الفصل الأول

أرض ذات شهرة قديمة

لو سألَنا سائلٌ عن أعظم أُمم الأرض حُفولًا بغرائب التَّاريخ؛ لذَكَر سوادُنا فلسطين؛ ليس ذلك لوجود شيءٍ غريبٍ فيها، ولكن للحوادث العظيمة التي مثلت على أرضها. وفوق ذلك فقد كانت مَوطنَ نبيِّنا.

وبعد فلسطين تأتي مرتبة مصر، وفيها تمَّت سلسلةُ القصص التي بدأت على أرض فلسطين والمذكورة في العهد القديم؛ ذلك العهد الذي يُخبِرنا عن يوسف الصبيِّ الرَّقيق الذي صار نائبَ مَلِكِ مصر، وعن موسى الطِّفل الإسرائيليِّ الذي صار أميرًا في عائلة فرعون، ثُمَّ كان بطلَ قصَّةِ خروج بني إسرائيلَ من مِصر. وفضلًا عن ذلك؛ فمصر لها تاريخها الخاصُّ بها، ترويه آثارُها إلى اليومِ ثمَّ إلى غدٍ وبعد غد، فلم يَقُم لها بين أُمَم الأرض القديمة نظيرٌ له ما لها من الملوك العِظام والرِّجال العُقَلاء والجنود الشُّجعان، ولا يجدُ إنسانٌ في مملكةٍ غيرِها آثارًا ومُخَلَّفاتٍ لها نصفُ ما للآثار المِصرية من الرَّوعة والجلال.

إنَّ لنا بعضَ المباني القديمة — وهي الحصون والكنائِس — التي يرجِعُ وقتُ تشييدها إلى خمسمائة أو ستِّمائة عام، وربَّما أكثر. وكم يتكبَّدُ النَّاس من مَشقَّات السَّفَر ليُشاهِدُوها.

في مصر، تُعَدُّ أمثال هذه المباني من الآثار الحديثة العهد، ولا يكاد يَحفِلُ برؤيتِها إنسان، ويمكنُ أن تتصوَّر ذلك إذا علمتَ أن المعابد العظيمة والمقابر الهائلة الموجودة الآن في مصر شُيِّدَت قبل أن يبدأ الكِتاب المُقَدَّس بمئات السِّنين.

ولأضربْ لك مثلًا بالهرَم العظيم الذي لا يزال أُعجوبة الدُّنيا، فهو لم يُشَيَّد قبل أيِّ بناءٍ قائمٍ الآن في أورُوبَّا بآلاف السِّنين فقط، وإنَّما شُيِّدَ قبل أن يُباعَ يوسف ويصيرَ رقيقًا في منزل يوتيفار. وآلاف الأعوام قبل أن يسمعَ إنسانٌ بالإغريق والرُّومان، كان يحكم مصر ملوكٌ عِظام، يُرسِلون بجيوشهم لتغزوَ سوريا والسُّودان، ويبعثون سُفُنَهم لتستكشِفَ البحار الجنوبية. وكان حُكماء المِصريين يضعون الكُتُبَ التي نقرؤها الآن.

وفي الوقتِ الذي كانت بريطانيا جزيرةً مجهولةً مسكونةً بالمُتوحِّشين والهَمَج — كأنهم لتَوَحُّشِهِم وهَمَجِيَّتهم سُكَّانُ جُزُر البحار الجنوبية — كانت مِصرُ أُمَّةً مُتمدينةً كثيرةَ المُدُن العظيمة، عديدةَ المعابد والهياكل والقصور، وكان سُكَّانُها من أعقلِ الرِّجال وأعظمِهم عِلمًا. وقد قصدتُ — في هذا الكتاب الصَّغير — أن أروِيَ لك نُتَفًا من تاريخ هذه الأُمَّة العجيبة، وأُبيِّن لك نوع الحياة التي كان يحياها الناس في تلك الأيام الغابرة، قبل أن تبدأ الأُممُ الأخرى في الاستيقاظ، وقبل أن يكونَ لها تاريخٌ.

ولكن قبل أن أبدأَ في قِصَّتي، دعْني أُكوِّن لك فكرةً عن جُغرافية الأرض.

