الفصل الرابع

الخصوصية وحرية التعبير

التقطت صور فوتوغرافية لعارضة الأزياء الشهيرة ناعومي كامبل أثناء مغادرتها لأحد اجتماعات برنامج جمعية المدمنين المجهولين، ونشرت صحيفة الفضائح البريطانية «ذي ديلي ميرور» الصور مع مقالات تدعي أنها كانت تتلقى علاجًا من إدمان المخدرات، وكانت عارضة الأزياء الشهيرة قد نفت علنًا كونها مدمنة، وأقامت دعوى ضد الصحيفة للأضرار التي سببتها لها، ولكن كلًّا من محكمتي الموضوع والاستئناف حكمتا ضدها، وجاء في قرار المحكمة أنه بقيام العارضة بالتأكيد كذبًا أمام وسائل الإعلام على أنها لا تتعاطى المخدرات فقد منحت وسائل الإعلام شرعية إظهار الحقائق للعامة، إلا أن دعواها أمام مجلس اللوردات قد نجحت، وحصلت ناعومي على تعويض عن انتهاك خصوصيتها.

وبالمثل الْتُقِطَت صور زفاف مايكل دوجلاس وكاثرين زيتا جونز خلسة، وذلك بالرغم من التحذير الصريح الذي تلقاه المدعوون كافة والذي يحظر «استخدام الكاميرات الفوتوغرافية أو كاميرات الفيديو في مراسم الزفاف أو حفل الاستقبال»، فقد تعاقد العروسان مع مجلة «أوكيه!» على النشر الحصري لصور زفافهما، إلا أن مجلة «هالو!» المنافسة سعت إلى نشر هذه الصور، فتقدم النجمان بدعوى قضائية ضد المجلة الأخيرة، وكسباها.

وقد أظهرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، في عدد من المناسبات، قصور الحماية القانونية المحلية الأوروبية للخصوصية، ويمكن استقاء الدليل على ذلك من حكم واحد بعينه.
fig14
شكل ٤-١: المشاهير من أمثال عارضة الأزياء الشهيرة ناعومي كامبل معرضون للمطاردات المتواصلة من مصوري المشاهير (الباباراتزي).1

تقدمت الأميرة كارولين، أميرة موناكو، بشكوى تفيد بأن مصوري المشاهير الذين يعملون لدى عدد من المجلات الألمانية قد التقطوا صورًا لها أثناء انشغالها بمجموعة مختلفة من الأنشطة اليومية، بما في ذلك تناول الطعام في أحد المطاعم، وركوب الخيل، والتجديف، واللعب مع أطفالها، والتسوق، والتزلج، وتقبيل رفيقها، ولعب التنس، والجلوس على الشاطئ، وما إلى ذلك، وقد حكمت إحدى المحاكم الألمانية لمصلحتها فيما يتعلق بالصور الفوتوغرافية التي — على الرغم من أنها أُخذت في أماكن عامة — التُقِطَت لها بينما «كانت تنشد العزلة».

ولكن بالرغم من موافقة المحكمة على أن بعض الصور كانت خاصة بما يكفي لتستحق الحماية (مثل تلك الصور التي التُقِطَت لها مع أطفالها، أو وهي جالسة مع رفيقها في مكان منعزل بأحد المطاعم)، فقد رفضت المحكمة شكواها فيما يتعلق ببقية الصور، فحولت الأميرة دعوتها إلى المحكمة الأوروبية، التي أقرت أن المادة ٨ تنطبق على هذه الحالة، ولكنها سعت إلى الموازنة بين حماية الحياة الشخصية للأميرة وحماية حرية التعبير التي كفلتها المادة ١٠ من الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، وجاء في قرار المحكمة أن التقاط الصور ونشرها هو قضية تتخذ فيها حماية حقوق الفرد وسمعته أهمية خاصة، حيث إنها لا تتعلق بنشر «أفكار»، وإنما بنشر صور تحتوي على «معلومات» شخصية، بل شديدة الخصوصية عن ذلك الشخص، وعلاوة على ذلك، فإن الصور التي نشرت في صحافة الفضائح التُقِطَت في جو من المضايقة ولَّد في الأشخاص الذين يطاردهم الباباراتزي شعورًا بالانتهاك، بل الاضطهاد.

صرحت المحكمة أن العامل الجوهري في الموازنة بين حماية الحياة الخاصة وحماية حرية التعبير، تمثل في الإسهام الذي قدمته الصور والمقالات المنشورة لموضوع يفيد المصلحة العامة، فقد قررت المحكمة أن صور الأميرة كانت ذات طبيعة خاصة تمامًا، وأيضًا لم تُلتَقط بمعرفتها أو رضاها، بل خلسة في بعض الأحيان، وهكذا لم تقدم هذه الصور أي إسهام لموضوع ذي مصلحة عامة، على اعتبار أن الأميرة لم تكن منخرطة في مناسبة رسمية، والصور والمقالات المنشورة تتعلق حصريًّا بحياتها الشخصية، علاوة على ذلك، في حين قد يملك العامة حق الحصول على معلومات، بما يشمل في ظروف خاصة معلومات تتعلق بالحياة الشخصية للشخصيات العامة، بما في ذلك الظروف الخاصة، فإنهم لا يملكون مثل هذا الحق في هذه الحالة، فليس للعامة شأن مشروع بمعرفة أماكن وجود الأميرة كارولين ولا الكيفية التي تتصرف بها في حياتها الشخصية، حتى في الأماكن التي لا يمكن وصفها دائمًا بالمنعزلة، وبالمثل نظرًا لأن المجلات قد حققت مصالح تجارية من وراء نشر تلك الصور والمقالات، فإن تلك المصالح، في نظر المحكمة، يجب أن تخضع لحق المدعية في الحماية الفعالة لحياتها الشخصية.

وقد بدأت المحاكم الإنجليزية حديثًا في السعي الحثيث لحل النزاعات المستمرة بين الشخصيات العامة ووسائل الإعلام، وبالرغم من الغياب التام لقانون خاص بحماية الخصوصية، فيبدو أن القضاة قد صاغوا علاجًا من خلال مجموعة الإجراءات القانونية المتشابهة، ولكن هذا الحل المؤقت لن يقدم — على الأرجح — علاجًا ثابتًا أو دائمًا للمشكلة.

مغازلة الشهرة!

يعتبر المشاهير — من نجوم السينما والإذاعة والتليفزيون وموسيقى البوب والرياضة وعروض الأزياء — بمنزلة صيد سهل لمصوري البابارتزي، ولطالما كان أفراد العائلة الملكية البريطانية — وأكثرهم أميرة ويلز إلى حد ملحوظ ومأساوي — ضحايا لوسائل الإعلام.

هناك مزاعم دائمة بأن الشخصيات العامة تتنازل طواعية عن حقها في الخصوصية، ويقوم هذا الزعم بوجه عام على أساس التبرير الآتي: ثمة زعم بأن المشاهير يستمتعون بالشهرة حين تكون إيجابية، ولكنهم يستاءون منها حين تكون عدائية، ولكن يقال إنه من المستحيل أن يتمتعوا بالشهرة دون التعرض لمضايقات وسائل الإعلام، وثانيًا: نسمع وجهة النظر القائلة إن لوسائل الإعلام الحق في «إظهار الحقائق»، وهكذا، في حالة ناعومي كامبل، وفقًا لما جاء في قرار محكمة الاستئناف، حيث إنها كذبت بشأن إدمانها للمخدرات، فإن هناك مصلحة عامة في كشف الصحافة الحقائق.

إن أول الادعاءات التي تطرحها وسائل الإعلام، بما لا يثير الدهشة، هو التطبيق المخادع للمثل القائل: «من عاش بالسيف مات به» على مثل هذه المواقف، ولو صح ذلك لكان بمنزلة قرع أجراس الإجهاز على حماية الحياة الشخصية لمعظم الشخصيات العامة، فحقيقة أن المشاهير يسعون إلى جذب انتباه العامة — وهي سمة لا مفر منها لدى معظم المشاهير — لا يمكن أن تدمر حقهم في إخفاء بعض جوانب حياتهم الخاصة عن أعين العامة.

