الفصل السادس

المصفوفات والموجات

وُلِدَ فيرنر هايزنبرج في فورتسبرج في ٥ ديسمبر سنة ١٩٠١. والتحقَ سنة ١٩٢٠ بجامعة ميونخ؛ حيث درسَ الفيزياء تحت إشراف أرنولد سومرفيلد، أحدِ علماء الفيزياء الرائدين في ذلك الوقت، الذي كان مشاركًا من كثَبٍ في تطوير نموذج بور للذرة. انهمك هايزنبرج مباشرةً في أبحاثهِ حول نظريةِ الكَمِّ، ووضع نُصب عينيه مهمةَ اكتشاف أعدادٍ كَمِّية يمكنها تفسيرُ بعضٍ من حالات انقسام خطوط الطيف إلى أزواجٍ أو ثنائيات. وقد توصَّل إلى الإجابة خلال أسبوعَين؛ حيث أمكن تفسيرُ النمط بأكمله بمدلولِ الأعدادِ الكَمِّية نصفِ الصحيحة. لقد اكتشف هذا الطالبُ الشابُّ المتفتحُ الذهنِ أبسطَ الحلول للمشكلة، إلا أن زملاءَه ومشرفه سومرفيلد قد راعهم الأمر. بالنسبة إلى سومرفيلد الذي كان منغمسًا في نموذج بور، كانت الأعدادُ الكَمِّية الصحيحة عنده عقيدةً راسخة؛ ومن ثَم سرعان ما استُبعدَت تخمينات الطالب الشاب. وكان السبب وراء تخوُّفات الخبراء أن إدخال أنصاف الأعداد الصحيحة في المعادلات من شأنه أن يفتح الباب لإدخالِ كسورٍ أخرى من العدد الصحيح مثل الرُّبع والثُّمن والستة عشر جزءًا؛ مما ينقض الركائز الأساسية لنظريةِ الكَمِّ. ولكنهم لم يكونوا على صوابٍ في ذلك.

خلال بضعة أشهر، توصَّل عالِمُ الفيزياء الأكبرُ سنًّا والأقدمُ خبرة، ألفريد لاندي، إلى الفكرةِ نفسِها ونشرها، وقد اتضح فيما بعد، أن الأعدادَ الكَمِّية نصف الصحيحة ذاتُ أهمية محورية في نظريةِ الكَمِّ الكاملة، وتلعب دورًا رئيسيًّا في وصف خاصية الحركة المغزلية للإلكترونات. تخضع الأجسام التي يساوي مقدار حركتها المغزلية عددًا صحيحًا أو صفرًا، مثل الفوتونات، لإحصاء بوز-أينشتاين، بينما تخضع الأجسام التي يساوي مقدار حركتها المغزلية نصفَ عدد صحيح (٢/١، أو ٢/٣، وهكذا) لإحصاء فيرمي-ديراك. ويرتبط عددُ الكَمِّ المغزلي نصف الصحيح للإلكترون ارتباطًا مباشرًا بتركيب الذرة والجدول الدوري للعناصر. ولا يزال عدمُ تغيير الأعدادِ الكَمِّية إلا بأعدادٍ صحيحة شرطًا قائمًا، بيْد أن الانتقال من ٢/١ إلى ٢/٣ أو من ٢/٥ إلى ٢/٩ جائزٌ تمامًا مثل الانتقال من ١ إلى ٢ أو من ٧ إلى ١٢. وهكذا ضاعت الفرصة على هايزنبرج في الحصول على شرفِ إدخال فكرة جديدة في نظريةِ الكَمِّ، لكن العبرة هنا أنه على غرارِ ما حدث في الماضي حين وضع شبابٌ في الجيل السابق أولَ نظريةٍ للكَمِّ، تكرَّر الأمر مجددًا في عشرينيات القرن العشرين حين أنجزت العقول الشابة غيرُ المثقلة بالأفكارِ «المعروفة للجميع» الخطوةَ التالية. ولا شك أن هايزنبرج قد عوَّض تفويتَ هذه الفرصةِ في أن يكون «أولَ» مَن يُنسَب إليه الفضل في اكتشافٍ علمي صغير، وذلك بأبحاثه في السنوات القليلة التي أعقبت ذلك.

وبعد فترةٍ من العمل في جوتينجن تحت إشراف بورن؛ حيث حضرَ «مهرجان بور» الشهير، عاد هايزنبرج إلى ميونخ وأكمل دراسته للدكتوراه سنة ١٩٢٣، ولم يكن قد بلغ الثانية والعشرين من عمره. في ذلك الوقت كان فولفجانج باولي، وهو الصديقُ المقرَّب إلى هايزنبرج، الذي أظهر هو الآخر نبوغًا مبكِّرًا وتتلمذ أيضًا على يد سومرفيلد، قد خرج لتوه من تأثير كونه مساعدًا لبورن في جوتينجن، وحلَّ هايزنبرج مكانه في هذه الوظيفة سنة ١٩٢٤. وقد منحته هذه الوظيفةُ الفرصةَ للعمل بضعةَ أشهر مع بور في كوبنهاجن، وبحلول عام ١٩٢٥ كان هذا الفيزيائي ذو النبوغ الرياضي المبكِّر قد تزوَّد على نحوٍ أفضلَ من أيِّ شخص آخر بالأدوات التي تؤهله للتوصُّل إلى نظريةِ الكَمِّ المنطقية التي كان كل الفيزيائيين يتوقَّعون التوصُّل إليها في النهاية، إلا أن أحدًا لم يتوقَّع التوصُّل إليها بهذه السرعة.

أسَّس هايزنبرج اكتشافَه على فكرةٍ كان قد التقطها من مجموعةِ جوتينجن — ولا يعرف أحدٌ اليوم مَن هو أول مَن اقترحها — وهي أن النظرية الفيزيائية لا بد أن تُعنى فقط بالأشياء التي يمكن رصدها فعليًّا عن طريق التجارب. يبدو هذا مبتذلًا، ولكنه في الحقيقة نظرةٌ ثاقبة للغاية. فالتجربة التي «ترصد» الإلكترونات في الذرة، مثلًا، لا تعرِض لنا صورةً بالكُرات الصغيرة الصلبة التي تدور حول النواة، ولا توجد طريقةٌ لمشاهدة «المدار»، وكلُّ ما هنالك أن الأدلة المستقاة من خطوط الطيف تخبرنا عما يحدث للإلكترونات عندما تنتقل من أحد مستويات الطاقة (أو أحد المدارات بلغة بور) إلى مستوًى آخر. ويتعلَّق كلُّ ما يمكن مشاهدته من سمات الإلكترونات والذرات ﺑ «حالتَين» فقط، وجاء ذكْر مفهوم المدار في المشاهدات المرصودة عن طريق تشبيهه بالطريقة التي تتحرَّك بها الأشياء في عالَم الحياة اليومية. وقد تخلَّص هايزنبرج من فوضى التشبيهات المستقاة من الحياة اليومية، وعمل بصورةٍ مكثفة على الرياضيات التي لم تصِف «حالةً» واحدة للذرة أو للإلكترون، ولكن ترافق «أزواج» من الحالات.

الاكتشاف الجديد في هيليجولاند

عادةً ما تُروى قصةُ النوبة الشديدة لحمَّى القش التي أصابت هايزنبرج في مايو ١٩٢٥، وكيف أنه سافر إلى جزيرة هيليجولاند الصخرية بغرضِ التعافي؛ حيث ركَّز بعناية على مهمةِ تفسيرِ ما كان معروفًا عن السلوكِ الكَمِّي في هذه الآونة. تمكَّن هايزنبرج من العملِ بصورةٍ مكثَّفةٍ على هذه المشكلةِ بعد أن تماثل للشفاء من حمَّى القش؛ لأنه لم يكن هناك ما يلهيه على الجزيرة. وفي كتابه الذي يتحدَّث فيه عن سيرته الذاتية «الفيزياء وما بعدها»، وصفَ هايزنبرج مشاعرَه عندما بدأت الأعدادُ تتضح ويُفهَم مغزاها، وكيف أنه في الثالثة صباحًا — حسب قوله — «لم يَعُد لديه شكٌّ في الاتساق والترابط الرياضي لنوعِ ميكانيكا الكَمِّ الذي كانت تشير إليه حساباتي. في البداية، كنتُ مندهشًا بشدة. وكان لديَّ شعورٌ بأنني أشاهد عبْر سطح الظواهر الذرية عالَمًا داخليًّا جميلًا على نحوٍ غريب، ولم أتمالك نفسي عندما فكَّرت أن عليَّ الآن فحصَ هذه الثروة من البِنى الرياضية التي كشفتها الطبيعة أمامي بكرمٍ بالغ، واختبارها».

