فاتحة

يزخر القرن الذي يقع بين عامَي ١٨٥٠م و١٩٥٠م بمجموعة من السِّير يعجز عن ابتكارها أي كاتب من كُتاب القصص الخيالية، وهذه الوفرة البالغة من مختلف الشخصيات ترتبط عادةً برجال العمل، ولكنها يمكن كذلك أن ترتبط برجال الفكر، بل لقد كانت ثورة الفكر في القرن الماضي أشد عنفًا. أي روائي يستطيع أن يتخيل سيرة تبلغ ما بلغت سيرة هوايتهد من تشابك بعصر أشد تفجُّرًا من العصر الذي عاش فيه؟ هل يستطيع ذلك أنتوني ترولوب؟ ربما استطاع ترولوب أن يرسم البداية؛ لأن القصة تبدأ بشخصية إنجليزية، ولكن عندما تُغادِر هذه الشخصية بيئة كاتدرائية كانتربري وتيت — رئيس الأساقفة — الذي اعتاد أن يذهب إلى أبرشية القديس بطرس لتناوُل العشاء مساء كل يوم من أيام الآحاد، يقصر خيال ترولوب — كما يقصر عقله — عن مجاراتها، وكأن ترولوب نفسه كان يُدرِك ذلك حين قال:

ينبغي أن يكون الأدب قابلًا للتصديق إلى حد كبير، في حين أن خبرات البشر في الواقع تفوق كل قوى الخيال؛ ومن ثَم كان «الأدب الاجتماعي» مطابقًا للعُرف، بينما يتخطى التاريخ «كل حدود العقل».

وتقع حياة هوايتهد في ثلاثة مجلدات، يشمل المجلد الأول جامعة كامبردج، ويشمل الثاني لندن، والثالث كامبردج في ماساشوست. وقد قال أيضًا إنه يُحِس كأنه عاش ثلاث حيوات في ثلاث فترات متتابعة؛ الأولى من عام ١٨٦١م إلى عام ١٩١٤م، والثانية خلال الحرب من عام ١٩١٤م إلى عام ١٩١٨م، والثالثة بعد هذه الحرب العالمية الأولى.

وتبدأ قصة «المدن الثلاث»١ هذه بدايةً هادئة؛ فهو ابن أستاذ مدرس وحفيد أستاذ مدرس كذلك؛ ثم أصبح أبوه قسيسًا فيما بعد، وفي حياته كقسيس كان يتقيد بنصوص العهد القديم، خطبه ومواعظه يرن صداها تحت قبة كنيسة نورمان، والمنظر كله آية في الروعة؛ رامزجيت التي تُواجِه البحار الضيقة بين إنجلترا والقارة الأوروبية، تلك البحار الضيقة التي تولَّدت عنها كل الحكومات الحرة في العالم، هولندا وإنجلترا والولايات المتحدة، وقد كان «الآباء المهاجرون» من أبناء هذه البحار. وعلى مقربة منها تقع تلك الأسوار العابسة، أسوار قلعة رتشبره، التي شيَّدها الرومان. وعلى بعد ميل من ساحل إبزفليت، حيث رسا السكسون في غابر الزمان، يقع المكان الذي ألقى عنده أوغسطين أولى مواعظه. وعلى بعد ستة عشر ميلًا فقط تقع كاتدرائية كانتربري، حيث كان يستطيع الطفل الصغير منذ تسعين عامًا — ولا يزال يستطيع حتى اليوم — أن يشهد البقعة التي قُتِل عندها توماس بكت، ويرى العُدة الحربية التي كان يدرعها «الأمير الأسود». إن التاريخ لهذا الصبي لم يكن شيئًا يتعلمه من الكتب، بل كان شيئًا يحتك به كل يوم، تكتحل به عيناه ويستنشقه مع الهواء.

ومع أن هوايتهد كان يعُد نفسه دائمًا إنجيليًّا شرقيًّا، ومع أن صورته كانت مثالًا لذلك — إذ كان أشقر اللون، أحمر الوجنتَين، أزرق العينَين — إلا أنه كان يلحظ في تاريخ أرومته خلطًا خفيفًا يجعله مُخالِفًا بعض الشيء لهؤلاء الإنجيليين؛ فقد كانت إحدى جداته من ويلز، تنتمي إلى أسرة وليامز، وكان يختلف عن إخوته اختلافًا يرجع إلى الدم الكلتي الذي كان ينبض في عروقه.

وُلِد في الخامس عشر من شهر فبراير من عام ١٨٦١م، وكان طفلًا ضعيف البنية، فعلَّمه أبوه في البيت، وقضى جانبًا كبيرًا من وقته في الخلاء مع بستاني عجوز حمل له طوال حياته العرفان بالجميل؛ لأنه كان أول من جعله يرى النور الذي يُضيء في الظلام. وفي الشتاء كان يزور جدته في لندن، وكانت أرملة لخائط عسكري، تقطن بيتًا في المدينة، يحمل رقم ٨١ بيكادلي، ومن نوافذ هذا البيت التي كانت تُطِل على «الحديقة الخضراء» اعتاد أن يرى الملكة فكتوريا، وهي تمر في عربتها، وكانت آنئذٍ أرملة في منتصف العمر، ولم تكن مُحبَّبة كثيرًا إلى النفوس، وكانت جدته سيدة ثرية، بيدَ أنها — كما تقول — «قد أخطأت إذ أنجبت ثلاثة عشر طفلًا» مما أدَّى إلى انخفاض نصيب كل منهم في الميراث، ولا بد أن تكون الجدة كذلك رهيبة الجانب؛ لأن المحور الذي كانت تتماسك الأسرة من حوله كان يتركز في مُدبِّرة شئون المنزل جين وتشلو، وهي التي كانت تقرأ روايات دكنز جهرًا للطفل الصغير، وهو يجلس على مقعد قليل الارتفاع مُتكِئًا على ركبتَيه إلى جوار موقد النار.