مصلحة عامة زائفة؟

تتسم الحجة القائلة: إن الحياة العامة تصادر حق صاحبها في التمتع بحياته الخاصة — بالسخف، وكذلك تلك الحجة التي يستخدمها العديد من الصحفيين — بحسب ما يتم تناقله — في إثبات المصلحة العامة، وهي أن: «أي شيء قد يكون مفيدًا في تقييم شخصية أحدهم»، صحيح أن أي شيء قد يكون مفيدًا في تقييم شخصية أحدهم، ولكن ليس كل شيء يتعلق بشخصية أحدهم موضوعًا يهم العامة، على سبيل المثال، لقد ارتكز الدفاع عن الممارسة البغيضة لفضح الشواذ جنسيًّا على أن ذلك يحقق مصلحة عامة … ليس كل الأشخاص الذين يختلف مظهرهم عن مخبرهم منافقين، إن الشخص المصاب برهاب الشواذ، سواء أكان هو نفسه شاذًّا أم لا، ويتصرف بعدائية تجاه الشواذ جنسيًّا، لا لشيء إلا لأنهم شواذ جنسيًّا، ليس منصفًا، «هذه» هي المصلحة العامة، ولكن إذا كان ذلك الشخص المصاب برهاب الشواذ شاذًّا جنسيًّا، فإن الإعلان عن تلك الحقيقة الإضافية ليس تحت حماية حق المعلِن في التعبير أو حق العامة في الاطلاع على الحقائق، بل على النقيض، إن ذلك الأمر يعتبر تعديًا صارخًا على حق الشخص المصاب برهاب الشواذ في الخصوصية.

جيمس جريفين، من كتاب «عن حقوق الإنسان»
(أكسفورد يونيفرستي برس، ٢٠٠٨) الصفحات ٢٤٠-٢٤١

أيضًا فإن الحجة الثانية ليست مقنعة إقناعًا تامًّا، فلنفرض أن الشخص المشهور مصاب بفيروس نقص المناعة المكتسب أو أنه مريض بالسرطان، فهل من الممكن أن تقضي وسائل الإعلام على رغبته المشروعة في إنكار أنه مريض بأحد هذين المرضين باسم حقها في إظهار الحقائق؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن حماية الخصوصية تصبح في مهب الريح، فالحقيقة أو الكذب لا يجب أن يمنعا التوقعات المعقولة لهؤلاء الذين يعيشون تحت أنظار العامة.

ولكن ليس الأغنياء والمشاهير فقط هم الذين لديهم أسباب للشكوى.

الأشخاص العاديون

كان السيد بيك يشعر بإحباط شديد، وذات مساء بينما يسير في برينتوود هاي ستريت، حاول أن يشرط رسغه بسكين مطبخ، ولم يكن مدركًا أن إحدى كاميرات المراقبة التليفزيونية، المثبتة فوق مبنى مجلس مدينة برينتوود، قد التقطت صورته، بالطبع لم تظهره المشاهد التي صورتها الكاميرا وهو يشرط رسغه، ولكن المسئول عن كاميرات المراقبة انتبه فقط إلى صورة شخص ممسك بسكين، وعلى الفور أُبلغت الشرطة التي وصلت على الفور إلى مسرح الحادث، حيث حرزت السكين، ووفرت رعاية طبية لبيك، ونقلته إلى قسم الشرطة، حيث احتُجز بموجب قانون الصحة العقلية، وبعد أن خضع للفحص والعلاج على يد طبيب، أُطلق سراحه دون توجيه تهم إليه واصطحبه ضباط شرطة إلى منزله.

وبعد عدة شهور، نشر المجلس صورتين حصل عليهما من الفيلم الذي التقطته كاميرا المراقبة التليفزيونية ليُرفقا بمقال عنوانه: «إزالة الخطر: التعاون بين كاميرات المراقبة التليفزيونية والشرطة يحول دون وقوع موقف خطير محتمل.» ولم يُخفَ وجه بيك، وقد وصف المقال ظروف الحادث كما ذكرناها آنفًا، وبعد أيام نشرت صحيفة «برينتوود ويكلي نيوز» صورة من صور الحادث على صفحتها الأولى مقترنة بمقال عن استخدام كاميرات المراقبة التليفزيونية وفوائدها، ومرة أخرى لم يُخفَ وجه بيك، وبعد ذلك نشرت صحيفة محلية أخرى مقالين مشابهين، إلى جانب صورة لبيك مأخوذة من الفيلم الذي صورته كاميرا المراقبة التليفزيونية، مصرحة بأنه حيل دون وقوع موقف خطير محتمل، وأضافت الصحيفة أن بيك أطلق سراحه بدون توجيه أي تهم إليه، وقد تعرف الكثير من القراء على بيك من الصورة.

فيما بعد عُرض المزيد من المقتطفات من الفيلم الذي صورته كاميرا المراقبة التليفزيونية في برنامج تليفزيوني محلي يبلغ متوسط عدد مشاهديه ٣٥٠ ألف مشاهد، وفي هذا الوقت، أُخفيت هوية بيك، بناء على طلب شفهي من مجلس المدينة، وبعد شهر أو شهرين، اكتشف بيك من أحد جيرانه أن كاميرات المراقبة التليفزيونية قد صورته، وأن الفيلم قد نشر، لم يتخذ بيك أي إجراءات، فقد كان لا يزال يشعر بالإحباط في ذلك الوقت.

وأمد مجلس المدينة منتجي برنامج «نبض الجريمة» — الذي تنتجه شبكة بي بي سي، ويعرض على التليفزيون المحلي، ويبلغ متوسط عدد مشاهديه ٩٫٢ ملايين مشاهد — بالفيلم الذي التقطته كاميرا المراقبة التليفزيونية، وقد فرض المجلس شروطًا عديدة تتضمن عدم إظهار هوية أي شخص في الفيلم، ومع ذلك أظهرت إعلانات إحدى حلقات البرنامج وجه بيك، وحين أخبره أصدقاؤه أنهم رأوه في إعلانات البرنامج، تقدم بيك بشكوى إلى مجلس المدينة، فاتصل المنتجون الذين أكدوا أن صورته قد أُخفيت في البرنامج، ولكن عند إذاعة البرنامج، على الرغم من إخفاء وجه بيك، فقد تعرف عليه أصدقاؤه وأفراد عائلته.

وقد قُبلت شكاوى بيك بلجنة معايير البث ولجنة التليفزيون المستقل (استُبدلتا حاليًّا بمكتب الاتصالات، المعروف اختصارًا باسم أوفكوم) التي ادعى فيها حدوث تعدٍّ غير مصرح به على خصوصيته، إلى جانب أشياء أخرى، ومع ذلك فإن الشكوى التي تقدم بها إلى لجنة شكاوى الصحافة لم تكن مثمرة.

بعد ذلك طلب بيك إذن المحكمة العليا للتقدم بطلب إجراء مراجعة قضائية فيما يتعلق بإذاعة مجلس المدينة لمواد خاصة بكاميرات المراقبة التليفزيونية، إلا أن طلبه هذا قوبل — إضافة إلى طلب إذن آخر باللجوء إلى محكمة الاستئناف — بالرفض، وهكذا تقدم بيك بشكواه إلى المحكمة الأوروبية، التي قررت أن عرض مجلس المدينة المشاهد التي التقطتها كاميرا المراقبة التليفزيونية يعتبر تدخلًا صارخًا في حياته الشخصية، مما يتعارض مع المادة ٨، وجاء في قرار المحكمة أن مصطلح «الحياة الشخصية» في المادة لا بد من تفسيره باستفاضة ليتضمن حق الهوية والتطور الذاتي.

لم يكن التقاط هذه الصور في شارع عمومي كافيًا ليجعل منها مناسبة عامة، إذ إن بيك لم يكن موجودًا في مناسبة عامة، وهو ليس شخصية مشهورة، والتقاط الصور كان في ساعة متأخرة من الليل، علاوة على هذا، أدت إتاحة هذه اللقطات لوسائل الإعلام إلى مشاهدة جمهور أكبر بكثير مما توقعه بيك لها، لقد كان حجم عرض اللقطات في وسائل الإعلام هو ما اعتُبر اختراقًا للحقوق التي تكفلها له المادة ٨، واختتمت المحكمة قرارها بأنه كان باستطاعة المجلس الحصول على موافقة السيد بيك قبل عرض اللقطات، كما كان ينبغي عليه إخفاء وجهه.

تعتبر هذه القضية دليلًا مهمًّا على فكرة أن مجرد وجود الشخص في مكان عام لا يجعل من سلوكه مشاعًا، إلا فيما يخص ما يراه باقي المارة من هذا السلوك، إن حجم عرض اللقطات في وسائل الإعلام المختلفة هو ما تعدى على حقوق بيك بموجب المادة ٨.

انتهاك الخصوصية وكشف المعلومات

غالبًا ما يتطلب السعي وراء المعلومات استخدام طرق تطفلية: الخداع، وعدسات الزووم، والأجهزة الخفية، واعتراض المحادثات الهاتفية أو المراسلات، وغيرها من أشكال التجسس والمراقبة المذكورة في الفصل الأول، وهناك ميل إلى الخلط بين التطفل الذي يمارسه الصحفي الفضولي ونشر المعلومات التي جُمعت بالأساليب التطفلية، ولكن من الأهمية بمكان الفصل بين الأمرين.