عندما عاد هايزنبرج إلى جوتينجن، استغرق ثلاثة أسابيع في إعدادِ بحثِه في صورةٍ مناسبةٍ للنشر، وأرسل نسخةً من البحث أولًا إلى صديقه القديم باولي، سائله عن رأيه في البحث وإن كان يراه ذا مغزًى. كان باولي متحمسًا، إلا أن هايزنبرج كان منهَكًا من جرَّاءِ ما بذله من جهد، ولم يكن متأكدًا بعدُ من أن البحث جاهزٌ للنشر. ترك البحث لدى بورن ليتصرَّف فيه بما يراه مناسبًا، وغادر في يوليو ١٩٢٥ لإلقاء سلسلةٍ من المحاضرات في ليدن وكامبريدج. ومن سخرية القدرِ أنه لم يتحدث عن بحثه الجديد أمام الحاضرين هناك، وكان عليهم أن ينتظروا حتى تصلهم الأخبارُ عن طريقِ قنواتٍ أخرى.

كان بورن سعيدًا بما يكفي لإرسالِ بحثِ هايزنبرج إلى مجلة الفيزياء الألمانية «تسايتشريفت فور فيزيك»، وأدركَ في لحظتها تقريبًا أهميةَ السَّبْق الذي حازه هايزنبرج بمحض المصادفة. لم يكن من الممكن التعامُل مع الرياضيات التي تتضمَّن حالتَين من الذرة بواسطة الأعداد العادية، ولكنها استلزمت مجموعاتٍ مرتَّبة من الأعداد، وهو ما فكَّر فيه هايزنبرج على أنه جداول. وأفضلُ تشبيهٍ لها هو لوحة الشطرنج. فهناك ٦٤ مربعًا على اللوحة، ويمكنك في هذه الحالة تحديدُ كل مربع بواسطة عددٍ في المدى من ١ إلى ٦٤. ولكن، يفضِّل لاعبو الشطرنج استخدامَ مجموعة رموزٍ تسمَّى فيها «أعمدة» المربعات الموجودة بعرض اللوحة بالحروف الهجائية الإنجليزية (a، b، c، d، e، f، g، h)، وتُرقَّم «الصفوف» من أسفل إلى أعلى (١، ٢، ٣، ٤، ٥، ٦، ٧، ٨). وبذلك، يمكن تحديدُ كل مربع على اللوحة بواسطةِ زوجٍ فريد من المسمَّيات المميِّزة: a١ هو المربع الخاص بالطابية (الرُّخ)، وg٢ هو المربع الخاص ببيدق الفرس، وهكذا. وتتضمَّن جداول هايزنبرج مجموعاتٍ مرتَّبة من الأعداد في بُعدين، مثل لوحة الشطرنج؛ لأنه كان يُجرِي حساباتٍ تتضمَّن حالتَين وتفاعلاتهما. وقد تضمَّنت تلك الحسابات — ضمن أشياء أخرى — ضرْبَ فئتين من هذه الفئات من الأعداد، أو مجموعتين مرتَّبتين من الأعداد معًا، وقد باشر هايزنبرج العملَ بجِد حتى توصَّل إلى الحِيَل الرياضية المناسبة لإنجاز المهمة. لكنه انتهى إلى نتيجةٍ غريبةٍ للغاية، ومحيِّرة لدرجةِ أنها كانت أحد أسباب عدم ثقته في نشر عملياته الحسابية. فعند ضرْب هذه المجموعات المرتَّبة معًا، اتضح أن «الناتج» الذي تحصَّل عليه يعتمد على الترتيب الذي أُجريت به عملية الضرب.
وهذا الأمر غريبٌ حقًّا. إنه مثل القول بأن ٢ × ٣ ليست هي ٣ × ٢، أو بمصطلحات الجبر a × b = b × a. كان بورن مشغولَ الذهن بهذه الغرابة ليلَ نهار، مقتنعًا أن شيئًا ما أساسيًّا يقبع وراءها. ثم فجأة تكشَّف له الأمر. فقد كانت المجموعات المرتَّبة وجداول الأعداد التي صمَّمها هايزنبرج بجهدٍ لا يَكل معروفةً في الرياضيات من قبل. كان هناك بالفعل فرعٌ كامل يختص بحساب التفاضل والتكامل لهذه الأعداد، وكانت هذه الأعداد تسمَّى فيه بالمصفوفات، وقد درسها بورن في السنوات الأولى من القرن العشرين عندما كان طالبًا في بريسلاو. ولم يكن من المستغرَب أن يتذكَّر هذا الفرع المغمور من الرياضيات بعد أكثرَ من عشرين سنة؛ لأن هناك خاصية أساسية للمصفوفات تجعلها دائمًا ذاتَ تأثير عميق على الطلاب عندما يدرسونها لأول مرة؛ ذلك حيث تعتمد الإجابة التي تحصل عليها عندما تضرب المصفوفات على الترتيب الذي أجريت به الضرب، أو بلغة الرياضيات، المصفوفات لا تقبل الإبدال.
fig11
شكل ٦-١: يمكن تعريف كلِّ مربع على لوحة الشطرنج بزوجٍ من عددٍ وحرف مثل 4b أو 7f. كما يمكن تعريف حالات ميكانيكا الكَمِّ بزوجٍ من الأعداد.
fig12
شكل ٦-٢: تتحدَّد «حالة» كلِّ مربع على لوحة الشطرنج عن طريق قطعة الشطرنج التي تشغل المربع. وفي هذه الطريقة، يُعرَّف البيدق بالعدد ١، والطابية (الرُّخ) بالعدد ٣ وهكذا، وتحمل القطع البيضاء أعدادًا موجبة، وتحمل القطع السوداء أعدادًا سالبة. ومن الممكن وصف التغيُّر في حالةِ لوحة الشطرنج بأكملها عن طريقِ تعبيرٍ مثل: «البيدق إلى الوزير أربعة»، أو عن طريق الرموز الجبرية e2–e4. وتوصف الانتقالاتُ الكَمِّية بمجموعةٍ من الرموز المماثلة التي تربط أزواج الحالات (الأولية والنهائية)، ولا نعلم في كلتا الحالتين كيف حدثت عمليةُ الانتقال من حالةٍ إلى أخرى، وهي النقطة التي تظهر بقوةٍ من حركة الفَرس والبيات. وفي سياق التشبيه بالشطرنج، يمكننا تخيُّل أصغر التغيُّرات الممكنة على اللوحة، e2–e3، على أنها تُقابل إضافةَ كوانتم من الطاقة ، في حين أن «الانتقالَ» e3–e2 سيقابل عندئذٍ إطلاقَ الكوانتمِ نفسِه من الطاقة. ومع أنه تشبيهٌ غيرُ دقيق، فإنه يلقي الضوء على الطريقة التي تصفُ بها صورٌ مختلِفةٌ من الرموز الحدثَ نفسَه. وبالطريقة نفسِها، اكتشفَ كلٌّ من هايزنبرج وديراك وشرودنجر صورًا مختلِفة من الرموز الرياضية لوصف الأحداثِ الكَمِّية نفسِها.

