معرض فني في دير

كان أسير الحرب في الماضي شبيهًا بالرقيق، تتداوله أيدي الفاتحين، فينتقل كسلعة من بلاد إلى بلاد، ويسوء أو يحسن حاله بحسب ما يكون من أحوال سادته الخلقية والمادية.

وكان العرب، في غالب أمرهم هذا، من السادة الكرام، يتاجرون بالرقيق تجارةً شريفةً، لا غبن ولا ظلم فيها، ويُشغِّلون الأسرى بالأعمال العمرانية، وعلى الأخص بالتي يُحسِنونها، إلى أن يفديهم أهلهم أو أصحابهم أو دولهم.

وكان من حظ بعض الأسرى أنهم دخلوا في خدمة العرب الخاصة، دخلوا بيوت المسلمين، فصاروا من أهلها، بعد أن تعلَّموا الدين، وأصبحوا إخوانًا للمؤمنين، ولا حرج إنْ قلنا إنَّ أولئك الأسرى كانوا يُرفَعون إلى منزلة الموالي والعبيد المقرَّبين.

ومنهم في المغرب وفي الأندلس الصقالبة، وهم أصلًا من قبائل «سلاف» Slavs، أسرهم الألمان في حروبهم، ثم باعوهم إلى العرب تماديًا في إذلالهم، كما كانوا يظنون، باعوهم إلى اﻟ «ساراسين» فأحسن اﻟ «ساراسين» معاملتهم، كما كانوا يفعلون بغيرهم ممَّن ملكت أيمانهم، وصاروا يسمون كلَّ مَن يأسرون من الشعوب الأخرى باسمهم؛ أي صقالبة.

وكثر الصقالبة في الديار العربية الإسلامية، فصار الولد الصقلبي في الحريم، والحاجب الصقلبي في مَشور الخليفة، والمولى الصقلبي في خدمة الوجهاء والأئمة، والجندي الصقلبي في الجيش أو بالحري في الحرس الملكي، بل كان في بلاط أمير المؤمنين بقرطبة، خصوصًا في عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر، «جيشٌ» منهم، وفيهم من كل نواحي بلاد الفرنجة، حتى من البلدان التي على شواطئ البحر الأسود، وكلهم يُدعَون صقالبة.

ومنهم مَن كانوا — مثل الموالي في العهد العباسي — أدباء وشعراء وأصحاب صناعات، فنعموا في كَنَف العرب، ومارسوا المهن التي كانت تلذُّ لهم ممارستها. كانوا أسرى وأرقاء أحرارًا!

ولكنهم في انتقالهم إلى غير العرب من السادة الفاتحين، أو المفتدين، أو الشارين، كانوا يعودون أسرى وأرقاء، ويُعامَلون كذلك. هذا إذا عدل فيهم سادتهم الجُدُد.

وكانت حوادث الانتقال، على أنواعه، تتلو كل حرب من الحروب، وكل غزوة من الغزوات، وما كان العرب فيها غير أصوليين، بل كانوا مثل أعدائهم في السلب والنهب والأسر والتدمير.

وهاك مَثَلَهم الأعلى، حاجبَ الخليفةِ هشامٍ؛ ابنَ عامرٍ محمدًا الملقَّب بالمنصور، وقد غزا في حياته خمسين غزوة موفَّقة كلها، وهاك مثالًا من غزواته: فقد وصل مرة إلى أقصى بلاد الشمال، إلى جليقيا، إلى بلدة شنتياقب Santiago هناك، فاكتسحها وأسر الأسرى من أهلها، وجرَّد كنيسة قديسها ساجاكوب من تُحَفها وأجراسها، وحمَّلَ الأسرى تلك الأجراس إلى قرطبة.

ودالت الأيام بأهلها، فسقطت خلافة قرطبة بعد عشرين سنة من وفاة المنصور، فدخل النصارى الفاتحون المدينة، وكانت تلك الأجراس لا تزال محفوظة، فأعادوها على ظهور الأسرى المسلمين، إلى كنيستها في شنتياقب بجليقيا.

ولقد خصَّ المنصور الناحية التي نحن الآن فيها بغزوة من غزواته، فاكتسح الأديرة الغنية بالتُّحَف، ومنها دير سان بدرو، قبل أن دُفِن فيه السيد رُوي بيبار وزوجته وحصانه.

