الفصل الثالث عشر

في تاريخ سورية الدنيوي في القرن السابع

(١) في ما كان بسورية في أيام فوقا الملك

مرَّ أن فوقا قتل موريق وأخذ ملكه سنة ٦٠٢، وكان في أيامه أن الفرس استحوذوا على كل ما وراء الفرات من أملاك الرومانيين، وأخذوا يشنون الغارات على أملاكهم في سورية حتى فلسطين، وكان الأهلون يفرون من وجههم، فيتراكمون في القلاع والحصون فلا يحاصرهم جنود الفرس، بل ينتهبون المنازل في المدن والقرى، ويحرقون الغلات ويأسرون من وقع في يدهم، وحيث لم تكن حرب كانت الرعية فريسة لجور الحكام والقضاة وسطو الأشرار واللصوص، وكان الشعب في أنحاء المملكة كلها يأنون من جور فوقا، فجاهر اليهود في أنطاكية بالعصيان على الحكومة، وبدلًا من أن يناصبوا رجالها وثبوا على المسيحيين، وقبضوا على إنسطاس بطريرك أنطاكية، فقتلوه وجروا جثته في شوارع المدينة، ودخلوا منازل بعض الأعيان فأماتوهم وحرقوا بيوتهم، فأصدر فوقا أمرًا بأن يُعمد اليهود ولو مكرهين، وأرسل أحد عماله إلى أورشليم فجمع اليهود وأطلعهم على أمر الملك، فلم يذعنوا له فعمدهم مكرهين، فاندفعوا إلى شغبٍ ومعارك في أورشليم وأنطاكية وإسكندرية، فقتل فوقا منهم كثيرين، ولم تطفأ جذوة الثورة، بل انتشر لظاها حتى اتصل إلى العاصمة وأهان بعضهم الملك فيها، لكنهم لقيوا منه الأمرين وأشربهم أمر الحين إلى أن ثار على فوقا بعض أعوانه وقتله هرقل، وأخذ الملك وتوَّجه سرجيوس البطريرك القسطنطيني سنة ٦١٠.

(٢) في ما كان بسورية في أيام هرقل

زحف الفرس سنة ٦١١، وانتهبوا وخربوا أباميا وكل ما كان منها إلى أنطاكية، واعترض مسيرهم بعض الجنود، فبدد الفرس شملهم، وتملكوا أنطاكية وكل ما يليها من المدن حتى بلغوا دمشق، ونهبوها وأسروا كثيرين، ولم يستفق هرقل من غفلته وثار اليهود في صور، وأرسلوا بني ملتهم بقبرس ودمشق وأورشليم؛ ليحملوا السلاح ويخرجوا على الحكومة وافتضح ائتمارهم ونالهم شر الجزاء.

وفي سنة ٦١٥ حمل الفرس على فلسطين، فغشوا الجليل وضفتي الأردن إلى بحيرة لوط، فدمروا وأحرقوا ونهبوا وقتلوا بعض الرهبان والنساك، ودخلوا أورشليم وقبضوا على كثيرين من الرجال والنساء والأطفال، فاشترى اليهود بعض هؤلاء الأسرى وذبحوهم، وكان أثمن ما سلب الفرس من أورشليم خشبة الصليب المقدس، فأخذوها إلى فارس وأخذوا البطريرك زكريا أسيرًا، وحرقوا كنيسة القبر المقدس وغيرها من الكنائس، وفي سنة ٦١٦ أو سنة ٦١٧ زحف الفرس إلى مصر، فأخذوا الإسكندرية وتوغلوا في البلاد إلى الحبشة وحمل جيش آخر منهم على آسيا الصغرى، واتصل إلى البسفور.

قد استفاق أخيرًا هرقل من رقاد غفلته، وفي سنة ٦٢٢ عزم على محاربة الفرس، فمضى أولًا إلى أرمينيا وظهر على الفرس في مواقعٍ كثيرة، ثم سار إلى بلاد فارس، وتوغل فيها وفتك بجيش كبير بها واستمر يغالبهم في بلادهم وجوارها ست سنين، وفي سنة ٦٢٦ قسَّم كسرى رجال حربه إلى ثلاثة جيوش: أرسل أحدها يحاصر القسطنطينية، والثاني إلى أرمينيا فانتصر عليه توادوروس أخو الملك هرقل وبدد شمله وأبقى الثالث عنده، فزحف هرقل من نينوى إلى قسطفون ففر كسرى أمامه، وعرض عليه في سنة ٦٢٨ الصلح فأباه، وسلط الله شيرويه ابن كسرى عليه، فقتل أباه وراسل شيرويه بن كسرى هرقلَ بالصلاح على أن يرد إليه جميع النصارى الذين كانوا أسرى في بلاده، وفي جملتهم زكريا بطريرك أورشليم، وخشبة الصليب المقدس، فانعقد الصلح بينهما على ذلك سنة ٦٢٨ وعاد هرقل ظافرًا غانمًا إلى القسطنطينية وأتى سنة ٦٢٩ إلى أورشليم؛ ليشكر الله على ما قيض له من النصر ويرد ذخيرة خشبة الصليب إلى محلها، وكانت قد بقيت في صوانها كما أخذت وتفحص البطريرك وكهنته ختومها، فإذا هي سالمة لم تفض، وطرد هرقل اليهود من أورشليم وأمر أن يستمروا بعيدين عنها ثلاثة أميال، وفي أيام هرقل كان فتْحُ المسلمين لسورية، وسنتكلم عن ذلك في المقال التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