ذرة من عجائب الكهرباء والميكانيكا في المعرض

هذه القوة العجيبة هي روح المعرض، وقد ظهرت بها خوارق العادات ومنتهى المعجزات، فلا يكاد الباحث يجد من الوقت أو الورق أو العقل ما يكفي لوصف أو معرفة ما أبداه الإنسان بواسطتها من خبايا المكنونات، وغرائب الأعمال: فهي طلسم الطلاسم وسر الأسرار، يسخرها العقل في الإتيان بما لم يكن يحلم به الأولون، حتى أهل الخرافات والأقاصيص، وسنصف ما وصل إليه علمنا وبحثنا فيما يجيء من الرسائل بقدر المستطاع، وإلا فالإحاطة أمر يعجز عنه البشر أجمعون، كما أنهم لم يقفوا إلى اليوم على حقيقة هذا السر الغامض.

فهذه الكهرباء في المعرض قد سحرتنا وأدهشنا، ثم علمتنا وأفادتنا بما لم يكن يخطر على قلب بشر، وفوق ذلك أطعمتنا وجددت قوانا، بعد أن أنهكها طول التسيار في فسيح المعرض، الذي هو عبارة عن مختصر الأكوان، وحقق الاسم الذي اخترناه «الدنيا في پاريس»، ويصح لنا أيضًا أن نسميه: «بالعالم الصغير» تشبهًا بساداتنا الصوفية في تعريف الإنسان.

نعم أتاح لنا الحظ أن نتمتع في المعرض بالمآكل الكهربائية. فلعنة الله على الضفدعة ويومها، ولكن يجب علينا أن نذكر قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ فهي أصل اكتشاف الكهرباء كما هو معلوم، فلا ينبغي لنا بعد هضمها إلا أن نذكرها الآن بالرحمة وطلب الغفران.

شوربة بالكهرباء، سمك بالكهرباء، خضار بالكهرباء، يَخْنِي بالكهرباء، بفتيك بالكهرباء، فطورات بالكهرباء، حلويات بالكهرباء … إلخ إلخ.

لا يظن القارئ أن هذه الأصناف صنعتها الكهرباء بواسطة آلة ميكانيكية طاهية، فإن القوم لم يتوصلوا إلى اليوم لتحقيق هذه الأمنية، وإن كانوا قد أصبحوا يستخدمون الآلات بدل الإنسان في معظم الأعمال. حتى لقد رأيت في المعرض، وخصوصًا في مصنوعات كندا والولايات المتحدة وألمانيا، آلات تصنع الأحذية «الجزم».

وكان اختراع هذه الماكينات لبيت تجاري كبير في غربي أمريكا يبلغ عدد العملة فيه ٦٠٠ (ستمائة) نفس، والأغرب أن هذا الجيش الجرّار، لا يشتغل إلا بمراقبة الآلات ونظام سيرها وحركة إدارتها، كما هو الشأن في وابورات الري والطحين والحليج وما شابهها. فجميع الجزم فيه ما تصنعه الآلات، ولذلك صار ثمنها زهيدًا جدًّا في كندا، وفي الأقاليم الغربية من جمهورية أمريكا العظيمة. وقد رأيت هذه الآلات في سيرها العجيب، وكيفية انتهاء عمل الجزمة فيها على شكل بديع أنيق، وعلمت أن الجزمة لا تتم في ذلك المعمل المستعجل، إلا بعد أن تمرّ بين أيدي ١٦٠ عاملًا، ومع ذلك فلا يستغرق كمال صنعها، سوى ٢٩ دقيقة ونصف دقيقة، أي أقل من نصف ساعة.

وإليك التفصيل: دقيقة واحدة ونصف لتفصيل الجلد، ٨ دقائق لخياطته، ٨ دقائق ونصف لوضعه في القالب، ٩ دقائق ونصف لعمل النعل، و٩ دقائق ونصف أيضًا لوضع العُرَى والعيون والأزرار والقياطين «والتشطيب» على اصطلاح أهل الحرف والصنائع.

ويبلغ ما يتم صنعه في هذا العمل ألف حذاء في اليوم الواحد، وقد رأيت أيضًا آلات أخرى لمسح الجزم وتنظيفها وتمويهها بالألوان، فمتى يتاح للأزبكية أن تزدان بالعدد الكثير منها حتى نستريح من البرابرة وإلحاحهم وإلحافهم؟ فإن الإنسان يضع في فوهة في أعلاها قطعة من النقود تساوي ٤ مليمات تقريبًا. فإذا كانت زائفة أعادتها الآلة بغاية الأدب، وأبرزت أمامه كلمة «ولك الشكر»، وإذا كانت معتبرة صحيحة حفظتها لصاحبها بغاية الأمانة، ثم تنفتح أمام الطالب جملة عيون يضع فيها رجله على التوالي، فتمرّ عليها فرش متعددة متنوعة؛ لإزالة الوحل والغبار، ولضربها «بالبوية» المطلوبة، ثم تجفيفها وتلميعها، وهكذا الحال في الرجل الأخرى. وبعد تمام العملية تظهر صفيحة معلنا بالختام: «ولك الشكر يا مولاي!»

