الفصل الثاني

الذرات

يقول كثير من المؤلفات الرائجة في تاريخ العلوم إن فكرة الذرات يرجع تاريخها إلى الحضارة الإغريقية القديمة، وهي فترة تمثِّل نشأة العِلم، وتمتدح هذه المؤلَّفات قدماء الإغريق على إدراكهم المبكِّر للطبيعة الحقيقية للمادة. ولكن، ينطوي هذا الرأي على قدرٍ من المبالغة. صحيحٌ أن ديومقريطوس من أبديرة، الذي توفِّي قرابة عام ٣٧٠ ق.م. قد افترض أن الطبيعة المعقَّدة للعالم يمكن تفسيرها إذا كانت كل الأشياء تتكوَّن من أنواعٍ مختلفة من ذراتٍ غيرِ قابلة للتغيُّر، لكلٍّ منها شكلُه وحجمه الخاص، وهي في حركةٍ دائمة. كتب ديموقريطوس أن «الأشياء الوحيدة الموجودة هي الذرات والفراغ، وما عدا ذلك فمجرَّد آراء»،1 وقد تبنَّى كلٌّ من إبيقور من ساموس ولوكريتيوس كاروس الروماني هذه الفكرة بعد ذلك. ولكن لم تكن هذه هي الفكرة الرائدة في تلك الأيام بين النظريات الأخرى في تفسيرِ طبيعة العالم، بل كان اقتراح أرسطو بأن كل شيء في الكون يتألَّف من «العناصر» الأربعة: النار والأرض والهواء والماء، هو الذي حقَّق شعبيةً «أكبرَ كثيرًا» وظلَّ صامدًا. وقد نُسيت تمامًا فكرة الذرات بحلول عهد المسيح، ولاقت عناصرُ أرسطو الأربعة قبولًا ورواجًا على مدى ألفَي عام.

ومع أن الإنجليزي روبرت بويل قد استخدم مفهوم الذرات في أبحاثه في مجال الكيمياء في القرن السابع عشر، وأخذها نيوتن في الاعتبار في أبحاثه في مجال الفيزياء والبصريات، لم تصبح الذرات جزءًا من التفكير العلمي إلا في القسم الأخير من القرن الثامن عشر، عندما درس الكيميائي الفرنسي أنطوان لافوازييه سببَ احتراق الأشياء. وقد حدَّد لافوازييه عناصرَ حقيقيةً عديدة، وهي موادُّ كيميائيةٌ نقية، لا تتفكَّك إلى موادَّ كيميائيةٍ أخرى، وقد تحقَّق لافوازييه من أن الاحتراق هو ببساطة العملية التي يتَّحد من خلالها أكسجين الهواء الجوي مع العناصر الأخرى. وفي السنوات الأولى من القرن التاسع عشر، تمكَّن جون دالتون من بلورة دور الذرات في الكيمياء ووضعه على أساسٍ راسخ. فقد ذكر أن المادة تتكوَّن من ذراتٍ غيرِ قابلة للانقسام، وأن ذرات كل عنصر متماثلة، ولكنَّ للعناصر المختلفة أنواعًا مختلفة من الذرات (ذات أحجامٍ وأشكالٍ مختلفة)، وأن الذرات لا تُستحدَث من العدم ولا تفنى، لكن يُعاد تنظيمها بواسطة التفاعلات الكيميائية، وأن المركَّب الكيميائي الذي يتكوَّن من عنصرَين أو أكثر، يتكوَّن من جزيئات، كلٌّ منها يتكوَّن من عددٍ بسيطٍ ثابت من ذرات كل عنصر من العناصر الداخلة في تركيب المركَّب. ومن ثَم، لم يأتِ المفهوم الذري للعالَم المادي إلى حيز الوجود، بالصورة التي يُدرَّس بها في الكتب الدراسية، إلا منذ ما يقرب من مائتَي عام.

