الفصل الأول

تتمة في تاريخ سورية الدنيوي في القرن الثاني عشر

(١) في أخذ صلاح الدين سورية

الأظهر أن شيركوه وأيوب أبا صلاح الدين ابني شاذي أصلهما من الأكراد، وخدما في الشحنة السلجوقية ببغداد، وأعطاهما عماد الدين زنكي إقطاعاتٍ جليلة، ولما ملك زنكي بعلبك جعل أيوب مستحفظًا لها، ولما حاصره عسكر دمشق بعد موت زنكي سلم القلعة إليهم وأعطوه إقطاعًا كبيرًا، وبقي من أكبر أمراء عسكر دمشق، وأما شيركوه أخوه فبقي في عسكر نور الدين، فأرسله مع ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر كما مر.

ولما كان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين صغيرًا مقيمًا بدمشق، كان كثير من الأمراء في حاشيته يتنازعون تدبير المملكة، فأرسل شمس الدين بن الداية المقيم بحلب يستدعي الملك الصالح إلى حلب؛ ليكون مقامه بها فسار إليها ومعه سعد الدين كمشتكين مدبرًا لملكه، ولما تمكن كمشتكين بحلب قتل ابن الداية وبعض أعيان حلب، واستبد بتدبير الملك فخافه ابن المقدم الذي كان يدبر الملك بدمشق، واستدعى صلاح الدين إلى دمشق، فسار إليها وخرج إلى لقائه كل من كان فيها من العسكر، ونزل بدار والده أيوب المعروفة بدار العقيقي، وسلم إليه القلعة ريحان مستحفظها من قبل الملك الصالح، وبعد أن قرر أمور دمشق، واستخلف فيها أخاه المُلقب سيف الإسلام طغتكين سار إلى حمص، فملكها وترك حول قلعتها من يحافظ عليها ورحل إلى حماة فملكها، ثم سار إلى حلب وفيها الملك الصالح المذكور فحاصرها، وقاتله أهل حلب فنزل الإفرنج على حمص فترك صلاح الدين حصار حلب، وعاد إلى حمص فهزم الإفرنج عنها وسار إلى بعلبك وملكها، وأرسل الملك الصالح يستنجد ابن عمه سيف الدين صاحب الموصل، فجهز جيشًا انضم إلى عسكر حلب وقصدوا صلاح الدين، فراسلهم بأن يبذل لهم حمص وحماة وتبقى بيده دمشق، فيكون فيها نائبًا للملك الصالح فلم يجيبوه إلى ذلك، وساروا إلى قتاله في جهة حماة، فانتصر عليهم وغنم أموالهم وتبعهم حتى حصرهم بحلب، وقطع خطبة الملك الصالح وأزال اسمه عن السكة، واستبد بالسلطنة بمصر وسورية، فصالحوه على أن يكون له ما بيده من سورية وللملك الصالح ما بقي بيده، فأجابهم إلى ذلك ورحل عن حلب سنة ١١٧٥.

وفي سنة ١١٧٦ كانت وقعة بين صلاح الدين وسيف الدولة صاحب الموصل ابن عم الملك الصالح، فظهر صلاح الدين وانهزم سيف الدولة ومحازبوه، وأخذ صلاح الدين بزاعة ومنبج وإعزاز وعاد إلى حصار حلب، واستقر الصلح بينه وبين الملك الصالح وسيف الدولة صاحب الموصل وغيرهما، وتحالفوا على أن يكونوا عونًا على الناكث، وأعطاهم صلاح الدين إعزاز، وقصد بلاد الإسماعيلية فنهبها وأحرقها وحاصر قلعة مصياف، ثم صالح الإسماعيلية وعاد إلى مصر بعد أن استقر له ملك سورية.