ولم تكن حياته المدرسية بأقل من ذلك روعة؛ التحق بشربرن مُراهِقًا يبلغ الخامسة عشرة من عمره إلا أربعة أشهر. وجدير بالذكر أن هذه المدرسة قد احتفلت بعيدها المائتَين بعد الألف في عام ١٩٤١م، فتاريخها يرجع إلى عهد القديس أولدلم، وتزعم أن ألفرد الأكبر كان من بين تلاميذها، وما زالت مباني الدير تُستعمَل حتى اليوم، وبيت الرهبان به من أفخم المباني القائمة، وما برحت قبور الأمراء السكسون ماثلة للعيان. وفي خلال العامَين الأخيرَين في هذه المدرسة لهوايتهد كانت حجرة درسه الخاصة تشتهر بأنها كانت مأوى رئيس الرهبان، وكان الفتى يعمل على مسمع من أصوات أجراس الدير — «الأصوات الحية للقرون الغابرة» — تلك الأجراس التي أتى بها هنري الثامن من «ميدان الثوب الذهبي» وأهداها للدير.

وكان منهج الدراسة — كما ذكر هوايتهد بعد ذلك بسنوات — يسترعي ذهنه بملاءمته لمكانه وزمانه. «كنا نقرأ اللاتينية والإغريقية باعتبارهما سجلات تاريخية للشعوب الحاكمة التي كانت تقطن إلى جوار البحر وتبسط نفوذها البحري، لم نعتبرهما لغتَين أجنبيتَين، بل لقد كانتا مجرد لاتينية وإغريقية، ولم يكن بالإمكان أن تُعرَض علينا آراء لها أهميتها بأية وسيلة أخرى، فكنا نقرأ العهد الجديد بالإغريقية، ولم أسمع عن أحد قرأه بالإنجليزية في المدرسة — اللهم إلا إن كان ذلك في كنيستها، ولم يكن ذلك أمرًا ذا بال — فإن ذلك معناه عقلية دينية ينقصها التهذيب. كنا مُتديِّنين، بذلك الاعتدال الذي يتصف به قوم يأخذون دينهم عن اليونانية.» ولم يُذاكِر هوايتهد قط الآجرومية الإنجليزية، وإنما كان يتعلمها عن طريق الآجرومية اليونانية واللاتينية.

ولم يكن الفتيان في هذه المدرسة مرهقين بالعمل؛ فقد كان يتوافر لهم الوقت للألعاب الرياضية والمطالعة الخاصة، وهي عنده الشعر، وبخاصة وردزورث وشلي، وكان يقرأ كذلك كثيرًا من التاريخ، وكان رياضيًّا ممتازًا، وأمسى أخيرًا «عريفًا»، واحدًا من كبار الطلبة الستة المُكلَّفين بالتبعات الإدارية، وبحفظ النظام. وأكبر هؤلاء الطلبة هو رئيس المدرسة، وبهذه الصفة دُعِي هوايتهد ليضرب طالبًا سرق مالًا «وكان لا بد من ضربه أمام التلاميذ أو طرده من المدرسة. ولا أقول إني أصبت فيما فعلت، ولكني ضربته.»

وبعدما تلقَّى هوايتهد بذور الدراسة الكلاسيكية، تابع تنميتها بقية حياته. ولما تقدَّم القرن العشرون، وظهر أن كثيرًا من رجال العلم ينقصهم التوازن الثقافي بدرجة مُؤسِفة، صار هذا التوازن المحمود عند هوايتهد بين العلم والدراسات الإنسانية مزية من مزاياه الفريدة، وشاع أن «هوايتهد يُلِم بالطرفَين.»

•••

ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره التحق بجامعة كمبردج، وقد حذق الرياضة من قبل، وكانت طريقة التدريس في كمبردج في تلك الأيام أفلاطونية إلى حد كبير، والجدل حر بين الأصدقاء، فتعلَّم — كما يقول — من المحادثة بقدر ما تعلَّم من الكتب. سُئل مرة كيف استطاع أن يكتب «العلم والعالم الحديث» فصلًا في كل أسبوع خلال العام الدراسي، وهو يُلقي في الوقت نفسه محاضراته المُقرَّرة بجامعة هارفارد؟ فأجاب «بأن كل ما في الكتاب قد نُوقِش في الأربعين سنة الماضية.»

وأصبح زميلًا في ترنتي في عام ١٨٨٥م، في سن الرابعة والعشرين الناضجة، وكلية ترنتي بكمبردج من أعظم المؤسسات التعليمية فوق الأرض، ثم كانت بعد ذلك تلك التجربة الكبرى التي وجد فيها تلك الجوهرة النادرة، وأقصد بها التواضع الحق.

في القرنين السابقَين كان العالم يرتاح إلى القول بأن سير إسحق نيوتن قد كشف قوانين الكون الطبيعي النهائية، ثم حدث أمر هام، وسأُحاوِل أن أذكر كلمات هوايتهد بنصها بقدر ما تُسعِفني الذاكرة.

كنا نعتقد أن كل أمر هام تقريبًا في الطبيعة قد بات معروفًا، ولم تبقَ إلا بعض النقاط القليلة الغامضة، بعض الشواذ الغريبة التي تتعلق بظاهرة الإشعاع، والتي كان علماء الطبيعة يتوقعون تفسيرها بحلول عام ١٩٠٠م، وقد أمكن تفسيرها فعلًا، بيدَ أن العلم كله خلال هذا التفسير قد تقوَّض، وتبدَّدت طبيعة نيوتن التي كان يُظَن أنها نهاية الأرب. أجل، إن طبيعة نيوتن كانت — وما تزال — نافعة كطريقة من طرق النظر إلى الأشياء، ولكنها لم تعُد صادقة باعتبارها وصفًا نهائيًّا للحقيقة، فقد تبدَّد اليقين.

وما زال الأمر كذلك، ولكن كم غيره قد تعلَّم هذه الحقيقة؟ إن تبدُّد اليقين — حينما كان يُظَن أن اليقين لا يتعرض للهجوم — قد أثَّر في تفكير هوايتهد بقية أيام حياته. تبدَّدت نهاية الأرب، ومع ذلك فقد لاحظ هوايتهد أن رجال العلم أنفسهم الذين يعرفون قصة هذا التبديد كثيرًا ما يتقدمون بمُستكشَفات يعرضونها وكأنهم يقولون: وأخيرًا بلغنا اليقين!

