قصة جميل
١
في مأثور الثروة الأدبية للعصر الأموي كثير من الأقاصيص الغرامية، ولكل أُقصوصة مَذَاقٌ خاصٌّ، وتلك الأقاصيص في جملتها تمثل نزعات ذوقية وفنية كان يحسُّها جمهور الرواة وجمهور السامعين والقارئين في عصر بني أمية وعصر بني العباس.
فليس من الحتم أن تكون تلك الأقاصيص صحيحة الأسانيد، إلا أن يكون الغرامُ ظفر عند أولئك الناس بقدسية تُذَكِّرُ بقدسية الحديث النبوي، وذلك غير معقول.
وإذن يصح لنا أن نحكم بأن صاغة القَصص الغرامي لوَّنوه بألوان مختلفات ليصوِّر عددًا من أهواء القلوب وأوطار النفوس.
فقصة عمر بن أبي ربيعة هي قصة العاشق المَلول الذي يتنقل بين أطايب الحسن من روض إلى رياض.
وقصة قيس بن الملوَّح هي قصة المتيم المكبول الذي يقضي دهره أسيرًا لهوًى واحد إلى أن يُصاب بالجنون، وإن صحَّت الأخبار التي رواها صاحب الأغاني واختارها الدكتور طه حسين في اختراع قصة قيس، كان ذلك تأييدًا لما نقول، فهي قصة تمثل لونًا من ألوان الحياة الغرامية له في حيوات الناس وجود.
وقصة قيس بن ذريح هي قصة الزوج الذي يعاديه أبواه في زوجته الوفية، ويرجوان أن يطيع هواهُما فيصوِّب إلى زوجته سهم التسريح، وهي قصة تمثل ألوانًا من الحسد يشهدها الناس في كل زمان.
فما هي قصة صاحبنا جميل؟
يظهر أن الرواة كانوا يُحِسُّونَ الشوق إلى وجود شخصية نبيلة تبلغ الغاية في الشعر والعشق، وتسير أخبارها في الرجولة والشهامة مَسير الأمثال.
وما أقول بأن الرواة اخترعوا جميع أخبار جميل، فقد تكون كلها صدقًا في صدق، وقد يكون في نفسه أعظم ممَّا وصفوه، وإنما أقول بأن في إجماعهم على الإشادة بمكانته في الشعر والعشق استجابة لنزعة نفسية هي الشوق إلى أن يكون في تاريخ العرب عاشق يبلغ منازل الأبطال في كرم النفس وشرف الوجدان.
٢
أما العشق فقد تأهَّب له جميل بمواهب تجعل قصته فيه على جانب عظيم من الجاذبية، فقد كان جميل فتًى شريف النفس، شجاع القلب، يخافه العدوُّ، ويرجوه الصديق.
ولم يكن العشق عند جميل فنًّا من اللهو أو العبث، وإنما كان محنة أُصيب بها قلبه الجريء، وقد طال بلاؤه بمحنة العشق ولم ينقذه غير الموت وهو مغتربٌ وحيد.
عرف جميل صاحبته بثينة في يوم من أيام الأعياد فهَوِيَهَا هوًى لا يعرف التخوف من عواقب الافتضاح، ثم شاءت الظروف أن تقترن بثينة برجل سواه؛ فلم يزده ذلك إلا فتونًا إلى فتون، ولم يفلح أهله في إقناعه بوجوب الكف عن هوى امرأة ليس له من أطايبها غير النعيم بأوهام الخيال.
وقد اعترف جميل بأن من الحمق أن يذوب الرجل وجدًا بامرأة تكون أطايبها في زمام رجل سواه، ثم اعتذر بأنه لا يملك الصبر عن الهيام بتلك المرأة؛ لأنها ملكت عليه أقطار نُهاه، وقد أضله هواه فلم يعد يعرف مذاهب التجمل ولا مسالك العقل.
وتشهد أخبار جميل وبثينة بأنهما كانا عاشقين يريان للعشق غاية أشرف من المتاع المبذول في دنيا الأهواء، ومن أجل هذا سخِر جميل من العبارات التي وُجِّهت إلى من يعشق امرأة لها بعل، وهي عبارات غليظة تؤذي الرجل البدوي أشد الإيذاء.