تم تبني وجهة النظر هذه في قضية «دايتمان ضد مؤسسة التايم»، التي تتلخص وقائعها في خداع صحفيَين من صحفيي مجلة «لايف» المملوكة لمؤسسة التايم المدعيَ ليسمح لهما بدخول منزله حيث أخفيا أدوات مراقبة للتلصص على المدعي، الذي لم يكن سوى سمكري لم يتلق تعليمًا على الإطلاق ويزعم أنه قادر على تشخيص الأمراض العضوية ومعالجتها، وبالطبع أدى المقال الناتج عن هذا الإجراء إلى إطلاع العامة على الموضوع ذي الأهمية الإخبارية الكبيرة — ممارسة الطب دون ترخيص — ولكن كان على المحكمة الأخذ في الاعتبار هل أهمية الموضوع تمنح حصانة للصحفيين بالنظر إلى الطرق المختلسة المستخدمة في جمع الأخبار، في الاستئناف، جاء الحكم لمصلحة المدعي؛ نظرًا لانتهاك خصوصيته، وورد في الرد على ادعاء المتهمين أن التعديل الأول للدستور الأمريكي قد امتد ليس فقط للنشر وإنما للتحقيقات أيضًا، وأشارت المحكمة إلى أن التعديل «لم يُفسر أبدًا على أنه يمنح الصحفيين حصانة ضد الأضرار أو المخالفات المرتكبة أثناء عملية جمع المعلومات».

وعلى نحو ملحوظ، لم تأخذ المحكمة في اعتبارها عند تقديرها للأضرار طبيعة ودرجة الأفعال التطفلية فحسب، بل النشر أيضًا، فقد أشارت إلى أنه «لم يرد في التعديل الأول ما ينص على تمتع وسائل الإعلام بحصانة ضد الجرائم المتعمدة التي قد ينتج عنها زيادة الأضرار الواقعة على المدعي والناتجة عن التطفل عن طريق النشر في وقت لاحق».

ولكن فيما يتعلق بالتعديل الأول، فإن «حق جمع المعلومات يسبق من الناحية المنطقية ويلزم من الناحية العملية أي ممارسة [لحق النشر] الذي … لا يمكن أن يتحقق المغزى الحقيقي منه إلا إذا اعتُرف بالحق في جمع المعلومات»، ويرفض القانون العام منح وسائل الإعلام أي مزايا عامة لجمع المعلومات، ومن ثم فصلت المحكمة بين قضيتي التطفل والإفصاح، حيث قيمت منطقية أساليب المدعى عليهما في جمع المعلومات في ضوء مبادئ القانون العام الذي وضعته المحكمة فيما يخص القضية الأولى، ومتجنبة لأي تعارض مع التعديل الأول الذي سيؤثر حتميًّا على القضية الثانية.

ويكمن الحل في صياغة معايير مستقلة يجري بموجبها تقدير متى يكون التعدي على عزلة شخص ما مبررة، تمامًا مثلما هناك معايير يجري وفقًا لها تقييم متى قد يكون الإفصاح عن حقائق خاصة مبررًا ويصب في المصلحة العامة.

حرية التعبير

إننا جميعًا ناشرون الآن، فقد خلقت شبكة الإنترنت حتى الآن فرصًا لا تصدق لحرية التعبير، فالمدوِّنون يتكاثرون بمعدل ١٢٠ ألف مدون كل يوم، أيضًا أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي هي شكل المجتمع الجديد؛ فهناك ٣٠٠ مليون عضو على موقع فيسبوك، في حين هناك ١٠٠ مليون عضو على موقع ماي سبيس، ومع ذلك على الرغم من هذه التطورات المدهشة، فإن المشكلة الأساسية لا تزال قائمة، كيف يمكن التوفيق بين الخصوصية وحرية التعبير؟
fig15
شكل ٤-٢: كثيرًا ما يكون من الصعب مقاومة البوح بمعلومات شخصية.2

لا يزال على العصر الإلكتروني أن يتناول مطلب كل من وارين وبرانديز (الذي سبقت مناقشته في الفصل الثالث) والذي ينص على أنه يجب على القانون أن يمنع الأضرار التي يسفر عنها النشر غير المبرر للمعلومات الخاصة.

ما تبريرات حرية التعبير في مجتمع ديمقراطي؟ إنها على الأرجح تقوم إما على النتائج الإيجابية الناشئة عن ممارسة الحرية، وإما على حماية حق الأفراد في التعبير عن أنفسهم، أما التبرير الأول — الذي يقوم على فلسفة العواقب — فهو دائمًا يستلهم الأفكار من دفاع كل من جون ميلتون وجون ستيوارت مِل عن حرية التعبير، وأما التبرير الثاني — القائم على الحقوق — فأصحابه يرون أن التعبير عن الذات جزء لا يتجزأ من حق الفرد في تحقيق ذاته.

النميمة على الإنترنت

حتى إن كانت الشائعات على الفضاء الإلكتروني لا تظهر أبدًا في الصحافة التقليدية، فإنها تذاع على نطاق أوسع تزداد فيه سهولة سوء الفهم عنها في الواقع، مما يعيد إلى الحياة تلك الحميمية الخانقة التي تميز المجتمع التقليدي بدون الوفاء بالتزام الحكم على المرء وفقًا للسياق، وتزيد حقيقة أن تلك الشائعات على الفضاء الإلكتروني تُسجل وتكون قابلة للاسترجاع بصفة دائمة ومتاحة على مستوى العالم — من خطورة تهديد صورة الفرد العامة بأخطائه في الماضي، الشائعات التي تنشر في مجموعات الدردشة على الإنترنت تصل، على المدى القصير، لجمهور يعادل تمامًا جمهور الشائعات في البلدات الصغيرة، ولكن نظرًا لأن نميمة الإنترنت لا تتلاشى أبدًا، على عكس ذكريات الإنسان، فمن الممكن أن تُسترجَع في المستقبل على يد أشخاص لا يعرفون صاحبها، ومن ثم لن يتمكنوا من وضع المعلومات المتضمنة في تلك الأحاديث في سياق أكبر، وأيضًا على عكس الأحاديث في البلدات الصغيرة، يصعب الرد على الشائعات المنشورة على الإنترنت، وذلك لأن جمهورها المحتمل مجهول وغير محدد.

جيفيري روزين، من كتاب
«النظرات البغيضة: ضياع الخصوصية في أمريكا»
(راندوم هاوس، ٢٠٠٠)، صفحة ٢٠٥

وهذه المبادئ غالبًا ما تُدمج على نحو ثابت، بل تختلط، ولذلك يميز توماس إميرسون، على سبيل المثال، بين المسوغات الأربعة الأساسية التالية التي تتضمن كلا النوعين من الحجج: تحقيق الفرد لذاته، وبلوغ الحقيقة، وضمان مشاركة أفراد المجتمع في عمليات صنع القرار الاجتماعي الذي ينطوي على جانب سياسي، وتوفير وسائل الحفاظ على التوازن بين الاستقرار والتغيير في المجتمع.

من ناحية أخرى، يعتمد مناصرو الخصوصية اعتمادًا يكاد يكون حصريًّا على الحجج القائمة على الحقوق، كما ذكرنا في الفصل الثاني، ولكن الدرجة التي يحد بها القانون على نحو مشروع من التعبير عن الرأي الذي ينال من خصوصية الفرد دائمًا ما تظهر على أنها صراع بين هذين الثقلين: حرية التعبير ضد الخصوصية، ولكن هذا الصراع أشبه بالملاكمة الوهمية، لماذا؟ لأن «قانون الخصوصية والقانون المحافظ على حرية الصحافة لا يتعارضان في أغلب الأحيان، على العكس، كل من هذين القانونين يدعم أحدهما الآخر، وذلك لأنهما سمتان حيويتان للنظام الأساسي لحقوق الأفراد».