«إن العالم فسيح، وليس هناك أعجب من ذلك الجزم القاطع الذي يُوهِم به الإنسان نفسه في كل عصر من عصور تاريخه، فيتوهم أن طرائق المعرفة عنده نهائية، والمؤمنون والمُنكِرون في ذلك سواء، والعلماء والمُتشكِّكون هم في الوقت الحاضر أكبر اليقينيين، يسمحون بالتقدم في التفاصيل، ويُنكِرون كل تجديد في الأساس، وفي شيوع اليقينية هذا قضاء على المغامرات الفلسفية. إن العالم فسيح.»

وهكذا نبلغ ما سماه هوايتهد «مغالطة النهائية اليقينية»، وهو أقل تعاليمه شيوعًا، وعندما يُثار هذا المذهب في حديث أو في مطبوع للجمهور، سرعان ما يرى فيه الناس البدعة والضلال، فالمرء قد لا يعرف حقيقة ما لا يحب، ولكنه يعرف أنه لا يحبه؛ فيغضب ويُزمجِر كلما بدا له الشبح.

•••

والمنظر الثاني هو «بيت» دكنز «المكشوف»، لم يكن بيتًا خياليًّا، إنما هو منزل من حجر الصوان، يقع على رأس بارز في البحر عند برود ستيرز، وهو بيت مكشوف فعلًا، تهتز جدرانه من تلاطُم الأمواج في عواصف الشتاء، وهنا التقى ألفرد هوايتهد بأفلن ويد، وهي سليلة أسرة أيرلندية عسكرية، نشأت في بريتاني، وتلقَّت دراستها في دير للراهبات، وأتت في صباها إلى إنجلترا لتعيش فيها، واقترن بها هوايتهد في ديسمبر من عام ١٨٩٠م، وعاشا في كمبردج عشرين عامًا من هذا التاريخ، قضيا ثمانية منها من ١٨٩٨م إلى ١٩٠٦م في بيت مل بجرانشستر، وهو بيت ريفي من القرن السابع عشر مسقوف بالغاب، يقع موقعًا جميلًا وسط حديقة غنَّاء، وعلى مقربة منه البركة التي ورد ذكرها في شوسر.

ولم تكن هنا فجوة بين الحياة المدنية والحياة الدينية، وقد شاركا في حياة القرية مشاركة حية، وضربا لأهل القرية مثلًا بالامتناع عن شرب الخمر، وكان أهل القرية في ذلك الحين يُدمِنون الشراب، وحملا على عاتقهما إغاثة المحتاج وعول الخدم؛ فكان في سلوكهما هذا بقية من سلوك الأمراء في القرن الثامن عشر، بل سلوك الإقطاعيين في القرن السابع عشر. وقد ساقت هذه التجربة هوايتهد إلى إدراك الخُلق الإنجليزي والعادات الشعبية الإنجليزية التي استطاع أن يربطها بتعميماته الفلسفية، والتي عاونت على صبغ تفكيره المجرد بالمسحة الإنسانية، وانغمس كذلك في سياسة الأحرار «وكان عملًا مُثيرًا … كان البيض الفاسد والبرتقال من الأسلحة الحزبية الفعالة، وكثيرًا ما رُمِيت به، ولكنها كانت دلائل القوة أكثر من دلائل الشعور السيئ.»

سئل مرة: «في أية فترة من فترات حياتك بدأت تُحِس أنك ملكت زمام موضوعك؟»

فأجاب في خشونة غير معهودة فيه: «لم يحدث ذلك قط.»

ولمدة ستة عشر عامًا في كمبردج — فيما يظهر — كان في صراع دائم مع الأرق، وكلما حل شهر سبتمبر بعد قضاء عطلة الصيف في الريف الإنجليزي، في كنت، أو في قرية صغيرة على البحر، ساوَره الشك أن يحتمل عامًا دراسيًّا بعد ذلك، بيدَ أن الأرق لم يُؤثِّر قط في عمله، وأخذ يزول في لندن، وبرأ منه نهائيًّا آخر الأمر. وخلال ثماني سنوات من سِني كمبردج كان يطَّلع على علوم الدين، وكانت مطالعاته كلها في هذه العلوم خارج المنهج الدراسي، بيدَ أنها كانت شاملة بحيث أمكنه أن يجمع مكتبة دينية ضخمة، وفي نهاية هذه السنوات الثماني طلَّق الموضوع وباع الكتب، وعرض عليه أحد باعة الكتب في كمبردج مبلغًا طيبًا نظير هذه المجموعة، ولكن تبيَّن له أن هوايتهد يريد أن يبيعها لقاء كتب من مكتبته، واسترسل هوايتهد في شراء الكتب حتى أنفق فيها أكثر ما يمتلك من مال.

•••

وفي منتصف حياته، بعدما أنجب ثلاثة أطفال، حزم وزوجه أمرهما على الهجرة إلى لندن، وكانت مغامرة صادرة عن إيمان، ولكنها بغير هدف مُعيَّن، وفي جامعة لندن «اشتغلت بغسل الزجاجات» على حد تعبيره، ولبث على ذلك ثلاث سنوات، ثم أُنشئ له بعد ذلك كرسي أستاذية، وبعد اثنَي عشر عامًا أصبح رئيس مجلس الجامعة.

«وهذه الخبرة بمشكلات لندن، التي مارستها أربعة عشر عامًا (من ١٩١٠م إلى ١٩٢٤م) حوَّرت آرائي في مشكلات التعليم العالي في مدينة صناعية حديثة، وكان السائد في ذلك الحين ضيق الأفق في النظر إلى وظيفة الجامعات، بل إن هذا الأفق الضيق ما يزال قائمًا. كان هناك طراز أكسفورد وكمبردج من ناحية، والطراز الألماني من ناحية أخرى … غير أن الكثرة الهائجة المائجة من أرباب الحِرف، الذين يبحثون عن الاستنارة العقلية، وذلك الشباب الناهض من كل مستوًى اجتماعي الذي يتشوق إلى المعرفة الشافية، والمشكلات المتنوعة التي ترتَّبت على ذلك — كل هذا كان عاملًا جديدًا في المدنية، ولكن دنيا العلماء كانت غارقة في الماضي السحيق.»