ولم تقف بلية الحب عند الهُيام بامرأة متزوجة لا تُنال منها المطالب الحسية إلا عن طريق الإثم — وهو مسلك يمقته جميل كل المقت — فقد وقع لبثينة هوًى جديد مع رجل اسمه حُجْنَة الهلالي، وبذلك وقعت الجفوة بينها وبين جميل، وهي جفوة لم تشفِه من جواه؛ لأنه كان صار إلى حالة لا ينفع فيها دواء.
وفي غمرة من غمرات تلك الكروب الوجدانية صدر أمر السلطان بإهدار دم جميل إن فكَّر في زيارة بثينة، فرحل إلى اليمن مرة، وإلى الشام مرة، وطالت به الحيرة في تلمس أسباب الخلاص من هواه، فلم يجد أفضل من الرحيل إلى مصر، وفي مصر ظفر بالشفاء الأعظم وهو الموت.
والموت شفاء من كل داء.
٣
تلك قصة جميل في شعره وهواه، فمن هو بين الشعراء؟ ومن هو بين المُتَيَّمِينَ؟ يجب أن نفصِّل حياته في العشق قبل الكلام عن منزلته الشعرية.
ونحن قد أجملنا حياته الغرامية في سطور، فما الذي رأيناه؟
رأينا فتًى يخضع لهواه الأول ويفنى فيه كل الفناء، مع أن له من عَرَامة الفحولة، ومن صباحة الوجه، ومن سَجاحة العيش، ومن أصالة النسب، ما يسمح بأن ينقل هواه إلى حيث يريد بلا مشقة ولا عناء، وهل تضيق دنيا الحب والصبابة في وجه فتى مثل جميل؟
وقد أَلَحَّ الرواة إلحاحًا عنيفًا في تفصيل مذهبه في العفاف، فهو إذن صورة للمثال المختار من أمثلة الكرامة العربية.
ولم يفت الرواة أن يحدثونا عن بلائه بالسلطان، والسلطان هنا ليس الخليفة كما تَوَهَّمَ بعض الناس، فما كانت أوقات الخلفاء تتسع لأمثال هذه الشئون، وإنما السلطان هو الوالي، الوالي الذي يسوس الأمور في المنطقة التي يعيش فيها قوم بثينة وقوم جميل، وهو حاكم يَتَّسِعُ وقته لمسايرة أخبار الأفراد من رجال ونساء.
وحديث السلطان في هذه القصة له مدلول، فهو يشير إلى أن من حق قوم بثينة أن يقتلوا عاشقها إن وجدوه في ديارهم بلا تخوُّف من القصاص.
وهنا تحين الفرصة لتسجيل جانب من جوانب القوة في حياة العاشق، وهو جانب يزيد شخصيته جلالًا إلى جلال، فقد كان قوم بثينة أقل عزةً من قوم جميل، وإذن يكون من حق العاشق أن يخاطر حين يشاء؛ لأن ظل الوالي قد يزول بانتقاله من لواء إلى لواء، أما سلطان قومه فهو ظل لا يزول.
