المسئولية والضمير

بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، أثيرت قضية مهمة عن مدى مسئولية الأفراد عن تنفيذ الأوامر الصادرة إليهم من رؤسائهم إذا كانت تتنافى مع القيم والأعراف، بل وتمثِّل أحيانًا خروجًا على القوانين الإنسانية، وتبلغ حد الجرم وانتهاك الحقوق، فما إن استسلمت ألمانيا النازية رسميًّا في مايو ١٩٤٥م، وبدأ الحلفاء في القبض على من بقي من رموزها بعد انتحار هتلر وجوبلز وفرار البعض الآخر، حتى واجهت الدول المنتصِرة مشكلة كيف تتعامل مع هؤلاء الأسرى، وانتصر الرأي القائل بضرورة محاكمتهم محاكمة عادلة على الرأي الآخر الذي كان ينادي بإعدامهم الفوري.

وهكذا انعقدت — لأول مرة في التاريخ — هيئة قضائية دولية لمحاكمة متهمين بجرائم ضد الإنسانية، وبدأت عملها في أكتوبر ١٩٤٥م بمحاكمة «الرءوس الكبيرة» ومنهم جورنج وهيس وروبنتروب والجنرال كيتل. وقد اختار الحلفاء مدينة نورنبرج (التي تُكتَب أحيانًا نورمبرج خطأ) لعقد هذه المحاكمات، في قاعة قصر العدالة، الذي كان من بين المباني القليلة التي لم تتعرض للتدمير الشامل، وثمة أفلام تسجيلية كثيرة عن محاكمة كبار النازيين، ولكن الفيلم الذي تناول قضية المسئولية عن تنفيذ جرائم وأهوال الحرب هو فيلم «الحكم في نورنبرج» الذي أنتجه وأخرجه عام ١٩٦١م المخرج الأمريكي المشهور ستانلي كريمر، وحشد له مجموعة من النجوم اللامعة، منهم سبنسر تراسي وبرت لانكستر ومكسميليان شل وجودي جارلاند ومارلين ديتريش ومونتجمري کليفت وريتشارد ويدمارك.

ويتناول الفيلم محاكمة أربعة من القضاة النازيين المتهمين بتنفيذ السياسة العنصرية النازية بقيامهم بإصدار الأحكام التعسفية والزائفة التي قادت ضحاياهم إما إلى حتفهم وإما إلى معامل التجارب الطبية والعلمية، التي كانت تضع نظرية نقاء العنصر الآري موضع التنفيذ. ويبدأ الفيلم بوصول رئيس المحكمة الأمريكي، ويقوم بدوره سبنسر تراسي إلى نورنبرج وهي لا تزال أنقاضًا بعد غزو الحلفاء لها. ثم تبدأ المحاكمة بقيام المدعي الجنائي — ريتشارد ويد مارك — بتوجيه الاتهام إلى القضاة النازيين بخيانتهم للعدالة وللضمير الإنساني في سبيل إرضاء هتلر وتنفيذ سياسته، بينما دفع محاميهم — مكسميليان شل — التهمة بأنهم كانوا مجرد منفذين للأوامر والقوانين، وأن محاكمتهم هي محاكمة لألمانيا كلها. وكانت مهمة رئيس المحكمة وعضويها الآخرين هي البحث عن الحقيقة، وعن مسئولية المتهمين الماثلين أمامهم، وعلى رأسهم وزير العدل في حكومة هتلر — ومثَّله برت لانكستر — الذي يتعالى على الجميع بمن فيهم زملاؤه، ويصر على الصمت والعزلة.

ويقدم الادعاء شهود الإثبات، ويبدأ بقاضٍ ألماني استقال عشية صدور القوانين العنصرية حتى لا يشارك في تنفيذها، مبينًا بذلك أن الفرصة كانت متاحة لكل صاحب ضمير ألا يشارك في المذابح التي تلت، ثم يأتي بعض ضحايا هؤلاء القضاة، وتتبدَّى معهم قصص ومشاهد رهيبة. يأتي مستر بيترسون — مونتجمري کليفت — ويقصُّ على المحكمة كيف كانت أسرته تعتنق أفكارًا مناهضة للفاشية، ولذلك حين وصل النازيون إلى السلطة في ألمانيا، وأراد أن يستخرج تصريحًا بالعمل أجبروه على المثول أمام محكمة يرأسها أحد المتهمين، أصدرت عليه حكمًا بإجراء عملية تجعله عقيمًا لا ينجب، وكانت حجتهم في ذلك أن أفراد أسرته تبدَّت فيهم علامات «عدم الأهلية العقلية»، وهو زعم ينفيه الضحية نفيًا باتًّا، ويصر على أن الحكم كيدي بسبب انتماءات الأسرة السياسية. وقد أدى كليفت هذا الدور بإعجاز، خاصة حين يطلع الحضور على صورة أمه ويشهدهم عليها: «هل هذا وجه يمكن أن تكون صاحبته بلا أهلية عقلية؟» ثم يعرض الادعاء ما عُرِف باسم قضية فلدنشتاين، فتأتي مسز هوفمان — جودي جارلاند — لتشهد كيف قبضوا عليها حين كانت في السادسة عشرة من عمرها لصداقتها لعجوز يهودي اتهموه بأنه على علاقة بها؛ وتنفي هي التهمة، وترفض ما عرضه عليها جلَّادوها بالبراءة إذا شهدت ضد صديقها الهرِم، ولكن المحكمة آنذاك — برئاسة برت لانكستر — تحكم على الرجل بالإعدام وعليها بالسجن سنتين. وحين يجيء دور المحامي لاستجوابها يشرح كيف أن نورنبرج أيام النازيين كانت قد أصدرت قانونًا يحظر أية علاقات اجتماعية بين الآريين والعناصر العرقية الأخرى، وأنهم قبضوا على مسز هوفمان وصديقها لخرقها ذلك القانون، وأن القاضي — حين أدانهما معًا — إنما كان يطبق القانون الساري آنذاك. ويحاول المحامي أن يضيق الخناق على الشاهدة كي تعترف بأنها كانت ترتبط بعلاقة مع ذلك الرجل — رغم تأكيدها بأنها كانت تحبه كأبٍ ليس إلا — فيهب برت لانكستر ليصرخ في المحامي قائلًا: «کفى، هل سنعيد ما فعلناه مرة ثانية؟» وكانت لحظات حاسمة حين انطلق هذا المتهم الرئيسي يشرح كيف أدى الوضع في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى إلى ظهور النازية التي قدمت ما كانت البلاد تحتاجه لتعويض هزيمتها، وكان من المفهوم أن يؤدي ذلك إلى تجاوزات مؤقتة ضد الديمقراطية وضد الأقليات وضد أمن الأفراد؛ ولكن تلك التجاوزات المؤقتة ثبتت ورسخت حتى أصبحت نمطًا أساسيًّا ونظامًا قائمًا، وأقرَّ بأنه كان قد أصدر حكمه في قضية فلدشتاين قبل مثول المتهمين أمامه، واعترف — رغم احتجاجات دفاعية — بالجرائم التي ارتكبها والجرائم التي ارتكبها زملاؤه المتهمون.

