اليوم السادس والعشرون (الأربعاء ٢٣ مايو سنة ١٩٠٠)

يسرُّني جدًّا أن يكون القارئ قد وقف الآن على حالة المعرض بالتقريب، وأن أكون قد توصلت إلى تمثيل مجموعة في مخيِّلته على قدر ما يسمح به الإمكان، وإلا فعذري واضح: فقد بذلت الجهد بغير إقلال، وأفرغت الوسع بلا إملال.

والآن أرجوه أن يتفضل معي، ويسير خلفي إلى المعرض من بابه الأكبر بسلام — لا بالركوع والسجود، أستغفر الله ولكن بالإعجاب والاندهاش، واستغراق الفؤاد في التأمل والاستبصار، وقصر الفكر على التدقيق والاستقصاء.

فهيا بنا إلى:

البوابة الأثرية الفخيمة La Porte Monumentale

فهي في غاية الفخامة والجلال: ثلاث أقواس تشقُّ كبد الفضاء، حتى تكاد تواصل عنان السماء، يشرف أحدها على ميدان الائتلاف، والآخران في داخل حومة المعرض العام، ومسافة الانفراج بينها عشرون مترًا بالتمام، وتجمعها قبة عديمة المثال، تتعالى عن الأرض بستة وثلاثين من الأمتار، وترتفع وحدها في الهواء مسافة ٩ أمتار، فتتألف البوابة البديعة حينئذ على شكل يشابه ما هو معروف «بالقمرية» في بساتين مصر ورياضها، ولكن أين الثريا من الثرى!

وهذه القبة تشغل مسطَّحًا من الأرض مساحته ٥٠٠ متر مربع وتسع ٢٠٠٠ شخص بالراحة ومن غير ازدحام، وفوقها تمثال كبير ارتفاعه ٦ أمتار، يمثل فتاة فتانة يرمزون بها إلى مدينة پاريس، وهي تدعو العالم للوفود والاحتشاد، وتقول بلسان الحال:

سارعوا أيها الغرباء والزوار!
هلموا هلموا إلى المعرض العام!
فهو المورد العذب الكثير الزحام!
وتحت أقدامها رنك (شعار) مدينة پاريس: سفينة «يشق عباب الملك حيزومها بها» ولا تتغلب الأمواج على جسمها، ومكتوب على صدر السفينة هذه العبارة الرمزية المخصصة لها:
Fluctuat nec mergritur (تمخر ولا تغرق)

ومجموع هذه البوابة كلها بملحقاتها ومداخلها يشغل مسطحًا من الأرض مساحته ٢٣٤٠ مترًا مربعًا.

وهي مبنيَّة بنظام مبتكر جديد، ومزخرفة بأسلوب مستظرف بديع، فكلها جمال في ضياء، وبهاءٌ في سناء، والناظر إليها يخالها قطعة من «التنتلَّة» التي تتأنّق في اصطناعها العذارى والغادات، ويتَّشِح بها الجنس اللطيف فيزداد جمالًا على جمال، تزدان هذه البوابة في النهار، بتزاويق بهيجة مختلفة الأصباغ، تتوالى فيها زرقة اللازورد وخضرة الجنان، وبهاءُ العسجد والنضار، وتغشاها بالليل مصابيح الكهربائية مختلفة الأحجام والألوان، فتختال في حلل من البهاء تنكسف أمامها كواكب السماء.
figure
البوابة الأثرية الفخيمة وهي أهم أبواب المعرض.

وأمام البوابة ساريتان كأنهما مئذنتان رشيقتان، تخترقان طبقات الهواء، وقد تناهت فيهما الزخرفة والإتقان يظهران عند احتجاب الضياء، كأنهما علمان في رأسيهما ناران، ولكن نارهما برد وسلام: إذ هي منبعثة عن اشتعال الكهرباء.

ويبلغ عدد القناديل المختلفة المقادير والألوان ٣١١٦ خلاف ١٢ مصباحًا متألقًا في القبة و١٦ سراجًا وهاجًا، ينبعث عنها الضياءُ في أعالي الفضاء.

وعلى يمين الداخل ويساره إفريزان فيهما تماثيل بارزة، تمثل أهل الصنائع والفنون، وقد أهرعوا بأتاوتهم إلى المعرض العام، وهي في غاية الإتقان يخالُها الرائي تتحاور في حركتها السريعة، وتحت هذا الإفريز إفريز آخر فيه أصناف متنوعة من وحوش البر والفلا.

فإذا صار الإنسان تحت القبة رأى تمثالين هائلين: يرمزان إلى الكهرباء ذات الأنوار وإلى الكهرباء ذات القوة الفعالة في جر الأثقال ورفع الأحمال، وهما عبارة عن امرأتين ضخمتين واقفتين في محرابين، ومعهما كافة الأدوات والمعدات التي يستعملها الإنسان للحصول على هذه القوة العجيبة، واستخدامها في النافع والضار.