٤
وتصرح القصة بأن قوم جميل عاتبوهُ ولامُوه على هُيامه بامرأة مبذولة لرجل يملك من أمرها كل شيء، ومن الضيم والمهانة أن يِذَلَّ الرجل الحرُّ لمخلوقة تعيش في بيت غيره عيش المتاع … وقد أجاب جميل والدمع في عينيه بأنه لا يجهل قبح ما صار إليه في هوى تلك الأَدْماء، ولكن ما الذي يستطيع أن يصنع وقد حلَّ الهوى بروحه حلول العلة العاتية بالبدن الضعيف؟
ما الذي يستطيع أن يصنع وهو مقهور على الخضوع لهواه بإرادة خفية هي إرادة القدَر الذي يتصرف في القلوب بلا رحمة ولا إشفاق؟
ما الذي يستطيع أن يصنع وهو يرى وجه بثينة مسطور الملامح في كل ما تقع عليه عيناه من صور الوجود؟
وهل يملك السلوان حتى يطيع نصائح العاذلين واللائمين من الأهل والأحباب؟ وكيف يملك السلوان وقد صارت بثينة هي الروح المسيطر على عقله المدخول وقلبه المفتون؟ هو من هواها في كربٍ دائم وعناء موصول، فمتى يفيق ليسمع أقوال الناصحين وليعود إلى فطرته السليمة يوم كان فتى قوي العزيمة صحيح الروح لا يعرف غير آداب الفتيان في الكيد للأعداء والبرِّ بالأصدقاء؟ إن هُيامه بامرأة لها بعلٌ صيَّره سخرية الساخرين، وقضى عليه بالتشريد والاغتراب خوفًا من السلطان، ولكن أين السبيل إلى التخلص من هواه، وقد عزَّت عليه مذاهب الخلاص من هواه؟
كذلك تريد القصة أن يكون حال جميل، فهل كان كذلك بالفعل؟ أم هي صورة نفسية أحسَّها الرواة وأضافوها إلى جميل؟
لا نكذب على أنفسنا ولان كذب على الناس، تلك صورة واقعية لها نظائر وأشباه في حَيَوات الرجال، فمن السهل أن يقع الرجل في هوى امرأة ليس له إلى الأنس بها من سبيل، بسبب الخوف أو بسبب العفاف، ويظل قلبه مشغوفًا بها إلى أن يموت، فإن وقع ذلك الحادث لشاعر مثل جميل فهو من صنيع الواقع لا نسيج الخيال.
٥
وتشاء الظروف أن تؤيد هذا الرأي: فجميل الفتى العارم الصوَّال لم يعرف الخضوع إلا في الحب، وقد رفعته همته عن التودُّد للولاة والخلفاء، فلم يمدح أحدًا قط، ولم يره الناس في موطن ذِلَّة إلا في تلمس الوصول إلى موقع هواه، وهي ذلة أشرف من العزة في نفس الشاعر الذي رآه أهل زمانه إمام المحبين.
٦
وتقول القصة إن جميلًا كان مفتونًا بجماله وشبابه أشد الفتون، وإنه ما كان يرى فتى يتخطَّر إلا غار على بثينة وبينه وبينها أميال.
فما معنى ذلك؟
معناه أن القصة تريد أن تخلق من جميل مثالًا للقوة والعرامة والفتك.
وهل تبخل القصة عليه بذلك وهي التي حدثتنا أنه كان يقضي الأيام الطوال في السفر إلى بثينة بدون أن يتناول شيئا من الطعام أو الشراب؟
تلك صوفيةٌ في الحب لا يتحدث عنها متحدِّث إلا في تهيُّب واستحياء؛ لأن الدنيا في شواغلها القاسية لم تَعُدْ تسيغ هذا الصنف من غذاء الأرواح.
نحن أمام شخصية مَهيبة جليلة لم يَسْتَبِحِ الرواة أن يتندروا عليها أو يمسوها بطيف من السخرية والاستخفاف.
فهل كانت أهلًا لذلك التبجيل؟ أم تلك صورة خلقها الرواة لتمجيد الحب الطاهر النبيل؟
مهما يكن من شيء فقد صارت تلك الصورة من ذخائر الأدب العربي، ولم يعد في مقدورنا أن نَتَعَرَّضَ لها بتسخيف أو تزييف؛ لأنها من أشرف صور التاريخ الصحيح أو المصنوع، ونحن نؤرِّخ التاريخ ولا نملك العُدوان عليه بلا سبب معقول، وهل ينكر العقل أن يهيم الرجل بامرأة متزوجة وليس له من أمل غير اعتراف صاحبة هواه بأنه رجل شريف؟
إن القصة أرادت أن تجعل جميلًا مثلًا عاليًا في التصوُّن والعفاف، وهو يهوَى امرأة مفتونة به أعنف الفتون، فهل نبخل على ماضينا بتصديق هذا المحال الجميل، إن صح أنه محال؟
٧
ويرى الرواة من الفن أن يفجعوا جميلًا في هواه لتكون قصته قصة إنسانية محبوكة الأطراف.