وفي أثناء سير المحاكمة، يحدث تطور سياسي يؤثر فيها تأثيرًا جذريًّا. ففي ذلك الوقت، يتسع الخلاف بين الدول الغربية الثلاث وبين حليفتهم السابقة روسيا التي تعمد إلى فرض حصار على المنطقة الخاضعة للدول الغربية من برلين. وتضطر بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة إلى إمداد المدينة بكل احتياجاتها عن طريق النقل الجوي المتواصل. وتتبدى السخرية القائمة في محاولة القادة العسكريين الإيحاء لرئيس المحكمة في نورنبرج بأنهم الآن في حاجة إلى التفاهم مع الشعب الألماني وإلى دعمه في الحرب الباردة التي كانت تطل بوجهها آنذاك، وأن صدور أحكام قاسية على المتهمين سوف يقف في طريق التعاون المرتقَب مع أعداء الأمس. ويتأثر الجميع بهذا الموقف السياسي المستجَد، حتى ريتشارد ويدمارك ممثِّل الادعاء الذي يطلب في ختام مرافعته أن ينظر القضاة إلى التهم في «إطار المنظور المناسب لها». ويمر رئيس المحكمة بأصعب موقف في حياته حين يتداول القضاة الثلاثة في الحكم، ويجد أن أحد زملائه يرى أن المسئولين عن الجرائم ضد الإنسانية هم كبار معاوني هتلر، أما من هم في الصفوف الأدنى فهم في درجة أدنى من المسئولية. ولكنَّ رئيس المحكمة لا يسمع في النهاية إلا صوت ضميره اليقظ الذي لا يستطيع أن يحيد عنه في ضوء أي ظروف أخرى؛ فيعلن في حكمه أن المحكمة قد رأت «دون ظل من الشك» مسئولية المتهمين عن الجرائم التي ارتكبوها، ويحكم على كل واحد منهم بالسجن مدى الحياة، مؤكدًا أن أي شخص يكون له أي دخل في ارتكاب جريمة هو مجرم في حد ذاته، وأن حكمه ذاك قد جاء تأييدًا للعدالة والحق وقيمة النفس الإنسانية، وينتهي الفيلم بانتصار الضمير الإنساني على كل شيء، رغم تأكيد الدفاع لرئيس المحكمة — بعد ذلك — أن كل المتهمين سوف يُفرَج عنهم في خلال خمس سنين. وتستبين للمشاهدين حقيقة جهماء حين ينتهي الفيلم بعبارة تقول إن المتهمين المحكوم عليهم بالسجن قد أُفرِج عنهم بالفعل قبل انقضاء مدة حكمهم.

وقد تم عرض هذا الفيلم لأول مرة في نورنبرج في إطار دعاية عريضة وحضور معظم ممثِّليه، وقد رُشِّح الفيلم لجوائز أوسكار كثيرة، فاز فيها مكسميليان شل بجائزة أحسن ممثِّل لعام ١٩٦١م. وما يخرج به المتفرج الواعي من مشاهدة هذا الفيلم أن ما يهم في النهاية هو سطوة الضمير، ذلك الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل مهما طغت المبررات والأعذار التي تحيط بأي قضية من القضايا، وتلفُّها بظلالٍ من التمويه والغموض. وكما قال الدكتور كامل حسين: «إن الناس حين يفقدون الضمير لا يغنيهم عنه شيء؛ فالضمير الإنساني قبس من نور الله، لا يكون للناس هدى بغيره، وكل فضيلة تنقلب نقصًا، وكل خير يصبح شرًّا، وكل عقل يصير خبالًا، ما لم يكن للناس من ضميرهم هادٍ» (قرية ظالمة).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