أما الإفرنج فقام فيهم بعد موت أموري ملكهم ابنه وسمي بودوين الرابع، ولم يكن عمره حينئذٍ إلا ثلاث عشرة سنة، وكان يدبر الملك ريموند كنت أطرابلس فغزا في هذه الأثناء الأعمال التي وراء لبنان، واتصلوا إلى داريا على مقربةٍ من دمشق، ثم دخلوا بقاع العزيز ثانية وبلغوا إلى بعلبك، ولما عاد صلاح الدين إلى مصر غزوا بعض الأعمال في ناحية أنطاكية، فاغتنم صلاح الدين هذه الفرصة فسار إلى عسقلان، فنهب وتفرق عسكره في الإغارات، وكان بينه وبين الإفرنج قتالٌ شديد كانت نتيجته انهزام صلاح الدين، وقتل كثيرين من جيشه وأسر بعضهم فتقوى الإفرنج، فحصروا حماة ونائبها شهاب الدين الحارمي خال صلاح الدين، وكادوا يملكونها، ولكن جد المسلمون في القتال، فرحل الإفرنج إلى حارم وحصروها، فأرسل الملك الصالح صاحب حلب إليهم مالًا فصالحوه، ورحلوا عن حارم.

وفي سنة ١١٧٩ سيَّر صلاح الدين ابن أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه محمد بن شيركوه إلى حمص، وأمرهما بحفظ بلادهما واستقر كل منهما ببلده، وفي سنة ١١٨٠ عاد صلاح الدين إلى سورية وفتح حصنًا للإفرنج قريبًا من بانياس، ودكه إلى الأرض، وفي سنة ١١٨٢ توفي الملك الصالح بن نور الدين بحلب، وأوصى بملك حلب إلى ابن عز الدين مسعود صاحب الموصل، وبعد أن استقر بها كاتبه أخوه عماد الدين صاحب سنجار أن يعطيه حلب، ويأخذ سنجار واتفقا على ذلك.

وفي سنة ١١٨٣ عاد صلاح الدين مرة أخرى إلى سورية، وسار من دمشق إلى قرب طبرية وشن الإغارة على بلاد الإفرنج مثل بانياس وجنين والغور فغنم وقتل، فخرج عليه الإفرنج فقاتلهم صلاح الدين وقتل منهم جماعة كثيرة، وأسر منهم صاحب الرملة ونابلس وصاحب جبيل وصاحب طبرية، وغيرهم من كبار فرسانهم ونجا ملكهم، وكان صلاح الدين قد أمر الأسطول المصري أن يأتي، فيضرب بيروت ووافاهم إليها فحاصرها عدة أيام، لكنه خاف اجتماع الإفرنج عليه فعاد إلى دمشق، ثم سار إلى الجزيرة فأخذ حران وحصن كيفا والرها والرقة ونصيبين، وحاصر الموصل وملك سنجار، وعاد إلى سورية فاستولى على تل خالد من أعمال حلب وحاصر عيتاب وملكها، وسار إلى حلب فسلمها صاحبها إليه على شرط أن يعوض عنها بسنجار ونصيبين والخابور وغيرها … فاستلم صلاح الدين حلب، واستلم حارم أيضًا واستخلف بحلب ولده الملك الظاهر غازي، وعاد إلى دمشق غانمًا ظافرًا، فدانت له مصر وبلاد العرب والجزيرة وأكثر أعمال سورية، ولم يبق من يخالفه إلا الإفرنج محصورين في وسط أملاكه وله أسطول في شواطئ مصر.