ويَجدُرُ بي هنا أن أُلاحِظَ أن أعظم الممالك خَطَرًا في التَّاريخ كانَت من أصغرِها مساحةً؛ فبريطانيا لا تُعَدُّ مملكةً واسعةً رَغمًا عن تاريخِها المجيد، وفلسطين التي أسدَت للعالَم أياديَ لم تُسدِها أمَّةٌ أُخرى كان يُطلَقُ عليها الأرض الصَّغيرة، ثمَّ تلا فلسطين في هذه المرتبة بلاد الإغريق، وما هي إلَّا زاويةٌ جبليةٌ في جنوب أورُوبَّا، ومصر أيضًا أرضٌ صغيرةٌ.

رُبَّما خُيِّلَ إليك وأنت تراها على الخريطة أنها كبيرةُ المساحة، ولكن ينبغي أن تتذكَّرَ أن معظم الأرض التي تقرأ عليها «مصر» صحراء أو تِلالٌ صخرية، حيث لا يقدِرُ الإنسانُ على الحياة. أمَّا مصر الحقيقية فهي شَرِيطٌ رفيعٌ على جانِبَي النِّيل، وفي بعض الأحيان يكون امتدادهُ ميلًا أو مِيلَين داخلَ الرِّمال التي يخترِقُها النِّيل، ولا يزيد على ثلاثينَ مِيلًا في أيِّ جهةٍ من النَّهر (إذا استثنينا الجزء الشَّماليَّ منه، المُسَمَّى الدِّلتا). وقد شبَّهَ بعضُهم وادي النِّيل بزنبقٍ ذي ساقٍ مُلتوية، وقد صدَق في تشبيهه؛ فالنِّيل هو السَّاق المُلتَوِية، والدِّلتا هي الزَّهرة، وتحت الزَّهرة مباشرةً تُوجَدُ بُرعُمَةٌ صغيرةٌ؛ وادٍ خصب هو الفيوم. وفي عهدٍ مضَى — قبلَ أن يبدأَ تاريخُ مصر نفسه — لم يكن للزنبق زهرة.

فقد كان النِّيلُ أوسعَ بكثيرٍ ممَّا هو عليه الآن، وكان يَصُبُّ في البحر بقُرب القاهرة — العاصمة الحديثة لمصر — ولم تكن الأرضُ إلَّا ذلك الوادي الضَّيِّق المحدود من الجانبَين بتِلال الصَّحراء.

ولكن على مرور الأيَّام قرنًا بعدَ قرن، حَفَرَ النِّيلُ مجراه، فزاد عُمقُه، وغارت المياه وانخفضت تبعًا لذلك، تاركةً أرضًا خصبةً بين المجرى الجديد والتِّلال، أمَّا الطينُ الذي حملتْهُ المياه، فقد كان يرسبُ عند المَصَبِّ حتَّى كوَّنَ الدِّلتا كما هي الآن تقريبًا.

كانت مصر كذلك قبل أن يبدأَ التاريخُ؛ فلمَّا ابتدأ التاريخُ كانت الدلتا أرضَ مُستنقَعاتٍ؛ لأنها كانت حديثة التكوين في مكان البحر، قبلَ أن يطرُدَ النِّيلُ بِطِينِهِ مياهَه.

وكان سُكَّانُ الوادي يحتقِرُون الناس الذين يعيشون بين المُستنقَعات، وحتَّى بعد أن تمَّ تكوين الدِّلتا، لم تكن مساحةُ المملكة كلُّها لتُعادِلَ مساحة ويلز مرَّتَين، ومع ذلك كانَ يعمُرُها عددٌ عظيمٌ من السكان — عظيمٌ بالنِّسبة لمساحتِها — وكان يبلُغُ — على أكثر تقديرٍ — قدرَ سُكَّانِ لندن مرَّتَين.

قال مُؤرِّخٌ إغريقي قديم: «مِصرُ هِبةُ النِّيل» وهذا صحيح.

لقد رأينا كيف أن النِّيل كوَّنها باختراقِهِ طريقًا بين التِّلال، وبتكوينه الدلتا، وهو لم يخلُقها فقط، بل هو يحفَظُ لها حياةً مُستدِيمة.

ولقد كانت مصر — كما هيَ الآن — من أخصَبِ البُلدانِ أرضًا، ومن ميزاتِها أن ينمو بها أغلب المزروعات، فهي تُنتِجُ أجود أنواع القمح والخضراوات والقُطن.