هل من منهج أفضل؟

يبدأ الضباب في الانقشاع ما إن نركز اهتمامنا على الطبيعة الجوهرية للخصوصية، حين يُعرف أن اهتمامنا الأساسي هو حماية المعلومات الشخصية، تتضح سمة الجدال الحقيقية، ولحسن الحظ، من داخل العمق المظلم لأدبيات هذا الموضوع الوافرة، يظهر بصيص نور (بالرغم من ندرته)، على سبيل المثال، بعد مناقشة مفصلة لأضرار الكشف العلني للمعلومات، يقول أحد الكتاب:

قد يكون قانون الخصوصية أكثر عدلًا وفعالية إذا ما ركز على تحديد (يفضل أن يكون بواسطة التشريع) لعمليات تبادل المعلومات التي تحتاج إلى حماية منذ البداية، بدلًا من مواصلة ممارسته الحالية والمتقلبة لفرض المسئولية القانونية فقط في حالة إظهار المادة للعامة على نطاق واسع … إن التحديد الدقيق للمواقف شديدة الحساسية التي يتم فيها تبادل معلومات، وكذلك التحديد الدقيق للتوقعات المناسبة المتعلقة بالكيفية التي ستُستخدم تلك المعلومات بها، بإمكانهما أن يحدَّا من علميات انتهاك الخصوصية دون إعاقة حرية التعبير، وعلى الأقل، يستحق هذا الاحتمال تفكيرًا أكثر إمعانًا من الذي ناله حتى الآن بصفته بديلًا عن فكرة الضرر التي تحدَّث عنها وارين وبرانديز.

وحتى توماس إميرسون رجح أنه قد يكون هناك «منهج آخر، يبدو لي مثمرًا أكثر»، من شأنه أن:

يشدد أكثر على تطوير جانب الخصوصية في المعادلة؛ بحيث يقر باهتمامات التعديل الأول، ولكن يولي اهتمامه الأساسي لعدد من العوامل المشتقة من الوظائف التي تقوم بها الخصوصية والتوقعات المتعلقة بالخصوصية التي تسود المجتمع المعاصر.

ومن بين هذه العوامل:

عنصر الحميمية في تحديد نطاق الخصوصية، ومن ثم بقدر ما يُعنى قانون الخصوصية [فيما يتعلق بكشف المعلومات للعامة]، سوف تمتد الحماية لتشمل فقط الأمور المتعلقة بالتفاصيل الشخصية في حياة الشخص: تلك الأنشطة، أو الأفكار، أو العواطف التي لا يعرضها المرء على الآخرين أو يعرضها فقط على أقرب الناس إليه، ويتضمن هذا العلاقات الجنسية، وأداء وظائف الجسم، والعلاقات الأسرية، وما إلى ذلك.

ومن ثم هناك بعض العلامات الإيجابية التي تشير إلى أن السعي إلى تحقيق معادلة صعبة بين الخصوصية وحرية التعبير قد ولَّد بعض التشكك في المنهج التقليدي الذي يزداد ضعفًا في ظل مفهوم للخصوصية غير واضح المعالم.

حرية من؟

هل تحمي حرية التعبير مصالح المتحدث أم مصالح المستمع؟ أو، لنصغ السؤال بطريقة أكثر جاذبية، هل المبرر مبني على مصلحة الفرد أم مصلحة المجتمع؟

المبرر الأول، الذي يركز على مصالح الفرد، يهتم بالحقوق، ويدافع عن حق الفرد في الاستقلال، والكرامة، وتحقيق الذات، وبعض القيم الأخرى التي تحميها وتعمل على تطويرها ممارسة حق التعبير عن الرأي، أما المبرر الأخير، الذي يركز على المجتمع، فهو قائم على فلسفة العواقب أو النفعية؛ إذ إنه يستند إلى إحدى نظريات الديمقراطية أو تشجيع إظهار الحقائق لدعم حرية التعبير، كتسهيل أو تشجيع تبادل المعلومات دون قيود، ونشر المعلومات، والوسائل الأخرى لزيادة المشاركة في حكم الذات.

غالبًا ما يُنظر إلى حرية التعبير والخصوصية على أنها من حقوق أو مصالح الفرد، ومن حقوق أو مصالح المجتمع كله، في الوقت نفسه أحيانًا، أما الأكثر إثارة للقلق فهو أن حرية التعبير شيء، والخصوصية شيء آخر، مما يجعل تحقيق أي «توازن» بين كلتيهما أمرًا صعبًا إلى حد ما! وفيما يتعلق بمصالح الفرد، فإنها جميعًا تشترك في المخاوف ذاتها، في الواقع، يصعب التمييز بين الوظائف الاجتماعية للخصوصية وتلك الخاصة بحرية التعبير، كما ذكرنا آنفًا، والتعامل مع كلتيهما باعتبارهما من حقوق الفرد سيكون خطوة مهمة تجاه تبسيط القضية.

السياسة والمبدأ

إن نظريات حرية التعبير التي تسعى إلى حماية الجمهور هي بشكل عام جدالات حول السياسة، تقوم على أهمية هذه الحرية للمجتمع، أما تلك النظريات التي تميل إلى مصالح المتحدث، من ناحية أخرى، فإنها جدالات حول المبدأ تقدم حق الفرد في تحقيق ذاته على مصالح المجتمع. وقد رجح الفقيه القانوني رونالد دوركين أن حرية التعبير تحظى — على الأرجح — بحماية أكبر حين تعتبر حامية، من حيث المبدأ، لحقوق المتحدثين، وكذلك الخصوصية، في معناها الواسع، تقوم على الحقوق وليس على الأهداف، وإذا كان ذلك صحيحًا، فإنه سوف يعمل على الأقل على تيسير المزيد من التوافق في عملية تحقيق التوازن بين الخصوصية وحرية التعبير.

وللأسف، فإن الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، فللوهلة الأولى ستوفر هذه الاستراتيجية سالفة الذكر قاعدة منطقية لادعاء أن نشر المعلومات التي تؤدي إلى إيذاء أفراد آخرين لا يمكن أن يقال جديًّا إنها تدعم حق المتحدث أو الناشر في تحقيق ذاته، فمن ذا الذي «حقق ذاته» عند نشر خبر إدمان عارضة أزياء شهيرة للمخدرات؟ ومن الذي سيحدد هل أنواع معينة من الآراء مفيدة لتحقيق هذا الهدف؟

علاوة على ما سبق، هذه الحجة «بها قصور في التمييز بين تحقيق الذات على المستوى الفكري وباقي الرغبات والاحتياجات، ومن ثم فهي غير قادرة على دعم مبدأ مختلف لحرية التعبير»، إلى جانب أن هذه الحجة تقوم على مبدأ النشر الحر للأفكار وليس المعلومات، مما يقلل من نفعها في السياق الحالي، والأكثر إرباكًا هو صعوبة توظيف هذه الحجة في الدفاع عن حرية الصحافة، التي يبدو أنها تقوم على نحو شبه تام على مصالح المجتمع، وليس الصحفي أو المحرر أو الناشر باعتباره فردًا.

وماذا عن دوافع المتحدث؟ إن القول بأن محرري ومالكي الصحف يهتمون إلى حد ما بالربح ليس افتراءً في غير محله، وكما يقول إريك بارنديت: «إن التدقيق الشديد في الدوافع لمنع الآراء المنشورة بدافع الربح لن يبقي سوى قدر ضئيل من الحصانة ضد أحكام القانون.» علاوة على أن جمهور القراء لا يهتم بذلك بالضرورة؛ فالقراءة الجيدة هي القراءة الجيدة سواء أكان دافع الكاتب هو الطمع أم التثقيف.

الحقيقة

تعتمد حجة جون ستيوارت مِل الشهيرة عن الحقيقة على فكرة أن أي قمع للتعبير عن الرأي يعتبر «ادعاء للعصمة» وأن الحقيقة لا يمكن أن تظهر إلا بالتداول الحر للأفكار، ولكن عند أخذ النتيجة المنطقية لهذه الحجة في الاعتبار، نرى أن هذا سيمنع الانتهاكات التي ترتكب أثناء ممارسة حرية التعبير، على الأقل بصدق، وبعيًدا عن فرضية مِل المملة بأن هناك «حقيقة» موضوعية، وثقته في هيمنة المنطق، فإن نظريته تجعل من الصعب جدًّا تبرير الأحكام القانونية الخاصة بنشر المعلومات الشخصية (إلى جانب عدة أشكال أخرى من التعبير الذي يسبب الضرر)، فهي تؤكد على أن حرية التعبير منفعة اجتماعية؛ لأنها أفضل عملية يجري من خلالها دعم المعرفة واكتشاف الحقيقة، انطلاقًا من فرضية أنَّ أسلم الأحكام وأكثرها منطقية هي تلك التي يُتوصل إليها بعد دراسة كل الحقائق والحجج الداعمة والداحضة، وبحسب إميرسون، لا بد من وجود هذا السوق الحر للأفكار مهما يكن مدى ضرر أو زيف أي رأي جديد «ذلك لأنه ما من وسيلة لقمع الباطل دون قمع الحق معه».