(٢) وقعة حطين بين الإفرنج وصلاح الدين

ابتلي بودوين الرابع ملك الإفرنج بالبرص، وأمسى أعمى لا يستطيع حراكًا، فاختار كوي لوسنيان كنت يافا مدبرًا للملك، ثم خلفه وتخلى عن الملك لابن أخته، وسماه بودوين الخامس، ولكن لم يكن عمره إلا خمس سنين، وعين ريموند كنت طرابلس مدبرًا للملك وتوفي بودوين الرابع سنة ١١٨٥، ثم توفي بودوين الخامس سنة ١١٨٦، فاختار البطريرك وبعض الأعيان بأورشليم سيبيلا امرأة لوسنيان المذكور بنت أموري الملك ملكةً، وهي أشركت في الملك معها زوجها لوسنيان المذكور، وخالف ذلك كنت طرابلس وغيره من الأعيان واختاروا همفروا زوج إيزابل ابنة أموري الثانية ملكًا فأبى، فأغضى المخالفون مكرهين على تمليك لوسنيان وامرأته، فهذه كانت حالة الإفرنج وصلاح الدين واقف لهم بالمرصاد، ومضى ريموند كنت أطرابلس فأقام في طبرية التي كانت لامرأته، وهادن صلاح الدين واتفق معه.

وفي سنة ١١٨٧ خالف البرنس صاحب الكرك الهدنة وسطا على قافلة من المسلمين، وأسرهم وطلب صلاح الدين إطلاقهم بحكم الهدنة فأبى، فجمع صلاح الدين سنة ١١٨٨ عسكره وسار بفريقٍ منها إلى الكرك وضايقها، وسير ابنه الملك الأفضل بالفريق الآخر إلى جهات عكا، فنهبوا وغنموا كثيرًا، ونزل صلاح الدين على طبرية وفتح المدينة، واجتمع الإفرنج فالتقى الجمعان في حطين واشتد بينهم القتال، وأحدق المسلمون بالإفرنج وأبادوهم قتلًا وأسرًا، وكان من جملة الأسرى الملك لوسنيان صاحب الكرك، وصاحب جبيل وغيرهم، وقتل صلاح الدين بنفسه صاحب الكرك الذي كان سببًا لهذه الحرب، وأمر بقتل الفرسان الذين أسروا فقتلوا.

ثم أخذ صلاح الدين قلعة طبرية، وسار إلى عكا وخرج أهلها وطلبوا الأمان، فأمنهم وخيرهم بين الإقامة والرحيل، فاختاروا الرحيل وحملوا ما أمكنهم حمله من أموالهم، وغنم المسلمون ما بقي منها، ودخل عكا وسيَّر عسكره فرقًا إلى الناصرة وقيصرية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف وغيرها، فملكتها العساكر وأسروا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، وأرسل ابن أخيه تقي الدين على تينين؛ ليقطع الميرة عنها وعن صور، وسيَّر حسام الدين بن لاجين إلى نابلس فدخلها، وحصر قلعتها واستنزل من بها بالأمان، ثم سار صلاح الدين إلى تينين وضايقها حتى طلب أهلها الأمان، فأمنهم وسار إلى صيدا فتسلمها دون ممانع وكذلك صرفند، وبلغ إلى بيروت فقاتله أهلها قتالًا شديدًا لكنهم أُرغموا أخيرًا أن يطلبوا الأمان فأمنهم ودخل المدينة، وأما جبيل فكان صاحبها في جملة الأسرى، فأحضره صلاح الدين مقيدًا فسلم قلعتها، وأطلق الأسرى المسلمين فأطلقه صلاح الدين.

وكان صلاح الدين بعد قهره الإفرنج بحطين قد أرسل يبشر أخاه العادل بمصر، ويأمره بالمسير إلى بلاد الإفرنج فتسارع إلى فلسطين، فأخذ مجدل بابا ويافا، وأجرى على أهلها شديد القسوة، وسار صلاح الدين إلى عسقلان وحاصرها مع أخيه العادل، فامتنع أهلها وصبروا على الدفاع، وكان ملك الإفرنج الأسير معه، فقال له: «إن سلمت إليَّ هذه المدينة أطلقتك.» فأمر الملك الإفرنج بتسليمها فعصوا أمره، ولكن أُكرهوا أخيرًا على طلب الأمان، فأمنهم صلاح الدين وسيَّرهم جميعًا إلى بيت المقدس.