ويرى أمامه باب التشريفات الكبرى تغشاه نقوش ورموز ورنوك تدل على أشعرة الشرف وشارات الإمارة في هذه البلاد، وفي أسفله أسماء الكثيرين من نوابغ الرجال وعلى يمين هذا الباب ويساره بابان معدّان لدخول الجماهير المتقاطرة إلى المعرض من هذه الجهة، للإعجاب بالبوابة البديعة التي وصفتها لك بما جاد به اليراع ووسعة المقام.

فمتى دخل الجمهور من القوس الأول، انحاز إلى اليمين وإلى اليسار؛ للوصول إلى حظيرة المعرض، وهنالك ٣٨ مدخلًا في كل جهة، تتألف من مجموعها نصف دائرة، ويمكن أن يدخل منها في الساعة الواحدة ٦٠٠ إنسان، وفوق هذه المداخل من الأمام ومن الخلف أسماءُ المدائن الكبرى بفرنسا مع شارتها الخاصة بها.

وأول شيء يصادفه الداخل هو البساتين والرياض، تختال في حُلَل من السندس والنّوار على اليمين وعلى اليسار، يكاد الناظر يتخيل أن الطبيعة أرادت أيضًا مجاراة الإنسان ومباراته في هذا المعرض العام، فجمعت محاسنها في هذه البقعة «جنتان عن يمين وشمال» و«حدائق ذات بهجة» وجمال. فيسير مبتهجًا مسرورًا بين أنواعٍ من الأزهار وأشكال من الأنوار، تأخذ بمجامع البصائر والأبصار.

وكأني بالقوم أرادوا إدخال الابتهاج في قلب الداخل، برؤية هذه الورود المزدهرة، وتلك الرياحين المنتثرة، بين الخضرة النضرة، لتحييه بالسلام والابتسام، وتجعله يلتمس العذر لأرباب الشعر، ومغردات الطير على الإطناب في فصل الربيع، والجنون بما فيه من الجمال والملاحة أو بما حوته الطبيعة من الرشاقة والخلاعة!!!

كيف لا، وهو يرى نباتات الظل وأعشاب الزخرفة، وكلها تختال في أبهى الألوان، وتسبح بحمد المصوِّر البديع، وتقول بلسان واحد: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.١

رأيت خمائل من النجوم الزواهر، لها ورق كالمخمل الباهر: مبرقش مبرقط قد تناهت فيه آيات التزويق والتنسيق، وبلغ غاية الإجادة في التدبيج والتنميق، بحيث كنت أخاله منسوجًا من الدمقس والحرير، فكنت أختلس الفرصة وألمسه بأصابعي المصرية، فيزيدني غرابة وإعجابًا!

وأما شجيرات الزينة في داخل المنازل من نخيل قصير وأعشاب متدلية أو متسلقة أو متعلقة أو منفرشة أو منبسطة أو ذات أخواص أو ذات أشواك أو متشابهة بالمخاريط والأهرام، أو بالمربعات والمكعبات والأجسام، فحدّث عنها ولا حرج، وهي واردة من جميع البقاع والأصقاع، وعلى كل واحد منها اسمه … ولكن من ذا الذي يحيط بها علمًا أو يقدر على بيانها أو ترجمة أسمائها، خصوصًا في لغتنا العربية الواسعة الضيّقة؟

بل أين هي الأوروپاوي الذي بلغ النهاية في العلوم والمعارف، وحاز قصب السبق على الأقران في أسمى المدارس، حتى يجيء إلينا ويشرحها لنا؟ ذلك وحقك هو العنقاء!!!

وناهيك أن بلدية پاريس أنفقت على هذه البقعة اليانعة المزدهرة مبلغ ٦٠٠٠٠٠ فرنك، أي زيادة عن ٢٣ ألف جنيه مصري … فقط! وهذا خلاف العارضين الكثيرين فلهم جواسق وسرادقات ترى فيها ما ترتاح لرؤيته العين، وينشرح منه الفؤاد، ويأتيك بالشهية على غير ميعاد.

وفيما بين الخمائل والرياض فساق٢ وبحرات كثيرة في غاية الإبداع: ترسل الماء في الفضاء، فيتساقط متناثرًا متجمعًا كسبائك اللُّجين على سطوح من المرمر، أو في طسوت من الرخام؛ فيزيد النسيم اعتلالًا، والروح ارتياحًا، والقلب انشراحًا:
والريح تجري رخاءً فوق بُحرتها
وماؤها مطلق في زيّ مأسورِ
قد جُمعت جمع تصحيح جوانبها
والماء يُجمع فيها جمع تكسيرِ

وبينما يكون الإنسان لاهيًا ملتهيًا بمناظر الطبيعة البديعة؛ إذ تباغته الصناعة بآثارها بين كل لحظة وأخرى، فتسترق منه نظرة، يتبعها هو بالأخرى، ولكن الأولى له، والثانية ليست عليه، ذلك لأنه يرى على طول طريقه وبين الخمائل والحدائق، تماثيل نادرة المثال، وأنصابًا مختلفة الأنواع، تستوقفه رغم أنفه، وتقضي عليه بإعطائها قسطها من النظر والإعجاب.

