المحاورة الحادية والعشرون

٢٨ من يونيو ١٩٤١م

أقبل الصيف، وقصدت كمبردج، وأخذت معي لمسز هوايتهد صندوقَين من الورد من حديقة أحد جيراني في ماريلهد، وأخذت له كتاب «المستقبل في التربة» الذي نُشِر أخيرًا لسر رتشارد لفنجستون، والذي ذكر فيه كتاب «أهداف التربية» لهوايتهد بالإعجاب الشديد.

وكان الرجل جالسًا في مكتبه، بعد عودتهما من ميدان هارفاراد ليشتريا بدلة شتوية في أشد أيام شهر يونيو حرارة، «ولم يستطيعا أن يحصلا عليها».

وقلت إني حصلت على واحدة في الشهر الماضي، «ولم أُبكِّر بشرائها دقيقة واحدة»، كما أكَّد لي الخائط، فقال هوايتد مُتلطِّفًا: «لقد تأخَّرنا لحظة واحدة.»

إنهم يرحلون في شهر يوليو مع آل بكمان إلى بدفورد. وفي هذا الصدد قالت مسز هوايتهد: «إن جو المكان يُلائمني تمامًا، بيت كاثوليكي تُراعى فيه شعائر الدين، وإن كنت لا أُؤدِّيها. إنه جو شبيه بذلك الجو الذي نشأت فيه في بريتاني، بين الكاثوليك، وإن لم أكن كاثوليكية.

– «إن ذلك يُشبِه إلى حدٍّ ما ارتياد الكنائس بالراديو.»

قال: «لا بد أن يكون هناك في العالم الآخر مكان وسط لأمثال هؤلاء الناس؛ لا هو شديد الحرارة ولا هو شديد البرودة، ولا يبلغ كآبته حافة الجحيم.»

– «لا بد أنك تعني لاوديسيا، الذي يمقته المُتحمِّسون لأنه مكان لا بالبارد ولا بالحار.»

ثم عُدنا إلى الحديث عن زيارة الكنائس بالراديو، وقال إن من رأيه أن الأصوات الرنانة هي خير الأصوات، برغم خلوها من كل الأنغام الدينية التي تُكسِبها قوة التأثير.

قال: «إن أشد الصلوات الدينية أثرًا فيما أذكر اثنتان؛ أولاهما قُداس صغير في كاتدرائية في إحدى المدن — ومن المُؤلِم جدًّا أن ينسى المرء الأسماء! — على حافة الغابة السوداء بألمانيا، كان هناك حشد كبير من الأتقياء، ولم يكن بوسع المرء أن يسمع شيئًا مما قيل، ولكن القداس بلغ مرتبة الكمال. كان المرء يُحِس أن الواجب الديني يُؤدَّى، وأنه يُشارِك فيه كل أولئك القوم الأتقياء، أما الصلاة الأخرى فصاحبية، غير أن الصلاة لم تدُم طويلًا، وقد أُقِيمت في مدرسة ببرمنجهام، بعدما توجَّه الكثيرون منا لإلقاء المحاضرات، التي كانت تبدأ في التاسعة، وكان ناظر المدرسة كل صباح قبل التاسعة بربع ساعة يجمعنا في مكتبه الرحب، حيث كنا نقضي بعض الوقت في التأمل الهادئ، ثم يتحدث إلينا في النهاية حديثًا مُوجَزًا، كان له الأثر الصحيح تمامًا.»

– «إنك لا تضم في هذا الأنجليكان.»

– «إن صلاتهم تُؤدِّي الغرض منها بشكل يدعو إلى العجَب؛ الطقوس الجميلة، والموسيقى، وفن العمارة، والأصوات الرائعة، فيها كل شيء إلا الدين، إنها ليست دينية، إنما هي اجتماعية.»

– «كان رالف أمرسن يسخط عليها أشد السخط، وقد بيَّن السبب في مقاله عن الصفات الإنجليزية.»

– «ولكني أعتقد أن المذاهب البروتستانتية تفتقر حتى إلى ذلك. إن الصلاة الأنجليكانية رمز لمسئولية الأرستقراط عن حكم الأمة، وهي لم تكن في المسيحية أصلًا؛ فالفلاحون اليهود، الذين صدرت المسيحية عن بداهتهم الخلقية العميقة، لم تكن لديهم أدنى فكرة عن إدارة المجتمع المُعقَّد، وحتى المسيح نفسه لم يقُل شيئًا عنها بتاتًا، اللهم إلا قوله: يجدر بكم أن تدفعوا ضرائبكم، بيدَ أن ذلك ليس دستورًا مدنيًّا دقيقًا.»