وانتهى القرن التاسع عشر في ٤ من أغسطس من عام ١٩١٤م. واشترك ولداه نورث وأريك في الحرب العالمية الأولى، ومات أصغرهما أريك في الحرب وكان طيارًا، والتحقت ابنته جسي بوزارة الخارجية. ولا تستطيع أن تُدرِك إلا إدراكًا طفيفًا جدًّا كيف أثَّر فقدان أريك في والدَيه، وذلك بعدما تتعرف إليهما شيئًا فشيئًا عامًا بعد عام، واستطاعا في نهاية الأمر أن يتحدثا عنه في حماسة وبابتسام، ولكن هوايتهد قال مرة إن الكلمات التي تُعبِّر عن الحزن مهما بلغت حيويتها، ومحاولات العزاء حتى حينما تصدر عن أساتذة اللفظ، عن الشعراء الإنجليز، ليست عنده إلا محاولات مخفقة «تجعل من العاطفة الحقيقية شيئًا تافهًا.»

وبهذا انتهى المجلد الثاني من حياة هوايتهد.

•••

وكانت دعوته لجامعة هارفارد في عام ١٩٢٤م مُفاجأة تامة، سلَّمته زوجته الخطاب ذات مساء مقبض في الداخل وفي الخارج، وقرأ الخطاب وهما يجلسان إلى جوار الموقد، ثم رده إليها، فقرأته، ثم سألته: «وما رأيك فيه؟» ولشدَّ ما كانت دهشتها حينما قال: «إني لأُوثر هذا على أي شيء آخر في الدنيا.»

أما طريقة مجيئهما فلم تُعرَف بعدُ على وجه عام. صدرت الدعوة — بطبيعة الحال — من المستر لولي باعتباره رئيسًا للجامعة، غير أن فكرة الدعوة قد نبتت أولًا في ذهن لورنس هندرسن وأمدَّت أسرة هنري أوزبرن تيلر المبالغ اللازمة لكرسي هوايتهد، ولم يعلم بذلك هوايتهد وزوجه نفسهما إلا بعد سنوات عدة.

والآن يبدأ المجلد الثالث من حياته.

في عام ١٩٢٤م يبدأ ألفرد نورث هوايتهد وهو في الثالثة والستين من عمره في أرض جديدة حياة جديدة، وهي في سيرته أشد سِني حياته بريقًا وإنتاجًا، وقد شع هذا الضوء العظيم فوق هارفارد في رفق وفي هدوء، وبدأت السماء تضيء بإشعاع الخلود الأبيض الناصع، وتحدَّث الناس مرة أخرى عن قسم الفلسفة كما كانوا يتحدثون عنه قبل ذلك بعشرين عامًا، إبان ازدهاره في عهد وليم جيمز وجوسيا رويس وجورج سنتايانا وهوجو مونستربرج، وبدأت مؤلفات هوايتهد الكبرى تتوالى واحدًا في إثر آخر؛ «العلم والعالم الحديث» في عام ١٩٢٥م، و«التطور والحقيقة» في عام ١٩٢٩م، ثم أشق مؤلفاته ولكنه المُؤلَّف الذي قال عنه صاحبه إنه «أشد ما يكون حاجة إلى كتابته»، وهو «مغامرات الأفكار» في عام ١٩٣٣م، وهو كتاب فيه قطعًا من نفس هوايتهد أكثر مما في غيره من المؤلفات، وفي عام ١٩٣٨م أخرج «طرائق التفكير» … وقائمة الكتب المنشورة أطول من ذلك بكثير بطبيعة الحال.

وكان المُتوقَّع أن يكتب في هارفارد ولا يُعلِّم إلا قليلًا. وقد قام بالعملَين معًا؛ فكان يُحاضِر ثلاث مرات كل أسبوع، ولم يكفِه أن يسمح لطلابه بالاجتماع به عشرين دقيقة، بل كان يُخصِّص لهم فترة ما بعد الظهر بأسرها أو فترة المساء كلها، «ومن وحي هذه الاجتماعات يعود المرء بنغم جديد.» وكانت الأفكار تسير في اتجاهَين متقابلَين؛ لأن هوايتهد كان يُحِس أنه بحاجة إلى الاحتكاك بالعقول الشابة كي تبقى ينابيعه في تدفُّق مستمر، وهو يقول: «من الخطأ الفاحش أن نظن أن الكبار لا يستطيعون التعلم من الصغار.»

ولم تكن هذه الاجتماعات علمية فحسب، بل كانت شخصية كذلك. ولمدة ثلاثة عشر عامًا على الأقل منذ منتصف العقد الثالث بعد عام ١٩٠٠م إلى ما بعد منتصف العقد الرابع، كنا نسمع عن السهرات في بيت هوايتهد، ليلةً كل أسبوع يفتح فيها البيت للطلاب، وإن يكن صاحب البيت يُرحِّب بأي زائر، وكانت هذه الحفلات غاية في البساطة؛ أحاديث، وشراب الشوكولاتة الساخنة، مع قليل من الكعك، وكان التلاميذ يُعاوِنون في عمل الشوكولاتة وفي الخدمة. أما الحديث فحديثهم يُشجِّعهم عليه بمهارة مُضيفهم ومُضيفتهم. وبالجملة كانت الأمسيات أمسيات الطلبة، ولم تكن أمسيات آل هوايتهد. وقد كان الطلبة يحضرون في أول الأمر حذِرِين مثنى مثنى؛ كي يحمي كل منهما الآخر، ثم اعتادوا أن يأتوا زرافات. وقد طلب إليهم هوايتهد أن يصحبوا زميلاتهم، وكانوا بالفعل يصحبونهن، ثم كانوا في نهاية الأمر يأتون في جماعات كبيرة، وقد يبلغ الحاضرون من ستين إلى ثمانية وتسعين في الليلة الواحدة؛ فكان بيت هوايتهد «صالونًا» بالمعنى الفرنسي في القرن الثامن عشر، يقوم في بلد علمي ويروده الشبان والشابات، يتناولون فيه الكعك الخفيف والشوكولاتة الساخنة، وكانوا يصبُّون إلى جانب هذا ذلك الرحيق العقلي الذي يُنعِش ولا يُسكِر، وهو الحديث مع آل هوايتهد، مع الرجل وزوجه، وقد قال بنفسه مرة: «إنني وحدي أستاذ من الأساتذة، ولكني مع إفلن أستاذ من الطراز الأول.»