الذرات في القرن التاسع عشر

ومع ذلك، لم تَحُز الفكرةُ استحسانَ الكيميائيين وتأييدهم إلا ببطء خلال القرن التاسع عشر. وقد أثبت جوزيف جاي-لوساك بالتجربة أنه عند اتحاد مادتَين غازيتَين فإن حجم أحد الغازَين لا بد دائمًا أن يتناسب تناسبًا بسيطًا مع حجم الغاز الآخر. وإذا كان المركَّب الناتج غازًا أيضًا، فإن حجم هذا الغاز الثالث لا بد أن يتناسب هو الآخر تناسبًا بسيطًا مع الغازَين الآخرَين. ويتَّفق ذلك مع فكرةِ أن جزيء المركَّب يتكوَّن من ذرةٍ أو ذرتَين من أحد الغازَين متحدةٍ بعددٍ قليل من ذرات الغاز الآخر. وقد استخدم الإيطالي أماديو أفوجادرو هذا البرهان سنة ١٨١١ ليضع فرضيته الشهيرة التي تنصُّ على أنه عند أي درجة حرارة وضغط ثابتَين تحتوي الحجوم المتساوية من الغاز على العددِ نفسِه من الجزيئات، مهما اختلفت الطبيعة الكيميائية لهذا الغاز. وقد أثبتت التجارب اللاحقة أن فرضية أفوجادرو صحيحة، ومن الممكن إثبات أن كل لتر من الغاز تحت ضغط واحد جو ودرجة حرارة صفر درجة مئوية، يحتوي تقريبًا على عدد ٢٧٠٠٠ مليار (٢٧ × ١٠٢١) من الجزيئات. لكن لم تتطوَّر الفكرة إلا على يد الإيطالي ستانيسلاو كانيزارو في خمسينيات القرن التاسع عشر، على نحوٍ دفع ببعض الكيميائيين إلى أن يأخذوها مأخذَ الجِد. ولكن، حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، كان لا يزال كثيرٌ من الكيميائيين لا يتقبلون أفكارَ دالتون وأفوجادرو. ولكن بحلول ذلك الوقت، كانت قد استحوذت عليهم الأحداث الدائرة في مجال تطوُّر الفيزياء؛ حيث قدَّم كلٌّ من الاسكتلندي جيمس كليرك ماكسويل والنمساوي لودفيج بولتزمان تفسيرًا تفصيليًّا لسلوك الغازات باستخدام مفهوم الذرات.
وخلال فترتَي الستينيات والسبعينيات من القرن التاسع عشر، استحدث هؤلاء الرواد فكرةَ أن الغاز يتكوَّن من ذراتٍ أو جزيئاتٍ كثيرةٍ للغاية (يمكن للعدد الذي استنتجته فرضية أفوجادرو أن يعطيك فكرةً عن عددها)، والتي يمكن تصوُّرها على أنها كراتٌ صلبةٌ متناهية الصِّغر ترتدُّ في كل الاتجاهات؛ حيث تصطدم إحداها مع الأخرى، ومع جدران الوعاء الذي يحتوي على الغاز. ويرتبط هذا ارتباطًا مباشرًا بفكرةِ أن الحرارة شكلٌ من أشكال الحركة؛ فعندما يُسخَّن الغاز تتحرَّك الجزيئات بمعدلٍ أسرع، الأمر الذي يزيد الضغط على جدران الوعاء، أما إذا لم تكن الجدران ثابتةً في مكانها فإن الغاز سيتمدَّد. وكانت السمة الرئيسية في هذه الأفكار الجديدة هي أن سلوك الغاز يمكن تفسيره بتطبيق قوانين الميكانيكا — قوانين نيوتن — بمفهومٍ إحصائي على عددٍ كبير للغاية من الذرات أو الجزيئات. فمن الممكن لأي جزيء أن يتحرَّك في أي وقتٍ في أي اتجاه، لكن التأثير الجَمعي للجزيئات العديدة المتصادمة مع جدران الوعاء كلَّ ثانية يُولِّد ضغطًا ثابتًا. وقد أدَّى ذلك إلى وضعِ توصيفٍ رياضي لعمليات الغازات يُسمَّى الميكانيكا الإحصائية. لكن ما يزال لا يوجد دليل مباشر على وجود الذرات؛ وقد عارض بعض الفيزيائيين الرائدين في ذلك الوقتِ الفرضيةَ الذرية، وحتى في تسعينيات القرن التاسع عشر استشعر بولتزمان في نفسه (وربما جانبَه الصواب في ذلك) أنه شخصٌ يناضل ضد تيار الرأي العلمي. وفي عام ١٨٩٨، نشر عملياته الحسابية التفصيلية على أملِ أنه «عندما تروج نظرية الغازات مرةً أخرى، لن يكون هناك الكثير ليُعاد اكتشافه»،2 وفي عام ١٩٠٦ أحاط به المرض والإحباط، وأحزنته المعارضة المستمرة التي شنَّها كثير من العلماء الرائدين على أفكاره حول النظرية الحركية للغازات؛ مما دفعه إلى الانتحار، دون أن يعلم أن منظِّرًا مغمورًا يُدعى ألبرت أينشتاين قد نشر قبل بضعة أشهر مقالًا علميًّا أثبت فيه حقيقةَ وجود الذرات بعيدًا عن أي شكٍّ محتمَل.

الذرات لدى أينشتاين

لم يكن هذا المقالُ سوى واحدٍ من ثلاثة مقالات نشرها أينشتاين في العددِ نفسِه من مجلة «أنال دي فيزيك» سنة ١٩٠٥، وأي مقال منها كفيلٌ بحجز مكانٍ له في سجل تاريخ العلوم. تناول أحدُ المقالات نظرية النسبية الخاصة، وهي خارج نطاق الكتاب الحالي، وعُني مقالٌ آخرُ بالتفاعل بين الضوء والإلكترونات، وقد أُقرَّ هذا المقال فيما بعدُ كأولِ بحثٍ علمي يتناول ما نسميه الآن ميكانيكا الكَمِّ، وقد نال عنه أينشتاين جائزة نوبل سنة ١٩٢١. أما المقال الثالث فقدَّم تفسيرًا بسيطًا بدرجةٍ خادعة لأُحجية حيَّرت العلماء منذ عام ١٨٢٧، وقد أثبت هذا المقال، بقدرِ ما تسنى لأي ورقةٍ بحثيةٍ نظرية، حقيقة وجود الذرات.