رياضياتُ الكَمِّ

في صيف ١٩٢٥، ومن خلال العمل مع باسكال جوردان، طوَّر بورن بداياتِ ما يُعرف إلى الآن بميكانيكا المصفوفات. وعندما عاد هايزنبرج إلى كوبنهاجن في شهر سبتمبر، انضم إليهما عن طريق المراسلات في كتابةِ بحثٍ علمي عن ميكانيكا الكَمِّ. وقد أكَّد الباحثون الثلاثة في هذا البحث العلمي الأهميةَ الرئيسية لخاصية اللاتبادلية في المتغيراتِ الكَمِّية، بصورةٍ أكثرَ وضوحًا وصراحةً من البحث الأصلي الذي كتبه هايزنبرج. وكان بورن قد اكتشف بالفعل في بحثه المشترك مع جوردان، العلاقة ؛ حيث p وq مصفوفتان تمثِّلان متغيراتٍ كَمِّية، مكافئة في عالَمِ الكَمِّ للزخم والموضع. ويَظهر ثابتُ بلانك في المعادلة الجديدة مع i، الجذر التربيعي لسالب واحد، وذلك فيما أصبح معروفًا باسم «بحث الرجال الثلاثة»، وقد أكَّد فريق جوتينجن على أن هذه هي «العلاقة الأساسية في ميكانيكا الكَمِّ». لكن ما الذي تعنيه بمصطلحات الفيزياء؟ كان ثابت بلانك قد أصبح مألوفًا بما فيه الكفاية في ذلك الوقت، وكان الفيزيائيون على درايةٍ بمعادلاتٍ تتضمَّن i (وهو أحد مفاتيح الحلِّ للغزٍ سيظهر فيما بعدُ — لو أنهم فقط أدركوا ذلك — حيث تتضمَّن هذه المعادلات بصفةٍ عامة تذبذباتٍ أو موجاتٍ). أما المصفوفات، فلم تكن مألوفة بالمرة لمعظم الرياضيين والفيزيائيين سنة ١٩٢٥، وقد بدت لهم خاصية اللاتبادلية بنفسِ القدرِ من الغرابة التي كان عليها ثابت بلانك h بالنسبة إلى أسلافهم عندما عرَفوه لأول مرة سنة ١٩٠٠. وقد جاءت النتائج مفاجئةً ومثيرة لأولئك الذين يجيدون التعامل مع الرياضيات. وقد حلَّت معادلاتٌ مشابهةٌ تتضمَّن المصفوفاتِ محلَّ معادلات ميكانيكا نيوتن، يقول هايزنبرج: «كانت خبرة غريبة أن تكتشف أن العديد من النتائج القديمة لميكانيكا نيوتن، مثل حفظ الطاقة وغيره من نتائج، يمكن استنباطه أيضًا في النظام الجديد.»1 بعبارةٍ أخرى، «تضمَّنت» ميكانيكا المصفوفات في داخلها ميكانيكا نيوتن، تمامًا مثلما كانت معادلات أينشتاين النسبية تتضمَّن معادلات نيوتن بوصفها حالةً خاصة. وللأسف، لم يفهم هذه الرياضيات إلا عددٌ قليل من الناس، ولم يعترف معظم الفيزيائيين في الحال بمدى أهمية الإنجاز الذي قدَّمه هايزنبرج وفريق جوتينجن. ومع ذلك، كان هناك استثناءٌ وحيد في كامبريدج بإنجلترا.

كان بول ديراك يصغُر هايزنبرج ببضعة أشهر فقط؛ فقد وُلِد في ٨ أغسطس سنة ١٩٠٢. ويُعَدُّ ديراك العالِم النظري الإنجليزي الوحيد الذي يمكن أن يُوضَع في مَرتبة نيوتن، وقد قدَّم أكثرَ النسخِ اكتمالًا لما يُعرَف اليوم بميكانيكا الكَمِّ. إلا أنه لم يتجه نحو الفيزياء النظرية إلا بعد تخرُّجه في جامعة بريستول سنة ١٩٢١ وحصوله على بكالوريوس الهندسة. لم يجِد وظيفةً في مجال الهندسة، وعُرِضت عليه فرصة دراسة الرياضيات في كامبريدج، لكنه لم يقبلها نظرًا لقلة المال، وأثناء إقامته في بريستول مع والدَيه حصل على دورةٍ دراسية في الرياضيات مدتُها ثلاث سنوات أنهاها في عامَين فقط بفضل دراسته للهندسة، وحصلَ على بكالوريوس الرياضيات التطبيقية سنة ١٩٢٣. واستطاعَ بذلك التوجُّه إلى كامبريدج لإجراءِ أبحاثٍ مدعمة بمنحة من إدارة البحث العلمي والصناعي، وما إن وصل إلى كامبريدج حتى علِم لأولِ مرةٍ بنظريةِ الكَمِّ.