الحقيقة مقابل الزيف

مع أن كل رياح المذاهب قد تُركت طليقة لتعبث في الأرض، فإن الحقيقة أيضًا توجد في الميدان، وإننا لنطعن فيها ونشكك في قوتها من خلال الإجازة والمنع، لندع الحقيقة والزيف يتصارعان؛ فمن ذا الذي عرف الحقيقة يومًا ويظن أنها ستعاني في مواجهة حرة ومفتوحة؟

لا أستطيع أن أمتدح قيمة هاربة ومنعزلة، لا تُمارس ولا تُتنسم، لا تهب بحماس لتلاقي أعداءها، ولكن تتسلل خلسة من السباق، في حين يجب أن تسعى وراء تاج الخلود، ولكن ليس دون مشقة وحماسة.

جون ميلتون،
أريوباجيتيكا (١٦٤٤) (ماكميلان، ١٩١٥)

ولكن هل حجة إظهار الحقيقة هذه تتناسب مع حماية الخصوصية؟ يتشكك فريدريك شاور فيما إذا كانت الحقيقة مطلقة وغير وسيلية؛ ألا تضمن الحقيقة «منفعة أكبر» مثل السعادة أو الكرامة؟ إذا كانت الحقيقة وسيلية، فإن التساؤل عن أن إظهار المزيد من الحقائق يعمل على دعم هذه المنفعة الأكبر مسألة موضوعية وليس حقيقة جازمة منطقية، من وجهة نظر شاور، فإن الحجة المستندة إلى حقيقة هي «حجة مستندة إلى معرفة»، حجة تقول إن القيمة التي نحن بصددها تجعل الناس يؤمنون بأن ما يدور حولهم حقيقي.

الديمقراطية

تلعب حرية التعبير دورًا أساسيًّا في دعم الحكم الذاتي الديمقراطي والحفاظ عليه، وهذا امتداد للحجة المستندة إلى الحقيقة، كما صاغه واضع النظريات السياسية الأمريكي ألكسندر ميكلجون:

ينبثق مبدأ حرية التعبير من ضروريات برنامج الحكم الذاتي، فهو ليس قانونًا للطبيعة أو العقل بشكل مجرد، وإنما هو استنباط من الاتفاق الأمريكي الأساسي الذي ينص على أن كل المسائل العامة يُبَت فيها من خلال الاقتراع العام.

مع ذلك وكما هو الحال مع الحجة المستندة إلى الحقيقة، يجب استيضاح الكيفية التي ييسر أو يدعم بها الحكم الذاتي من خلال إفشاء حقائق خاصة تتعلق مثلًا بالميول الجنسية لشخص ما، هل هذا «تعبير عن الرأي» من الأساس؟

في بعض الحالات، قد تكون مثل هذه المعلومات متعلقة بالحكم الذاتي، على سبيل المثال، حين ينظر المواطنون الذين يعملون من خلال حكومتهم المنتخبة على أساس ديمقراطي إلى فعل معين على أنه مناهض للمجتمع بما يكفي ليشكل جريمة، يكون القبض على الجناة ومعاقبتهم في مصلحة الحكم الذاتي، بالمثل حين يشغل الفرد منصبًا عامًّا، يعمل من خلاله لمصلحة المواطنين، ويمثل آراءهم السياسية وينفذها، فإن أي نشاط يقوم به ذلك الشخص ويمس على نحو مباشر صلاحيته لأداء وظيفته يعتبر ذا شأن مشروع للمجتمع، ومن المؤسف أن هناك العديد من الأمثلة على سياسيين تشدقوا ﺑ «القيم الأسرية»، واتضح بعد ذلك أنهم أشخاص داعرون بل أكثر فسادًا، واختبار المصلحة العامة يمكن أن يدعم حرية التعبير عن الرأي في مثل هذه الحالات، ولكن لا ينبغي توظيف الحجة المستندة إلى الديمقراطية لتبرير حرية التعبير اللامحدودة في مجال الخصوصية.

حرية الصحافة

تتسم الحجج المستندة إلى الديمقراطية بالنضج التام في هذا الصدد، من وجهة نظر ميلتون وبلاكستون، فإن القيود المسبقة على الصحافة هي التي شكلت أكبر تهديد لحرية التعبير، فقد صرح السير ويليام بلاكستون، الفقيه القانوني الذي عاش في القرن الثامن عشر، قائلًا:

تعتبر حرية الصحافة ضرورية جدًّا لطبيعة الدولة الحرة، ولكن هذا يكمن في عدم فرض قيود على النشر وليس في عدم التعرض للنقد عند نشر القضايا الجنائية، كل إنسان حر لديه حق لا يمكن إنكاره في أن يعبر عن أي آراء أمام العامة، ومنع ذلك يعني تدمير حرية الصحافة، ولكن في حالة نشره لمواد غير لائقة أو ضارة أو مخالفة للقانون، فلا بد أن يتحمل عواقب طيشه.

لكن اكتسبت كل من فكرة الصحافة والقيود المفروضة على حريتها معنًى أوسع اليوم على نحو ملحوظ، لذا فإن مصطلح «الصحافة» يمتد ليتجاوز الصحف والدوريات ويشمل عددًا كبيرًا من وسائل الإعلام المنشورة: التليفزيون، والراديو، والإنترنت، وبالمثل لم يعد نطاق حرية الصحافة مقيدًا بقانون حظر «القيود المسبقة».

يعتبر التبرير السياسي لحرية التعبير بمنزلة تطبيق للحجة المستندة إلى الحقيقة، وأطروحة مِل الثانية، التي ذكرناها من قبل، هي «ادعاء العصمة» الذي يحدد الشروط التي بموجبها نستطيع الشعور بالثقة تجاه تصديق أن ما نعتقد أنه حقيقي هو بالفعل كذلك، وترى هذه الحجة أن أكثر الطرق أمنًا لتحقيق ذلك هي منح الأفراد حرية الجدال في الأفكار بإخضاعها للدحض والتفنيد، والتعرض لهذه الحرية يحد من قدرتنا على الوصول إلى معتقدات عقلانية.

هذه فكرة مؤثرة، حتى إن بدا أنها قائمة على نموذج مثالي للعملية السياسية التي تتسم بالمشاركة العامة الفعالة في الحكم، إن الصحافة الحرة قادرة بالفعل على توليد هذا الوعي وتيسير ممارسته.

وتكمن جاذبية الحجتين المستندتين إلى الحقيقة والديمقراطية في أنهما تؤسسان قواعد مستقلة لحرية التعبير على نحو تفتقده تلك الحجج القائمة على مصالح أو اهتمامات المتحدث، ولكن وسائل الإعلام تنشر الكثير من المواد التي لا تمتُّ بِصلة لهذه المساعي النبيلة، ولو من باب الخيال الواسع، هل يرجح هذا أن وسائل الإعلام لا تستحق معاملة خاصة؟ تميل الحجج التي تدعم معاملة الصحافة معاملة خاصة إلى انتهاك إحدى القواعد القضائية، ويمكن تقديم حجة قوية على هذا الأمر بسهولة بالاستعانة بالحالات التي تسيء فيها الصحافة إلى قواعد الأدب وليس القانون، على النقيض من وضع صحيفة «ذي ديلي ميرور» في قضية ناعومي كامبل، ويمكن تقديم هذه الحجة للإشارة إلى أهمية العملية السياسية المتعلقة بنشر التقارير الخاصة، ومن المعقول أن يُدعى أن التقارير التي تتناول الحياة الشخصية للوزراء، والمسئولين، والسياسيين، وحتى العائلة الملكية تستحق معاملة خاصة، وهنا تكون طبيعة الرسالة، وليس وسيلة نشرها، هي محط الاهتمام، وهذا المنهج لا يميز هل ممارسة حق التعبير تتم في الصحافة أم في حانة، إن هذا المنهج يتسم بميزة إضافية تتمثل في تجنب مشكلة تعريف «الصحافة».

التعديل الأول

في الولايات المتحدة تُناقش حرية التعبير على خلفية الأمر القضائي الخاص بالتعديل الأول الذي يقضي بأنه «لا يجوز للكونجرس صياغة أي قانون … يحد من حرية التعبير عن الرأي، أو حرية الصحافة»، وقد وضعت المحاكم الأمريكية والمعلقون الأمريكيون العديد من النظريات الخاصة بحرية التعبير، منها ما هو مبني على الحقوق، ومنها ما هو قائم على فلسفة العواقب، التي تهدف إلى تفسير ممارسة حرية التعبير بأشكالها المختلفة، ومع ذلك بالرغم من أن تصور المشكلات التي تواجه جهود التوفيق بين الخصوصية وحرية التعبير كأمر قائم بذاته ليس من الجدية في شيء، يبدو أن القانون الأمريكي قد وضع إطارًا لنظرية الخصوصية/حرية التعبير.

