الفصل الثاني

يوم في طيبة

لو أرادَ غريبٌ أن يُكَوِّنَ لنفسه فكرةً صحيحةً على حالتنا الحاضرة، والدَّرَجة التي بلغَها من الحضارة والرُّقِي، فأوَّل مكانٍ يخطرُ له أن يقصدَهُ ليُشاهدَه هو لندن؛ لأنها عاصمة المملكة ومدينتها العُظمى.

وعلى هذا القياس، لو أردْنا أن نَستقيَ أخبارًا صحيحةً عن الحياة المِصرية القديمة، وكيفيةِ طُرُق المعيشة فيها وأحوالِ النَّاس ووسائل معِيشتهم، ينبغي لنا أن نذهبَ إلى عاصمتِها، ثمَّ نُمعِنُ النَّظَرَ فيما عساه أن يقع تحتَ بصرِنا.

وعلى ذلك، افرض أننا لم نعُد من سكان بريطانيا، وأننا لسْنا من أبناء القرن العشرين، بل أننا رجَعْنا إلى الماضي البعيد، وأننا من أحياء سنة ١٣٠٠ قبل الميلاد، أي قبل أيام المسيح، وقبل عهد موسى أيضًا.

•••

وصلنا من «صور» في سفينةٍ فرعونيةٍ مُحمَّلةٍ بأنواعٍ مختلفةٍ من الملابس والأقمشة، وأوعيةٍ من بُرُنزٍ ونُحاس، على أمَلِ بيعها في أسواق طيبة، أعظم مدينة في مصر.

لقد رَسَت السَّفينة على شاطئ البحر، على مقربةٍ من مَصَبِّ النِّيل، بعد أن كُنَّا هالِكين — لا محالةَ — في عاصفةٍ هائلةٍ لم ننجُ منها إلَا بعد جهدٍ جهيد.

وكان معَنا على السَّفينة دليلٌ مِصري، وقد وقفَ على مُنحنى السَّفينة يَصيح بأعلى صوتِه؛ ليُعيِّن الاتِّجاه الذي يجِب أن تسير فيه السَّفينة، وكان مُديرًا المِجدافَين الكبيرَين المُلصقَين بجانبَي السَّفينة عند مؤخرِها- يُوَجِّهان السَّفينة تبعًا لتعاليمه.

وكانت الرِّيحُ الشَّمالية تهبُّ بقوَّةٍ وعنف، وتدفعُ السَّفينة بقوَّة، حتَّى سارَت بسرعةٍ رَغمًا من أمواج النِّيل الثَّقيلة التي تسير في اتجاهٍ مُضادٍّ لنا، تبعًا لانحدار النهر صَوْب البحر.

ولذلك فقد ترك العُمَّال المجاديف بعد أن انتُهِكت قواهم، وسِرنا جهةَ الجنوب بعد أن أطلَقْنا الشِّراع في الهواء. وكنَّا نرى على جانبَي النِّيل أراضيَ واسعةً؛ بعضُها سهلٌ لَيِّن، تنمو بها نباتاتٌ مُختلِفة، والبعض تكتنِفُهُ المُستنقَعات التي تنمو على حافَاتِها نباتاتٌ شيطانية.

وكلَّما تقدَّمت بنا السَّفينة صوْبَ الجنوب كانت السهول الزِّراعية تضيقُ شيئًا فشيئًا، وكنَّا قد شارَفْنا على مُؤخرِ الدِّلتا، بل أخَذنا نسيرُ في وادي النِّيل.

ولقد مرَرنا على مدينةٍ عظيمةٍ تُناطِحُ معابدُها العاليةُ السَّماءَ الزَّرقاء، وعلى سارِيات المعابد تتموَّجُ الرَّايات، والمسلَّات منتثرة هنا وهناك. وقد أخبرَنا دليلُنا بأن هذه المدينة هي ممفيس — وهي من أقدم مدن مصر — وكانت عاصمتَها يومًا من الأيَّام. وعلى مقربةٍ من ممفيس شاهدنا الأهراماتِ الثلاثة تظهرُ كأنها جبالٌ عالية، وقد علِمنا من دليلنا بأن كلَّ هذه الكُتل الحجرية — التي لا مثيلَ لها في الضَّخامة والعظَمة — هي مقابر الملوك الأقدَمِين، وأن ما يُحيطُ بها من أهراماتٍ — أصغر حجمًا وأقل خَطَرًا — هي مقابر بعض أمراء وعظماء الدَّولة.

ولمَّا لم تكن ممفيس هي الغرَض من رحلتِنا، فقد واصَلْنا السَّير صوبَ الجنوب، وانقضَت عِدة أيامٍ والسَّفينة تمخُرُ بنا عُباب الماءِ دون انقطاعٍ.