فما هي تلك الفجيعة؟
حدَّث الرواة أن بثينة أحبَّت رجلا اسمه حُجْنَة الهلالي، وليس من المستحيل أن تشرك امرأة بالحب، ولكن المهمَّ في القصة هو النص على أن جميلا لم يَجْزها بغير الجفاء، أما هواها فقد ظل ينقل قلبه من جمرات إلى جمرات، ليصير أكرم مثال في الصبر على مكاره الحب العَصُوف.
وتشاء القصة أن يكون غرام بثينة بحجنة سحابة صيف، لتعترم صبابة العاشقَين من جديد، وليكون هواهما مثلًا في صدق اللوعة تتحدث به الأجيال وتُشَنَّف به مسامع التاريخ.
٨
ولا تقف القصة عند انصراف بثينة عن حجنة لتَقْصر هواها على جميل، وإنما تشاء القصة أن يتعرض لبثينة عاشقٌ فاتك هو عمر بن أبي ربيعة فتلقاه بالسخرية، وتواجهه باللذع الأليم، ليعرف أنه أضعف من أن يخلف جميلًا في احتلال قلبها الحصين.
٩
ثم تمضي القصة فتذكر أن جميلًا رحل إلى مصر، مصر التي عرفت أعنف المعارك الغرامية بين زليخا ويوسف وكليوباتره وأنطونيوس.
ومتى رحل جميل إلى مصر؟ رحل إليها في ساعة يأس من صاحبة هواه، كما سنعرف ذلك بعد قليل.
وفي مصر عانى جميل سكرات الموت وهو يهتف باسم المرأة الحُلوة العَذْبة التي جعلت حياته قيثارة ترجِّع ألحان الألم والأنين.
وفي بلادنا صرخ الشاعر في ساعات النزع الأليمِ:
ولم يكن للمسكين غير وصية واحدة هي إبلاغ بثينة أن اسمها كان آخر اسم هتف به عند الموت.
وتهتم القصة بالفاجعة فتذكر أن رجلًا جشَّم نفسه مشقَّة السفر من مصر إلى أرض تيماء، ومعه حُلة جميل لتصدِّق بثينة أن محبوبها دُفِن رفاتُه بأرض الفراعين، فتلطم وجهها وهي تقول:
وبذلك انتهى العهد بين بثينة وجميل.
١٠
فهل صوَّرنا تلك القصة في الحدود التي رسمتها أهواء المبدعين من أرباب القَصَصِ الغرامي؟ وهل خلَّصناها برفق من عنعنات الأسانيد؟
هو ذلك، ولكن ما الذي غنمناه من تشريح تلك القصة الدامية؟
غنمنا الظفر بصورة جميلة من صور الحب العذري، الحب الذي ينزِّه الغرام عن الأهواء والشبُهات، الحب الذي يجعل الغرام العفيف من شرائع الوجود.
ألم تحدثنا القصة بأن جميلًا كان ينام إلى جانب بثينة في فراش واحد، في حماية الحارس الأمين الذي اسمه العفاف؟
ألم تحدثنا القصَّة بأن جميلًا كان يقضي الليل مع بثينة وحولها رقيبان مستوران هما أبوها وأخوها بدون أن يقع ما يستحق اللوم والتثريب؟
أهي قصة خرافية؟
لا يقول بذلك إلا الفَجَرَةُ من أشياع الحب الأثيم.
هي قصة حقيقية، وبثينة هي بثينة، وجميل هو جميل.
وقد أعزًّ الله العاشق الكريم فخلَّدَ اسمه من جيل إلى جيل، وأنطق الصوفية باسمه الجميل.
وهل عرف تاريخ الشعر العربي فتًى عداه اللوم غير جميل؟
لكل شاعر في التاريخ محاسن وعيوب، أما جميل فكله محاسن وليس له عيوب.
ألم يكفِ أنه مات بالعشق وهو مغتربٌ وحيد!
وأين مات! مات في مصر التي لا يموت فيها غير الأحياء!
مات في مصر وطن الشهداء من أهل الأدب والفن والخيال.