•••

وذات صباح في شهر مايو من عام ١٩٣٢م دق التليفون بمنزلي، وكانت المُتكلِّمة مسز ثاديوز دي فريز، التي راح زوجها الشاب ضحية وباء الحرب في معسكر حربي في عام ١٩١٨م، والذي كان رئيس تحرير «بوستن جلوب»، قالت: «لقد دعوت آل هوايتهد للعشاء عندي غدًا. فهل تستطيع أن تحضر؟»

– «آسف؛ فقد حزمت متاعي استعدادًا للسفر إلى آل بركشير.»

– «إنهم ضعاف، وقد تقدَّمت بهم السن، وخير لك أن تعدل عن رأيك.»

(وعدلت عن رأيي.)

وأخذت معرفتي بهوايتهد تنمو ببطء، وكنت في السنوات الست الأولى من عام ١٩٣٢م إلى عام ١٩٣٨م واحدًا من عشرات، بل من مئات، ممن يقصدون هذا المسكن ويُغادِرونه، وقد قال مرة إن الحديث ينبغي أن يبدأ بنغم هادئ، «يجب أن يُسمَح للناس أن يتحدثوا في الأمور العامة حتى يكتسبوا حرارة الحجرة، والطقس موضوع مُلائم، والحديث في الجو يكفي.» وقد عكست صورة هذا الرأي في الصفحات الافتتاحية من هذه المحاورات، وسوف تنمو كذلك معرفة القارئ بهوايتهد شيئًا فشيئًا.

ولكن بعد نحو عامَين بسطت شخصيته نفوذًا عجيبًا، وكأن شخصه وأفكاره قد تخللت كل شيء، وبلفتة عجيبة من لفتات الخيال طابقت شخصيته إحدى المقطوعات الموسيقية الرائعة، تلك الصفحات من خاتمة سمفونية براهمز الرابعة، تلك «الباسا كجليا» العظيمة، حيث تُردِّد الأبواق الموضوع في نغمات ذهبية مُتدفِّقة مُتصِلة فوق «الأربجياي» الرنان، مع الجوقة و«فيولونسلي» و«فيولا» — أي الكمان الجهير والكمان الأوسط — (والمقاييس من ١١٣ إلى ١٢٩)، ويبدو أن وجه الشبه يبن شخص هوايتهد وهذه المقطوعة الموسيقية هو الجلال في كل.

ثم اختفى شخصه بعد ذلك، وبقي صوته واضحًا، رنانًا، رفيقًا، حازمًا، دقيق النطق، بريطانيًّا في نغمته ونبرته؛ وبقيت صورة وجهه جادًّا، مُشرِقًا، باسمًا في أغلب الأحيان، وبشرته بيضاء في تورُّد، وعيناه زرقاوان براقتان، صافيتان بريئتان كعينَي الطفل، ولكن في عمق الحكماء، ضاحكًا في أكثر الأحيان، أو مرِحًا بالفكاهة؛ قوامه نحيل، ضعيف، احدودب من مشقات البحث العلمي الذي شغله طوال حياته؛ وكان دائمًا حليمًا، لا يُضمِر مثقال ذرة من شر؛ وبرغم تسلُّحه باللفظ المُريع، لم يجرح قط امرأً بكلمة، وكأن وجوده المادي لم يكن إلا موصلًا، لاستغراق الحاضرين كليةً في أفكاره، وكأن هوايتهد المُفكِّر قد اختفى في محيط أفكاره، ولم يحدث ذلك مرة واحدة، ولكنه كثيرًا ما حدث، وبغير انقطاع. وحدث شيء غير ذلك أيضًا؛ فكم من مرة توجَّهت إلى كمبردج مُجهَدًا بعد عمل يوم كامل لا أستطيع أن أحتمل حديثًا مُتصِلًا، فأجدني عائدًا في منتصف الليل بعد أربع أو خمس ساعات من تبادُل الحديث معه مُلتهِبًا بنار الحياة المُشتعِلة. فهل كانت تشع منه كهرباء الروح؟

وكان يُحيِّرني أن زائرين آخرين كانوا يتلقَّون ذلك الفيض من الآراء القوية المُبتكَرة في برودة بادية. فهل كان مجرد فرد من كثيرين، وهل لم يحدث شيء غير عادي؟ هل كان يمكن لهؤلاء الزائرين أن يظفروا بمثل هذا الحديث في مائة موضع آخر؟ أما عني، فلم أستمع إلى حديث يُشبِهه في أمريكا أو في أوروبا، وأستبعد أن أستمع إلى مثله مرة أخرى. إن كان هذا الحديث في الكتب، فما عناوين تلك الكتب؟ كلا، إنه حديث لم تتضمنه الكتب، بل لم تتضمنه كتبه عينها كما ذكر فيما بعد.

وقد يسأل سائل بعد قراءة هذه المحاورات: «ما هو وجه العجب الشديد فيها؟» أحسب أن تفكير هوايتهد بطيء التأثير، إنه كالموعظة في السلوك، ليست لها قيمة إلا باتباعها، أو كالموسيقى، صامتة قبل أدائها؛ أو كالبذور، عقيمة ما لم تُبذَر وتُزرَع. يقول الناس عن كتب هوايتهد: «لقد قرأناها، فهزَّتنا وأمتعتنا، ولكنا لم نذكر فيما بعد ما قاله فيها.» ويصدق مثل هذا القول على نغمات «ديابلي المتنوعة» لبيتهوفن، وعلى «جمهورية أفلاطون».

•••

ولكن حذار، فإن بعض ما في هذه المحاورات يدعو إلى الجدل الشديد. ومن الكتب ما يحوي شيئًا يسرُّ كل إنسان، وأرجو ألا يكون هذا الكتاب مُنفِّرًا على إطلاقه، ومع ذلك فأعتقد أنه يمكن القول، في شيء من التواضع، إن في الصفحات التالية ما يُزعِج كل قارئ، وأنا واحد من هؤلاء. إن ساكن الحدود لا يستمتع في الوقت عينه بلذة المغامرة والراحة المُستتِبة التي تتوافر لأفراد المجتمع المستقر. إن كان من القُراء من لا يعبأ بنقده للعقائد المسيحية، أو انحرافه عن الفكر العبراني، فأنا لا أعبأ كذلك ببعض أحكامه في الموسيقى والشعر، وهما مما أدين به، والفارق هو: أي الديانتَين محل الطعن؟ أما هوايتهد فكان يسير نحو مُرتفَع رصين يعلو على الجدل.