ولقد مرَرْنا بمدنٍ كثيرة، وقد استوقف نظرَنا من بينها مدينة مُتهدِّمة خَرِبة، لم نرَ من آثارها إلَّا أكوام الحجارة والتُّراب، ولقد قال لنا الدَّليل: إنَّ تلك الخرائِب كانت مدينةً من أجمل مُدُنِ القُطْر، بل وكانت عاصمةً لأحد الملوك، غير أنه آمنَ بآلهةٍ جديدة، وحاولَ أن ينشُرَ ديانتَه الحديثة، فعَمدَ إلى الآلهة القديمة، وهدَمَها وخرَّبَ معابدَها، ليمحوَ آثارَها ويُبعِدَ عن الأذهان اسمهَا.

وأخيرًا — بعدَ سَفَرٍ طويلٍ — لاحَت لنا عن بُعدٍ أبنيةٌ عظيمة على شاطئ النِّيل، ثمَّ تبيَّنَ لنا أنها مدينةٌ عظيمة، لم نرَ لها نظيرًا فيما رأيناهُ من مُدُن الأرض.

ولمَّا اقتربَت السَّفينة من المدينة، ميَّزنا أمامنا مدينتَين في الواقع؛ فعلى الشَّاطئ الشرقيِّ للنِّيل تقوم مدينة الأحياء؛ بأسوارها المُرتفعة، وأبراجها العالية، ومعابدها العظيمة، وصفوف منازلها التي لا يُرى لها أوَّلٌ ولا آخِر، من قصور النُّبَلاء إلى أكواخ الفُقراء.

أمَّا على الشَّاطئ الغربيِّ فتقعُ مدينة الأموات، ولم يكُن بها قصورٌ ولا شوارع، وكان السُّكون يُخيِّم عليها، والهدوءُ يشمَلُها، ولا يستطيعُ النَّاظر إليها إلَّا أن يشعرَ بالخشوع والحزن والكآبة.

ولقد رأينا فيها تِلالًا مُمتدَّة، بها فتحاتٌ كثيرة مُتراصَّة، تظهر كخلايا النَّحل؛ هذه هي قبور طيبة، حيث يرقُدُ أمواتُها من سنين لا عداد لها.

وفي المكان الفسيح المُمتدِّ ما بين النِّيل والتِّلال الغربية تُوجَد هياكلُ مُتتابعةٌ يُخيَّل للنَّاظرِ أن ليس لها حصر، وبعض هذه الهياكل متينُ الجُدران، سليمُ البُنيان، عظيمُ الحجم، والبعضُ الآخَر واهي الأساس، مُتهدِّمُ الجُدران، لم يبقَ منه إلَّا أثرٌ ضئيل.

وكانت إذا سقطَت أشِعَّةُ الشَّمس عليها، انعكسَت مُرسِلةً في الجوِّ أسلاكًا من ذهب، وقرمزًا يُبهِر العين.

أخذت سفينتُنا تقترب من الشَّاطئ لترسُوَ هنالك؛ وبذلك تكون قد انتهت رحلتنا.

ولقد أتى نحوَها في الحال ضُبَّاطُ الجُمرك المِصري في قوارب ليُفتِّشوا أمتعتَنا، ولِيجمَعوا منَّا ما يجِب دفعُه عليها. ولقد جلسْنا نُراقبهم بِجذَلٍ وسرور؛ لأن مظهرهم كان غريبًا عنَّا كلَّ الغرابة، فهم يختلِفون عن ملَّاحينا ذوي اللُّحَى المُرسَلة والمعاطِفِ ذات الألوان الكثيرة، إذ يَحلِقُ المِصريونَ لُحاهُم وشعورَهم، وبعضهم يضعُ على رأسه شعرًا مُستعارًا، ويُطلِقونه مُسترسِلًا حتَّى الأعناق، ولا ريبَ أنهم يتكبَّدون تعبًا جمًّا في تنسيقه وتمشيطه، وسواهم يرتدي ملابسَ من الكَتَّان قصيرةً «أشبه برِداء الجُند السَّكسونيِّين».

أمَّا رئيسُ الضباط فيرتدي مِعطفًا أبيضَ جميلًا فوق ردائِه السَّكسوني، وحول وسطِه منطقةٌ ذهبية لها أهدابٌ طويلة تكادُ تُلامِسُ رُكبتَيه، وفي يدِه اليُمنى عصًا طويلة، لا يتأخَّر عن إلهاب ظهر أحد أتباعه بها إذا قصَّر في تأدية واجباته.

وبعدَ مناقشةٍ بيننا وبينه، أعطيناه المبلغَ المطلوب، وصِرنا بذلك أحرارًا في أن نتوجَّه إلى أيِّ ناحيةٍ من أنحاء المدينة.

ولم نتعمَّق داخلَ المدينة مسافةً قصيرةً حتَّى تجلى لنا ما كانت عليه من العظَمة، وممَّا وصلَ إلى آذانِنا عَلِمْنا أنها في حركةٍ دائمةٍ تدُلُّ على الحياة والنَّشاط.