(٣) فتح صلاح الدين بيت المقدس

بعد أن فتح صلاح الدين عسقلان ملك الرملة وغزة والخليل، ثم سار إلى بيت المقدس، وكان فيه صاحب الرملة، ومن نجا من فرسانهم في وقعة حطين، وقد جمعوا وحشدوا وحصنوا المدينة، ولما انتهى صلاح الدين إلى القدس بقي خمسة أيام يطوف حول المدينة؛ ليرى من أين يقاتلها وعمد إلى جهة الشمال، ونصب المنجنيقات وأخذ في الرمي واشتد القتال، وكان فرسان الإفرنج يخرجون كل يوم فيقاتلون في ظاهر البلد إلى أن حمل المسلمون حملة رجل واحد، فأزالوا الإفرنج من مواقفهم وجاوزوا الخندق، والتصقوا إلى السور وأخذوا في نقبه والمنجنيقات تواصل الرمي لتكشف الإفرنج عن الأسوار، فتشاور الإفرنج وأم رأيهم على طلب الأمان، فامتنع صلاح الدين من الإجابة، وحضر صاحب الرملة إليه فاستعطفه، فلم يعطف واسترحمه فلم يرحم، فقال له: «فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ونحرق أموالنا وأمتعتنا ونبيد مواشينا، ونخرب الصخرة والمسجد الأقصى، ونقتل من عندنا من أسرى المسلمين، ونخرج عليكم مقاتلين قتال من يحمي دمه، فلا يقتل منا رجل حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء أو نظفر كرامًا.» ولما سمع صلاح الدين هذا الكلام استشار أصحابه، وأجاب إلى بذل الأمان للإفرنج على هذه الطريقة بما أمكن نقله من أموالهم، وأما النصارى غير الإفرنج فطلبوا من صلاح الدين أن يمكنهم من الإقامة في مساكنهم، ويأخذ الجزية منهم فأجابهم إلى ذلك.

وظهر صلاح الدين بهذه النازلة كرم أخلاقه، وإشفاقه على الفقراء والمصابين، ورد على أمهات أولادهنَّ وعلى زوجات بعولهنَّ الذين كانوا أسرى، وترك كثيرين دون أخذ الفداء المتفق عليه، وأبقى الكنائس ولا سيما كنيسة القبر المقدس مقتديًا بعمر بن الخطاب، وسمح للنصارى أن يحجوا إلى بيت المقدس بشرط أن يأتوا بلا سلاح.

(٤) فتح صلاح الدين صور وغيرها

كان الإفرنج قد اجتمعوا بصور وقدم إليها كنراد بن المركيز دي مونتي فراتا، وقد وصفه ابن الأثير بأنه كان من شياطين الإنس حسن التدبير، وله شجاعة عظيمة، وقد حصن المدينة وقوى قلوب الأهلين، وخيم بجانبها صلاح الدين وعساكره سنة ١١٨٩ وحاول فتحها بمعظم الجهد، فلم ينل منها مأربًا، فرحل عنها إلى عكا وسار منها إلى قلعة كوكب المطلة على الأردن، فحصرها ورأى الوصول إليها متعذرًا، فسار إلى دمشق وترك عليها من يستديم حصارها، وحصار قلعتي صفد والكرك، وضايقوا هذه القلاع حتى طلب من كان بها الأمان وخرجوا منها.