١١
أتركُ هذه الفروض وأنتقل إلى الحديث عن منزلة جميل من الوجهة الشعرية:
كان يقال إن كثيِّرًا آخر راوية بين الشعراء، وكثيِّر كان راوية جميل، وإذا ذكرنا أن في القدماء من كان يرى أن كثيِّرًا أشعر من جرير والفرزدق والراعي وعامة الشعراء، عرفنا إلى أي حدٍّ كانت منزلة جميل بين صاغة القريض.
ويجب أن نذكر ما أشرنا إليه منذ صفحات حين نصصنا على أن جميلًا كان موصول الأواصر بمدرسة شعرية لها تاريخ في الحرص على قوة الديباجة ومتانة الأسلوب.
ويجب أن نذكر أيضًا أن حياة جميل كانت تساعد على التجويد في الغناء، فقد قضى دهره وهو مشغول بعواطف رقيقة ترهف الحس والذوق، وتفطر النفس على حب الترنم والتغريد.
ومن هنا غلبت الموسيقا على شعر جميل، فأشعاره ألحانٌ عِذاب تقوم على قواعد من السجع والرنين.
وقد وصلت عدوى فنِّه البديع إلى تلميذه كثيِّر حتى صح للمِسْوَر بن عبد الملك أن يقول: ما ضرَّ من يروي شعر كثيِّر وجميل ألَّا تكون عنده مغنيتان مطرِبتان.
وعند التأمل نرى لجميل خصائص لا نجدها عند معاصريه؛ فعمر بن أبي ربيعة من المبتكرين في التشبيب، ولكنَّ أشعاره في أغلب الأحوال يقلُّ فيها الغناء بسبب إفراطه في الحوار والتمثيل، وجرير شغلته أهاجيه عن أحاديث الوجدان، والفرزدق تغلب عليه القعقعة، أما الراعي فهو قليل الحظ من الحَوْك الرقيق، بالإضافة إلى جميل.
يضاف إلى هذا أن جميلًا كان في شعره وفي عذوبة نفسه مثالًا للقريحة الصافية، وكان لذلك صورةً للغرض المنشود في الأريحية العربية، وكانت قدرته على مصاولة الأعداء بالسيف والقريض شاهدًا على أنه يمتُّ للعروبة بعِرْقٍ أصيل.
ولهذه الخصائص أحبَّه معاصروه أشدَّ الحب، ومال الشبان إلى رواية شعره كل الميل، وصار له في الحواضر والبوادي مكانٌ مرموق.
وقد اهتم جميل بالحديث عن أدب الفتيان في رعاية الصبابة والوجد، ولذلك سوق في المجتمعات البدوية والحضرية، فلم يكن بالعاشق الخليع، وإنما كان عاشقًا شريف النفس يراه الناس من صور الهيبة والجلال.
وهذه المعاني مجتمعةً مكَّنت لجميل من الفوز بأكبر نصيب من الكرامة والإعزاز، فكان مثال الشاعر المهذب في ذلك الزمان.
والحب عند جميل فيه نفحات روحية خلعت على أشعاره أثوابًا من الحكمة العالية والجد الرصين.
وكان الناس يروون أشعار جميل وفي قلوبهم صور وأطياف لبلواه في هواه، فساعد ذلك عَلَى تلقي أشعاره بأريحية وبشاشة وإشفاق، وذلك أعظم حَظٍّ يظفر به شاعر الوجدان.
١٢
وكان لصاحبة جميل تأثير في منزلته الشعرية، فالرواة متَّفقون على أنها كانت امرأة ذكية القلب قوية الروح، ألم يحدثونا أن النجوى بين هذين العاشقين كانت تتصل من الشَّفَق إلى إشراق الصباح؟
وتشاء القصة أن تجعل صاحبة جميل من الشواعر، فهو إذن يخاطب روحًا شفَّافًا يفهم عنه ما يقول في التوجُّع والأنين.
وليس من المستغرب أن تسير بين الناس أشعار جميل، فذلك حظ مضمون لكل شعر يعبَّر عن حوادث كثر حولها القال والقيل.