ولكنَّا سمِعنا ضوضاءَ داوِية آتية من الشَّارِعِ الضَّيِّقِ الذي يُسايِرُ النِّيل، ورأينا — بعد بُرهةٍ — جماعةً من العُمَّال تصخبُ وتصرُخُ وتتدافعُ بعُنفٍ في شكل مُظاهَرَة، ويتقدَّمُهُم شخصٌ ظهرَ لنا — من حالتِه التي كان يُرثَى لها — أنهُ يجري فارًّا من العُمَّال، وأنهُ يَخشَى على نفسه منهم أن يُصيبوه بسوءٍ. وكان العُمال في حالةٍ مُزرية؛ عرايا الأجسام إلَّا ممَّا يستُرُ عوراتهم، والظَّاهرُ أن الجوعَ عضَّهُم، فثاروا وأضرَبوا عن عملِهِم، ولم يجدوا أمامَهم مَن يصبُّون عليه جامَّ غضبهم إلَّا هذا الرجُل العجوز، الذي يجري أمامهم مُحاولًا النَّجاة بحياتِه.

واتَّجه الرجل العجوز نحوَ قصرٍ جميلٍ تُحيط به حديقةٌ غنَّاءُ ذاتُ أسوارٍ ضخمة، ولمَّا يئس العُمَّال من اللحاق به رمَوهُ بالحجارة، فأصابَه بعضُها، وتفجَّرت الدِّماءُ من عدة أجزاءٍ من جسمه، ولكنَّه — رَغمًا عن ذلك — جرى بقوَّةٍ نحو باب القصر، وهمس في أُذُن البوَّاب بضعَ كلمات، ثمَّ دخل إلى الحديقة، ثمَّ أغلق الباب في وجه المُطارِدِين، الذين اضطرُّوا للوقوف، وقد أخذَ الغضبُ منهم كلَّ مَأخَذ، وأخذوا يهُزُّون قَبضَاتِهم في الهواء مُهدِّدِين مُزمجِرين.

وبعد فوات مُدَّةٍ قصيرةٍ فُتِح الباب، وخرجَ منه رجلٌ جميل الطَّلعةِ باديَ النِّعمةِ والجاه، يتبَعُهُ سِتَّةٌ من العبيد مُدجَّجِينَ بالسِّلاح.

هذا الرجل هو الأمير باسر، الذي يُهَيمِنُ على مصلحة العمل في حكومةِ طِيبة. أمَّا العُمَّال فكانوا بنَّائين يقومون بعملٍ فُوِّضَ إليهم في مقبرة طيبة.

سألَ الأميرُ العُمَّال عمَّا جعلَهم يُحدِثون هذا الشَّغبَ ويُطارِدُون سِكرتيرَه.

وقد ردَّ كلُّ واحدٍ منهم بما شاء على هذا السُّؤال، فحدثَت ضجَّة، ولم يفهم الأمير كلمةً واحدة، فأنابوا عنهم واحدًا يتكلَّمُ بلسانهم، وقد ابتدأ الرجل الكلامَ في تَلَعثُمٍ واضطراب، ولكن لم يلبَث أن زال عنه ما ألجمَ لسانه من الخوف، وبلَّغَ الأميرَ الشَّكوى.

قال إنَّه وزُملاءه يشتغِلُون منذُ أسابيع، ولم يأخذوا أجرًا مُقابِلَ أتعابِهم، حتَّى القمح والزَّيت اللذان هما حقٌّ لكلِّ عاملٍ من عُمَّال الحكومة.

وعليه، فقد قصدوا سيِّدهم يَضرَعُونَ إليه أن يصرِفَ لهم جِرايَتَهم، فإن كانت المخازنُ خاويةً فليرفَع شكواهم لفرعون. إنَّنا مَسُوقون إلى هنا بدافع الجوع والظَّمَأ، ولا نملِكُ ملابسَ ولا زَيتًا ولا طعامًا، فاكتب لفرعون يُرسِل لنا ما تقوم به حياتُنا.

ولمَّا أتمَّ الرجل كلامَه وافقَ الجميعُ على أقواله، وتماوَجُوا هنا وهنالك في حالة وعيدٍ وتهديد، وهنا وعدَهُم الأمير بأنه سوف يُرسِل إليهم خمسين كيسًا من القمح في مكان عملِهم، وطلبَ منهم أن يَئوبوا من حيث أتَوا، وأن يستأنِفوا عملَهم، ويكفُّوا عن مطاردة سكرتيرِه، وإلَّا فهو لا يستطيعُ أن يصنعَ لهم شيئًا.

وتردَّدوا مُدَّة؛ لأنهم مُنُّوا قبل ذلك بالوعودِ التي لم يُوَفَّ واحدٌ منها، ولكن لمَّا كانوا ينقصهم زعيمٌ ماهرٌ ليقودَ العصيان، ولمَّا لم يكن معهم سلاحٌ يُدافِعون به عن أنفسهم، وقد كانَت رِماحُ العبيد تظهرُ مُخيفةً في أيديهم؛ فقد آبوا من حيثُ أتوا مُتَذمِّرين ساخطين، أمَّا الأميرُ فقد دخل القصر وهو يهُزُّ كَتِفَيه، وأمَّا إرسالُ الأكياس أو عدمُ إرسالها، فهذا شيءٌ آخَر.

فالإضراب — كما نرى — لم يكن مجهولًا في تلك الأيَّام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