وبوجه خاص، هناك ميل إلى تبني تفسير هادف للتعديل الأول، وهذا يثير سؤالًا: ما صور التعبير أو النشر التي تستحق الحماية نظرًا لإسهامها في عملية الديمقراطية السياسية؟ لقد جرى توظيف التعديل الأول في العديد من القرارات التي ميزت — على اختلاف التداعيات — بين الشخصيات العامة والأفراد العاديين، في الواقع طبقت المحكمة العليا المبدأ الذي جرى تبنِّيه في قضية التشهير المعروفة باسم «نيويورك تايمز ضد سوليفان» على قضية الخصوصية المعروفة باسم «مؤسسة التايم ضد هيل» (انظر ما يلي)، في الحكم الأول عبرت المحكمة عن فلسفتها بكلمات لا لبس فيها:

إننا ندرس هذه الدعوى المرفوعة على خلفية الالتزام القومي العميق تجاه ذلك المبدأ الذي يجادل بأن الموضوعات العامة ينبغي أن تكون حرة، وقوية، وعلنية، وأنها قد تتضمن هجمات عنيفة ولاذعة وحادة على نحو بغيض على الحكومة والمسئولين العموميين.

إن الغرض الأساسي من التعديل الأول هو، في هذا المنهج، حماية حق كل المواطنين في فهم القضايا السياسية لكي يتمكنوا من المشاركة بفعالية في عمل الحكومة الديمقراطية، وتتيح هذه الصيغة نطاقًا كبيرًا من الإجراءات التي يستطيع الأشخاص المعرضون للتشهير غير المبرر اتخاذها، ومع ذلك فالواقع العملي يشير إلى أنه في أغلب الأحيان نجد أن من يكونون محط اهتمام العامة هم من يجذبون انتباه الصحافة الصفراء لنفس السبب، والسؤال الصعب الذي تطالب النظرية بالإجابة عنه هو إلى أي حد تستحق الشخصيات العامة حماية جوانب حياتها الخاصة، وهذا يتضمن بدوره تحقيقًا دقيقًا في ماهية السمات التي يمكن الكشف عنها على نحو مشروع من حياة الشخصية العامة، في إطار دعم الجدل السياسي، وهل تتضمن هذه السمات الحياة الجنسية؟ الصحة؟ الوضع المالي؟

على الرغم من أن هذه النظرية تسعى إلى التمييز بين الشخصيات العامة المتطوعة وغير المتطوعة، فإن تطبيقها يوفر دليلًا غير جدير بالثقة للحقوق والالتزامات الشخصية في القضايا التي تتضمن التشهير غير المرحب به، إلا إذا طُبقت كحجة عامة لوجود حرية التعبير ذاتها، في ظل غياب محاولة تحديد أنواع المعلومات التي نظرًا لها قد يتوقع الأفراد كافة تلقي حماية (حتى لو أُلغيت هذه الحماية بعد ذلك تحت وطأة اعتبارات المصلحة العامة)، يتلاشى أحد الأهداف الأساسية لإدراك مصلحة الفرد في تقييد المعلومات؛ المصداقية والأمانة والثقة التي تدعمها.

موازنة المصالح المتضاربة

هل من الممكن صياغة نظرية متماسكة عن حرية التعبير تتسم برحابتها الكافية لضم كل تعقيدات ممارسة الحرية وبتميزها الكافي لشرح تطبيقاتها المختلفة؟ إن الحجة المستندة إلى الديمقراطية تتلقى دعمًا أكبر من ذلك الذي تتلقاه نظرية مِل والنظريات المستندة إلى الحكم الذاتي، ولكنها جميعًا توفر في أفضل الأحوال الدليل الأعم فيما يتعلق بالضوابط الشرعية على النشر العلني للمعلومات الشخصية في وسائل الإعلام.

تثير النظريات التي تقوم على المصالح والتي تحدد المصالح المختلفة للأطراف المتضمنة في حالات نشر المعلومات؛ العديد من الصعوبات (مثل نظريات الخصوصية القائمة على المصالح)، وعلى الرغم من أنه من المفيد التمييز بين مصالح «الشخصية» المشاركة بنشر الحقائق الشخصية والمصالح «المتعلقة بالسمعة» المتأثرة بالمواد المنشورة المسيئة، أو المصالح «التجارية» المتأثرة بخرق الثقة، هذه المنهجية تخفق في توضيح نوعية المعلومات التي تستحق الحماية في وجه الادعاءات المتصارعة لحرية التعبير.

وقد لجأت المحكمة العليا الأمريكية، التي توسطت بين المصلحتين، إلى «الموازنة» التي يقارن من خلالها بين المصلحة من وراء حرية التعبير والمصالح الأخرى مثل الأمن القومي، والنظام العام، وما إلى ذلك، فإذا وجد أن مثل هذه المصالح «مؤثرة» أو «جوهرية»، أو وجد أن هناك «تهديدًا واضحًا وقائمًا» بأن حرية التعبير سوف تتسبب في ضرر بالغ للمصلحة العامة، فسوف تؤيد المحكمة فرض قيود على حرية التعبير.

ديناميكيات القيود

يستخدم إميرسون هذه العبارة لشرح فرضية أن المصلحة العامة في حرية التعبير يجب أن تتوافق مع «هيكل أكثر شمولًا يضم القيم والأهداف الاجتماعية»، وحتى الآن لمست عدم إمكانية تطبيق مبررات معينة لحرية التعبير، وتركت حق الخصوصية يفلت دون ضرر، وحين يكون هناك تعارض بين القيمتين، كيف تُحمى الخصوصية؟ بعبارة أخرى، لماذا ينبغي أن تكون حرية التعبير خاضعة لحماية المعلومات الشخصية؟

ولكن في أي ظروف يمكن تخفيف الحماية المطلقة لحرية التعبير؟ يرجح إميرسون أن هذا الأمر يتم في ثلاث حالات: الحالة الأولى: حينما تكون الإساءة موجهة لشخص بعينه على نحو مباشر وخاص، وليس لمجموعة من الأشخاص، والحالة الثانية: حينما تكون المصلحة خاصة وشخصية؛ حيث تشتمل على نطاق من الخصوصية لا ينبغي للدولة أو باقي الأفراد التدخل فيه، أما الاعتبار الثالث: فيتمثل فيما إذا كان المجتمع يترك عبء حماية المصلحة للفرد، من خلال إدراك أن لديه سببًا قانونيًّا لإقامة دعوى مثلًا.

في أول حالتين، يكون الأذى على الأرجح مباشرًا ولا يمكن إصلاحه، علاوة على ذلك، إذا كان الفرد هو من يتحمل عبء إقامة دعواه، فمن المستبعد إلى حد ما أن تُوَجَّه موارد الدولة إلى جهاز قوي يقمع حرية التعبير، ويقول إميرسون: «ما دامت مصلحة الخصوصية صادقة، وشروط استرداد الاعتبار محددة، ورد الاعتبار يتم من خلال رفع دعوى قضائية، فمن غير الوارد أن تميل الموازنة تجاه تقييد التعبير عن الرأي إلى حد بعيد.»

وحتى على خلفية التعديل الأول، تظل منهجية إميرسون مقنعة؛ هي مقنعة أيضًا في سياق الصمت الدستوري للقانون الإنجليزي فيما يتعلق بسبل حماية حرية التعبير، وعلى حد تعبير أحد القضاة الكبار:

لا يمكن التأكيد بما فيه الكفاية على أن هناك مشكلة في تحقيق التوازن بين حرية التعبير والمصالح الأخرى، فيما عدا تلك الاستثناءات المعروفة قانونًا، أو أي استثناءات جديدة يشرعها البرلمان وفقًا لالتزامه بميثاق حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، فلا يوجد شك في نتيجة موازنة حرية التعبير ضد المصالح الأخرى، فحرية التعبير هي دائمًا البطاقة الرابحة.

تقر المحكمة مع ذلك بأن «حق الخصوصية قد يكون استثناءً قانونيًّا من حرية التعبير»، وقد صرح قضاة آخرون أن هناك «حالات استثنائية كان النشر فيها غير قانوني تمامًا وكان سيتسبب في إساءة شديدة لأشخاص أبرياء أو يعرقل سير العدالة»، وأعلن قاضٍ آخر أن «بلاكستون كان معنيًّا بمنع تدخل الحكومة في الصحافة، وزمن بلاكستون لا يمت بصلة لزمن السيد مردوخ».

