ثلاثية الفلامنكو

والثلاثية التي نعنيها هي الأفلام الثلاثة التي قدَّمها المخرج الإسباني كارلوس ساورا في الفترة من ١٩٨٠ إلى ١٩٨٦م، والتي ترتبط فيما بينها برباط الاعتماد على الموروث الشعبي الأندلسي المتمثِّل في رقص الفلامنكو وأغانيه وموسيقاه وأشعاره. وهو في إخراجه لهذه الأفلام استعان بعناصر مشهورة عالميًّا، مثل مسرحية لوركا، وقصة كارمن، وموسيقى دي فايا.

وأول أفلام الثلاثية هو «عرس الدم» الباليه المأخوذ عن مسرحية الشاعر فديريكو جرسيه لوركا، أخرجه ساورا عام ۱۹۸۰م، بطولة راقص الفلامنكو الشهير أنطونيو جاديس ولاورا دل سول وكريستينا أويوس.

وقد اختطَّ فيه ساورا تقنية إضافة بُعدٍ وثائقي للفيلم؛ إذ يسبق عرض الباليه نفسه عرض للفرقة التي ستقوم بأدائه وشخصياتها وحواراتهم، وما يقومون به من بروفات. وقد شمل هذا الجانب الوثائقي الحديث عن فرقة جاديس وعنه هو شخصيًّا، ومفهومه للفن وللرقص الشعبي الإسباني. ويقدم الجزء الثاني من الفيلم أداء الفرقة للباليه عن طريق رقص الفلامنكو، وتدور قصته حول حادثة حقيقية وقعت في الريف الإسباني في مطالع القرن الحالي وتناولتها الصحف آنذاك، عن فتاة هربت في يوم عُرسها مع حبيب لها، حيث يطاردهما الأهل في ثورة حول الكرامة والشرف الضائعين، وينتهي الأمر بمقتل الحبيب والعريس معًا.

ويمثِّل نص مسرحية لوركا محاولة الشاعر تحويل واقعة ريفية ميلودرامية إلى عمل درامي فولكلوري. أما باليه جاديس وفيلم ساورا فيمثِّلان محاولتيهما لتحويل العمل الدرامي إلى رقص الفلامنكو التعبيري، وعرضه عن طريق التكنيك السينمائي. والباليه نفسه يتكوَّن من ستة مناظر تتبع النص المكتوب بأمانة؛ فنرى أولًا أم العريس تعاونه على ارتداء بدلة العرس، وتكتشف أنه يحمل خنجرًا كالعادة في الريف فتأخذه منه. ثم ينتقل الفيلم إلى زوجة العاشق، ليوناردو، وهي تهدهد طفلها ثم يحضر ليوناردو (جاديس) ويتشاجر معها بينما يجتاحه الغضب وهو يرى في خياله حبيبته وهي تُزَف إلى رجل آخر. وفي الفصل التالي يصل ليوناردو إلى منزل العرس إذ يبدأ الاحتفال، وهذا أطول الفصول، ويحتوي على مناظر راقصة من فرقة جاديس وفرق شعبية أندلسية أخرى، وترقص العروس مع زوجها الجديد، بينما حبيبها ليوناردو يطوف بالساحة، ويتحين الفرص للرقص معها ثم يصطحبها خارجًا. وفي الفصل الخامس يقود الزوج مجموعة من الرجال لمطاردة العاشقين الهاربين، وحين يلتقي الغريمان أخيرًا، يؤديان رقصة طقوسية بطيئة الحركة تعبِّر عن نذر الموت، تنتهي بأن يطعن الواحد منهما الآخر بينما العروس تمد ذراعيها كأنما تطوِّق الجسدين الصريعين اللذين يرمزان إلى قدرها الذي يصطرع فيه الضدان.

وقد حاز الفيلم نجاحًا كبيرًا في إسبانيا وخارجها، وفاز بجائزة خاصة في مهرجان «كان» عام ١٩٨١م.

فإذا انتقلنا إلى فيلم «كارمن» — الذي عُرِض عام ١٩٨٤م بنفس ممثِّلي الفيلم السابق — نجد أن ساورا قد تقدَّم خطوات في طريق الصراع الدرامي في عمله؛ فالفيلم يقوم على قصة كارمن الغجرية الإشبيلية التي تحيا حياة بوهيمية العواطف على سجيتها العاطفية، فتقع في غرام الضابط خوسيه، وتحرضه على الهرب معها، ويدخلان في مغامرات ومخاطرات تنتهي بهما إلى أسوأ ختام. وحين تناول ساورا هذه القصة، بدأ بداية تشبه البداية في فيلمه السابق؛ إذ قدم فرقة راقصة تستعد لتقديم باليه كارمن على المسرح، وبطل الفرقة يبحث عن الفتاة التي يمكن أن تقوم بدور كارمن على الوجه الذي يريده، حتى يقع على ضالته في شخصية لاورا دل سول. وبعد ذلك يبدأ التداخل الدقيق بين أحداث الواقع وأحداث الرواية التي تحوَّلت إلى باليه، حين تتصادم الممثلة الشابة لاورا مع الممثلة الأكبر سنًّا التي كان من المفروض أن تقوم بدور كارمن في الباليه (كريستينا أويوس) ثم أقصاها أنطونيو عن الدور لعدم صلاحية سنها له. وهذا التصادم يتوازى مع تصادم كارمن في الرواية مع إحدى زميلاتها في مصنع التبغ الذي تعملان فيه صدامًا ينتهي بأن تطعنها كارمن طعنة قاتلة. وبالطبع، تقوم كريستينا الآن بدور غريمة كارمن في الرواية، ويقع أنطونيو في حب لاورا دل سول، تمامًا كما يقع خوسيه في حب كارمن، ولكن الأمر لا ينتهي عند هذا، بل تتداخل الرواية في الواقع، ويختلط الخيال بالحقيقة؛ فإذا بمشاعر أنطونيو تتلبس بها الغيرة من علاقات لاورا برجال آخرين، منهم أفراد ممثلون في فرقة الباليه نفسها وتقع مصادمات ومشاجرات بين العاشقين، تلقيها لاورا جانبًا بإعلانها أنها حرة تفعل ما تريد، تمامًا كشخصية كارمن. ثم يأتي المشهد الأخير معبِّرًا عن قمة الاختلاط والمزج، حين يؤدي أنطونيو رقصة مع لاورا في البروفات النهائية للباليه تنتهي بأن يخرج أنطونيو خنجرًا من صديريته يطعن به لاورا التي تقع على الأرض، وينتهي الفيلم دون أن يعرف المشاهِد إن كان القتل قد حدث حقيقة أو أنه جزء من البروفات، أو أنه حتى جانب من خيال أنطونيو ورغبته الدفينة في الانتقام من لاورا لتعدُّد عشَّاقها مع حبه العنيف لها.