توفي الحاجب المنصور سنة ١١٠٢ بعد وفاة السيد بثلاث سنوات، وكان مثله في خاتمة حياته مدحورًا محزونًا. توفي السيد بعد أن كسره المرابطون، وتوفي المنصور بُعَيْد وقعة نهر الدويرة، التي قاد ابنه فيها جيوش العرب على ملوك النصارى الثلاثة؛ أي ملوك ليون ونبارة وقشتالة، وكان فيها مدحورًا.

وعاد الظافرون من الأندلس يحملون الغنائم، ويسوقون الأسرى من عرب وصقالبة؛ فأنزلوهم في الأديرة التي اكتسحها المسلمون سابقًا، ليقوموا بالأعمال في الحقول والمصانع، ومن تلك الأديرة دير سيلوس Silos، على نحو ستين كيلومترًا من برغوس، فقد كان فيه زهاء مائة أسير.

وسيلوس دير قديم، أقدم من العرب في الأندلس، بناه أحد ملوك الغوط في القرن السادس للميلاد، وكان مشهورًا في أوروبا خصوصًا عندما كان الأب دومينيق — القديس دومينيق بعدئذٍ — يدير شئونه. هو دير للرهبنة الدومينيقية، وقد عاد إليه الدومينيقيون الفرنسيون يوم طُرِدوا من فرنسا سنة ١٨٨٠.

كذلك يقول دليل بيديكر، ويقول أيضًا ما يُدهش السائح في هذا الزمان، فمنذ ربع قرن لم تكن الطرقات في إسبانيا كلها صالحة للعربات، وما كانت تصل إلى كل الأماكن التاريخية في البلاد؛ فكان على السائح الراغب في زيارة دير سيلوس مثلًا أن يسافر باﻟ «ديليجانس»؛ أي عربة البريد، إلى قرية بَرْبَاديُّو Barbadillo، ومنها على الخيل أو البغال إلى الدير في الجبل، فتستغرق الرحلة يومين.

أما اليوم — وأما نحن — فقد خرجنا من برغوس في السيارة بعد الغداء، فوصلنا إلى الدير بعد ساعة، وأقمنا فيه نطوف في ربوعه ثلاث ساعات، ثم عدنا إلى النُّزُل مساءً للعشاء.

•••

الطريق بهيج، يزيِّن جانبيه الحور الباسق، ويمتد اخضرار السهول إلى الآفاق المشرقة، إلا ما هناك من القرى، وقد مررنا بثلاثة منها دكناء سمراء لاصقة بالأرض، مثل التي شاهدنا في الطريق من إشبيلية إلى مدريد، لا شامخ فيها من بناء غير الكنيسة.

استقبلنا عند باب الدير أحد الرهبان، ورافقنا دليلًا، فمشينا في خطواته توًّا إلى بيت القصيد فيه، وهو الصحن بأروقته الأربعة، المسقوفة كلها بالخشب المحفور، الشبيه في ألوانه فقط بالروافد العربية الأندلسية.

هذا الصحن بأروقته الأربعة وعُمُدها وأقواسها، هو أجمل مثال في إسبانيا للفن الروماني Romanesque، فالأروقة تقوم على عُمُد مزدوجة، بأقواس مستديرة، وتيجان بتماثيل هي بيت قصيدها، كما أن الصحن بمجمله هو بيت قصيد الدير.

عند تلك التيجان ينتهي في نظري الفن الروماني، وبتلك التيجان يقوم المعرض الفني الذي أشرت إليه في عنوان هذا الفصل، ومنها نستمد البرهان على أن إدارة الدير كانت بأيدي رهبان أفاضل، يُحسِنون معاملة الأسرى، فيُطلقون حريتهم في الأعمال التي يُحسنونها؛ لأنهم — أي أولئك الرهبان — كانوا يقدِّرون الأعمال الفنية قدرها.

قلتُ إنه عند التيجان ينتهي الفن الروماني؛ لأن التماثيل الصغيرة التي تزيِّنها هي جامعة في أساليبها ومواضيعها سائر الفنون، فكل عمود يختلف في نقش تاجه وتماثيله عن الآخَر. من تلك النقوش ما هو روماني، ومنها ما هو شرقي فارسي، وشرقي هندي، ومنها ما هو غوطي، ومنها العربي الأندلسي، والبيزنطي العربي. فمن الرموز الحيوانية، إلى الأشكال الهندسية، إلى التوريق والتخريم، إلى الوجوه الساحرة والساخرة والمروعة المصنوعة بشتى الأساليب، وبدرجات من الإتقان، فيها الجيد والوسط والدون؛ هاك معرض الأسرى الفنانين في ذلك الزمان، وبينهم المقلِّد والطالب والأستاذ والعبقري.