وفي سنة ١١٨٩ غزا صلاح الدين في شمالي سورية، ونزل على بحيرة قدس في غربي حمص، وجمع العساكر وسار حتى نزل تحت حصن الأكراد، وأخذ كتيبة من الفرسان وأغار على صافيتا والعريمة ويحمور حتى وصل إلى قرب طرابلس؛ ليعرف من أين يأتي البلاد، وأتاه قاضي جبلة واستدعاه ليسلم جبلة إليه، فسار معه ونزل بطرطوس فأخلى الإفرنج المدينة واعتصموا بحصنين، فخرب المسلمون دورهم ودكوا أحد الحصنين ورموا حجارته في البحر، وترك صلاح الدين الحصن الآخر مخفورًا، ورحل إلى مرقية وقد أخلاها أهلها، وساروا إلى المرقب وفيها حصن منيع، وكان صاحب صقلية سيَّر ستين سفينة إلى طرابلس أتت ووقفت في البحر تحت المرقب … وكان هناك مضيق فصف صلاح الدين الطارقيات والجفتيات على طول المضيق حتى عبره عسكره، وسار إلى اللاذقية فترك الإفرنج المدينة، واحتموا بحصنين على الجبل فحصرهما المسلمون، ونقبوا الأسوار، فطلب الإفرنج الأمان فأمنهم صلاح الدين وقصد قلعة صهيون وتجلد من فيها بالقتال، ولكن أُرغموا على طلب الأمان، فلم يجبهم صلاح الدين إليه، وقدروا على نفوسهم قطيعة فقبلها وتسلم القلعة فزادها تحصينًا، وسار عنها إلى قلعة بكاس فرأى الإفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الثغر فحاصرها أيامًا، ولم يمدهم أمير أنطاكية فسلموا القلعة إلى صلاح الدين، فرحل إلى قلعة برزية فتسلمها بعد عناءٍ شديد، وسار إلى قلعة درب ساك وقلعة بفراس، وأكره من كان بهما على طلب الأمان وعزم على حصر أنطاكية، فأرسل ليمند أميرها يطلب هدنة، وبدل إطلاق كل أسير مسلم عنده فارتضى صلاح الدين لإراحة عساكره، وهادنه ثمانية أشهر وسار إلى حلب ثم عاد إلى دمشق.

(٥) في حصار الإفرنج عكا وفتحها وما كان إلى وفاة صلاح الدين

بعد أن ملك صلاح الدين بيت المقدس سيَّر الإفرنج وفودًا كثيرين إلى المغرب، فتألبت حملة ثالثة لإنقاذ الأرض المقدسة بإمرة ريشار الملقب بقلب الأسد ملك إنكلترا وفيلبوس أغوسطوس ملك إفرنسة، وسافر حينئذٍ أيضًا فريدريك ملك ألمانيا الملقب برباروسا (أي: ذو اللحية الحمراء) بطريق القسطنطينية وآسيا الصغرى ومعه نحو مائة ألف، لكنهم تجشموا مصاعب وحروبًا كثيرة وتوفي هذا الملك في كيليكيا، ولم يبلغ من عسكره إلى فلسطين إلا نحو خمسة آلاف رجل، وأما ملكا إفرنسة وإنكلترا فسافرا من جنوا ومرسيليا وبلغا فلسطين سنة ١١٩١، وكان الإفرنج المقيمون بسورية قد حاصروا عكا سنة ١١٩٠، وسار إليها صلاح الدين فقاتل الإفرنج المخيمين حولها وأدخل عسكرًا نجدة للمسلمين الذين فيها، وكانت وقعات بين الفريقين لم تكن فاصلة … وعاد السلطان صلاح الدين سنة ١١٩١ لقتال الإفرنج على عكا، واستمر القتال عليها وكان ملكا إفرنسة وإنكلترا قد بلغا إلى فلسطين، وأحاطت عساكر الإفرنج المدينة فارتاع المسلمون ولم يتمكن صلاح الدين من إنجادهم، وأصابه مرض أعجزه أن يشهد الحرب معهم، فطلبوا الأمان من الإفرنج، فأجابوهم إليه على شرط أن يطلق صلاح الدين الأسرى النصارى، ويطلق الإفرنج الأسرى المسلمين، وأن يدفع المسلمون إلى الإفرنج مائتي ألف دينار، ويردوا عليهم خشبة الصليب التي كانوا قد أخذوها منهم في وقعة حطين، وانقضى زمان ولم ينجز صلاح الدين وعده فهدده الإفرنج بقتل المسلمين الذين في حوزتهم وأخذوا ألفين وسبعمائة أسير، وقتلوهم قرب محلة صلاح الدين، وخشي صلاح الدين عاقبة استئناف الحرب فخلى سبيل ألفي أسير من الإفرنج، ودفع إليهم مائتي ألف دينار ورد عليهم خشبة الصليب، واستلموا عكا، ومرض ملك إفرنسة فعاد إلى مملكته تاركًا من جنوده عشرة آلاف مقاتل بفلسطين، وبقي ريشار ملك إنكلترا وحده على إمرة الإفرنج بسورية، وأعطى لوسنيان ملك الإفرنج قبرس التي كان قد أخذها من ملك الروم بمروره عليها وسماه ملك قبرس.