وقد لقي هذا الفيلم أكبر نجاح تجاري لاقاه فيلم إسباني في الولايات المتحدة، كما أنه رُشِّح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي لعام ١٩٨٤م.

ودفع نجاح الفيلمين السابقين ساورا إلى إخراج فيلم ثالث يكمل هذه الحلقة الأندلسية، ووقع اختياره على أشهر باليه أندلسي حديث: باليه الحب الساحر لمانويل دي فايا. واستخدم ساورا مرة ثالثة نفس الثلاثي من الممثلين: أنطونيو جاديس ولاورا دل سول وكريستينا أويوس. وإذا كان الفيلم الأول يمثِّل المرحلة الغنائية التلقائية في الثلاثية، والثاني المرحلة الدرامية الوسطى، فإن هذا الفيلم يمثِّل المرحلة الملحمية المتكاملة. وهو يقدم قصة الباليه كعنصر مستقل متكامل دونما تدخل خارجي أو تعليق أو عناصر تسجيلية بعيدة عنه. وقد تضمن الفيلم ذاته توليفة رائعة من أغاني الغجر الإسبان، وموسيقى فايا ذات الأصول الإيقاعية الشرقية الواضحة التي تبرهن على الجذور العربية وراء الثقافة الأندلسية.

ويحمل الفيلم منذ لقطته الأولى المشاهِد إلى قلب مدينة الغجر على مشارف مدريد، حيث يتواعد صديقان من الغجر على تتويج صداقتهما بوعدٍ بزواج طفلة الأول من طفل الثاني حالما يبلغان سن الزواج. ثم نرى الاثنين وقد كبرا بالفعل ونشهد حفل عرس غجريًّا رائعًا قدمته في الواقع فرقة غجرية أصيلة من كهوف ساكرامنتو بغرناطة. ومنذ هذا الوقت المبكر نتعرَّف على بذور الصراع القادم، حين نرى العريس لا يزال مصممًا على الإبقاء على علاقته بفتاة غجرية «لاورا دل سول»، حتى بعد زواجه من خطيبة طفولته «كريستينا أويوس»، كذلك نرى كارميلو — أنطونيو جاديس — صديق الجميع وهو يطوي سر حبِّه لكريستينا في قلبه بعد أن أصبحت لغيره. وتتطور القصة بعد ذلك بمقتل الزوج وسط حفل شراب جامح مع فرقة أخرى من الغجر، وتتهم الشرطة أنطونيو بالتسبُّب في قتله، ولا يدافع عن نفسه طبقًا لتقاليد الغجر الذين يريدون الانتقام بأنفسهم من القاتل. ويُسجَن أنطونيو سنوات أربع، يخرج بعدها محاولًا المضي قدمًا في حياته مع رفاقه الغجر. وحين يحاول أنطونيو التقرُّب من كريستينا تمهيدًا للزواج منها، يفاجأ بأنها «مسحورة»! إذ إن شبح زوجها القتيل يظهر لها بين ليلة وأخرى في الخلاء، حيث يؤديان رقصات معًا، ثم يختفي عند الفجر، ولا يراه أحدٌ سواها.

ورغم أن كريستينا تعلم بخيانة زوجها القتيل مع فتيات، منهن لاورا دل سول، فإنها لا تستطيع الفكاك من هذا الحب الساحر لشخصيتها. ويلجا أنطونيو إلى كل وسيلة لمحاولة فك هذا السحر عن حبيبته، ومنها أداء طقوس رقصة النار التي تمثِّل ذروة الموسيقى في باليه فايا الأصلي. وبعد أن تفشل تلك المحاولة، ينظم أنطونيو وكريستينا خطة أخرى، بمساهمة لاورا دل سول هذه المرة؛ حيث تأتي لاورا إلى الساحة الخلوية عندما يظهر الزوج القتيل لكريستينا، وإذ كان لا ينكر حبه القديم للاورا فإنه يرقص معها، وتقوده لاورا إلى حيث يغيبان عن الأنظار، بينما الفجر يطلع على كريستينا وأنطونيو وهما يتطلعان إلى الغد المشرق مع انكسار السحر الذي كان يقف في طريق زواجهما.

وقد قابل النقاد هذا الفيلم بترحيبٍ متحفظ، إلا أنه نال نجاحًا جماهيريًّا فائقًا في إسبانيا وخارجها، خاصة فرنسا والولايات المتحدة. وحين عُرِض في مهرجان مونتريال السينمائي إلى جانب «عرس الدم» و«كارمن»، نال «ساورا» جائزة المحكمين الخاصة عن الثلاثية كلها، مما يبرر أيضًا تناولنا لها ككل في هذا المقال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