قال الراهب الدليل: في القرنين الحادي عشر والثاني عشر كان المسيحيون والمسلمون في حروب مستمرة، فيأسر المسلمون الأسرى، ويستخدمونهم في بيوتهم، وفي تعمير مدنهم، وكذلك كان يفعل المسيحيون بأسرى المسلمين. وقد كان منهم في هذا الدير كثيرون، وبينهم الصُّنَّاع الحاذقون بالنقش والتصوير؛ فصنعوا العُمُد والتيجان لهذه الأروقة، ونحتوا التماثيل التي زُيِّنَتِ العُمُد بها بعدئذٍ.

إن أولئك الأسرى الفنانين قد تعلَّموا واقتبسوا فنون مَن تقدَّمهم في المشرق والمغرب، فنقل الواحد منهم عن البيزنطيين، والآخَر عن رسوم فارسية شاهدها، وغيره عن الغوط والعرب، وكان هذا الفنَّان قرأ في بعض الكتب عن التقمُّص الهندي، فصوَّر رءوسًا بشرية فوق مناكب حيوانات رهيبة أو قبيحة أو داجنة، وذاك كان يحسن النقش العربي، فجاء عمله الممثِّل لخطوط الرواشن والرُّقُم أبدع تمثيل.

إن في الأروقة الأربعة في الطابق الأول، ستين زوجًا من تلك العُمُد، وفي الطابق الثاني مثلها، وكلها بتيجان منقوشة بالنقوش المختلفة، ومزيَّنَة بالتماثيل المتنوعة، التي ذكرتُ. هو ذا معرض أولئك الأسرى الفنانين العرب والصقالبة، الذين نعموا في أَسْرِهم ها هنا، بدير سيلوس، وليس ما يدل على الحقيقة وعليهم غير كلمة من خَبَرِهم تناقَلَتْها الأجيال، وهذه الآثار الفنية الطريفة. فإن في الدير مكتبة تحتوي على خمسة عشر ألف كتاب، وليس فيها كتاب واحد، على ما علمت، يذكر في فقرة أو حاشية أولئك الأسرى الفنانين، رحمهم الله.

ومن آثار دير سيلوس متحف طبيعي صغير، معروضة فيه أمثلة من معادن تلك الناحية، وطبقاتها الجيولوجية، ومن طيورها وحيواناتها، وبينها الصقر والهدهد، والذئب والخنزير البري.

ومن مآثر رهبان الدير الأساتذة، أنهم يعلِّمون اللاهوت في مدرسته اللاهوتية، ويصنعون الخمر، لا للتجارة، بل لأنفسهم وللطلبة؛ عونًا على اللاهوت.

كان الرئيس قد علم بالزائر العربي، فجاء إلى غرفة الاستقبال يرحِّب بنا، وقد حدَّثَنا عن زعيم البلاد الجنرال فرنكو حديث معجب به، فقال: هو من الشمال، من غليسيا، وعباقرة الإسبان كلهم من الشمال.

لا أظن أن حضرة المحترم أراد أن يغمط الأندلس حقها، وأن يُنكِر شهرةَ أبنائها العباقرة من عرب وإسبان، إنما هي كلمة قالها، ولكنه استفزَّني، وما شئتُ أن أذكر العرب تأدُّبًا، فقلت: وهل ننسى أن فلاسكيز وُلِد بإشبيلية، وأن الدكتاتور الجنرال بريمو ده ريفيرا من شريش؟

كان أحد الرهبان قد جاء بشيء من خمر الدير، في كئوس لا عيب فيها إلا أنها صغيرة، فشربت كأسي قبل أن ذكرت فلاسكيز، فقال الرئيس الظريف الخفيف الروح، بعد جوابي على كلمته: تستحق كأسًا أخرى!

وكنتُ قد كتبتُ في كتاب الدير الذهبي هذه الكلمة: في العزلة نجد الله. فقلت لحضرته بمناسبتها: وإني مسيحي ثالوثي. فابتسم وأمر بالكأس الثالثة، له ولي، فأثلثنا على ذكر الحبيب، سبحانه وتعالى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