١٣
وليس من المستغرب أن مجيد جميل، وقد قهره الاضطهاد على الخلوة إلى نفسه وهو يفرُّ من أرض إلى أرض طلبًا للسلامة من تحكُّم الأعداء وتلوُّم الأصدقاء.
والخلوة إلى النفس هي المصدر الأصيل للثروة الشعرية، ولم تتفق الإجادة لشاعر إلا في الخلوات التي توجبها الأسفار الطوال.
وأسفار جميل موصولة الأواصر بحياته الشعرية، فهو لم يكن يسافر لأعمال رسمية أو تجارية، وإنما كان يسافر لعلة تمسٌّ الغرض الذي فجَّر ينابيع الشعر في صدره الحنَّان.
١٤
وقد غلبت المعاني الفطرية عَلَى شعر جميل، فهو في بعض تصوراته طفل، ولكنه يصدُق صدق الأطفال، أليس هو الذي يقول:
فأين هذا الشعر من الفخامة اللفظية والمعنوية؟
هذا كلام أطفال في نظر من يرون الشعر صناعة تؤرَّق في تجويدها الجفونُ.
ومع ذلك فقد بلغ الشاعر الغاية في الاستجابة للفطرة والطبع، فالبيت الأول والبيت الثاني من الأعاجيب في تمثيل الحسرة على الأمل المفقود، وقد أدَّى الشاعر المعنى في صدقٍ منزَّه عن التزويق والتهويل.
أما قوله «ولا حبها فيما يبيد يبيد» فهو صرخة الشاعر الذي لا يملك الفرار من لوعته العاتية؛ لأن المقادير نزهتها عن الفناء.
وهذا الطفل الصادق هو الذي نفث صدره بهذه الأبيات:
وهي أبيات قالها في أعقاب صدمة من صدمات الغيرة، الغيرة التي قهرته على أن يشتم بثينة فيقول:
ومع ذلك لم يستطع إخفاء وجده المشبوب بذلك الرضاب.
وتقول القصة إن بثينة قالت حين سمعت تلك الأبيات: ما أحسنَ الصدقَ بأهله! وإنها بكت حين سمعت هذا البيت وقالت: كلَّا يا جميل! ومن ترى أنه يروقني غيرك؟
وذلك العتْبُ وهذا الإعتاب من الصور الفطرية الجميلة في حَيَوات العاشقين.
وهل أخطأ القدماء حين أجمعوا على أن جميلًا كان صادق الصبابة والعشق؟
إن شعر جميل يشهد بذلك، فهو صاحب هذا البيت:
وصاحب هذا البيت:
وصاحب هذه الأبيات:
وصاحب هذه الأبيات:
ذلك شاعرٌ أُكْرِمَ باسم الأمانة والصدق، ثم رأى التاريخ أن يعدَّه مَثَلًا للعاشق الصادق والمحبِّ الأمين، والتاريخ في بعض أحواله هو همس الإنسانية في سمع الوجود، وكذلك كان رأيه في الشاعر الذي يقول:
١٥
أما بعد فقد ضاعت أشعار جميل، ولم يبقَ منها إلا القليل المفرَّق في مراجع الأدب من أمثال الأغاني والأمالي ومنتهى الطلب، وقد تعقبت أشعاره في المعاجم فرأيت منها شواهد كثيرة في أساس البلاغة ولسان العرب، وقد دلتني تلك الشواهد على أن أشعار جميل ظلَّت محفوظة بضعة قرون قبل أن يضيعها الزمان، فإن سمح الدهر يومًا بأن نصل إلى أشعاره كاملة فسيكون ذلك فرصة لدراسة جديدة نعرف بها الخصائص الأصيلة لشاعريته العالية.
ولجميل أشعارٌ في الفخر والهجاء أشار إليها صاحب الأغاني، ولا موجب للتعرض لها في هذا الحديث؛ لأن النسيب هو الفن الغالب على أغاريد هذا الشاعر الصدَّاح.
وقد غُنِّي من شعر جميل تسعة وعشرون صوتًا، ولهذه الإشارة مدلول، فهي تشهد لشعره بالموسيقية، وتبيِّن كيف كانت أشعاره من أفراح الحياة في تلك العهود.