وقد صرَّح أينشتاين فيما بعدُ أن هدفه الأساسي في ذلك الوقت كان «اكتشاف الحقائق التي تؤكِّد بكلِّ وضوحٍ ممكنٍ وجودَ ذراتٍ بحجمٍ محدَّد»،3 وهو الهدف الذي ربما يبيِّن أهميةَ البحث في مطلع القرن العشرين. عندما نُشرت هذه الأبحاث، كان أينشتاين يعمل فاحصًا للبراءات في برن؛ إذ لم يجعله نهجه غير التقليدي في تناول الفيزياء مرشحًا بديهيًّا لشغلِ وظيفةٍ أكاديمية عندما أنهى تعليمه الرسمي، ومن ثَم كانت الوظيفة في مكتب براءات الاختراع مناسبةً له. وقد أثبت عقله المنطقي أنه قادرٌ على التمييز بين الغثِّ والسمين في الاختراعات الجديدة، وتركت له مهارتُه وخبرته الوظيفية متسعًا من الوقت للتفكير في الفيزياء حتى أثناء ساعات عمله في المكتب. وحازت بعضُ أفكاره اهتمامَ عالِم النبات البريطاني توماس براون، فاستعان بها في اكتشافاته منذ ثمانين عامًا تقريبًا. لاحظ براون أن حبوب اللقاح التي تطفو في قطرة ماء عند فحصها مجهريًّا تتحرَّك حركةً عشوائية غير منتظمة فيما يُسمَّى الآن بالحركة البراونية. وقد أثبت أينشتاين أن هذه الحركة، على الرغم من أنها عشوائية، فإنها تخضع لقانونٍ إحصائيٍّ محدَّد، وأن نمط السلوك يماثل بالضبط ما ينبغي أن نتوقَّعه إذا افترضنا أن حبَّة اللقاح «تُحرِّكها» باستمرار جسيماتٌ لا تُرى بالعين المجردة وأصغر من أن يتم رصدها مجهريًّا، وتتحرَّك هذه الجسيمات وفقًا للإحصائيات التي استخدمها بولتزمان وماكسويل لوصف الطريقة التي تتحرَّك بها الذرات في مادةٍ غازية أو سائلة. ويبدو واضحًا جدًّا اليوم أنه من الصعب الوقوف بالضبط على الطفرة التي أحدثتها هذه الورقة البحثية. فيمكنني أنا وأنت، من منطلق الاعتياد على فكرة الذرات، أن نعرف في الحال أنه إذا كانت حبوب اللقاح تتحرَّك بواسطة عمليات اصطدام غير مرئية، فلا بد أن الذرات المتحركة هي التي تدفع بحبوب اللقاح في الأنحاء. ولكن قبل أن يوضِّح أينشتاين الفكرة، كان العلماء المبجَّلون ما زالوا يشكِّكون في حقيقة وجود الذرات، إلا أنه لم يَعُد هناك مجالٌ للشك بعد ظهور ورقته البحثية. لقد صار الأمر بسيطًا وسهلًا عند شرحه، مثل سقوط التفاحة من الشجرة، ولكن إذا كان الأمر بهذا الوضوح فلماذا لم تحظَ بالتقدير في العقود الثمانية الماضية؟

وكان من دواعي المفارقة أن نُشِر هذا المقال باللغة الألمانية (في مجلة «أنال دي فيزيك») لأنها كانت الجبهة المعارِضة لرواد العلماء المتحدثين بالألمانية مثل إرنست ماخ فيلهلم أوستفالد، الأمر الذي أقنع بولتزمان أن صوته كان صرخةً في وادٍ لم يستجِب لها أحد. وفي الحقيقة، مع بداية القرن العشرين كان هناك الكثير من الأدلة على حقيقة وجود الذرات، حتى لو قلنا إن هذه الأدلة يمكن بالأحرى وصفها بأنها ثانوية أو عَرَضية؛ وقد أيَّد علماء الفيزياء البريطانيون والفرنسيون النظريةَ الذرية باقتناعٍ أكثرَ بكثير من نظرائهم الألمان، وكان الإنجليزي جيه جيه طومسون هو مَن اكتشف الإلكترون — الذي نعلم الآن أنه أحد مكوِّنات الذرة — سنة ١٨٩٧.

الإلكترونات

دار كثيرٌ من الجدل والنقاش في أواخر القرن التاسع عشر بشأن طبيعة الإشعاع الناتج من سلكٍ يمرُّ به تيارٌ كهربي في أنبوبٍ مفرَّغ من الهواء. قد تكون أشعةُ الكاثود تلك — كما كانت تُسمَّى — صورةً من الإشعاع، ناتجةً من ذبذبات الأثير لكنها مختلفة في خواصها عن الضوء وعن موجات الراديو المكتشَفة حديثًا، أو قد تكون تدفُّقاتٍ من جسيماتٍ دقيقة. أيَّد معظم العلماء الألمان فكرةَ موجات الأثير، بينما رأى معظم العلماء البريطانيين والفرنسيين أن أشعة الكاثود لا بد أن تكون جُسيمات. وازداد الوضع تعقيدًا مع الاكتشاف العَرضي للأشعة السينية (أشعة إكس) على يد فيلهلم رونتجن سنة ١٨٩٥ (حصل رونتجن سنة ١٩٠١ على أول جائزة نوبل في الفيزياء على هذا الاكتشاف)، ولكن تبيَّن أن ذلك لم يكن سوى مسألةٍ ثانويةٍ زائفة يُراد بها صرفُ الانتباه عن المسألة الحقيقية. وعلى الرغم من أهمية هذا الاكتشاف — كما ثبت سريعًا بعد ذلك — فإنه كان يوجد من قبلُ إطارٌ نظري للفيزياء الذرية يمكن أن تندرج تحته أشعة إكس. وسوف نتحدَّث عن أشعة إكس مرةً أخرى في سياقٍ أكثرَ منطقية أثناء تقدُّمنا في الكتاب.

