إنسانٌ ناجحٌ

صخري الوجه صُلب الجبين، لم يعرف يومًا حمرة الخجل، ولا بُرقع الحياء، لا يتوقى شيئًا، ولا يبالي ما يقول.

إن كان لكل الناس وجه ولون ولسان؛ فلهذا المخلوق أوجه وألسنة وألوان. هو صديقك وعدوك حسب الظروف الخارجية، لا حسب ما يصدر منك، وهو مادحك وذامك حسب ما يدور في المجلس، لا حسب رأيه، وهو عابس لك يومًا باسم يومًا حسب ما يقدر هو أنه في مصلحته، لا حسب ما تستحق أنت منه.

له حاسه زائده عن حواس الناس الخمس هي سر نجاحه؛ ولهذه الحاسة خصائص: فهو يدرك بها أي نوع من الوزارات ستتولى الحكم ليحول نفسه على وفقها، وليتجهم لأعدائها، ويتقرب من أحبابها؛ ويشم بها مواطن المال في كل ظرف، ويرى بها من يجلب له النفع. ويؤقلم وفق ذلك نفسَه، فيتشكل بأشكال في منتهى الظرف والطلاوة، فإذا عدوُّه اللدود بالأمس صديقه الحميم اليوم.

ويعرف بها — في مهارة عجيبة — موضع الضعف من كل إنسان يهمه! فإن كان يعبد النساء حدثه أعذب الحديث في النساء والجمال وحسن الشكل، وبدع المحاسن، وجمال الملامح، واستعرض نساء البلد ونساء الفرنج، وأية حوراءُ العينين، كحلاء الجفون، ساجية الطرف، فاترة اللحظ، وأية أسيلةُ الخد، ممشوقة القد، وأية بيضاء اللون، شقراء الشعر، زرقاء العين، وأية سوداء العين، سمراء اللون، سوداء الشعر، وأية ممتلئة البدن، ضخمة الخَلْقْ، شَبْعَى الوشاح، وأية دقيقة الشبح، نحيلة الظل، مرهفة الجسم؛ وتفنن في ذلك ما شاء أن يتفنن حتى يملك لبه، ويستعبد عقله، فإذا هو طوع بنانه ومستودع أسراره.

وإن كان سكيرًا حدثه الحديث الممتع في الشَّرْب والشراب، والكئوس والأكواب وآداب النديم، وروى له أحسن الشعر في الخمر، وحدثه عما يمزج وما لا يمزج، وخير الخمور ومواردها وتواريخها، وما يلذ صَبوحًا وما يلذ غَبوقًا — وتعرف ما يستحسنه صاحبه فأفرط في مدحه وادعى الإعجاب به، وأنه لا يفضل عليه غيره، وأن ذوقه من ذوقه وشرابه من شرابه ومزاجه من مزاجه، وأسكره من حديثه كما أسكره من كأسه، فإذا هما صديقان وثَّقت بينهما الكاس والطاس. وإن كان شرها في المال حدثه عن الضِّياع ومحاسن الأراضي وكيفية استغلالها، والعمارات وجباياتها، ووازن بين أنواع العقار وكم في المئة يمكن أن تغل، وأعانه في مشكلاته، وبذل له كل أنواع معونته، فوجد فيه صديقه النافع وخليله المواتي.

وهدته حاسَّتهُ هذه أن يعمد إلى عدد من الرءوس الكبار ذوي النفوذ فينصب لهم حبالته، ويوقعهم في شبكته، بما يبذر من حب ذي أشكال وألوان؛ فإذا تم له ذلك خضع له الصغار من تلقاء أنفسهم وطوع إرادتهم، وضرب لهم مثلًا بقضاء حاجات لبعضهم ما كانت لنقضي من غيره؛ فهو مقصد جميِعهم ومحط آمالهم وموضع الرجاء منهم، يعملون كلهم في خدمته على أمل أن ينالوا شيئًا من جاهه؛ فإذا هو سيد على الصغار والكبار، وإذا هو عظيم حيث كان، يقابل بالإجلال والإعظام، ويُتَملَّق من أتباعه وإخوانه، ويحسب حسابه في دائرته وأوسع من دائرته.

إلى جانب هذه الحقائق القليلة قدر كبير من التهويش؛ فهو يزعم أنه في كل ليلة جليس الكبراء والوزراء، كم يتغزلون فيه ويطلبون القرب منه ويأبى عليهم، ويبتعد عنهم؛ وهو لو شاء لكفت إشارة منه لأن يرفع من شاء في أعلى عليين، ويخفض من شاء إلى أسفل سافلين — الوزارات في يده، ومصالح الحكومة في إصبعه، والإنجليز يخشون بأسه، والفرنسيون يقضون مصالحهم على يده، وبريده كل يوم من خارج القطر ينوء السعاه بحمله؛ ثم لا أدري كيف اتصل بالجرائد، فهي تشيد دائمًا بذكره، فإذا تحرك حركة أعلنّها على الناس كما تذاع حركات الملوك، فهو مسافر إلى الإسكندرية، وقادم من الإسكندرية، ومبحر إلى أوروبا، ومتنقل في عواصم البلدان، وعائد إلى مصر بعد أن رفع شأنها، وأعلى مكانها؛ حتى لم يبق إلا أن تخبرنا ماذا أفطر، وكيف أفطر، وفي أي ساعة تناول غداءه، وماذا كانت أصنافه، وهل غفا قليلًا بعد الغداء أو تحدث قليلًا إلى زوجه وأولاده!