وهكذا كان ديراك طالبًا باحثًا غيرَ معروف وتُعْوِزه الخبرة عندما استمع إلى محاضرةِ هايزنبرج في كامبريدج في يوليو ١٩٢٥، ومع أن هايزنبرج لم يتحدَّث علنًا عن بحثه الجديد حينئذٍ، إلا أنه أشار إليه في حديثه مع رالف فاولر، المشرف على ديراك، ونتيجةً لذلك أرسل إلى فاولر نسخةً من مسوَّدة البحث في منتصف أغسطس قبل ظهوره في مجلة «تسايتشريفت». أعطى فاولر البحث إلى ديراك الذي اطَّلع عليه قبل أيِّ شخص آخر من خارج جوتينجن (ما عدا صديق هايزنبرج باولي)، فأُتيحت له الفرصة لدراسة النظرية الجديدة. في هذا البحث الأول، ومع أن هايزنبرج قد أشار إلى خاصية اللاتبادلية للمتغيِّرات في ميكانيكا الكَمِّ — المصفوفات — فإنه لم يطوِّر الفكرة، لكنه حاول أن يحوم حولها بحذرٍ. وعندما فهِم المعادلات وأتقنها، أدرك في الحال الأهمية الجوهرية للحقيقة البسيطة بأن a × b = b × a. وعلى عكس هايزنبرج، كان ديراك يعلم بالفعل كمياتٍ رياضيةٍ تسلُك هذا المسلكَ نفسَه، وفي غضون بضعة أسابيع كان في مقدوره إعادةُ معالجةِ معادلات هايزنبرج بمصطلحاتِ فرعٍ من الرياضيات كان قد طوَّره ويليام هاميلتون منذ قرن من الزمن. وكان من أظرفِ المُفارقات العلمية أنَّ معادلات هاميلتون التي أثبتت أنها مفيدة للغاية في نظريةِ الكَمِّ الجديدة، التي تخلصت تمامًا من فكرة مدارات الإلكترونات، قد وُضِعَت في القرن التاسع عشر لتكون وسيلةً مساعِدةً في الحسابات المتعلِّقة بمدارات الأجسام في نظامٍ ما، مثل المجموعة الشمسية؛ حيث يوجد العديد من الكواكب التي تتفاعل بعضها مع بعض.
وهكذا اكتشف ديراك — مستقِلًّا عن مجموعة جوتينجن — أن معادلاتِ ميكانيكا الكَمِّ ذاتُ بنيةٍ رياضية مماثلة لمعادلات الميكانيكا الكلاسيكية، وأنَّ الميكانيكا الكلاسيكية مضمَّنة في ميكانيكا الكَمِّ كحالة خاصة؛ حيث تُقابِل أعدادًا كَمِّية كبيرة أو تفترض أن ثابت بلانك يساوي صفرًا. وضعَ ديراك طريقةً أخرى للتعبير رياضيًّا عن الديناميكيات، متبعًا نهجه الخاص، باستخدامِ صورةٍ خاصة من الجبر، أطلقَ عليها الجبرَ الكَمِّي، وتتضمَّن عمليات جمع وضرب للمتغيراتِ الكَمِّية، أو «أعداد q»، وأعداد q هذه غريبة ومبهمة، ولا سيَّما أن من المستحيلِ في عالَم الرياضيات الذي طوَّره ديراك القولَ أيُّ العددَين a وb هو الأكبر، ولا مكان في هذا الفرعِ من الجبر لمفهومِ أن يكون عددٌ ما أكبرَ أو أصغرَ من عددٍ آخر. ولكن، مرة أخرى، تناسبت قواعدُ هذا النظامِ الرياضيةُ وجاءت مطابِقةً تمامًا لمشاهدات سلوك العمليات الذرية. وفي الحقيقةِ من الصواب القولُ إن الجبرَ الكَمِّي يتضمن ميكانيكا المصفوفات في داخله، غير أنه يقوم بما هو أكثر من ذلك بكثير.
أدركَ فاولر على الفور أهميةَ بحثِ ديراك، وبإيعازٍ منه نُشِرَ البحثُ في «وقائع الجمعية الملكية» في ديسمبر ١٩٢٥. وقد تضمَّن البحثُ ضمنَ أشياءَ أخرى، وكمُكوِّن أساسي في النظرية الجديدة، أعدادَ الكَمِّ نصف الصحيحة التي استحوذت على ذهن هايزنبرج منذ بضع سنوات مضت. أرسلَ هايزنبرج نسخةً من مخطوطة البحث الذي كتبه ديراك وكان سخيًّا في مديحه: «لقد قرأتُ بحثك الرائع للغاية عن ميكانيكا الكَمِّ باهتمامٍ بالغ، ولا يوجد شكٌّ على الإطلاق في صحةِ كل النتائج التي قدَّمتها … و(البحث) مكتوبٌ عن جِدٍّ بأسلوبٍ أفضلَ وأكثرَ تركيزًا من محاولاتنا هنا.»2 وفي النصف الأول من سنة ١٩٢٦ استأنف ديراك البحثَ في سلسلةٍ من أربع أوراق بحثية حاسمة ودقيقة، ليتكوَّن منها جميعًا رسالته التي مُنح على أساسها درجة الدكتوراه عن جدارة. وأثناء ذلك كله، استخدم باولي أساليبَ قائمة على المصفوفات للتنبؤ بطريقةٍ صحيحة بسلسلة بالمر لذرة الهيدروجين، وبحلول نهاية سنة ١٩٢٥ أصبح واضحًا أن انقسامَ بعض خطوط الطيف إلى ثنائيات يمكن تفسيره في الحقيقة بوضعِ خاصيةٍ جديدةٍ تسمَّى الحركةَ المغزلية للإلكترون. وقد توافقت النتائج والآراء معًا على نحوٍ جيدٍ للغاية، وبات واضحًا أن الأدوات الرياضية المختلفة التي استخدمها مختلف أنصار ميكانيكا المصفوفات كانت مجرَّد جوانب مختلفة للحقيقة نفسِها.3
ومرة أخرى يمكن أن تساعد لعبةُ الشطرنج في إيضاح ذلك. هناك عدة طرق مختلِفة تصف مباراةً في الشطرنج في الصفحة المطبوعة. وإحدى هذه الطرق أن يُطبع شكلٌ يمثِّل «لوحة الشطرنج» مع توضيحِ مواقعِ كلِّ القطع، لكن ذلك سيشغل حيزًا كبيرًا إذا أردنا وصفَ مباراةٍ كاملة. وثمة طريقة أخرى وهي أن تُسمِّي القطع التي تتحرك: «بيدق الملك إلى بيدق الملك أربعة.» وفي أكثرِ الطرق اختصارًا تُستخدَم الرموز الجبرية لوصف الحركةِ نفسِها ببساطة d2–d4. وهكذا تعطينا طرقُ الوصف الثلاث المختلفة المعلوماتِ نفسَها عن حدثٍ حقيقي، وهو انتقال بيدق من «حالة» إلى أخرى (وكما في عالَمِ الكَمِّ تمامًا، فإننا لا نعرف شيئًا عن الكيفية التي انتقل بها البيدق من حالةٍ إلى أخرى، وهي النقطة التي تصبح أكثرَ وضوحًا إذا فكَّرنا في حركةِ الحصان في لعبة الشطرنج). وتكون الصياغات المختلفة لميكانيكا الكَمِّ على هذا النحو. ويُعتبر الجبر الكَمِّي لديراك الأكثر أناقةً و«جمالًا» بالمفهوم الرياضي، أما طريقةُ المصفوفات التي وضعها بورن ومعاونوه في أعقاب هايزنبرج، فهي أقل إتقانًا ولكنها ليست أقل فعالية.4
وقد جاء بعضٌ من أكثرِ نتائج ديراك المبكِّرة إثارةً عندما حاول تضمين النسبية الخاصة في ميكانيكا الكَمِّ الخاصة به. سعدَ ديراك كثيرًا بفكرةِ أن الضوء عبارة عن جسيمات (فوتونات)، وابتهجَ باكتشافِ أنه بإدخال الزمن في صورة عدد q مع بقية الأعداد في معادلاته سيتوصل حتمًا إلى «التنبؤ» بأن الذرةَ لا بد أن ترتد عندما تشع الضوء، وهو ما يجب أن تفعله إذا كان الضوء على شكلِ جسيماتٍ لها الزخم الخاص بها، وواصلَ ديراك أبحاثه ليضع تفسيرًا من ميكانيكا الكَمِّ لتأثير كومبتون. انقسمت حسابات ديراك إلى قسمين: الأول هو معالجة بارعة بالأعداد تضمَّنت أعداد q، أما الثاني فهو تفسير المعادلات من حيث ما يمكن مشاهدته فيزيائيًّا. وتتواءم هذه العملية تمامًا مع الطريقة التي يبدو أن الطبيعة «تُجري بها حساباتها» ثم تقدِّم لنا حدثًا يمكن مشاهدته فيزيائيًّا — مثل انتقال الإلكترون — لكن لسوء الحظ، بدلًا من مواصلة هذه الفكرة حتى النهاية في السنوات التي تلت ١٩٢٦، انشغل الفيزيائيون عن الجبرِ الكَمِّي باكتشافِ أسلوبٍ رياضيٍّ آخرَ يمكنه حلُّ المشكلات القائمة منذ فترة طويلة في نظريةِ الكَمِّ؛ الميكانيكا الموجية. بدأت ميكانيكا المصفوفات والجبر الكَمِّي من تصوُّر الإلكترون على أنه جسيم ينتقل من حالةٍ كمومية إلى أخرى. لكن ماذا عن اقتراح دي بروي بأن الإلكترون، وغيره من الجسيمات، يجب التفكير فيه بأنه موجات؟

نظرية شرودنجر

عندما كانت ميكانيكا المصفوفات والجبر الكَمِّي يخطوان أولى خطواتهما على الساحة العلمية دون أن تَلقى الحفاوة والإطراء نسبيًّا، كان هناك الكثير من الأنشطة الأخرى في مجالِ نظريةِ الكَمِّ. ويبدو أن العِلم الأوروبي كان يجيش بخميرةٍ من الأفكار التي حان أوانها، وظهرت فجأةً أفكارٌ مختلِفة في أماكنَ مختلفة، وليست بالضرورة بالترتيب المنطقي المتعارف عليه الآن، والعديد منها «اكتشفه» أناسٌ مختلفون في الفترة الزمنية نفسِها. وبحلول نهاية عام ١٩٢٥، كانت نظرية دي بروي عن موجات الإلكترونات قد ظهرت بالفعل على الساحة، غير أن التجارب الحاسمة التي أثبتت الطبيعة الموجية للإلكترون لم تكن قد أُجريت بعد. وبعيدًا عن أبحاث هايزنبرج ورفاقه تمامًا، أدَّى ذلك إلى اكتشافٍ آخرَ وهو رياضياتُ الكَمِّ القائمة على فكرة الموجات.

جاءت الفكرة من دي بروي عن طريق أينشتاين. كان من الممكن أن تظل أبحاثُ دي بروي محجوبةً لسنوات، والنظر إليها بأنها ليست أكثرَ من مراوغة رياضية مثيرة ليس لها وجود فيزيائي، لولا أنها أثارت اهتمام أينشتاين. فقد كان أينشتاين هو مَنْ أخبر بورن بالفكرة، وبذلك أطلق قطار الأبحاث التجريبية التي برهنت على حقيقة موجات الإلكترونات، ثم قرأ إرفين شرودنجر في بحثٍ لأينشتاين منشورٍ في فبراير ١٩٢٥ تعليقَه على بحث دي بروي: «أعتقد أنه يتضمَّن ما هو أكثر من مجرد تشبيه.» كان الفيزيائيون في تلك الأيام يتلقفون كلَّ كلمة ينطق بها أينشتاين، وكانت إيماءة كهذه من أينشتاين كافيةً لحث شرودنجر على دراسة النتائج المترتبة على تقبُّل فكرة دي بروي دون تمحيص.