عمل طومسون في مختبر كافنديش، وهو مركز أبحاث في كامبريدج أسَّسه ماكسويل حين كان أول أستاذ في قسم الفيزياء بالجامعة في سبعينيات القرن التاسع عشر. وقد صمَّم طومسون تجربةً تعتمد على الموازنة بين الخواص الكهربية والمغناطيسية لجسيمٍ مشحونٍ متحرك.4 ومن الممكن تغييرُ مسار هذا الجسيم باستخدام المجال المغناطيسي أو المجال الكهربي، وقد صُمِّم جهاز طومسون بحيث يلغي أحدُ هذين المجالَين تأثيرَ الآخر ليمرَّ شعاعٌ من أشعة الكاثود في خطٍّ مستقيم من لوحِ فلزٍّ سالبِ الشحنة (أو كاثود) إلى شاشةِ جهازٍ كاشف. ولا تصلح هذه الطريقة إلا مع الجسيمات المشحونة كهربيًّا؛ ومن ثَم أثبت طومسون أن أشعة الكاثود هي في الحقيقة جسيماتٌ سالبة الشحنة (تسمَّى الآن إلكترونات)، وقد تمكَّن طومسون من استخدام الاتزان بين القوى الكهربية والقوى المغناطيسية لحساب نسبة شحنة الإلكترون الكهربية إلى كتلته (e/m). وقد حصل دائمًا على النتيجةِ نفسِها أيًّا كان الفلز المصنوع منه الكاثود، ومن ثَم استنتج أن الإلكترونات أجزاءٌ من الذرات، وعلى الرغم من أن العناصر المختلِفة تتكوَّن من ذراتٍ مختلفة، فإن كل الذرات تحتوي على إلكتروناتٍ متطابقة.

لم يكن هذا الاكتشاف بمحض المصادفة مثلما حدث في اكتشاف أشعة إكس، لكنه كان نتاج التخطيط الجيد والتجارب المصمَّمة بمهارة. أنشأ ماكسويل مختبرَ كافنديش، لكنه لم يصبح مركزًا رائدًا في مجال التجريبية — وربما المعمل الرائد عالميًّا في الفيزياء — إلا في عهد طومسون وتحت قيادته؛ حيث كان يشكِّل جوهر الاكتشافات التي أدَّت إلى الفهْم الحديث للفيزياء في القرن العشرين. وكما حصل طومسون نفسُه على جائزة نوبل، حصل أيضًا سبعة ممن عملوا تحت قيادته في مختبر كافنديش على الجائزةِ نفسِها في الفترةِ ما قبل سنة ١٩١٤. ولا يزال هذا المختبر مركزًا عالميًّا للفيزياء حتى يومنا هذا.

الأيونات

اتضح أن أشعة الكاثود، الناتجة عن لوحٍ سالبِ الشحنة في أنبوبٍ مفرَّغ من الهواء، عبارة عن جسيماتٍ سالبة الشحنة، وهي الإلكترونات. أما الذرات فهي متعادلة كهربيًّا، ومن المنطقي تمامًا أن تكون هناك نظائرُ موجبةُ الشحنة للإلكترونات، والتي انفصلت عن الذرات المحتوية على جسيمٍ سالبِ الشحنة وقُذِفت خارجها. وقد كان فيلهلم فيين من جامعة فورتسبورج من أوائل مَن درسوا هذه الأشعة الموجبة سنة ١٨٩٨، وتوصَّل إلى أن الجسيماتِ المكوِّنة لهذه الأشعة أثقلُ كثيرًا من الإلكترونات، كما يُفترض بنا أن نتوقَّع ما إذا كانت هذه مجرَّدَ ذراتٍ فقدت إلكترونًا. وبعد أبحاثه على أشعة الكاثود أخذ طومسون على عاتقه تحدياتِ دراسة هذه الأشعة الموجبة في سلسلة من التجارب الصعبة امتدت حتى عشرينيات القرن العشرين. ويُطلَق على هذه الأشعة اليومَ ذراتٌ متأيِّنة، أو ببساطة «أيونات»، أما في أيام طومسون فكانت تُسمَّى الأشعةَ القنوية، وقد درس طومسون هذه الأشعةَ باستخدامِ أنبوبِ أشعةِ كاثود معدَّل، والذي كان يحتوي على قليل من الغاز الذي خلَّفته مضخة التفريغ. كانت الإلكترونات التي تتحرَّك خلال الغاز تتصادم مع ذراته، وتقذف إلكتروناتٍ أخرى خارجها تاركةً الأيونات الموجبة الشحنة، التي يمكن التعامل معها بالمجالَين الكهربي والمغناطيسي بالطريقةِ نفسِها التي تعامل بها طومسون مع الإلكتروناتِ نفسِها. وبحلول سنة ١٩١٣ كان فريق طومسون يُجري قياساته على حيود الأيونات الموجبة للهيدروجين والأكسجين وغازاتٍ أخرى. وكان غاز النيون أحدَ الغازات التي استخدمها طومسون في هذه التجارب، ووجد أن مقدارًا ضئيلًا من النيون في الأنبوب المفرَّغ الذي يمرُّ خلاله تيارٌ كهربي يتوهَّج بشدة، ومن ثَمَّ كان جهاز طومسون رائدًا لأنبوب النيون الحديث. ولكن ما اكتشفه طومسون كان أهم بكثير من مجرد اكتشافِ نوعٍ جديد من اللافتات الإعلانية.