أما الآلات الطاهية بنفسها، فلم يتوفق القوم لإيجادها الآن. وحينئذ فليطمئن الطهاة على مراكزهم أمام النار — ولكن إلى حين، حتى تتّحد الميكانيكا والكهرباء على إراحتنا منهم إلى ما شاء الله. ولا شك أن الأمل سيتحقق قريبًا، فإن أهل التفنن والاختراع لا يزال يدفعهم ما يلاقيه الناس من سماجة الطباخين ومعاكساتهم إلى مواصلة الليل بالنهار؛ للحصول على الآلة التي يدخلون الأرنب حيًّا في أحد أطرافها، ويخرجونه من الطرف الآخر طعامًا شهيًّا للآكلين، وبجانبه قبعة (برنيطة) رسمية تسر الناظرين والمتقبعين.

كيف لا وقد صنعوا الأطيار تحاكي عرائس الأشجار في القفز والتغريد؟! أوَلم يتوصلوا من زمان مديد؛ لاختراع آلة لضرب الأعداد مهما كثرت فيها الأرقام، أو تنوعت الكسور الاعتيادية والأعشارية؟ ولكن هذه الآلة التي كانت موضع العجب والاستغراب، قد أصبحت من الأمور البسيطة التافهة بجانب الآلة الجديدة التي اخترعها لحل المعادلات الجبرية، رجل من علماء أمريكا اسمه چ. ب. جرانت (G. B. Grant) من أهل مدينة بوستُن. ولا يخفى على من يتعاطون العلوم الرياضية صعوبة حل المعادلات وطول الوقت الذي تستغرقه، وألوف الأرقام التي تستوجبها، ولذلك تلقَّاها العلماء بالتبجيل والتهليل، والتبريك والترحيب؛ لأنها توفر عليهم الوقت الطويل والعناء الكثير، وتضبط حساباتهم بالتدقيق.

وليس في المعرض كله سوى مطبخ كهربائي واحد، كائن على ضفة نهر السين تحت القصر الخاص بدولة إسپانيا. وربما كان لأجدادنا الأندلسيين (رحمهم الله) قسط وافر من الأسباب التي دعت إلى وجوده، فقد احتوى هذا القصر على نفائس وذخائر ليس لها قيمة تقف عندها. ولذلك حظروا استعمال النار وزيت الحجر (البترول) وغاز الاستصباح في الدور الأرضي تلافيًا لأخطار الحريق، وزيادة في الحرص على هذه الكنوز التي لا نظير لها على وجه الأرض: فمن ضمنها قباء أبي عبد الله، آخر سلاطين بني الأحمر بآخر معقل للمسلمين في الأندلس: غرناطة. ومن ضمنها أيضًا أسلحة السلطان المذكور، وجرابان كان يضع فيهما نسختين جليلتين من الكتاب الكريم. وهي آيات من محاسن الصناعة العربية الأندلسية، لا تزال ولن تزال شاهدة بفضل هذه الأمة المجيدة التي أخنى عليها الزمان، وفي القصر المذكور أيضًا عمامة حربية من النحاس المُحلَّى بالفضة، كان يضعها أمير البحر الجزائري المعروف بخير الدين المشهور عند الإفرنج ببربروس (ذي اللحية الشقراء) فيعرفه الإفرنج في البحار، ويتعلَّقون بأذيال الفرار، ولكنه كان يتصيَّدهم كما يتصيد القط الفأر.

غير أن هذا المنع لم تنثنِ أمامه عزيمة المالكين لطلسم الكهرباء، فعرضوا على الحكومة الإسبانية أن تأذن لهم في استعمال الوقود الكهربائي، فارتاحت وأباحت، لعدم تولد الدخان والرماد والروائح الكريهة التي تنشأ عن مواد الحريق المعتادة، وأيضًا لامتناع خطر الحريق على الخصوص.
figure
موناكو/رومانيا/أسبانيا/ألمانيا (صور بعض قصور الدول الأجنبية، وسيرد الكلام عليها في شارع الأمم).

وهذا المطعم يمكن أن يأكل فيه ٦٠٠ إنسان في كل يوم. وقد بلغ عدد الذين ترددوا عليه من يوم افتتاحه في ٢٤ أبريل إلى يوم ١٠ يونيو الماضي ٢٢٠٠ نفس. وحسبوا مقدار ثمن الوقود عن كل أكلة كاملة، فإذا هو قرش صاغ واحد فقط، وهو بلا شك ثمن زهيد.

وكيفية تهيئة الألوان بالكهرباء أن تيارها يمر على مواد كثيرة الصلابة شديد المقاومة؛ فتسخن ثم تحمى، ثم تصهر حتى تصل إلى درجة الاحمرار والاشتعال. وحينئذ يتولد منها حرارة شديدة جدًّا. وهذه المواد مركبة من البارود المعدني الموصل للحرارة، مختلطًا بأجسام خزفية لا توصلها. وهي مصنوعة على شكل أساطين دقيقة أو قضبان جزئية أو صفائح صغيرة ونحو ذلك.

وفي هذا المطعم وجاقٍ كبير طوله متران وعرضه ١٫١٠ متر، فيه ثمانية كوانين (مواقد)، ويمكن أن تصل درجة الحرارة فيه إلى ١٫٢٠٠. وهنالك أيضًا مقلاتان كبيرتان وفرنان تختلف درجة الحرارة فيهما، نظرًا لاحتياجات الطهاة، وفيه حوض كبير لتسخين الماء يسع ٣٠ لترًا، وآخر مثله في الاتساع لأجل أصناف الخضار. وفيه فوهتان صغيرتان لعمل القهوة والشكولاته والشاي.

ويقول العارفون: إن مصاريف الكهرباء في هذا المطبخ لا تزيد عن أثمان الوقود بالأنواع الأخرى في بقية المطاعم في المعرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