وبعد أن أخذ الإفرنج عكا ساروا نحو يافا، فضايقهم المسلمون في سيرهم، ولكنهم أخذوا قيصرية وأرسوف وبلغوا إلى يافا فوجدوا المسلمين قد أخلوها فملكوها هم، وسار صلاح الدين إلى عسقلان فخربها ودك أسوارها؛ لئلا يأخذها الإفرنج وخرب حصن الرملة، ومضى إلى القدس وأخذ في تحصينها وتجديد ما رثَّ منها، وفي سنة ١١٩٣ سار الإفرنج نحو عسقلان فاستلموها وشرعوا في عمارتها وقصدوا القدس وصلاح الدين فيها، لكنهم علموا أن لا قدرة لهم على إزاحته منها فعادوا عنها نحو عكا وأظهروا عزمهم على فتح بيروت، فأرسل صلاح الدين ابنه الأفضل ليعارضهم فلم يفارقوا عكا، وسار صلاح الدين إلى يافا فدخلها عسكره، وعاد الملك ريشار بحرًا إليها فطرد المسلمين من يافا، وحارب صلاح الدين في ظاهرها، فظهر عليه ورده عنها إلى الرملة.

وبلغ الملك ريشار أن أخاه يوحنا يسعى بأن يأخذ ملكه، وسئمت نفوس المسلمين والإفرنج الحرب، فعُقدت هدنة سنة ١١٩٣ بين صلاح الدين والملك ريشار، وجعلت مدتها ثلاث سنين وثلاثة أشهر على أن يستقر بيد الإفرنج يافا وقيصرية وأرسوف وعكا وحيفا، وأعمال هذه المدن وأن تكون عسقلان خرابًا، واشترط السلطان دخول بلاد الإسماعيلية في عقد هدنته، واشترط الإفرنج دخول صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس في عقد هدنتهم، وأن تكون الرملة مناصفة … وعاد السلطان إلى القدس وزاد وقف المدرسة الصالحية التي كانت كنيسة على اسم القديسة حنة، ثم جعلها المسلمون مدرسة ثم جعلها الإفرنج كنيسة وردها صلاح الدين مدرسة، وأما الملك ريشار فقبل عوده إلى مملكته أقام هنري كنت شمبانيا ملكًا للإفرنج، فتزوج إيزابل بنت الملك أموري التي كانت مزوجة بالمركيس كنراد والي صور، وكان صلاح الدين قد دس له من قتله.