على عكس الإلكترونات، التي تتساوى جميعها في النسبةِ ما بين شحنة الإلكترون الكهربية وكتلته (e/m)، فقد اتضح وجود ثلاثة أيونات مختلِفة للنيون، لها جميعًا كميةُ الشحنةِ نفسِها مثل الإلكترون (لكنها +e بدلًا من -e)، وتختلف في الكتلة. وكان ذلك أولَ دليل على أن العناصرَ الكيميائية تحتوي عادةً على ذراتٍ لها كتلةٌ مختلِفة (أوزانٌ ذريةٌ مختلِفة) لكنها لها جميعًا الخواص الكيميائية نفسها. يُطلَق الآن على هذه التغيرات الحادثة في العناصر اسم «النظائر»، إلا أنه قد مضى وقتٌ طويلٌ جدًّا قبل أن يُتوصَّل إلى تفسيرٍ لوجودها. ومع ذلك، كان لدى طومسون معلوماتٌ كافية ليبدأ أولى محاولات تفسير ماهية الذرة وشكلها من الداخل؛ فهي ليست جُسيمًا نهائيًّا غيرَ قابل للانقسام — كما كان يظن قليلٌ من الفلاسفة الإغريق — بل هي مزيج من شحناتٍ موجبة وسالبة، يمكن أن تنفصل عنها الإلكترونات وتُقذف خارجها.

تصوَّر طومسون الذرةَ شيئًا أشبهَ بالبطيخة، كرة كبيرة نسبيًّا تنتشر خلالها الشحنة الموجبة، والإلكترونات الصغيرة مضمَّنة داخلها مثل البذور، ويحمل كلٌّ منها مقدارًا ضئيلًا من الشحنة السالبة خاصًّا به. وقد اتضح خطؤه، لكنه قدَّم للعلماء هدفًا يوجِّهون إليه أبحاثهم، وقد أدَّت تجاربهم البحثية حول هذا الهدفِ إلى فهمٍ أكثرَ دقةً لتركيب الذرة. وحتى نرى كيف حدث ذلك، علينا أن نرجع خطوةً إلى الوراء في تاريخ العلوم، ثم نتقدَّم خطوتَين.

أشعة إكس

اتضح أن المدخل إلى معرفةِ سرِّ تركيبِ الذرة هو اكتشاف النشاط الإشعاعي سنة ١٨٩٦. وعلى غرار اكتشاف أشعة إكس قبل هذا العام ببضعة أشهر، كان هذا الاكتشاف مصادفةً موفَّقة، وإن كان في كلتا الحالتَين مصادفةً موفَّقةً تحتَّم إجراؤها في مختبرٍ للفيزياء في غضون هذه الفترة. كان فيلهلم رونتجن يُجري تجاربَه على أشعة الكاثود مثل كثيرين من علماء الفيزياء في تسعينيات القرن التاسع عشر. وقد تبيَّن بالمصادفة أنه عند اصطدام هذه الأشعة — الإلكترونات — بجسمٍ مادي، فإن التصادم ينتج عنه أشعةٌ ثانوية. وهذه الأشعة غيرُ مرئية إلا أنه يمكن الكشف عنها من خلال تأثيرها في الألواح الفوتوغرافية أو الأفلام، أو من خلال تأثيرها في قطعةٍ من جهازٍ تسمَّى الشاشة الفلورسنتية، تُصدِر شررًا من الضوء عندما تصطدم بها الأشعة. وقد تصادف أن رونتجن كانت لديه شاشة فلورسنتية موضوعة على طاولة بالقرب من تجربته بأشعة الكاثود، وسرعان ما لاحظ أن هذه الشاشة تتوهَّج عندما يبدأ أنبوب التفريغ في تجربة أشعة الكاثود في العمل. وقد أدَّى به ذلك إلى اكتشاف الأشعة الثانوية التي أطلَق عليها «إكس»؛ لأن إكس يرمُز عادةً إلى الكَمِّية المجهولة في المعادلات الرياضية. وسرعان ما تبيَّن أن أشعة إكس تسلك سلوكَ الموجات (نحن نعرف الآن أنها صورة من الإشعاع الكهرومغناطيسي، تشبه إلى حدٍّ بعيدٍ موجاتِ الضوء، لكن أطوالها الموجيَّة أقصرُ منه بكثير)، وقد ساعد هذا الاكتشاف الذي تمَّ التوصُّل إليه في مختبرٍ ألماني في تأكيد وجهة نظر معظم العلماء الألمان في أن أشعة الكاثود لا بد أن تكون أيضًا موجات.