هذه التماثيل بعضها خاص بفرنسا، ومعظمها وارد من الأقطار الأخرى. وأول ما يصادفه الداخل من البوّابة سبعان هائلان، يقرُّ الناظر لهما، بأن الأسد هو حقيقة ملك الوحوش وسلطان البراري. ولا أُتعب القلم والقارئ بذكر الباقي فهو شيء كثير.

وإنما أستميح الأذن من القارئ في الإشارة إلى تمثالين اثنين فقط، فإن تكرم فبها ونعمت، وإلا فإني لا أملك من نفسي شيئًا، فهذان التمثالان جعلاني أعرف كيف يكون تصوير الرعب أمام العيون، وكيف يكون إيصال الفزع إلى القلوب!

أولهما تمثال الزوبعة: وهي امرأة شوهاء، بل داهية دهياء، بل بسوس دهماء، قد امتطت جوادًا من خيول البحر، لا يدانيها سواه في الشناعة والبشاعة، والفظاظة والفظاعة، وتحت وحوش البحر في اضطراب واصطدام، واختباط واختبال، وهو عبارة عن قطعة هائلة من مجموعة تماثيل هائلة ستقيمها مدينة: درسدن (Dresden) عاصمة سكسونيا بألمانيا، في أهم ميادينها حول فسقية عظيمة، فوقفتُ مبهوتًا مذعورًا أمام هذا المنظر المريع، وتذكرت حالة البحر المسكين، وأنا في السفين في يومي الخامس الواقع في ١٧ أبريل.

(وقد وصفت حالتي فيه في يومي الخامس). فهلَّا يعذرني القارئُ الآن على هذه المخالفة؟ أو على الأقل يستأنس في الحكم عليَّ بالظروف المخففة؟

وثانيهما: عبارة عن جنديين بأسلحتهما، هما من النحاس المسبوك …

– وهل هذا مما يستوجب الذكر وضياع الوقت؟

– نعم، وإليك البيان:

تراهما في هيئة قد برَّح بهما الظمأ حتى كاد يهلكهما، وقد أمسك أحدهما بخوذته، وفيها مصاصة من الماء، وأطبق عليها بكلتا يديه، كأن حياته فيها، وهو يخاف أن تفوته هذه البقية القليلة فتخرج روحه، فهو يتلهّمها وحده ويدافع عنها ويحافظ عليها جهده. وأما رفيقه فقد تشوَّهت معالمه وتبدَّلت ملامحه، وكاد يفارق الصورة البشرية؛ بل دخل في طور البهيمية وهو يستعطف صاحبه، بل يجاهده بما بقي فيه من القوة والحيل، ويحاول بكل مشقة اختطاف الخوذة الثمينة، أو استبقاء شيء فيها من حياة النفوس وهو لا يصل. والمنظر في غاية الشناعة يوجب انعطاف الألباب؛ بل انفطار الأكباد على من يقع في هذه الحالة التعساء، وقانا الله وإياك أيها القارئ الكريم، من هذه المصيبة التي لا يدرك مشقتها وعذابها الأليم، أهل البادية والسائحون في فيافي المفاوز، حياهم الله بالحيا وأغاثهم بالغيث على الدوام! آمين.

حينما رأيت هذا المنظر انفعلت حواسي وتأثرت نفسي، والتوت أمعائي، وجف لساني ونشف ريقي، وتصورت أنني أصبحت — والعياذ بالله — كالجاحظ لا في التحرير ولا في المنظر؛ بل في جحوظ العيون وخروجها عن الحد المعلوم. وتوهَّمتُ أنني قد آلت بي الحال إلى مثل ما رأيت، فأحسست بظماء يحرق في أحشائي، فصرت كالهائم أنظر ذات الشمال وذات اليمين، ومن حسن الحظ أنني رأيت بالقرب من هذا المكان قهوة بل موردًا سائغًا، فهرولتُ إليه كمن أصابه مس أو خبال، وشفيت الغليل وبللت الصدى، وحينئذ لهجت بتقديس الواحد الأحد الحي، الذي جعل من الماء كل شيء حيّ.

١  ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: الآية: ١٤).
٢  جمع فسقية، وهي كلمة دخيلة على العربية في هذه العصور الأخيرة مأخوذة عن كلمة فرنساوية: ڤسك (Vasque) وأفتكر أن الأب لامنس اليسوعي قال في كتاب الفروق: إنها مأخوذة عن (Piscina) پيسينا، أي بركة السمك في الأصل، وهو خطأ ظاهر، والبعد في التخريج والنقل واضح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