كان شرودنجر هو الاستثناء الوحيد بين الفيزيائيين الذين وضعوا نظريةَ الكَمِّ الجديدة. وقد وُلِد سنة ١٨٨٧ وكان في التاسعة والثلاثين من عمره عندما أكمل أعظم مساهماته في العِلم، وهو عُمرٌ متقدِّم على نحوٍ لافت بالنسبة إلى بحثٍ علمي أصيل على هذا القدْر من الأهمية. حصل على درجة الدكتوراه سنة ١٩١٠، وشغل منذ سنة ١٩٢١ منصبَ أستاذ الفيزياء في زيورخ، وهو منصبٌ جديرٌ بالاحترام العلمي وليس مصدرًا واضحًا لطرح الأفكار الثورية الجديدة. ولكن، كما سنرى، فإن طبيعةَ مساهمته في نظريةِ الكَمِّ كانت على القدْر المتوقَّع منه كواحد من الجيل الأكبر سنًّا في منتصف العشرينيات من القرن العشرين. وعندما جعلت مجموعة جوتينجن، وديراك كذلك، نظريةَ الكَمِّ أكثرَ تجريدًا وفصَلاها عن الأفكار الفيزيائية اليومية، حاول شرودنجر استعادةَ المفاهيم الفيزيائية السهلة الفهم، ووصف فيزياءَ الكَمِّ بلغة الموجات، وهي سمات مألوفة في العالَم الفيزيائي، وظلَّ حتى نهاية حياته يحارب الأفكار الجديدة عن اللاحتمية والانتقال اللحظي للإلكترونات من حالة إلى أخرى. وقد منحَ الفيزياءَ أداة عملية قيمة لحل المشكلات، إلا أن الميكانيكا الموجية الخاصة به كانت بالمعنى المفاهيمي خطوةً إلى الوراء، وعودةً إلى أفكار القرن التاسع عشر.

حدَّد دي بروي الطريقَ من خلال فكرته بأن الإلكترونات عبارة عن موجاتٍ تدور «في مدار» حول نواة الذرة لا بد أن تتناسب مع عددٍ صحيح من الأطوال الموجية في كل مدار، وبذلك تكون المدارات البَينية «غير مسموح بها». وقد استخدم شرودنجر رياضيات الموجات لحسابِ مستويات الطاقة المسموح بها في مثل هذا الوضع، وقد أُصيب بالإحباط في البداية لحصوله على إجاباتٍ لا تتفق مع أنماط الطيف الذري المعروفة. وفي الحقيقة، لم يكن هناك خطأ في أسلوبه، والسبب الوحيد وراء فشله الأول هو أنه لم يأخذ في حسبانه الحركةَ المغزلية للإلكترون؛ ولم يكن من المستغرَب ذلك لأن مفهومَ الحركة المغزلية للإلكترون لم يكن قد بزغ بعدُ في ذلك الوقت سنة ١٩٢٥. وعادَ إلى الفكرة عندما طُلِب منه تنظيمُ حلقة دراسية لشرح أبحاث دي بروي، وعندئذٍ اكتشفَ أنه لو تخلَّص من التأثيرات النسبية في حساباته لأمكنه الحصول على توافق جيد مع مشاهدات الذرات في الأوضاع التي لم تكن فيها التأثيرات النسبية مهمة. وكما أوضحَ ديراك فيما بعد، فإن الحركةَ المغزلية للإلكترون هي خاصية نسبية في الأساس (ولا يوجد شيءٌ من قبيل خاصية الحركة المغزلية يرتبط بالأجسام الدوَّارة في عالَم الحياة اليومية). وهكذا نُشِرَت مساهمة شرودنجر الكبرى في نظريةِ الكَمِّ في سلسلةٍ من الأبحاث سنة ١٩٢٦، وذلك في أعقاب أبحاث هايزنبرج وبورن وجوردان وديراك مباشرةً.

إنَّ المعادلات في مساهمةِ شرودنجر عن موضوعِ الكَمِّ تندرج ضمن المجموعة نفسِها من المعادلات التي تصفُ موجاتٍ حقيقية في عالَمنا اليومي؛ مثل الموجات على سطح المحيط، أو موجات الصوت التي تحمل الضجيج عبر الغلاف الجوي. وقد رحَّبَ عالَمُ الفيزياء بكل حماسٍ بهذه المعادلات، وذلك على وجه التحديد لأنها بدت مريحة ومألوفة للغاية. ولم يكن لمَدْخلين إلى المشكلة أن يكونا مختلفَين أكثرَ من هَذين. فقد استبعد هايزنبرج متعمدًا أيَّ تصوُّر للذرة، وتعامل فقط بلغة المقادير التي يمكن قياسها بالتجربة، وإنْ كانت نظريته تحوي في صميمها فكرةَ أن الإلكترونات عبارةٌ عن جسيمات. أما شرودنجر، فقد بدأ من تصوُّر فيزيائي واضح للذرة بأنها كِيان «حقيقي»، وكانت نظريته تحوي في صميمها فكرةَ أن الإلكترونات عبارةٌ عن موجات. وقد أنتج المَدْخلان مجموعاتٍ من المعادلات التي وصفت بدقة سلوكَ الأشياء التي من الممكن قياسها في عالَمِ الكَمِّ.

بدا الأمر للوهلة الأولى مذهلًا. ولكن قبل شرودنجر نفسِه بفترة طويلة، أثبت الأمريكي كارل إيكارت — ومن بعده ديراك — رياضيًّا أن المجموعات المختلفة من المعادلات كانت مكافئةً بعضها لبعضٍ في الحقيقة، وأنها مَشاهِد مختلِفة لعالَم رياضي واحد. تتضمَّن معادلات شرودنجر كلًّا من علاقة اللاتبادلية والعامِل الحاسِم ، وذلك بالطريقة نفسِها التي يظهران بها في ميكانيكا المصفوفات والجبر الكَمِّي. وقد أدَّى اكتشافُ أن المداخل المختلفة للمشكلة كانت في الحقيقة متكافئة رياضيًّا إلى تعزيزِ ثقة الفيزيائيين بها جميعًا. ويبدو أنه عند التعامل مع المشكلات الرئيسية لنظريةِ الكَمِّ، فإنك تتوصَّل حتمًا إلى «الإجابات» نفسِها أيًّا كان نوع الصيغة الرياضية التي تستخدمها. وبلغة الرياضيات، فإن نسخة ديراك حول هذا الموضوع هي الأكثر اكتمالًا؛ حيث يتضمَّن الجبر الكَمِّي الخاص به كلًّا من ميكانيكا المصفوفات وميكانيكا الموجات كحالاتٍ خاصة. ولكن كان من الطبيعي أن اختار فيزيائيو العشرينيات من القرن العشرين أكثرَ النسخ المألوفة من المعادلات، وهي موجات شرودنجر، التي كان يمكنهم فهْمها من واقع العالَم اليومي، والتي كانت معادلاتها مفهومةً من واقع مشكلات الفيزياء اليومية؛ علم الضوء والديناميكا المائية وما شابه ذلك. غير أن نجاحَ نسخةِ شرودنجر نفسِها ربما أعاقَ أيَّ فهْمٍ أساسيٍّ لعالَمِ الكَمِّ عقودًا.