أُعلن عن اكتشاف أشعة إكس في ديسمبر سنة ١٨٩٥ وأحدث ذلك ثورةً في المجتمع العلمي. وقد حاول باحثون آخرون إيجادَ طرقٍ أخرى لإنتاج أشعة إكس أو أشكالٍ ذات صلة من الإشعاع، وكان أولَ مَن نجح في ذلك هو هنري بيكريل في باريس. وكانت أكثر السمات المثيرة للاهتمام في أشعة إكس هي الطريقة التي تمرُّ بها دون أي عوائقَ خلال الكثير من المواد المعتمة، مثل الورقة السوداء، لينتج عنها صورةٌ على لوحٍ فوتوغرافي لم يتعرَّض للضوء. وكان بيكريل مهتمًّا بظاهرة الفسفرة، أو الوميض الفسفوري، التي تعني انبعاث الضوء بواسطة مادةٍ سبق لها أن امتصَّت الضوء. ولا تبعث الشاشة الفلورسنتية — على غرار تلك التي وردت في اكتشاف أشعة إكس — بالضوء إلا إذا «أُثيرت» بواسطةِ إشعاعٍ ساقطٍ عليها؛ ذلك حيث يكون للمادة الفسفورية القدرةُ على اختزان الأشعة الساقطة عليها ثم إطلاقها على شكل ضوء، يخفت ببطء ويتلاشى، على مدى ساعات بعد وضعها في الظلام. وكان من الطبيعي البحث عن علاقةٍ بين ظاهرة الفسفرة وأشعة إكس، إلا أن ما اكتشفه بيكريل لم يكن متوقَّعًا، تمامًا مثلما حدث مع اكتشاف أشعة إكس.

النشاط الإشعاعي

في فبراير ١٨٩٦، غطَّى بيكريل لوحًا فوتوغرافيًّا بورقٍ أسودَ مزدوج السماكة، ثم غلَّف الورق بأملاح ثاني كبريتات اليورانيوم والبوتاسيوم، ثم عرَّضَ هذا كلَّه للشمس عدةَ ساعات. وعندما حُمِّضَ اللوح، ظهر إطار الطبقة الخارجية للعناصر الكيميائية. اعتقد بيكريل أن أشعة إكس قد جرى توليدُها في الطبقة الخارجية — أحد أملاح اليورانيوم — بفِعل ضوء الشمس، تمامًا كما في حالة الفسفرة. وبعد يومَين حضَّر لوحًا آخر بالطريقةِ نفسِها بغرض تكرار التجربة، إلا أن السماء كانت ملبَّدة بالغيوم في هذا اليوم واليوم الذي تلاه، فظل اللوح الذي أعدَّه بيكريل محفوظًا داخل خزانة. وفي الأول من مارس، حمَّض بيكريل اللوحَ على أية حال، فوجد مرةً أخرى الإطار الخارجي لملح اليورانيوم. وأيًّا كان الأمر الذي تسبَّب في تضبيب اللوحَين، فإنه لا علاقة له بضوء الشمس أو الفسفرة، ولكنه كان شكلًا غيرَ معروف مسبقًا من الإشعاع الذي اتضح أنه يصدُر من اليورانيوم نفسِه تلقائيًّا دون أيِّ مؤثرٍ خارجي. وتسمَّى الآن هذه القدرةُ على انبعاث الإشعاع تلقائيًّا بالنشاط الإشعاعي.

شرع علماءُ آخرون في دراسة النشاط الإشعاعي بعد أن أثار اكتشاف بيكريل اهتمامهم، وسرعان ما أصبحت ماري كوري وبيير كوري اللذان يعملان في السوربون خبيرَين في هذا الفرع الجديد من العلم. وقد حصلا على جائزة نوبل في الفيزياء سنة ١٩٠٣ عن أبحاثهما في مجال النشاط الإشعاعي وعن اكتشافِ عناصرَ مشِعَّةٍ جديدة، وحصلت ماري على جائزة نوبل ثانية، في الكيمياء، سنة ١٩١١ وذلك عن أبحاثها اللاحقة في المواد المشعة (كما حصلت إيرين، ابنة ماري كوري وبيير كوري، على جائزة نوبل عن أبحاثها في مجال النشاط الإشعاعي في ثلاثينيات القرن العشرين). وفي بداية العَقد الأول من القرن العشرين كانت الاكتشافات التجريبية في مجال النشاط الإشعاعي متقدمةً كثيرًا عن النظرية، مع حدوث سلسلةٍ من التطورات الجديدة التي لم يتم تضمينها في الإطار النظري إلا فيما بعدُ. وقد لمع اسم أحدِ العلماء خلال هذه الفترة في دراسة النشاط الإشعاعي، وهو اسم إرنست رذرفورد.