ولمَّا كانَت روما عاصمةَ العالَم، كانت تستورِدُ ما تحتاجه من الحبوب من مصر، بواسطة سفن الإسكندَرِية الشَّهيرة، وأنت تذكُر ما يَروِي الإنجيل عن إخوة يوسف، الذين أتَوا مصر من فلسطين — التي اجتاحَتْها المجاعةُ — ليشتروا من قمحِ مصرَ.

ومع هذه الخصوبة، فالمطرُ غيرُ معروفٍ في مصر؛ نعم قد تُمطِرُ السَّماءُ في أحايينَ قصيرةٍ من عامٍ طويل لا تسقُطُ فيه من السَّماء قطرةٌ!

كيفَ يتيسَّرُ لأرضٍ لا تُمطِرُها السَّماء أن ينمو بها أجود أنواع النَّباتات؟ سِرُّ ذلك النِّيل؛ ففي كلِّ عامٍ إذا سقطَت المياه في أواسط إفريقيا وعلى جبالِ الحبشة ازدادَ النِّيل ارتفاعًا، وحملَتِ الأمواجُ إليه طِينًا كثيرًا، وفي هذه الحالِ تغمُرُ المياهُ الأراضي، ثمَّ تتركُها بعد أن يرسبَ فيها الطينُ. ولمَّا كانت المياه لا تصِلُ إلى الأراضي المُرتفعة؛ فإنَّه يُوصل بها ترَع، ثُمَّ تُقسَّم هذه الترَعُ إلى قنواتٍ صغيرةٍ حتَّى تتخلَّلَ جميع الأراضي، وتسيرَ فيها المياهُ كما يسير الدَّمُ في الأورِدة والشَّرايين. وقد نتج عن هذا النِّظام أن زادَت خُصوبة الأرض، وارتوت منها جميعُ الجهات، فعوَّضت بذلك ما يُمكِنُ أن تُكسِبه الأمطار من المياه في الأراضي التي تسقُطُ فيها.

ولولا نهر النِّيل، لكانت مصر قطعةً من الصَّحراء ليس فيها ما يُميِّزها عن بقية أجزائِها، وليس من شيءٍ في حياة مصر يسترعِي الانتباهَ إلَّا تاريخها العظيم؛ ذلك التاريخ القديم الذي وَسَمَ القُطرَ بميسَمٍ سحريٍّ جعلها مصدرَ جاذبيةٍ لجميع النَّاس. وكذلك آثارها المجيدة؛ ولهذا لا تُوجَدُ أمَّةٌ —غير مصر — تُشاهِدُ فيها السكَّان الأصليِّين ومظاهر الحضارة القديمة كما كانت في بدء تاريخها.

هنا تستطيع أن تُشاهد معابد الآلهة القديمة وهياكلها، والقبورَ الهائلة التي لم ترَها عينُ إنسان، بل تُشاهد السُّيوف والحِراب والخوَذ التي كان يُحارِبُ بها الملوكُ والجُندُ والشُّجعانُ — لأجل وطنهم — قبل أن يشترك داود في حروب بني إسرائيل بآلاف السِّنين.

ومن الصور المُختلِفة على جُدران المعابد والقبور، أمكننا أن نعرِف كيف كان هؤلاء الناس يعيشون في تلك الأيام الماضية، وكيف كانت تُبنى بيوتُهم، وكيف كانوا يكسِبون ويعملون، وكيف يلهون ويقصِفون، وكيف يُعبِّرون عن همٍّ دفينٍ في وقت الأسى والحزن، ثُمَّ كيف يعبدون آلهتهم. تراهُم في هذه الصوَر وهم يقومون بهذه الأعمال كلِّها، بل تستطيع أن تعرِف ما كان يُغرَم به الأطفال من أنواع اللهو واللعب، وتعرف اللُّعَب والعرائس الجميلة التي كانوا يلعبون بها، وتستطيعُ أن تقرأ القصص التي كانت ترويها الأمَّهاتُ والمُربِّياتُ لأطفالهنَّ.

كلُّ هذا ممَّا يجعل لمصرَ جاذبيةً خاصَّة، وسحرًا خياليًّا بديعًا. وما قصدتُ إليه هنا هو أن أُصوِّر لك بعضَ نواحي هذه الحياة، لتستطيع أن تُكوِّن لنفسك صورةً في مخيلتِك عن الحياة في هذه الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