خطوة إلى الوراء

باسترجاعِ ما حدث آنذاك، يبدو من المستغرَب أن ديراك لم يكتشف (أو يبتكر) ميكانيكا الموجات؛ ذلك أن المعادلات التي وضعها هاميلتون وأثبتت جدواها في ميكانيكا الكَمِّ تمتد بجذورها إلى محاولةٍ في القرن التاسع عشر لدمج نظريتَي الموجات والجسيمات للضوء. وُلِد السير ويليام هاميلتون في دبلن سنة ١٨٠٥، وأصبح في نظر الكثيرين عالِمَ الرياضيات الأول في عصره. وكان أعظم إنجاز له (مع أنه لم يكن يُعَد كذلك في ذلك الوقت) هو توحيد قوانين الضوء والديناميكا في إطارٍ رياضي واحد؛ وهو مجموعة واحدة من المعادلات يمكن استخدامها لوصف حركة الموجة وحركة الجسيم. نُشِر هذا البحث في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، وقد تناوَل باحثون آخرون كلتا السمتَيْن. فقد كان كلٌّ من الميكانيكا والضوء مفيدًا للباحثين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلا أنَّ أحدًا لم يلاحظ نظام الميكانيكا/الضوء المزدوج الذي كان محلَّ الاهتمام الحقيقي لهاميلتون. تتمثَّل النتيجة الواضحة لبحث هاميلتون في ضرورةِ إحلال حركات الموجات في الميكانيكا محلَّ مسارات الجسيمات، وذلك على غرارِ ضرورةِ إحلال مفهوم الموجات في علم الضوء محلَّ «أشعة» الضوء. ولكن، يبدو أن فكرةً كهذه كانت دخيلةً على فيزياء القرن التاسع عشر حتى إنَّ أحدًا لم يأتِ على ذكرها، حتى هاميلتون نفسُه. ولم يكن الأمر أن الفكرة طُرِحت ورُفِضت بأنها غير منطقية ومستبعَدة، بل كانت حرفيًّا غريبةً وشاذة لدرجةِ أنها لم تطرأ حتى على ذهن أحد. وكان من الممكن أن يكون ذلك استنتاجًا من المستحيل أن يتوصَّل إليه أيُّ فيزيائي من القرن التاسع عشر، وكان من المحتم ألا يبرهن على صحةِ هذه الفكرة إلا بعد ثبوتِ عدم مواءمة الميكانيكا الكلاسيكية كوصفٍ للعمليات الذرية. ولكن، إذا أخذنا في الحسبان أن هاميلتون هو أيضًا مَن وضع الصيغة الرياضية التي فيها ، فلن يكون من المبالغة في شيء أن نصفَ السير ويليام هاميلتون بأنه مؤسِّسُ ميكانيكا الكَمِّ المسكوتُ عنه. ولو أنه كان على قيد الحياة وقتها، لأمكنَه أن يفطِن إلى الصلة بين ميكانيكا المصفوفات وميكانيكا الموجات، وكان ديراك في وسعه أن يفعل ذلك، بيد أنه من غير المستغرب في واقع الأمر أنه أخطأ في إدراك هذه الصلة في البداية. ففي النهاية، لم يكن إلا طالبًا منهمِكًا في أول بحثٍ كبير له، وهناك حدودٌ لما يمكن أن يقوم به المرء بمفرده في غضون بضعة أسابيع. ومع ذلك، ربما الأهم من ذلك أنه كان يتعامل مع أفكارٍ مجردة، ويحذو حذوَ هايزنبرج في محاولته فصْلَ فيزياءِ الكَمِّ عن الصورة المعتادة المألوفة للإلكترونات بكونها تدور حول النواة، ولم يكن يتوقَّع أن يتوصَّل إلى صورةٍ فيزيائية حدْسية رائعة للذرة. ولم يتقبَّل الناس على الفور أن ميكانيكا الموجاتِ نفسَها لا تقدِّم مثل هذه الصورة المألوفة على الرغم من توقعات شرودنجر.

ظنَّ شرودنجر أنه قد تخلَّص من الانتقالاتِ الكَمِّية من حالةٍ إلى أخرى بإدخال الموجات في نظريةِ الكَمِّ. وتخيَّل «انتقال» الإلكترون من حالةٍ إلى أخرى من حالات الطاقة بأنه يشبه التغيُّر في اهتزازِ وترِ الكمان من نغمةٍ إلى أخرى، وفكَّر في الموجة في معادلاته الموجية على أنها موجةُ المادة التي جاء بها دي بروي. ولكن مثلما سعى باحثون آخرون لاكتشافِ المغزى وراء المعادلات، تبدَّدت هذه الآمال في إعادة الفيزياء الكلاسيكية إلى مكانة الصدارة لتكونَ محطَّ الاهتمام من جديد. وكان بور، على سبيل المثال، متحيرًا في مفهوم الموجة. فكيف يمكن لموجةٍ، أو لمجموعةٍ من الموجات المتداخلة، أن تجعل عدَّادَ جايجر ينقر كما لو أنه سجَّل جسيمًا مفردًا كان في الواقع «يموج» داخل الذرة؟ والأهم كيف يمكن تفسير طبيعة إشعاع الجسم الأسود من حيث موجات شرودنجر؟ ومن ثَم دعا بور شرودنجر لتمضيةِ بعض الوقت في كوبنهاجن سنة ١٩٢٦؛ حيث تناولا هذه المشكلات وتوصَّلا إلى حلولٍ لم تَرُق كثيرًا لشرودنجر.

في البداية، اتضح أن الموجات نفسَها — عند فحصها عن قرب — عبارةٌ عن شيء تجريدي مثل أعداد q لديراك. وأثبتت الرياضيات أن الموجات لا يمكن أن تكون موجاتٍ حقيقية في الفراغ، مثل التموُّجات التي تظهر على سطح بِركة، لكنها كانت تمثِّل صورةً معقَّدة من الذبذبات في فراغٍ رياضي تخيُّلي يُدعَى الفراغ التشكيلي. والأسوأ من ذلك أن كل جسيم (لِنقُل كلَّ إلكترون) يجب أن تكون له ثلاثة أبعاد. يمكن وصف إلكترون وحيد بواسطةِ معادلة موجية في فراغ تشكيلي ثلاثي الأبعاد، ويستلزم الأمر فراغًا تشكيليًّا سداسيَّ الأبعاد لوصف إلكترونَين، وتسعة أبعاد لوصف ثلاثة إلكترونات، وهكذا. أما إشعاع الجسم الأسود، فحتى عندما يتحوَّل كل شيء إلى لغة ميكانيكا الموجات، فإن الحاجةَ إلى كَمَّاتٍ منفصلة، وانتقالاتٍ كمومية، ستظل قائمة. كان شرودنجر مشمئزًّا وأبدى ملاحظته التي كثيرًا ما يُستشهَد بها مع تغييراتٍ طفيفة في الترجمة: «لو أنني كنت أعلم أننا لن نتخلَّص من عملية الانتقال الكمومي اللعينة، لما أقحمت نفسي في هذا الشأن.» وكما أوضحَ هايزنبرج في كتابه «الفيزياء والفلسفة»، فإنَّ «… هذه المفارقات المتعلِّقة بالازدواجية بين تصوُّر الموجات وتصوُّر الجسيمات لم تُحَلَّ؛ فقد كانت مخفيةً بطريقة أو بأخرى في النظام الرياضي».

ولا شك أن تصوُّر الموجات الحقيقية فيزيائيًّا التي تدور حول أنوية الذرات، والتي قادت شرودنجر إلى اكتشافِ المعادلةِ الموجيةِ التي تحمل اسمه، كانت خطأ. ولم تَعُد ميكانيكا الموجات دليلًا على حقيقةِ وجود عالَم الذرة أكثرَ من ميكانيكا المصفوفات، إلا أن ميكانيكا الموجات — على عكس ميكانيكا المصفوفات — تُوهِمنا بوجود شيءٍ مألوف ومريح. وقد صمد هذا التوهُّم الحميم المألوف حتى يومنا هذا، وأخفى حقيقةَ أن عالَم الذرة مختلِف كليةً عن عالمنا اليومي. وكان من الممكن أن تتوصَّل عدةُ أجيال من الطلاب، الذين أصبحوا هم أنفسهم الآن أساتذة، إلى فهْمٍ أعمقَ كثيرًا لنظريةِ الكَمِّ لو كانوا قد اضطُروا إلى التصدي للطبيعة التجريدية لأسلوب ديراك، بدلًا من أن يتصوروا أنَّ ما عرفوه عن سلوك الموجات في العالَم اليومي قدَّم تصوُّرًا لسلوك الذرة. وهذا هو السبب في أنه يبدو لي أنه مع الخطوات الكثيرة التي اتُّخِذَت في تطبيق ميكانيكا الكَمِّ — على طريقة كتبِ الطهي — في كثير من المشكلات المهمة (تذكَّر الملاحظة التي أبداها ديراك عن الفيزيائيين من الدرجة الثانية الذين يُجرُون أبحاثًا من الدرجة الأولى)، فإنه بعد خمسين عامًا من بحث ديراك لم يبلغ الفيزيائيون مكانةً أفضلَ مما بلغها زملاؤهم في أواخر العشرينيات من القرن العشرين فيما يتعلَّق بفهْمنا الأساسي لفيزياءِ الكَمِّ. وقد أدَّى نجاح معادلة شرودنجر كأداةٍ عملية إلى توقُّف الناس عن إمعان التفكيرِ في آلية عمل هذه الأداة وسببِ نجاحها. ولم تتحسَّن الأمورُ إلا بقدرٍ ضئيلٍ للغاية منذ ثمانينيات القرن العشرين، وعلى الرغم من انشغالِ الكثيرِ من الأشخاص الآن بمعنى فيزياءِ الكَمِّ، فلا يوجد بديل مؤكَّد لتفسير كوبنهاجن.