(٦) في وفاة صلاح الدين وما كان بسورية إلى آخر هذا القرن

كان في عزم صلاح الدين بعد مهادنته الإفرنج أن يغزو في آسيا الصغرى، ويتصل إلى القسطنطينية ويتطرق إلى الإفرنج ببلادهم، ولكن أصابته حمى ولم تنجع به أدواء الأطباء وتوفي سنة ١١٩٤ ودفن في قلعة دمشق، ثم عمل له الملك الأفضل ابنه تربةً قبالة الجامع الأموي، ونقل رفاته إليها سنة ١١٩٧، وكان له من البنون سبعة عشر ابنًا وبنتًا واحدة، فملك أكبر أولاده وهو الأفضل نور الدين بدمشق وولده العزيز عماد الدين عثمان بمصر، وولده الظاهر غياث الدين غازي بحلب، وكان الملك الأفضل هو المعهود إليه بالسلطة، وفي سنة ١١٩٥ استحكمت الوحشة بين الأخوين العزيز صاحب مصر، والأفضل صاحب دمشق، وسار العزيز بعسكرٍ فحصر أخاه الأفضل بدمشق، فأصلح بينهما عمهما العادل وأخوهما الظاهر صاحب حلب، وعاد العزيز إلى مصر، ثم قصد دمشق ثانية سنة ١١٩٦ فاضطرب عليه بعض عسكره واضطر أن يعود إلى مصر، فتبعه الملك الأفضل وعمه الملك العادل، وقصد الملك الأفضل الاستيلاء على مصر، فمنعه عمه العادل عنها وسعى بالصلاح بين الأخوين، فعاد الأفضل إلى دمشق وبقي العادل بمصر.

وفي سنة ١١٩٧ اضطربت الأمور على الملك الأفضل بدمشق، فاتفق العزيز صاحب مصر والعادل على أن يأخذا دمشق منه ويسلمها العزيز إلى العادل؛ لتكون الخطبة والسكة للعزيز في كل البلاد كما كانت لأبيه صلاح الدين، فخرجا إلى دمشق وتسلماها، وسلمها العزيز إلى العادل وأعطى الأفضل صرخد، فسار إليها بأهله واستوطنها.

وفي سنة ١١٩٩ استولى الإفرنج على بيروت، وهجم الملك العادل على يافا، فملكها وحاصر الإفرنج بتبنين فرحَّلهم العادل عنها، وكانت هدنة بين الفريقين إلى ثلاث سنوات، وفي سنة ١٢٠٠ توفي الملك العزيز بمصر، وخلفه ابنه الملك المنصور محمد وكان صغيرًا، فاتفق الأمراء على استدعاء الملك الأفضل من صرخد فسار حثيثًا، فصير أمير الأمراء عند الملك ابن أخيه فسار بالعساكر من مصر لاسترداد دمشق من عمه، فكان بينهما قتالٌ شديد، وأتى الملك الظاهر صاحب حلب لنجدة أخيه الأفضل، وضايقا المدينة وقلت الأقوات، وحصل بين الأخوين الأفضل والظاهر خلافٌ أدى إلى ترك حصار دمشق.

وأما الإفرنج فمات ملكهم هنري دوك شمبانيا، وتزوجت أرملته إيزابل بنت الملك أموري زيجة ثالثة بأموري دي لوسنيان أخي ملك قبرس، وكُلل ملكًا سنة ١١٩٧.

(٧) في بعض المشاهير في هذا القرن

كان في هذا القرن محمد بن الخضري المعري، وكان شاعرًا مجيدًا حسن المعاني رشيق الألفاظ وله رسالة لقبها تحفة الندمان أتى بها بكل معنى غريب، وتوفي بعد سنة ١١٠٧، وكان فيه أيضًا إبراهيم الغزي وهو شاعر مشهور له ديوان شعر اختاره بنفسه، وله قصيدة مشهورة لناصر الدين بن علاء وزير كرمان، وتوفي سنة ١١٣١، وكان أيضًا ابن منير الأطرابلسي ولد بأطرابلس، وقدم دمشق وسكنها وكان كثير الهجاء، وسجنه بوري بن أتابك صاحب دمشق وعزم على قطع لسانه، فشفع بعضهم فيه فنفاه وأقام بحلب، وكان بينه وبين ابن القيسراني مكاتبات ومهاجاة، وتوفي بحلب سنة ١١٥٤ ويقال: توفي بدمشق سنة ١١٥٣.