– «إن لهيبي مزيج من النيران يعلوها جميعًا.»

لم يكن هوايتهد ممن يُجمِّدون الرأي؛ لأنه كان يمقت اليقينية النهائية، ولم أكن أُعارِضه (وعلى أية حال كنت أعجز عن ذلك عجزًا تامًّا)، إنما كانت مهمتي أن أُعاوِن على استمرار الحديث وتدفُّق الأفكار. لم أُعارِض قط «لأن أسوأ ما في المعارضة هو أنها تُفسِد البحث الجيد»؛ ومن ثَم فإن كان بعض ما يصدر من أفكار جارحًا، لم يسعني إلا أن أُردِّد ما قال تودجر فيرميل في قصة «ماجور باربرا»، كما روي بِل ووكر.

يقول إنه ينظر إلى السماء ويقول: «أتمنى أن أكون جديرًا بالمهانة في سبيل الله!»

ثم إن الأرجح أن تسجيل حديث رجل من البارزين عمل لا يُحمَد عليه فاعله، بل إن خير رواة الأحاديث لم يكتسبوا سوى نعتهم لمائة عام أو مائتَي عام بالحمير الأذلاء الأتباع المُتزلِّفين. أضِف إلى ذلك أن كل امرئ في الوقت الحاضر يحسب أنه في امتياز غيره من الناس، إن لم يفقهم جميعًا؛ ومن ثَم فإن تقديري لغيري سوف يصِمني بالنقص في احترامي لذاتي، بيدَ أني أُخالِف في الرأي مخالفة قاطعة هذه المساواة المزعومة. إن راويتكم لم يبلغ مبلغ هوايتهد، والمفارقة العقلية بيني وبينه قائمة كذلك.

مثلي مثل صبي إنجليزي في السادسة عشرة من عمره، عامل على ظهر حاملة البضائع «دفونيان» التابعة لشركة لاي لاند، التي اعتادت قبل حرب ١٩١٤–١٩١٨م أن ترسو عند إيست بوستن قريبًا من منزل سنت ماري للملاحين. كان الصبي لندني المولد، واسمه شارلز بيلي «ويُنادى كول بايلي»، وكان حسن التربية، إذا اشتدت معرفتك به وأمكنك أن تُوجِّه إليه السؤال، فتقول له: «قُل لي يا شارلز، لقد ذكرت لي أن أبوَيك فقيران، وأنك نشأت في مَرفأ شرق لندن، فكيف حدث ذلك؟»

فيُجيبك شارلز في تواضُع جم: «لقد تعلَّمت أن ألزم حدود الأدب في حضرة من يفضلني.»

إن هذه الكلمات الذهبية كالعملة الصحيحة، لا تزال تحتفظ ببريقها كما كانت يوم صدرت عن دار سك النقود، والآن ونحن قادمون على المحاورات أقول: «اسمع يا كول، سوف ألزم حدود الأدب في حضرة من يفضلني.»

•••

وليست «المحاورات» إلا عنوانًا مُلائمًا، وإن يكن هو العنوان الذي يجب اختياره، وأي نزوع إلى منافسة «محاورات أفلاطون» التي سبقتها ضربٌ من السخف، بل إن هذه المحاورات وتلك على طرفَي نقيض؛ فمحاورات أفلاطون قد صِيغت لكي تبدو حديثًا تلقائيًّا، أما محاورات هوايتهد فهي في الواقع حديث تلقائي، حتى لِمُختلَف المُتكلِّمين الذين كثيرًا ما يُطيعون وصية سقراط: «أن يُتابِعوا الجدل إلى حيث ينتهي.» وحتى في هذه الحالة يجب قراءة بعض ملاحظات هوايتهد في محيطها التاريخي المُحدَّد مع مراعاة التاريخ المضبوط الذي أُبدِيت فيه، وهو شرط من الشروط التي حتَّمها هوايتهد صراحة؛ وذلك لأن ما يُشوِّق عصرًا مُتأخِّرًا في هذه المحاورات هو كيف كان الناس يحسون، وفيمَ كانوا يُفكِّرون بشأن الحوادث وهي جارية وقبل إمكان صدور حكم نهائي فيها؟ وهو أمر قلما يذكره القارئ؛ لأن الجنس البشري، الذي يفتقر إلى بُعد النظر إلى الأمام، يغرم غرامًا شديدًا بالنظر نظرة تنبؤية إلى الوراء. وكم من عالم في التاريخ، عالي التأهيل، يطَّلع على بعض هذه الصفحات بعد طبعها، تراه يقع فورًا في هذا الفخ، ويحتج قائلًا: «كان ينبغي له حقًّا أن يكون أكثر من ذلك علمًا!»

– «ولكن هل كنت أنت أكثر من ذلك علمًا في عام ١٩٣٤م أو عام ١٩٤٤م؟»

بيدَ أن هذا الجانب من المحاورات ليس كبيرًا؛ لأن الجزء الأكبر من هوايتهد لا يتحدث عن أمور زائلة. كان اهتمامه بالحوادث اليومية يشغل ذهنه، وكان دائمًا يفكر تفكيرًا مُبتكَرًا في كل حادث، غير أن شعاع تفكيره الحق كان يتسلط على مدى قرون.