فن الطهي الكَمِّي

اعتمدتْ أساسياتُ فن الطهي الكَمِّي — فيزياء الكَمِّ التطبيقية منذ عشرينيات القرن العشرين — على أفكارٍ وضعها بور وبورن في نهاية هذه الفترة. قدَّم لنا بور الأساسَ الفلسفي الذي يمكن به مراعاةُ الطبيعة الازدواجية (جسيمات/موجات) لعالَمِ الكَمِّ، بينما قدَّم لنا بورن القواعدَ الأساسية التي ينبغي اتباعها في إعدادِ وصفاتِ الكَمِّ.

قال بور إن التصورين النظريين، فيزياء الجسيمات وفيزياء الموجات، صحيحان بالدرجةِ نفسِها، وكلاهما يصفان الواقعَ نفسه. وعلى الرغم من أنه لا يوجد وصفٌ منهما كامل في ذاته، فثمَّة حالاتٌ يكون من الأنسب فيها استخدام مفهوم الجسيم، وحالات أخرى يكون من الأنسب فيها استخدام مفهوم الموجات. ولا يُعدُّ كيانٌ رئيسي مثل الإلكترون جسيمًا ولا موجة، لكنه في بعض الأحوال يسلك مسلكَ الموجات، وفي أحوال أخرى يسلك مسلكَ الجسيمات (وهو أمرٌ مراوغ ولا يمكن التحقُّق منه في الواقع). ولكن لا يمكنك في أي حال من الأحوال تصميمُ تجربة تُظهِر الإلكترون وهو يسلك كلا المسلكين في آنٍ واحد. وتُسمَّى فكرة الموجات والجسيمات بوصفهما وجهَيْن متمِّمَيْن لهوية الإلكترون المعقَّدة بالتكاملية.

اكتشفَ بورن طريقةً جديدةً لفهْمِ موجات شرودنجر. الشيء المهم في معادلة شرودنجر الذي يقابل التموُّجات المادية على سطح البِركة في العالم اليومي هو الدالة الموجية التي يُرمَز إليها عادةً بالحرف الإغريقي (بساي). ومن خلال العمل في جوتينجن إلى جانبِ علماء الفيزياء التجريبية الذين كانوا يُجرُون تجاربَهم الجديدة عن الإلكترونات التي تؤكِّد الطبيعة الجسيمية للإلكترون كلَّ يوم تقريبًا، لم يستطِع بورن ببساطة أن يتقبَّل أن دالةَ بساي هذه تقابل موجةَ إلكترونات «حقيقية»، مع أنه اكتشف منذ ذلك الوقت — حاله حال معظم الفيزيائيين في تلك الفترة — أن المعادلات الموجية هي الأنسب لحل الكثير من المشكلات. ومن ثَم حاول إيجادَ طريقةٍ لربط الدالة الموجية بوجود الجسيمات. وكانت الفكرةُ التي تناولها قد طُرِحت من قبلُ في النقاش الدائر حول طبيعة الضوء، إلا أنه أخذها على عاتقه ونقَّحها. صرَّح بورن بأن الجسيمات حقيقية، ولكن الموجة هي التي توجِّهها بطريقةٍ أو بأخرى، وكانت قوة الموجة (أو بدقة أكبر، قيمة ) في أي نقطة في الفراغ مقياسًا ﻟ «احتمال» العثورِ على الجسيم في هذه النقطةِ بعينها. ولا يمكننا أبدًا الجزم بمكانِ وجودِ جسيمٍ مثل الإلكترون، إلا أن الدالة الموجية تتيح لنا حساب احتمال العثور على الإلكترون في مكانٍ معيَّن عند إجراء تجربةٍ مصمَّمة خصيصًا لتحديد موضع الإلكترون. وأغرب ما في هذه الفكرة أنها تعني أن أيَّ إلكترون يُحتمَل أن يكون موجودًا في أي مكانٍ بأية حال، وكلُّ ما في الأمر أنه من المرجَّح جدًّا وجودُ الإلكترون في بعض المواقع، ومن غير المرجَّح مطلقًا وجوده في مواقعَ أخرى. ولكن على غرار قواعد الإحصاء التي تنص على أنه من «المُحتمَل» أن يتجمَّع كلُّ هواء الحجرة في أركانها، فإن تفسيرَ بورن لفكرة قد قلَّل من حقيقةِ عالَمِ الكَمِّ غير المؤكَّدة بالفعل.
جاءت أفكار بور وبورن متوافقةً مع اكتشاف هايزنبرج، في نهاية سنة ١٩٢٦، حول كون الشك وعدم اليقين متأصلَيْن بالفعل في معادلات ميكانيكا الكَمِّ. فالرياضيات التي تنص على أنَّ تنصُّ أيضًا على أننا لا يمكن أبدًا أن نكون على يقينٍ بماهية p وq. فإذا أطلقنا على p زخم الإلكترون مثلًا، واستخدمنا q للإشارة إلى موضعه، فإننا نستطيع أن نتخيَّل قياسَ أيٍّ من p أو q بدقةٍ شديدة. ويمكننا أن نسمي مقدار «الخطأ» في قياساتنا ∆p أو ∆q، بما أن علماء الرياضيات يستخدمون الحرف الإغريقي (دلتا) للإشارة إلى أجزاءٍ صغيرة من المقادير المتغيرة. أما ما أثبته هايزنبرج، فهو أنك إذا حاولت في هذه الحالة قياسَ «كلٍّ» من موضع الإلكترون وزخمه، فإنك لن تنجح أبدًا؛ لأن ∆p × ∆q لا بد أن تكون «دائمًا» أكبرَ من ħ، ثابت بلانك مقسومًا على . وكلما عرفنا موضعَ جسمٍ ما بدقةٍ أكبر، كنَّا أقلَّ تيقنًا من زخمه، أي المكان الذي ينتقل إليه. وإذا كنا نعرف زخمه بدقة شديدة، فلا يمكن عندئذٍ أن نكون متأكدين من مكانِ وجوده. ولهذه العلاقة من عدم اليقين نتائجُ واسعةُ النطاق سنناقشها في الجزء الثالث من هذا الكتاب. ومع ذلك، فإن النقطة المهمة التي تستحق التقدير هي أن ذلك لا يمثِّل قصورًا في التجارب المستخدَمة لقياس خصائص الإلكترون. ولكن كلُّ ما هنالك أنه من القواعد الأساسية في ميكانيكا الكَمِّ أنه يستحيل من حيث المبدأ قياس أزواج معينة من الخصائص بدقة، بما في ذلك الموضع/الزخم، في آنٍ واحد. ولا توجد حقيقة مطلقة على المستوى الكَمِّي.5

تقيس علاقة عدم اليقين لهايزنبرج مقدارَ التداخل بين الأوصافِ التكميلية للإلكترون أو غيره من الكيانات الأساسية. فالموضعُ من خصائص الجسيم الرئيسية؛ إذ يمكن تحديد موضع الجسيمات بدقة. أما الموجات، على الجانب الآخر، فلا تكون لها مواضعُ دقيقة ولكنها ذات زخم. وكلما زادت معرفتك بالسمات الموجية للموضع، قلَّت معرفتك بالجسيم، والعكس صحيح. فالتجارب المصمَّمة لاكتشافِ الجسيمات دائمًا ما تكتشف جسيمات، أما التجارب المصمَّمة لاكتشافِ الموجات فدائمًا ما تكتشف موجات. ولا توجد تجربةٌ تثبت أن الإلكترون يسلك مسلكَ الموجة والجسيم في آنٍ واحد.