ومنهم ابن عساكر الدمشقي كان محدث الشام في وقته، ومن أعيان الفقهاء الشافعية، وجمع من الحديث ما لم يتفق لغيره، وأشهر مصنفاته تاريخ لدمشق في ثمانين مجلدًا أتى فيه بالعجائب، واستعظمه العلماء، وله شعر لا بأس فيه وتوفي بدمشق سنة ١١٧٦، ومنهم أيضًا ابن الذكي الدمشقي الفقيه الشافعي وله النظم الجيد، والخطب والرسائل، وتولى القضاء بدمشق سنة ١١٩٣، وكانت له منزلة عالية عند صلاح الدين وتوفي سنة ١٢٠٢.

ومن هؤلاء المشاهير ابن القيسراني الخالدي الحلبي، وكان من الشعراء المجيدين، وكان هو وابن منير الأطرابلسي شاعري سورية في ذلك العصر، وجرت بينهما وقائع ونوادر وملح، وتوفي ابن القيسراني سنة ١١٥٤ بدمشق، وله كتاب في الكلمات المتشابهة لفظًا طبع بلندن سنة ١٨٦٥، ومنهم تقية ابنة الصوري وكانت فاضلة، ولها شعرٌ جيد ورووا أنها نظمت قصيدة في مدح الملك المظفر ابن أخي السلطان صلاح الدين، وكانت القصيدة خمرية ولما وقف الملك المظفر عليها، قال: «الشيخة تعرف هذه الأحوال من زمان صباها.» فنظمت قصيدة أخرى حربية وأرسلت تقول له: «علمي بهذا كعلمي بذاك.» تبرئة لساحتها، وتوفيت سنة ١١٤٤، ومنهم ابن المقدسي المشهور في علم النحو واللغة، وله على كتاب الصحاح للجوهري حواشٍ استدرك بها على صاحب الصحاح في مواضع كثيرة، وله حواشٍ على درة الغواص في أوهام الخواص للحريري، وتوفي سنة ١١٨٧، ومنهم أسامة بن منقذ أحد أمراء بني منقذ أصحاب شيزر، وله تصانيف عديدة في فنون الأدب وديوان شعر في جزأين، وتوفي سنة ١١٨٩.

وكان في غير سورية بهذا القرن أبو حامد الغزالي، وله في الفقه الوسيط والبسيط والوجيز والخلاصة والمستصفى، ثم إحياء علوم الدين والمنحول والمنتحل في الجدل، وتهافت الفلاسفة إلى غير ذلك، وتوفي سنة ١١١٢، ثم الطغرائي صاحب لامية العجم، وتوفي سنة ١١٢٠، وأبو محمد الحريري صاحب المقامات المشهورة، وله أيضًا درة الغواص في أوهام الخواص وملحة الأعراب في النحو وشرحها، وتوفي سنة ١١٢٣، ثم الفتح بن خاقان صاحب كتاب قلائد العقيان، ومطمح الأنفس ومسرى التأنس في ملح أهل الأندلس، وتوفي سنة ١١٤١، ثم الزمخشري الإمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان، وله في كل ذلك مصنفات مشهورة وتوفي سنة ١١٤٤، والإدريسي صاحب كتاب الجغرافية الذي طبع بالعربية سنة ١٦١٧ برومة، وترجمه إبراهيم الحاقلي الماروني إلى اللاتينية، ولد سنة ١١٠٠ بإفريقيا بمدينة سينا، ولم نعثر على سنة وفاته، وابن رشد مترجم كتب أرسطو، وله كتاب سماه الكليات في الطب، وبقي العلماء في أوروبا زمانًا طويلًا لا يعرفون كتب أرسطو إلا بترجمتها اللاتينية عن كتب ابن رشد العربية، وله رسالة تهافت المتهافتين ردًّا على كتاب الغزالي الموسوم بتهافت الفلاسفة، وشرح على أرجوزة ابن سينا في الطب وتوفي سنة ١١٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