ويُلاحَظ أن بعض الموضوعات يظهر في هذه المحاورات من بدايتها إلى نهايتها، ومن السهل معرفتها، ولكن العودة إلى هذه الموضوعات بين حين وآخر ليس من قبيل التكرار؛ فكلما عاد ذكر الموضوع تُعرَض الفكرة من وجهة جديدة. وكان من الميسور أن يُضَم شتات الموضوع في عرض واحد شامل للفكرة، ولو فعلت ذلك لحرَّفت الأصل تحريفًا لا يغتفر، وبدلًا من أن أفعل ذلك رضيت أن أعود إلى الموضوع مرة بعد أخرى، وكل مرة أعرضه بشكل جديد يختلف باختلاف المناسبة، كأنه نغمة موسيقى تعلو حينًا وتنخفض حينًا آخر وفقًا للجو الفني، وهذا العرض الذي يُشبِه العرض الموسيقي أقوى في النفس أثرًا، وإن يكن من غير تدبير سابق (وكأني أستعد لصيد مُعيَّن، ثم أُطارِده حتى أبلغ نهاية الشوط). ولا أجد بأسًا من عرض الموضوع وما يُناقِضه، كأنه حركة موسيقية، حتى تأتي اللحظة التي يتملك فيها هوايتهد الزمام، كما يحدث كذلك عندما تعزف الموسيقى؛ وبهذه الطريقة تبلغ الحركة قمتها، وتأخذ الآلات الموسيقية في الهبوط تدريجًا حتى يتم صمتها في هدوء.

وثَمة تشبيهٌ آخر بصري لمسز هوايتهد: «تفكيره كمنشور الضوء، يجب ألا تنظر إليه من جانب واحد فقط، ولكن من جميع الجوانب، ثم من أسفل، ومن أعلى، والمنشور — حينما تنظر إليه بهذه الطريقة وأنت تدور في حركتك — يمتلئ بالأضواء والألوان المُتغيِّرة؛ فإن أنت نظرت إليه من جانب واحد فقط فكأنك لم تنظر إليه البتة.» فالرؤية من جانب واحد هي ما يُسمِّيه هوايتهد «نصف الحقيقة»: «ليست هناك حقائق كاملة، كل الحقائق أنصاف، ومن الضلال أن تُحاوِل أن تُعامِلها باعتبارها حقائق كاملة.» (وقد صِيغت من قديمٍ ألغاز رياضية لإثبات ذلك.)

ولذا فإن الاعتقاد بأن العودة إلى الموضوع الواحد في أكثر من مكان تكرار لا فائدة منه اعتقادٌ ليس له محل. فلم تكن مهمتي أن أبتر أو أقتلع أو أقطع، وإنما كانت مهمتي تسجيل ما قيل.

إذن فماذا قيل؟ وإلى أي حد يُعتبَر النص هنا موثوقًا به؟ عند الاشتغال بتدوين المحاورات من الذاكرة بنصها تقريبًا حرفيًّا بقدر ما يستطيع الكاتب، نجد أن الثلاثين السنة الأولى هي أشق السنوات جميعًا، وقد بدأت ممارسة التدوين وأنا تلميذ بالمدرسة في أول يناير من عام ١٩٠١م، تابعتها كما يُتابِع كاتب الاختزال المحاضرات، ثم كما يُتابِع الصحفي الأخبار (وسرعان ما يُدرِك الصحفي أنه إذا أخرج القلم والورق على مرأًى من شخص لم يتعود المقابلة، فإن هذا الشخص المنكود يكاد يتجمد لتوِّه). ثم تلت ذلك سنوات اختزنت فيها أحاديثي عن كل أنواع الرجال وكل ظروفهم، المشهور منهم والمغمور. ولما حل عام ١٩٣٢م، حينما بدأ اجتماعي هذا بهوايتهد، بات تسجيل المحادثات عندي شيئًا أكثر من ذلك، وربما يجدر بي هنا أن أُضيف أن الذاكرة تكون أقرب إلى الدقة بعد ثمانٍ وأربعين ساعة منها بعد أربع وعشرين ساعة، كأن الفترة الطويلة تُكسِب المادة من الوقت ما يُغرِقها إلى الأعماق لكي تطفو مرة أخرى إلى مستوى الوعي. وما أشبهَ ذلك بتجربة المُستمِع إلى حفلة موسيقية، فإن الموضوعات بعد العزف مباشرةً يشق تذكُّرها، أما في اليوم التالي، أو الذي يليه، فإنها تعود من تلقاء نفسها، بيدَ أن هوايتهد توقَّع الشك في دقة التسجيل (ولا أضمن صحتها مائة في المائة) فقال عما دوَّنت في الأمسيات الأخيرة، حينما كنا معًا: «يجدر بك أن تُدوِّن ملحوظة بأن هذه المحاورات قد قرأناها معًا، وأنها تُطابِق ما قيل، وألا تُشكِّك الناس فيها، بل أنا نفسي ربما لا أعتقد في صحتها …»

وما مبلغ اعتقادي في دقتها؟ في الأحاديث العامة التي لا تعدو أن تكون انتهازًا للمناسبات ومتابعة للفكر، تكون المحاورات حرفية في أغلب الأحيان، مع التنبُّه إلى التعابير المُميَّزة خاصة. أما في أحاديث هوايتهد المُطوَّلة، فإن استخدامه للغة ينمُّ عن دقة رياضية، وسيطرته على الإنجليزية كاملة، والتفكير ذاته يتركز أحيانًا إلى درجة تجعلني أُصغي إليه في ذهول خفي: «كيف أستطيع الاحتفاظ بكل هذا؟ وكيف آمل أن أُدوِّنه في صورة شبيهة — ولو إلى حد — بالوضوح الذي يتميز به وهو يُلقيه شفاهة؟» والجواب أني كثيرًا ما أعجز عن ذلك. وفي هذا الصدد أُردِّد ما جاء باللافتة المرفوعة على إحدى قاعات الرقص في معسكر غربي للتعدين: «لا تقتل عازف البيانو، فهو يبذل قصارى جهده.»

•••

واستمر الحال على ذلك تسع سنوات، من عام ١٩٣٢م إلى عام ١٩٤١م، وقد دوَّنت نصف الكتاب، دون أن يعلم أحد — دون أن يعلم الكاتب نفسه — أنه سيخرج على صورة كتاب، ولم يعلم آل هوايتهد أني كنت أُسجِّل أحاديثهم، ولم يكن هناك ما يدعو إلى علمهم، «إن ذلك من حسن التدبير يا هوراشيو.» ثم قدَّمت الأحاديث للصحف، وكنت أُرسِل صورًا مما يُنشَر إليه في حينه (ولم يُذكَر اسمه قط في مطبوع) وذلك إنصافًا من ناحية، ولكي أتأكَّد من ناحية أخرى إن كنت قد احتفظت بالمادة صحيحة وفهمتها فهمًا جيدًا.

