد ذلك خاصة اسم جعفر، ولكن حبيبته دنانير التي أذهلتها الصدمة تظل على وفائها له، وتتغنى به وبأيامها معه في أطلال القصر الذي شهد حبهما.

وقد كتب أحمد رامي الخطوط العامة للقصة ثم أحالها إلى سيناريو سينمائي بصورة اكتملت لها عناصر درامية تجعلها تماثل مسرحية شكسبيرية أصيلة. فمن المعروف أن شكسبير كان ينتقي معظم موضوعاته من بين قصص تاريخية ثم يعمل فيها خياله وشعره فتستخيل خلقًا دراميًّا عظيمًا، وكذلك فعل أحمد رامي بإفراغ هذه النواة التاريخية في إطار درامي، تأسَّس على الصراع بين جعفر ومناوئيه، وهو يرسي منذ البداية الخطوط الأولى للصراع؛ إذ يبين في أنشودة بغداد في أوائل الفيلم كيف يتغنى الناس بجعفر إلى جوار الرشيد، إن لم يكن قبله، حين تنشد دنانير والجنود عن بغداد: «الفضل في جمالها لجعفر، عاش الوزير المؤمن، في عصر هارون الرشيد الزاهر، يحيا ويعتز الوطن.»

ويبني المؤلف على هذا الموضوع، فيقارن دائمًا بين الشخصيتين، مصورًا مدى النفوذ الذي وصل إليه جعفر في ذلك الوقت، إلى أن يبلغ الذروة الدرامية بقرار الرشيد تصفية البرامكة. ويستخدم رامي الوسائل الشكسبيرية ببراعة تامة، وإن يكن باختصار شديد، مثل التعليقات الجانبية من شخوص الرواية بما يشعرون أو يعتزمون فعله، والمناجاة الفردية مثل خطاب جعفر لنفسه قبل مصرعه. كذلك يصور الفيلم ثورة الطبيعة في ليلة نكبة البرامكة، وهي لمسة شكسبيرية معروفة عنه. والمشهد الذي تبثُّ فيه زبيدة الشك في صدر الرشيد ضد جعفر وآله يذكِّرنا بياجو وهو يبثُّ الشك والغيرة في صدر عطيل ضد زوجته ديدمونة. ويستخدم رامي أيضًا عنصر التخفيف الكوميدي الذي نراه دائمًا في مآسي شكسبير، وجاءت في الفيلم العربي في شخصيتي مهرج الخليفة (عباس كامل) وأبي نواس (فؤاد شفيق) بظرفهما ومجونهما ودعابات الرشيد معهما، وقد جاء كل هذا في لغة عربية من الفصحى السهلة الجزلة التي لا يشعر سامعها بأي جهد في تقبُّلها واستيعابها، مع دقة في اللفظ العربي السليم وحركات الإعراب المضبوطة التي قلَّ وجودها الآن.

وإني لأذهب إلى القول بأنه لو كان أحمد رامي قد واصل هذا الخط من التأليف، وطوَّره إلى مجال المسرحيات الشعرية، لكان قد أصبح له باع طويل في هذا الفن الذي بدأه حديثًا أمير الشعراء أحمد شوقي، وتبعه العديد من الشعراء المحدثين كعزيز أباظة وصلاح عبد الصبور وفاروق جويدة، ولعلَّ سبب ترك رامي لذلك الخط هو عدم نجاح الأوبريت الشعري التمثيلي «عايدة» الذي ظهر في فيلم أم كلثوم الذي يحمل نفس الاسم.

وفيلم دنانير هو مثال بين أيدينا على الطريقة الناجحة لتقديم أفلام مستمدَّة من تاريخنا ومن تراثنا الأدبي، فعلى الرغم من ضعف الإمكانيات بمقارنتها بالتقدم الفني الحالي، جاء الفيلم متوافقًا تمام التوافق مع الواقع التاريخي لتلك الفترة، وما من شك في أن أحمد رامي وأحمد بدرخان قد بذلا كل جهد لتوثيق الوقائع والأحداث للفيلم حتى لا يحتوي على أية مخالفات تاريخية، وقد نجحا في ذلك إلى حدٍّ كبير، لدرجة أننا لا نرى فيه أي تعارض يُذكَر مع كل ما جاء — مثلًا — في الكتاب الجامع المانع الذي وضعه الأستاذ أحمد أمين عن هارون الرشيد، وأصدرته دار الهلال عام ١٩٥١م (والذي تجب إعادة طبعه الآن لعدم توافره في المكتبات)، اللهم إلا تغيير في أحدوثة يحيى بن عبد الله العلوي، عدو الرشيد، كذلك ليس هناك من مفارقات تاريخية، إلا إذا احتج علينا أحد المتكلفين قائلًا إن دنانير قد شدت أمام الخليفة بقصيدة «قولي لطيفك ينثني عن مضجعي» مع أنها من تأليف شاعر تراثي هو الشريف الرضي الذي عاش بعد عصر الرشيد بقرنين من الزمان! وهذا طبعًا على سبيل التفكُّه.

وقد قدم الفيلم شخصيات معروفة في بلاد الرشيد، مثل البرامكة، والشاعرين أبي نواس وأبي العتاهية، ومسرور السياف، وصوَّر بلاط الرشيد ومجالسه عند استقبال وفود شارلمان، ومجالسه في الغناء والطرب، ونوادره مع جلسائه، على أحسن ما يكون التصوير، حتى ليحس المُشاهِد أنه قد انتقل حقًّا إلى تلك الفترة من فترات التاريخ، بل إن الفيلم يحتوي على مَشاهِد ومقاطع وعبارات مثبَتة تاريخيًّا، وترِد في الفيلم في مكانها المضبوط من الحدث الدرامي، ومنها أشعار معروفة لأبي نواس، ومثل أبيات — نسبها الفيلم لأبي العتاهية — وثابتة فيما نقله الحسَّاد للرشيد لإثارة حفيظته على البرامكة، وهي:

هذا ابن يحيى قد غدا مالكًا
معك ما بينكما حد
أمرك مردود إلى أمره
وأمره ليس له رد
ولا يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد

وكذلك رد دنانير على الرشيد حين دعاها لقصره بعد مصرع جعفر، حين أجابت: «عاهدت نفسي ألا أغني لأحدٍ من بعد جعفر.»

ويبقى بعد ذلك الحديث عن عظمة التمثيل ودقة التصوير والديكور والملابس. فنحن نرى عباس فارس يقدم صورة حقة مقنعة لهارون الرشيد في عظمته، قويًّا في موطن القوة، جليلًا في تعامله مع أفراد بلاطه، مداعبًا في موقف المداعبة، شغوفًا بالمعرفة والشعر والموسيقى، إنسانًا تتصارع في صدره عواطف ودِّه وامتنانه للبرامكة مع خوفه من انتشار نفوذهم، حاسمًا حين يقرر آخر الأمر أن يتخلص منهم. كذلك كانت أغاني أم كلثوم الشادية تتخلل الفيلم وتزيد من استمتاعنا به، وهي كلها من نظم أحمد رامي (عدا واحدة) ومن تلحين كبار ملحني المطربة الخالدة: القصبجي والسنباطي وزكريا أحمد.

وأخيرًا، فقد قرأت خبرًا عن الإعداد لفيلمٍ جديدٍ عن هارون الرشيد برؤية مختلفة، ونأمل مع التقدم الفني الهائل في صناعة السينما منذ العام الذي ظهر فيه الفيلم الأول حتى الآن، أن يقدِّم الفيلم الجديد طفرة في تناول هذا الموضوع بما يضارع «دنانير» إن لم يتفوق عليه .

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