المصلحة العامة

متى يتعلق الأمر بالمصلحة العامة؟ لقد جاهدت المحاكم كثيرًا لصياغة معيار موضوعي تستند إليه في إصدار هذا الحكم المثير للجدل، ومن بين الاعتبارات التي كانت ستبدو ذات صلة بالأمر: لمن تعطى المعلومات؟ وهل الضحية شخصية عامة؟ هل كان في مكان عام؟ وهل المعلومات تتعلق بالمجال العام؟ وهل وافقت الضحية على النشر؟ وكيف تم الحصول على المعلومات؟ وهل كان من الضروري أن يُكْشف عن هوية الضحية؟ وهل كان هذا الاعتداء خطيرًا؟ وماذا كان دافع الناشر لنشر المعلومات؟

في الولايات المتحدة، يحتاج الناشرون فقط إلى رفع راية الدفاع عن المصلحة العامة أو إظهار مدى استحقاق الخبر لكي يخترقوا القيود المفروضة على النشر غير المبرر للحقائق الشخصية في وسائل الإعلام، ففي قضية «سايديس»، أعلنت المحكمة أنه «عند نقطة ما، تسود المصلحة العامة في الحصول على المعلومات على رغبة الفرد في الخصوصية»، وهذا الامتياز له تعريف في «إعادة الصياغة الثانية لقانون الأضرار» بما يمتد ليشمل معلومات «ذات أهمية مشروعة للعامة»، وهو استنتاج جرى التوصل إليه بعد موازنة المصالح المتضاربة الخاصة بحق العامة في الاطلاع على الحقائق وحق الفرد في إخفاء الحقائق الخاصة به عن نظر العامة. والقاضي هو من يبت في هذا الأمر، باعتباره مسألةً قانونية، أو هيئةُ المحلفين — في معظم الأحيان — باعتبارها مسألة واقعية، وقد جاء في نص الاختبار الذي تشتمل عليه إعادة الصياغة الآتي:

عند تحديد العناصر التي تشكل المصلحة العامة المشروعة، ينبغي أخذ تقاليد وأعراف المجتمع في الاعتبار؛ أظهر التحليل السابق أن كل ما هو مناسب ينضم إلى أعراف المجتمع، وينبغي وضع حد عندما يتحول النشر من عملية تقديم المعلومات التي يحق للعامة الاطلاع عليها إلى عملية تطفل مثيرة ومؤسفة على الحياة الشخصية للأفراد، والتي بصددها يعلن أي فرد عاقل من عوام الناس، ولديه مبادئ محترمة، أنه لا شأن له بها.

لقد زادت فئات المعلومات التي تعتبر جديرة بالنشر مع زيادة وعي المحاكم بآثار حرية التعبير فيما يتعلق بالرقابة على الإعداد الدقيق للتقارير، وهنا تتبدى هيمنة المسائل الجنسية، على نحو مفهوم، ويتضح هذا من خلال دعويين قضائيتين اشتهرتا في كاليفورنيا؛ في القضية الأولى أحبط جندي سابق في سلاح البحرية الأمريكية محاولة لاغتيال الرئيس فورد، وكشفت صحيفة «سان فرانسيسكو كرونيكل» عن أن سيبل — الجندي — كان عضوًا بارزًا في مجتمع الشواذ، وكان ذلك أمرًا حقيقيًّا، ولكنه أقام دعوى قضائية؛ نظرًا للأضرار التي لحقت به جراء الإفصاح العام عن حقائق خاصة به؛ وذلك لأنه — بحسب ادعائه — كان يخفي دائمًا حقيقة شذوذه الجنسي عن أقاربه، وقد رفضت المحكمة دعواه لسببين: السبب الأول هو أن المعلومات كانت بالفعل في النطاق العام، والسبب الثاني هو أن الحقائق المنشورة كانت تستحق النشر، حيث إن الإفصاح عن هذه المعلومات كان مدفوعًا بالرغبة في محاربة الصورة النمطية للشواذ التي تصورهم على أنهم «جبناء وضعفاء ويفتقرون إلى روح البطولة»، ولمناقشة التحيز المحتمل للرئيس (تناولت إحدى الصحف أن تحفظ الرئيس في توجيه الشكر لسيبل كان بسبب شذوذ هذا الأخير).

أما القضية الثانية، فقد أظهر مقال في إحدى الصحف أن أول رئيسة لاتحاد الطلاب بإحدى الكليات في جامعة كاليفورنيا، واسمها دياز، كانت في الأصل ذكرًا وخضعت لعملية تحويل للجنس، ولكن المحكمة أقرت بأن مسألة تغييرها لجنسها معلومة شخصية، وأقرت كذلك بأنه على الرغم من انخراط دياز في جدل عام (حيث اتهمت المعهد بإساءة استخدام صناديق الطلاب)، فإن المعلومة التي أفشيت لا تتصل بهذه القضية، ومن ثم فإنها ليست ذات أهمية إخبارية، وقد أكدت المحكمة على أن الغرض من الحماية التي يكفلها التعديل الأول هو «اطلاع العامة على الحقائق لكي يتخذوا قرارات مستنيرة في الأمور المهمة للأشخاص المتمتعين بالحكم الذاتي». وأضيف إلى ذلك أن «حقيقة أنها قد خضعت لعملية تحول جنسي لا تتعارض مع استقامتها أو أحكامها، وأيضًا حقيقة أنها أول رئيسة لاتحاد الطلاب بذاتها لا تجيز استباحة حياتها الخاصة».

كيف يمكن تحقيق التوفيق بين هذين الحُكمَين إذن؟ قد تكون الإجابة كامنة في المقال الذي يتحدث عن دياز، فقد ادعت الصحيفة أن التقرير الذي أعدته دياز يهدف إلى تصوير «تغير دور المرأة في المجتمع»، ولكن كان من الواضح من أسلوب المقال أن هدف الكاتب قد توقف عند «الإفشاء الصارخ»، والسمة المهمة التي تميز كلا القرارين هي أن المقالات كانت تهدف إلى تصوير أسلوبَي الحياة المختلفين، ومن ثم فمن الممكن الزعم أنه لو كان المقال الذي تحدث عن دياز يهدف حقًّا إلى تصوير الدور المتغير للمرأة في المجتمع، لكانت المحكمة رفضت الدعاوى المطالبة بمنع نشره.

المشاهير

إننا نحيا في عالم مهووس بالمشاهير، فأكثر المقالات التي تتناول شائعات عن أحد المشاهير تفاهة؛ تثير اهتمامًا وإعجابًا شديدين، إلى جانب أن أكشاك الصحف تكتظ بالمجلات المكرسة للإمداد المتواصل بهذه الحقائق الوقتية، التافهة بصورة عامة، فهل النجومية تلغي الخصوصية؟ على الرغم من أنه قد ورد في نص الصيغة المعدلة للقانون الأمريكي أنه «قد يكون هناك بعض التفاصيل الشخصية في حياة الفنانة، مثل العلاقات الجنسية، التي يحق حتى للممثلة أن تحتفظ بها لنفسها»، فإن الحكم الصادر في قضية «آن مارجريت ضد مجلة هاي سوسايتي» يدل على أن هذه المحاكم لم تتبنَّ بعدُ هذه الكياسة، في هذه القضية رُفِضَ تعويض الممثلة فيما يتعلق بنشر صورة فوتوغرافية لها وهي عارية؛ وذلك لأن الصورة كانت «لامرأة تشغل بال العديد من محبي السينما» ومن ثم «صارت الصورة محط اهتمام الكثير من الأشخاص».

عادة ما يُدَّعى أن المحاكم توافق على حكم الصحافة فيما يخص الأخبار التي تستحق النشر، وتؤكد إحدى الكاتبات أن «احترام حكم الصحافة قد يكون — في الواقع — الاستجابة المناسبة والصحيحة للاستقصاء بشأن نشر المعلومات ذات الأهمية الإخبارية»، ولكن هذا الرأي يتجاهل السبب وراء كون هذه المسألة موضوع نزاع، وتشير هذه الكاتبة إلى أن «استمرار الناشرين ومُلَّاك محطات البث اقتصاديًّا تعتمد على قدرتهم على تقديم منتج يشتريه الناس»، وتجادل بأن منافسة السوق في مجال الصحافة هي التي تولد في الصحف «تجاوبًا مع القطاعات الأساسية التي يرغب العامة في معرفتها من أجل مسايرة المجتمع الذي تعيش فيه».