ثم كانت الحرب الثانية، وكانت زوجه وابنهما في لندن تحت القنابل، وكان حفيدهما في إنجلترا كذلك عرضة لوابلها، كما قالت مسز هوايتهد. وقد طبعت هذه المحاورات حتى خريف عام ١٩٤١م، وبعثت بها إليهم من قبيل التسلية، ولم أذكر شيئًا عن نشرها حتى ديسمبر من ذلك العام، وسيجد القارئ في حديث ذلك التاريخ رأي الفيلسوف في إمكان الانتفاع بها. هل كان العلم بالاحتفاظ بها يُوهِن من تلقائيتها؟ إن أحدًا لم يفكر في ذلك؛ فقد كان هناك الكثير غير ذلك مما يُثير الاهتمام.

وبعدما تقاعَد هوايتهد في عام ١٩٣٧م، كان لا بد من أن يتناقص عدد زائريه. وقد واظب كثير من زائريه على الحضور، وبعضهم من أقاصي أركان المعمورة، ولكن تقدُّم السن والصمم جعلا المؤانسة على المستوى الأول غير مُمكِنة التحقيق. ومع هذا، فبالرغم من أن الاجتماعات الكبرى ربما استخلصت أوجهًا أكثر من أفكاره، وأظهرت جوانب أكثر من شخصيته، فإن مرور الزمن واقتصار المحاورات على أربع أو حتى على ثلاث جعله يُوغِل في الأفكار التي كان يتميز بها بصفة خاصة؛ فقد كان من قبل لا يحب أن يُسأل عما جاء في كتبه المنشورة، ولا يود المساس بموضوعها، فهي مطبوعة يطلع عليها كل قارئ، وقد بذل أقصى جهده في عرضها في صيغة مفهومة، فكان يحب الخوض في شيء جديد.

والآن جاوز الثمانين من عمره، ولم يبدُ عليه البتة ما يدل على ضعف قواه العقلية، بل لقد أخذ التيار في الصعود. وفي سنواته النهائية، حينما كان يتخذ فندق أمباسادر مَسكنًا له، لما كانت جلساتنا تبدأ مُبكِّرة في السابعة والنصف مساءً، وتستمر حتى منتصف الليل، كان ينتهي من الحديث وهو أوفر نشاطًا مما بدأ، وكان اسم الفندق — أمباسادر أو السفير — كثيرًا ما يُذكِّرني برواية هنري جيمس «السفراء»؛ لأن هوايتهد كان حقًّا سفيرًا بأروع ما تحمل الكلمة من معنًى.

وهو يدين باحتفاظه بقواه لاعتداله في كل أمر من الأمور؛ كان شديد الإمساك، يتعفف فيما يأكل، ويسمح بالنبيذ، ولا يُدخِّن، وكأنه لم يشتهِ المُنبِّهات قط. إن منظر هذا الرجل الذي جاوز الثمانين من عمره ولا يزال مُتورِّد الوجه، صافي العينَين، نقي البشرة، لا تبدو عليه سمة من سمات الانهماك التي يتميز بها الرجال عامة، هذا المنظر — كلمات تقدَّمت به السن — لم يكن أوهى عوامل تأثير شخصيته. وعامل آخر من عوامل التأثير أقوى من هذا، رؤيته وهو يعيش في مسكن من أربع حجرات حياة أبعد مدًى وأكثر حرية وأوسع أفقًا في العقل والروح من حياة الكثيرين في بحبوحة ورغد. إن المرء يعتاد التسامح مع المُسنِّين في ولاء بنوي لما يبدر منهم من انفعال وشذوذ، بيدَ أن هوايتهد لم يتصف بما يدعو إلى التسامح؛ فقد كان هدوءه وجلاله واتساع أفقه يرد توافه الحياة اليومية إلى قيمتها الحقيقية، ولكن المبادئ العامة عنده كانت ترتفع إلى قضايا هامة ينبغي الدفاع عنها بحرارة شديدة. لم يعلُ هوايتهد على ميدان المعركة، ولكن ميدان المعركة كان رفيع المستوى؛ ومن أجل هذا كان يتميز بصفات عجيبة؛ فقد قابَل مشكلات كثيرة وأوجد لها الحلول، وهي مشكلات لم يُدرِك وجودها قط أكثر الناس. كنت تُحِس في حضرته أنك أمام رجل لا يخاف، لا يخاف من أعداء البشرية المألوفة؛ المرض والفقر والشيخوخة وسوء الحظ والموت، بل ولم يخشَ ما في مصير البشرية من ألغاز عويصة، أو ما في الكون من متاهات. في تلك المجالات المُريعة كان مُطمئن النفس مُرتاح الضمير، وهذا معنى أن يكون المرء فيلسوفًا؛ أن يُصادِق العدو، وأن يُروِّض المجهول في دخيلة نفسه. كان الناس يرون فيه اعتياد النصر، وكل انتصاراته — التي نسيها من أمد بعيد — كانت إلى جانبه تعمل وتُجاهِد، دون أن يراها أحد، وإذا بالناس يُفاجَئون عندما يتطلعون إلى قمته بكثرة ما يملك من العربات الحربية والفرسان.

قال مرة إن الكتاب المقدس بدلًا من أن ينتهي بسفر الرؤيا للقديس يوحنا، كان ينبغي أن ينتهي برثاء بركليز. وفي هذا الرثاء عبارتان؛ إحداهما تليق بفاتحة هذه المحاورات، والأخرى بنهاية حياته، وهما:

«ليس لدينا لجارنا نظرات سوداء أو كلمات ساخطة إذا كان يستمتع بحياته على طريقته الخاصة.»

و«الأرض كلها مقبرة لمشاهير الرجال، وقصة حياتهم لا تنقش على الحجر في أوطانهم فحسب، ولكنها تحيا كذلك بعيدًا، دون أن يكون لها رمز يُرى، مُتغلغِلة في تاريخ حياة غيرهم من الرجال.»

ذلك لأن شخصًا جديرًا بعهد بركليز كان يعيش في عصرنا.

١  الإشارة هنا إلى «قصة المدنيتَين» المعروفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