كان رذرفورد عالِمًا نيوزيلنديًّا عمل مع طومسون في مختبر كافنديش في تسعينيات القرن التاسع عشر. وفي عام ١٨٩٨ عُيِّن أستاذًا للفيزياء في جامعة ماكجيل في مدينة مونتريال، وهناك أثبت هو وفريدريك سودي سنة ١٩٠٢ أن النشاط الإشعاعي ينطوي على تحوُّل العنصرِ المشعِّ إلى عنصرٍ آخر. وكان رذرفورد هو مَن اكتشف إنتاج نوعَين مختلفَين من الإشعاع بفِعل هذا «الانحلال» أو «الاضمحلال» الإشعاعي كما يُسمَّى الآن، وقد أطلَق عليهما أشعةَ ألفا وأشعة بيتا. وعندما اكتُشِف نوع ثالث من الإشعاع فيما بعدُ، كان من الطبيعي أن يُطلَق عليه أشعةُ جاما. وقد ثبت أن أشعَّة ألفا وأشعَّة بيتا جسيماتٌ سريعةُ الحركة، وسرعان ما اتضح أن أشعة بيتا ما هي إلا إلكترونات، وهي المكافئ الإشعاعي لأشعة الكاثود، واتضح بعد فترةٍ وجيزة أن أشعة جاما شكلٌ آخرُ من الإشعاع الكهرومغناطيسي مثل أشعة إكس، لكنه ذو أطوالٍ موجيةٍ أقصرَ كثيرًا. ولكن تبيَّن أن جسيمات ألفا شيءٌ مختلِف تمامًا؛ فهي جسيمات تفوق في كتلتها ذرةَ الهيدروجين بمقدار أربع مرات تقريبًا، وتحمل شحنةً كهربية تساوي في مقدارها ضِعفَ شحنة الإلكترون، ولكنها موجبة وليست سالبة.

داخل الذرة

حتى قبل أن يعرف أحدٌ ماهيةَ جسيم ألفا بدقة، أو كيفية إطلاقه بسرعةٍ هائلة من ذرة بما يجعلها تتحوَّل أثناء هذه العملية إلى ذرةِ عنصرٍ آخر، تمكَّن باحثون من أمثال رذرفورد من استخدامه. ذلك حيث يمكن استخدامُ مثل هذه الجسيمات العالية الطاقة — التي هي نفسها نتاجُ تفاعلاتٍ ذرية — كمجسات لدراسة تركيب الذرات، وقد اكتُشف مصدر جسيمات ألفا في المقام الأول في بحثٍ علميٍّ دوريٍّ ومثير. انتقل رذرفورد سنة ١٩٠٧ من مونتريال ليصبح أستاذًا للفيزياء في جامعة مانشستر بإنجلترا، وحصل على جائزة نوبل في الكيمياء سنة ١٩٠٨ عن أعماله في مجال النشاط الإشعاعي، وهي الجائزة التي كان لها وقعٌ ساخر في نفسه. فمع أن لجنة نوبل كانت تَعتبر دراسةَ العناصر تندرج تحت الكيمياء، فإن رذرفورد كان يَعتبر نفسه فيزيائيًّا وليس له علاقة بالكيمياء إلا في أضيق الحدود، وكان يعتبرها فرعًا من العلوم أدنى كثيرًا. (ومع الفهم الجديد للذرات والجزيئات الذي زوَّدتنا به فيزياءُ الكَمِّ، فإن العبارة القديمة التي كان يردِّدها علماء الفيزياء من أن الكيمياء هي ببساطة فرعٌ من الفيزياء أصبحت صحيحةً بنسبةٍ تزيد كثيرًا عن ٥٠ في المائة). وسنة ١٩٠٩ أجرى كلٌّ من هانز جايجر وإرنست مارسدن، أثناء عملهما في قسم رذرفورد في مانشستر، تجاربَ وُجِّه فيها شعاعٌ من جسيمات ألفا على طبقةٍ رقيقة من فلزٍّ ما ليمرَّ خلالها. وانطلقت جسيمات ألفا من ذراتٍ ذاتِ نشاطٍ إشعاعيٍّ طبيعي؛ إذ لم يكن متاحًا في ذلك الوقت معجَّلٌ صناعي للجسيمات. وقد حُدِّد مصير الجسيمات الموجَّهة على رقاقة الفلز بواسطة العدادات الوميضية، وهي شاشات فلورسنتية تُصدِر وهجًا عندما يصطدم بها مثل هذا الجسيم. عبَرت بعضُ الجسيمات رقاقةَ الفلز في خطٍّ مستقيم، وانحرف البعض الآخر وخرج مكوِّنًا زاويةً مع الشعاع الأصلي، والمفاجأة كانت أن البعض ارتدَّ من الرقاقة عائدًا إلى الوراء على الجانبِ نفسِه الذي تسقط منه الأشعة، فكيف يمكن حدوث ذلك؟!