أكَّد بور أهميةَ التجارِب في فهمنا لعالَمِ الكَمِّ. ولا يمكننا سبْرُ أغوارِ عالَمِ الكَمِّ إلا بإجراء التجارب، وكل تجربة تَطرح في الواقع سؤالًا عن عالَمِ الكَمِّ. وتصطبغ الأسئلة التي نطرحها إلى حدٍّ كبير بخبراتنا اليومية، حتى إننا نبحث عن خصائص مثل «الزخم» و«الطول الموجي» ولكننا نحصل على «إجابات» نفهمها من منظور هذه الخصائص. والتجاربُ متأصلة في الفيزياء الكلاسيكية، مع أننا نعلم أن الفيزياء الكلاسيكية لا تصلح لوصف العمليات الذرية. علاوةً على ذلك، وحسب ما قاله بور، لا بد أن نتدخَّل في العمليات الذرية حتى يمكننا مشاهدتها بأية حال، وهو ما يعني أنه لا جدوى من التساؤل عما تفعله الذرات عندما لا نكون بصددِ النظر إليها ورصدها. وكلُّ ما نستطيع فعْله، كما شرحَ بورن، هو حسابُ احتمال التوصُّل إلى نتيجةٍ معينة من تجربةٍ معينة.

ويُشار إلى هذه المجموعة من الأفكار — عدم اليقين، والتكاملية، والاحتمال، وتأثُّر النظام المرصود بفِعل الرصد — باسم «تفسير كوبنهاجن» لميكانيكا الكَمِّ، مع أنه لا أحدَ في كوبنهاجن (أو في أي مكانٍ آخر) قد صاغ عبارةً محدَّدة على هذا النحو تسمَّى «تفسير كوبنهاجن»، ويُعزى في الواقع أحد المكوِّنات الأساسية — وهو التفسير الإحصائي للدالة الموجية — إلى ماكس بورن في جوتينجن. ويعني تفسير كوبنهاجن الكثيرَ للعديدِ من الأشخاص، إن لم يكن يعني كلَّ شيءٍ للجميع، وهو تفسير مراوغ يتناسب مع عالَم ميكانيكا الكَمِّ المراوغ كذلك. طرحَ بور المفهوم لأول مرة على الملأ في مؤتمرٍ في مدينة كومو بإيطاليا في سبتمبر ١٩٢٧. ودلَّ ذلك على اكتمال نظرية ميكانيكا الكَمِّ المتسقة على النحو الذي يمكن به لأيِّ فيزيائي كفءٍ أن يستخدمها في حل المشكلات التي تتضمَّن الذرات والجزيئات، دون أن يتعيَّن عليه التفكير كثيرًا في الأساسيات، ولكن يكفي فقط السير وفقًا لكتاب الوصفات وتمحيص الإجابات.

في العقود التالية لذلك، قدَّم أنصار ديراك وباولي مساهماتٍ أساسية عديدة، وكرَّمت لجنة نوبل روادَ نظريةِ الكَمِّ الجديدة عن جدارة، إلا أن توزيع الجوائز قد خضعَ لمنطق اللجنة الغريب. حصل هايزنبرج على جائزة نوبل سنة ١٩٣٢، وشعر بشيءٍ من الخزي لأن الجائزة لم تذهب كذلك إلى زميليه بورن وجوردان، وقد ظلَّ بورن نفسُه يشعر بالمرارة لسنواتٍ بعدها، وكثيرًا ما كان يعلِّق بقوله إن هايزنبرج لم يعرف حتى ما المصفوفة حتى أخبرَه (بورن) بذلك، وقد كتب إلى أينشتاين سنة ١٩٥٣ يقول: «لم تكن لديه أي فكرة في ذلك الوقت عن ماهية المصفوفة. لكنه كان هو مَنْ حصد كل الجوائز عن أبحاثنا المشتركة، مثل جائزة نوبل.»6 وقد اقتسمَ شرودنجر وديراك جائزةَ نوبل في الفيزياء سنة ١٩٣٣، وكان على باولي الانتظار حتى سنة ١٩٤٥ ليحصل على جائزته، وذلك عن اكتشافه مبدأَ الاستثناء، أما بورن فقد حصل في النهاية على هذا التكريم سنة ١٩٥٤ ونال جائزة نوبل عن أبحاثه حول التفسير الاحتمالي لميكانيكا الكَمِّ.7

ومع ذلك، فإن كلَّ هذا النشاط — الاكتشافات الجديدة في ثلاثينيات القرن العشرين، ومنح الجوائز، والتطبيقات الجديدة لنظريةِ الكَمِّ خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية — يجب ألا يخفي حقيقةَ أن عصر التقدُّم الأساسي كان قد انتهى في هذا الوقت. وربما نكون على أعتابِ عصرٍ آخر من هذا القبيل، وأن تقدُّمًا جديدًا سيحدث باستبعادِ تفسير كوبنهاجن والفهم المتوهَّم للدالة الموجية لشرودنجر. ولكن قبل النظر في هذه الاحتمالات المهمة، من الإنصاف أن نوضِّح مقدارَ ما تمَّ إنجازه باستخدام النظرية التي لم تُستكمَل بالأساس إلا قبل نهاية عشرينيات القرن العشرين.

هوامش

(1) Physics and Philosophy, page 41.
(2) Quoted by Mehra and Rechenberg, volume 4, page 159.
(3) In Dirac’s version of quantum mechanics, a key expression in the Hamiltonian equations is replaced by the quantum mechanical expression (ab - ba)/iħ, which is just another form of the expression Born, Heisenberg, and Jordan called the “fundamental quantummechanical relation”, in their three-man paper, written before Dirac’s first paper on quantum mechanics appeared, but published after Dirac’s paper.
(4) With characteristic, and genuine, modesty Dirac has described how easy it was to make progress once it was known that the correct quantum equations were simply classical equations put into Hamiltonian form. For any of the little puzzles that beset quantum theory, all that was necessary was to set up the equivalent classical equations, turn them into Hamiltonians, and solve the puzzle. “It was a game, a very interesting game one could play. Whenever one solved one of the little problems, one could write a paper about it. It was very easy in those days for any second-rate physicist to do first-rate work. There has not been such a glorious time since then. It is very difficult now for a first-rate physicist to do second-rate work.” (Directions in Physics, page 7.)
(5) In the everyday world, the same uncertainty relation applies, but because p and q are so much bigger than     the amount of uncertainty involved is only a tiny fraction of the equivalent macroscopic property. Planck’s constant, h, is about 6.6 × and is a bit bigger than three. In round terms, therefore,    is just about . We can measure the position and the momentum of a pool ball as accurately as we like by tracking it as it rolls across a table, and the natural uncertainty of something comparable to in either position or momentum won’t show up in any practical way. As always, the quantum effects only become important if the numbers in the equations are about the same size as, or smaller than, Planck’s constant.
(6) Born-Einstein Letters, page 203.
(7) Not before time, in his opinion (and, to be fair, that of many others). In the Born-Einstein Letters, he recalls (page 229) that “the fact that I did not receive the Nobel Prize in 1932 together with Heisenberg hurt me very much at the time, in spite of a kind letter from Heisenberg”. He explains the delay in receiving acknowledgement of his work on the statistical interpretation of the wave equation as due to the opposition of Einstein, Schrödinger, Planck, and de Broglie, to the idea—certainly not names for the Nobel Committee to dismiss lightly—and he makes passing reference to the “Copenhagen school, which today lends its name almost everywhere to the line of thinking I originated”, meaning the Copenhagen interpretation incorporating the statistical ideas. These aren’t just the crusty remarks of an old man, but have substantial foundation; everybody in the quantum-mechanical trade was delighted by the belated recognition of Born’s contribution. Nobody more so than Heisenberg, who later commented to Jagdish Mehra, “I was so relieved when Born was awarded the Nobel Prize”. (Mehra and Rechenberg, volume 4, page 281.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