وهو يستغل هذا كله في قضاء مصالحه؛ فطلباته ناجزة نافذة، والمستحيل لغيره جائز له، والأموال تكال له كيلًا، والهدايا تنهال عليه انهيالًا؛ وهو مع كل ذلك لا يشبع، كلما نال مطلبًا تفتحت له مطالب، فهو في طلب دائم، ومن بيدهم الأمور في إجابة دائمة، حتى ليوشك — إذ لم يتعود الرفض — أن يطلب النجوم تزين غرفته، والسحاب يمطر في الصيف حديقته، والحر والبرد يتأدبان في حضرته، والشمس تُكْسَف لطلعته.

ومن غريب أمر الناس فيه أنهم يكرهونه من أعماق نفوسهم، ويمقتونه من صميم قلوبهم، ويرون فيه السخافة مركزة، واللوم مجمعًا؛ فإذا لقوه فترحيبٌ وتهليل، وإعظام وملق، يبسطون ألسنتهم فيه بالسوء غائبًا، ويطنبون في مدحه حاضرًا؛ فهو معذور إذ يشعر أن الناس مجمعون على حبه، حتى ليخشى عليهم أن يموتوا به غرامًا أو يُجَنُّوا به هُيامًا. شهدته مرة وقد أتى عملًا شنيعًا حتى كان مضغة الأفواه ومعرة القوم، وظننت أن الناس إن رأوه ازدروه — على الأقل — بعيونهم، وكلموه ببعض شفاههم، واستهانوا بمَقْدمه، وأقل ما يفعلونه ألا يحفلوا به، ولا يأبهوا بمقدمه؛ فما كان أشد عجبي أن رأيتهم — إذ حضر — قد انتفضوا من أماكنهم، وأفسحوا له مجالسهم، وأجلّوا شأنه، وأعظموا قدره، ورفعوا منزلته فوق من يقدرون فضله ويجلون خُلقه.

فهو — حتى في هذا — ينتفع بإعظامهم وإجلالهم، ولا يضره كرههم الذي لا يعدو قلوبهم، فكرههم لأنفسهم، وإعظامهم له؛ وماذا يضره كرهٌ محنقن وخير منه حب مصطنع؟ وماذا يضيره سب صادق في إسرار، وخير منه مدح كاذب في إعلان؟ لا شك أنه في كل ذلك ناجح حتى في الكره والذم.

•••

قال صاحبي: وهل تعد ذلك نجاحًا؟ لو كان النجاح بقضاء المصالح والأغراض والحصول على المال فحسب، لعددنا السارق يجيد السرقة ويفلت من العقوبة ناجحًا، ولعددنا الذي يتاجر بشرفه وعرضه ناجحًا، ولكان أنجح الناس من حصل على المال من أقرب الوجوه، ولو كان من أخسها — إن هذا الذي ذكرت قد كسب المال وخسر الشرف، حَيِيتْ مطامعه ومات ضميره، وخدم من يظنهم كبراء أو عظماء بضعة نفسه وموت حسه، بأي مقياس أخلاقي قسته لم تجده شيئًا، إن قسته بمقياس الفضيلة الباته الحاسمة لم تجده فاضلًا، وإن قسته بمقياس السعادة لم تجده سعيدًا، إنه يتمتع ويأكل كما تأكل الأنعام، فإن كان الحمار أو الخنزير سعيدًا فهذا سعيد؛ وأين منه لذة ذي الضمير الحي ينعم بمواقف الشرف والنبل، ويلذها لذة لا يعدلهما ما ذكرت من مال وجاه؟ إن الرجل الفاضل سعيد حتى في آلامه؛ لأنها آلام لذيذة خصبة، هي كالنار تنضج النفس ولا تحرقها؛ أما لذة صاحبك فسم في دسم، ونار تحرق ولا تنضج وبعد قليل من حياته يفقد حتى لذة المال والجاه، وتصبح لذتهما كلذة من يتناول الحلوى صباح مساء تتهوَّع نفسه وتتقبض شهيته؛ فإن اللذة الباقية الدائمة هي لذة الروح لا الجسم، ومن عجيب أمر الروح أن لذتها لذة صافية وألمها ألم مشوب بلذة؛ ثم لذة هذا المخلوق لذة مشروطة بشروط: فهو يعتقد أن لذته مرتبطة ببقاء صاحبه في الوزارة، وصديقه في الوكالة، وحميمه في منصبه؛ لأن قيمته مستمدة من ذلك كله وليست مستمدة من نفسه، إذ ليست له قيمة ذاتية؛ ونجاح مثل هذا في أمة عنوان فشلها وسوء تقديرها، وضعف الرأي العام فيها؛ وهو مثل سيىء يشجع البذور السيئة على النماء والبذور الصالحة على الخفاء. قد يكون هذا المثال في كل أمة، ولكنه في الأمة الصالحة نادر، ويحتاج في نجاحه إلى كثير من الطلاء حتى يخدع الناس ويوهمهم بصلاحه؛ أما أن يجرؤ ويظهر بمظهره الحقيقي ثم ينجح فذلك فساد الأمة وسبة الدهر.

قلت: ربما كان ما تقول صحيحًا فدعني أفكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