جاء رذرفورد بالإجابة. كتلة كل جسيم من جسيمات ألفا أكبرُ بمقدار ٧٠٠٠ مرة من كتلة الإلكترون (في الحقيقة جسيم ألفا يماثل ذرةَ هليوم أُزيل منها إلكترونان)، ويمكنه أن يتحرَّك بسرعةٍ تقارب سرعة الضوء. إذا اصطدم هذا الجسيم بأحد الإلكترونات، فإنه يزيحه جانبًا ويستمر في مساره دون أن يتأثَّر. ولا بد أن السبب وراء حدوث الحيود هو وجود شحناتٍ موجبة في ذرات رقاقة الفلز (تتنافر الشحنات المتشابهة، وكذلك الأقطاب المغناطيسية المتشابهة)، ولكن إذا كان نموذج البطيخة لطومسون صحيحًا لما ارتدت بعض الأشعة إلى الخلف. وإذا كانت كرة الشحنة الموجبة تملأ الذرة، فإن جسيمات ألفا كانت حتمًا ستمرُّ خلالها دون أن تنحرف، بما أن التجربة قد أثبتت أن معظم الجسيمات قد مرَّت في خطوطٍ مستقيمة خلال الرقاقة. وإذا كان نموذج البطيخة قد سمح بمرورِ جسيمٍ واحد، فلا بد أن يسمح لكل الجسيمات بذلك. ولكن إذا تركَّزت كل الشحنة الموجبة في حيزٍ صغير جدًّا وأصغر كثيرًا من الذرة ككل، فإن جسيم ألفا سيصطدم في بعض الأحيان فقط بهذا التركيز الدقيق للمادة وترتدُّ الشحنة مباشرةً إلى الخلف، بينما ستمر معظم جسيمات ألفا سريعًا خلال الفراغ الموجود بين هذه التركيزات المتناهية الصغر للمادة. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن أن تتنافر فيها أحيانًا الشحنةُ الموجبة للذرة مع جسيماتِ ألفا الموجبة الشحنة بما يجعلها ترتد في مساراتها، وفي بعض الأحيان تجعلها تحيد قليلًا عن مسارها الأصلي، وفي أحيانٍ أخرى تتركها تعبُر دون اعتراض مسارها تقريبًا.

وهكذا اقترح رذرفورد سنة ١٩١١ نموذجًا جديدًا للذرة، وهو النموذج الذي أصبح أساسَ فهمنا الحديث لتركيب الذرة. أشار رذرفورد إلى ضرورةِ وجودِ منطقةٍ مركزيةٍ صغيرةٍ في الذرة، وأطلق عليها اسم النواة. تحتوي النواة على كل الشحنة الموجبة للذرة وهي ذات مقدارٍ مساوٍ تمامًا ومضادة في شحنتها للشحنة السالبة الموجودة في سحابة الإلكترونات التي تحيط بالنواة؛ ومن ثَم تصنع النواة والإلكترونات معًا ذرةً متعادلةً كهربيًّا. وقد أثبتت التجارب لاحقًا أن حجم النواة يساوي واحدًا على مائة ألف جزء من حجم الذرة؛ إذ يبلغ قطر النواة عادةً حوالي ١٠ −١٣ سم داخل سحابة إلكترونية يبلغ قطرها عادة١٠ −٨ سم. ولتصوُّر هذه الأرقام، تخيَّل رأسَ دبوس يبلغ قطره حوالي ملِّيمترٍ واحد وموجود في منتصف كاتدرائية سان بول ومحاط بسحابةٍ من دقائقِ الغبار الميكروسكوبية تملأ قبَّة الكاتدرائية، ولنقل مثلًا إنها تمتد مسافة ١٠٠ متر من رأس الدبوس. يمثل رأسُ الدبوس هنا نواةَ الذرة وتمثِّل دقائقُ الغبارِ ما يحيط بها من الإلكترونات. يوضِّح ذلك كمَّ الفراغ الموجود في الذرة، ومن هذا الفراغ تتشكَّل كل الأجسام الصلبة في ظاهرها في العالَم المادي، ويتماسك بعضها مع بعض بواسطة الشحنات الكهربية. وقد حصل رذرفورد، لو نذكر، على جائزة نوبل عندما توصَّل إلى هذا النموذج الجديد للذرة (وهو نموذجٌ مبني على التجارب التي صمَّمها). غير أن مسيرته المهنية لم تكن قد بلغت نهايتها بعدُ؛ ذلك أنه أعلن سنة ١٩١٩ أولَ تحوُّلٍ صناعي للعنصر، وفي العام نفسه خلف جيه طومسون في منصبِ مدير مختبر كافنديش. وقد مُنِحَ لقب فارس (سنة ١٩١٤) أولًا، ثم مُنِحَ لقب البارون رذرفورد من نيلسون سنة ١٩٣١. ومع هذا كله، بما في ذلك جائزة نوبل، فإن أعظمَ إسهام له في العلم كان بلا شكٍّ النموذجَ النووي للذرة. وكان مقدَّرًا لهذا النموذج أن ينقل الفيزياء، ويؤدي كما حدث بالفعل إلى سؤالٍ بادي الوضوح: بما أن الشحنات المختلِفة تتجاذب فيما بينها بنفس شدة تنافُر الشحنات المتشابهة، فلماذا إذن لا تسقط الإلكترونات السالبة إلى داخل النواة الموجبة؟ وقد جاءت الإجابة من تحليلِ الطريقة التي تتفاعل بها الذرات مع الضوء، وهو ما أشار إلى قدوم عصر النسخة الأولى من نظريةِ الكَمِّ.

هوامش

(1) Quoted in many books, including Invitation to Physics by Jay M. Pasachoff and Marc L. Kutner (page 3).
(2) Quoted in The Historical Development of Quantum Theory, volume one, page 16, by Jagdish Mehra and Helmut Rechenberg.
(3) Quote from Einstein’s “Autobiographical Notes”, in Albert Einstein: Philosopher Scientist, edited by P. A. Schilpp, Tudor, New York, 1949 (page 47).
(4) “Devised” is exactly the right word here. J. J. Thomson was notoriously clumsy and planned brilliant experiments that other people carried out; his son George is reported as saying that although J. J. (as he was always known) “could diagnose the faults of an apparatus with uncanny accuracy it was just as well not to let him handle it.” (See The Questioners, Barbara Lovett Cline, page 13.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