إن مبدأ المصلحة العامة ما هو إلا قناع تختفي وراءه الدوافع التجارية لوسائل الإعلام بسهولة شديدة، والأسوأ من ذلك أن هذه الدوافع التجارية تتخفى في صورة الممارسة الديمقراطية لحرية المستهلك في الاختيار؛ حيث نحصل على الإثارة التي نستحقها، كل من شكلي الصحافة الصفراء يتجاهل آثار نشر مثل هذه الأخبار المثيرة على أشخاص تصادف أنهم شخصيات عامة؛ وذلك لأن هذه الشخصيات سيئة الحظ بما يكفي لتكون محطًّا للأنظار.

الاختبار قياسًا على الأعراف

لتحديد الأمور التي تعتبر «مسيئة إلى حد بالغ»، وضعت المحكمة ما يطلق عليه «الاختبار قياسًا على الأعراف»؛ لذا في قضية «ميلفن ضد ريد»، كان ماضي المدعية كعاهرة ومشتبه بها في قضية قتل مثيرة قد عُرِض في فيلم يحمل اسم «الرداء الأحمر» الذي كان مبنيًّا على هذه الأحداث، وفي خلال الثمانية أعوام التي أعقبت تبرئتها، كانت المدعية قد قُبِلَت كفرد من «أفراد المجتمع المحترمين»، وتزوجت، وتعارفت على مجموعة من الأصدقاء الذين كانوا يجهلون ماضيها، وأيدت محكمة كاليفورنيا (التي لم تكن قد أيدت حتى ذلك الحين أي دعوى لاختراق الخصوصية) الدعوى التي تقدمت بها لاختراق المدعى عليه لخصوصيتها بالكشف عن معلومات خاصة بها.

وفي قضية «سايديس ضد مؤسسة إف آر للنشر»، من ناحية أخرى، تحول المدعي الذي كان في السابق طفلًا معجزة؛ حيث إنه في الحادية عشرة من عمره، كان يلقي محاضرات في مادة الرياضيات في جامعة هارفارد، إلى شخص منعزل كرس وقته لدراسة هنود قبيلة أوكاماكاميسيت وجمع تذاكر محطات الترام، وقد نشرت مجلة نيويوركر مقالًا بعنوان «أين هم الآن؟ كذبة أبريل» بقلم جيمس ثيريبر، تحت اسم مستعار، وكشفت الصحيفة في المقال عن صفات المدعي الجسمانية وسلوكياته، والغرفة المنفردة التي يعيش بها وأنشطته الحالية، وقد اعترفت المجلة بأن سايديس أخبر صحفي المجلة الذي تعقبه ليجري معه المقابلة أنه عاش في خوف من الشهرة وكان يغير وظيفته كلما علم صاحب العمل أو زميل له بماضيه، وقد رفضت محكمة نيويورك الجزئية دعوى اختراق الخصوصية التي تقدم بها سايديس على أساس أنها لم تتمكن من إيجاد قرار «يؤيد اختراق حق الخصوصية من صحيفة أو مجلة تنشر تقريرًا صحيحًا عن حياة أو أفعال شخص … إلا في بعض الظروف الخاصة التي لم تتوافر في القضية محل النظر»، وفي الاستئناف أيدت الدائرة الثانية رفض دعوى الخصوصية، ولكن بدا أنها بنت قرارها على الموازنة بين إساءة المقال وكون المدعي شخصية مشهورة أو مغمورة.

مع ذلك لم يكن هناك في قضية ميلفن أو سايديس محاولة مناسبة لتقييم مدى «خصوصية» المعلومات التي أفشيت لأصحابها، إن مصطلحات «تقاليد المجتمع»، و«الأهمية الإخبارية»، و«الإساءة» التي تتضمنها المادة المنشورة، تجعل هذه الأحكام — والكثير غيرها — المتعلقة بقضايا «الكشف عن معلومات شخصية» غير مفيدة في مجال ذي أهمية دستورية كبيرة، ونفس الشيء ينطبق تمامًا على جهود المحكمة العليا لضبط الحدود الخاصة بالتعديل الأول فيما يتعلق بالمواد المنشورة التي تؤثر على خصوصية المدعي، على سبيل المثال، في قضية «مؤسسة التايم ضد هيل»، حكمت المحكمة بأن دعوى اختراق الخصوصية المرفوعة من المدعي قد سقطت؛ نظرًا لأن المدعي (وعائلته) كانوا موضوعًا لتقرير صحفي مضلل من الأساس، وقد نشر المدعى عليه وصفًا لمسرحية جديدة مأخوذة عن رواية تحكي عن المحنة التي عاناها المدعي وأسرته حين احتجزتهم مجموعة من المساجين الهاربين داخل منزلهم كرهائن.

وبتبني الاختبار الذي طبقته في حالات التشهير، قررت المحكمة العليا بالأغلبية أنه ما لم يكن هناك دليل على وجود سوء نية حقيقي (بمعنى أن المدعى عليه قد نشر تقريرًا كاذبًا عن عمد)، فإن الدعوى ستسقط، فالكذب وحده لم يكن كافيًا لتجريد المدعى عليه من الحماية المكفولة له بموجب التعديل الأول، إذا كان الخبر مهمًّا، ونظرًا لأن «افتتاح مسرحية جديدة تتصل بحادث وقع بالفعل هي مسألة تهم المصلحة العامة»، فإن الدعوى المرفوعة من المدعي قد سقطت لأنه لم يستطع إثبات وجود سوء نية، ومع ذلك يبدو أن الحكم لم يهتم حقًّا بالجانب الخاص بالإفصاح العام عن معلومات شخصية؛ سواء أكانت الدعوى دعوى تشهير حقيقية أم لا!

المستقبل

لا توجد حماية سحرية مطلقة، وإذا جرى تفعيل قانون شامل خاص بالخصوصية غدًا، فسوف يخلق هذا مشكلات جديدة فيما يتعلق بالتفسير القضائي لحقوق ضحايا انتهاك خصوصية الحياة الشخصية على نحو غير مرحب به، وما كانت هذه المصاعب لتتلاشى إذا ما اتبعت المحاكم نهج القانون العام نحو تحقيق حماية الخصوصية بحيث تحدد القانون المناسب لكل قضية على حدة، فحينئذ سوف يستمر فحص وسائل الإعلام يوميًّا — ربما بعقول أكثر تركيزًا — لتحديد هل الأخبار تهم «المصلحة العامة».

إن المساعي نحو تحقيق توازن عادل لن تتوقف أبدًا، والقضية المهمة هي — كما يبدو الأمر في الغالب — هل سيُضحَّى بمصالح الفرد على مذبح مصلحة عامة مبتدعة؟ إن الأشخاص المعارضين للضوابط القانونية، وحتى غير القانونية، المفروضة على الكشف غير المرغوب عن معلومات خاصة للعامة يميلون إلى تصوير الاهتمام بأمر الضحية كأمر غريب ومتشدد، وهذا الأمر يختلف عن سعي وسائل الإعلام الحثيث نحو إظهار الحقائق، في العديد من الحالات، بالطبع يكون الدافع المحرك للصحف، ككل المؤسسات التجارية، هو مصالح حاملي الأسهم، الذين لا يهتمون بما ينشر في الصحيفة بقدر اهتمامهم بما يبدو في كشف الميزانية، وكذلك نظرًا لأن الصحافة تقر كثيرًا بأنها ينبغي أن تقاوم الإفصاح عن حقائق خاصة على نحو لا يراعي مشاعر أصحابها، فإنها ليست في موضع يسمح لها بوصف هذه المخاوف بأنها زائفة أو مولعة بالنقد.

قد يكون من بين مؤيدي الخصوصية أعداء لحرية التعبير، ولكن هذا لم يعد يمثل حجة مشروعة عليهم بقدر ما هو ادعاء بأن من بين مؤيدي حرية التعبير أصحاب صحف جشعين، ومع ذلك فإن قوة لوبي الصحافة لا يمكن الاستهانة بها، فكم من السياسيين، الذين تقف حياتهم المهنية على المحك، مستعدون لاستعداء الصحافة الصفراء بتأييد فرض قيود على الأخبار التي تنشرها ما صار يُطَلق عليه «الصحافة المثيرة»؟ وفي ذات الوقت الذي تسرع فيه الصحافة إلى إدانة التقارير الصحفية التي تفضح الحياة الشخصية تحت اسم المصلحة العامة، فإنها تسد كل الثغرات أمام التشريع، ومع الأسف، في حين أن معظم الصحف الصفراء تتشدق بالقيم الأسرية، فإنها غالبًا ما تظهر قليلًا من الاهتمام أو الاحترام للعائلات أو لضحاياها.

هوامش

(1) © Getty Images.
(2) © 2008 Geek Culture/joyofteck.com.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