– «هل تعني أن ما خلا ذلك — من تبعة تنظيم المجتمع — أُضيفَ فيما بعد؟»

– «نعم، ومن التناقض أن هذه الفكرة، التي كانت حديثة في العالم عند بدايته — أقصد قيمة الفرد — التي ما زلت تراها على صورة أكيدة قوية في أية كنيسة كاثوليكية، حينما تشهد مُتعبِّدًا فريدًا جاثيًا في معبد قديس من القديسين، هذه الفكرة قد تبَّناها نظامٌ اقترف الكثير في سبيل قمع الفردية، وأقصد بها الكنيسة الكاثوليكية. إن في الدين دائمًا عنصرًا همجيًّا، وإن محاولة الاحتفاظ بكيان المجتمع هي دائمًا من عمل الرجال المُخلِصين، ولم تبلغ هذه الهمجية — فيما أظن — ما بلغته في مَحاكم التفتيش في إسبانيا أو في اضطهاد الهوجونوت في فرنسا. ومما يدعو إلى الدهشة أن انفصال الكنيسة الإنجليزية في القرن السادس عشر تحت حكم التيودور لم يُصاحِبه إلا قدر ضئيل من الوحشية نسبيًّا. كانت هناك بطبيعة الحال حرائق وإطاحة للرءوس، ولكنها لا تذكُر إلا ما كان يحدث في القارة الأوروبية في مثل هذا الظرف. إن الإصلاح لم يكن دينيًّا مهما يكن من أمره، ولست أدري ما كان شأن هنري الثامن أو إليزابث بالدين.»

قلت: «إن ما دوَّنه ترفيليان في صفحاته عن انحلال الأديرة يُؤيِّد ما نقول، غير أن مشكلات هذه الأديرة لم تكن واضحة كما نحسب اليوم.»

قال هوايتهد: «إن اغتصاب الأملاك كان عملًا عنيفًا، ولكنه لم يبلغ في عنفه ما بلغته الحروب الدينية التي اجتاحت القارة الأوروبية، ولست أعرف في التاريخ سوى مُناسَبتَين قام فيهما أصحاب النفوذ بما ينبغي أن يقوموا به بصورة حسنة على قدر ما يستطيع المرء أن يتصور من إمكان؛ وإحدى هاتَين المناسبتَين هي وضع دستوركم الأمريكي، كان واضعوه ساسة قديرين، وصلوا إلى مجموعة من الآراء الطيبة، وضمَّنوا هذه المبادئ العامة أداتهم دون أن يُحاوِلوا أن يفصلوا بوضوح زائد كيف يمكن تطبيقها، وكانوا رجالًا ذوي خبرة عملية واسعة، وكانت المناسبة الأخرى في روما، ومما لا جدال فيه أنها أنقذت المدنية لمدة تقرب من أربعمائة عام، وكان ذلك من عمل أغسطس وزمرته؛ لقد أنقذ روما من الرومان — أقصد الرومان سكان المدن — أنقذها من إفلاس شكل الحكومة الجمهوري، ومن الآراء البائدة التي كانت تعتنقها طبقة النبلاء القديمة؛ فقد استطاع بطريقةٍ ما أن يستدعي أولًا أعيان الريف الإيطاليين، وهم «الرجال المُحدَثون» أصحاب الآراء الجديدة، وكلما تقدَّمت القرون ظهر الريفيون من أمثال القياصرة الإسبان؛ فامتدت بذلك حياة روما حتى منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، وذلك حينما بدأت تنهار فيه على وجه التقريب. لقد ترك لمجلس الشيوخ نفوذًا يكفي لاحتفاظهم بكرامتهم، وكانت الحكومة — فيما خلا ذلك — في أيدي السلطات المدنية والقوات العسكرية. لقد كان ذلك عملًا من الأعمال العظيمة في تاريخ الإنسان، وإني لأشك — مهما كان ما نقوم به من تحليل شرعي — في أن أي امرئ يستطيع أن يفهم كيف حدث ذلك.»

ثم بادر إلى القول بأن الظاهر أن أحسن المدنيات هو مع ما نشأ عن الامتزاج العنصري: النورمان مع الفرنسيين، والنورمان الفرنسيون مع الأنجلوساكسون، والغزاة الدوريون في إنكا مع أبناء البلاد.

– «إذا كان العنصر «نقي» الدماء فالأرجح أن يكون الشعب غبيًّا، حتى تختلط دماؤه بدماء أخرى أشد حيوية، وأعتقد أن الدماء السامية قد اختلطت بدرجة كبيرة بالدماء الأيونية؛ فكان من هذا الاختلاط تلك الثقافة المُستنيرة الأصيلة.»

وواصل حديثه قائلًا: «ووراء ذلك كله هذه المشكلة: كيف نحمي المجتمع من الركود؟ إن ذلك أشق أمر في الوجود؛ فقد ينشأ نظام اجتماعي ويعيش في يسر عدة قرون، ولكنه إذا افتقد عنصر التجديد، عنصر التقدم، فهو شيء لا حياة فيه، وأستطيع أن أقول إن النمل والنحل لها نُظم تسير في يسر، ولكنها لا تتغير. وعنصر التجديد هذا هو الذي يُحدِّد الفارق بين الإنسان والحيوان؛ فالإنسان يرى المستقبل في الحاضر، ويُبصِر ما يمكن أداؤه بما عنده من مادة موجودة. أما الكلب فيرى الحاضر حاضرًا، ليس غير. ولكني لا أقول إنه يستحيل على الإنسان أن يبلغ نهاية قوته الابتكارية، وليس معنى هذا أن هذه القوة قد تنفد، ولكنه ربما يبلغ في دنياه حالة يكون المجتمع فيها ساكنًا، فلا تجد هذه القوة الابتكارية عنده مجالًا، وحينئذٍ تكون نهاية الإنسان، ولا تكون لمجتمع قيمة أكبر من قيمة النمل، إذا قارنا بينهما كمخلوقين.»

وعنَّ لي أثناء حديثه: «أن الفنانين — فيما يبدو — يرون أن هذه القوة الابتكارية شيء لا يتحكمون فيه، وإنما يتحكم فيهم. حقًّا إنهم يُطوِّرون وسائل فنية عملية تستطيع هذه القوة أن تفعل بها فعلها، ولكن الوسائل العملية — كالآلة الميكانيكية — لا تخلق، وحسبها أنها تُعِين على الخلق. وقد كان جيته واضحًا في ذلك خلال حديثه مع أكرمان؛ فهو يكاد يقول إن الآية الفنية هدية من السماء في يوم من الأيام الطيبة، التي تمر بالفنان، ولكن القوة المُؤثِّرة تأتيه من خارج نفسه.»

وأخذ هوايتهد بطرف الحديث فقال: «إن المجتمع الذي يستطيع أن يُهيِّئ الظروف التي لا بد منها للفنانين لكي يجدوا مجالًا حرًّا لقدرتهم على التجديد؛ ولا أقول الخروج على المألوف أو الشذوذ، وإنما أعني الابتكار في تطوير التقاليد الفنية، والسير قُدمًا بأحدث ما استجد فيها؛ هذا المجتمع يبلغ أعلى درجات التقدم.»

– «ألم يكن أفلاطون في «القوانين» — وهو من آثار شيخوخته — قاسيًا في حكمه على عنصر التجديد في الفنون؟ أو على الأقل في حكمه على فن المأساة؟»

فنهض، وتطلَّع إلى رفوف مكتبته، واختار أخيرًا مجلدًا من طبعة لُوَب، وفتح الفصل الواحد والخمسين في تيماوس، وقال: «أنصِت، وسأُطلِعك على مقال لأفلاطون.» وكانت الترجمة مُعدَّلة في مواضع مختلفة بقلمه. وقال عنها مُشيرًا إلى كلمة يونانية: «إن المُترجِم قد ترجمها خطأً بالمادة.»

قلت: «ولكنها تعني [الطبيعة] أليس كذلك؟ أو على وجه أدق تعني [النمو] أو [عملية النمو].»

– «نعم، إن أفلاطون هنا يتحدث عن [الوعاء] والفكرة بعيدة المدى، وبها شيء من الغموض.» وطالَع صفحتَين أو ثلاثًا، وأخذ يُلخِّص ما يُطالِعه، حتى بلغ الفصل الرابع والخمسين.

فقال: «وهنا — كما ترى — يهبط بالفكرة إلى [الأمر المألوف] إلى الهندسة!»

– «ولكن ألم تكن هذه هي طريقته، يتناول اللامحدود — الذي لا يستطيع أحد سواه أن يُعالِجه — ويهبط به إلى الصورة المحدودة، التي يستطيع أن يفهمها متوسط الأفراد — أو المتعلمون في أثينا القديمة — كما قلت ذات مرة؟»

– «هذه العلاقة بين اللامحدود والمحدود هي ما كنت أستهدفه. إن عقولنا محدودة، ولكنَّا برغم تحديدها مُحاطون بإمكانيات غير محدودة، والغرض من الحياة الإنسانية أن نستوعب من اللامحدود بقدر ما نستطيع. وكم أود لو استطعت أن أنقل إليكم هذا الإحساس الذي أُحِس بلانهائية الإمكانيات التي تُجابِه الإنسانية باحتمالات الاختيار التي لا تنتهي، بإمكان الاستحداث والتجديد في الجمع بين شيء وآخر، بالنتائج السارة للتجارب، بالآفاق المُتفتِّحة التي ليس لها نهاية ما دُمنا نُجرِّب، وما دُمنا نحتفظ بإمكانية التقدم هذه، فنحن ومجتمعاتنا أحياء فإذا فقدنا ذلك صِرنا نحن ومجتمعاتنا إلى الموت، مهما قُمنا وقامت مجتمعاتنا بنشاط خارجي، ومهما ظهرنا أو ظهرت مجتمعاتنا بمظهر الرفاهية المادية، وليس هناك أيسر من فقدان عنصر التجديد هذا الذي أشير إليه. إن مبدأ الحياة في الفكر هو الذي يحفظ علينا جميعًا حياتنا.»

– «وما مقدار صحة هذا الإحساس بالوحدة الذي نُحِسه أحيانًا — هذا الإحساس باندماج فرديتنا في الكل — ما مقدار صحة هذا الإحساس في ظنك؟ إنني لا أحب أن أتحدث في هذا حديثًا خياليًّا، وخاصة لأني لست ميتافيزيقيًّا، ولا عالمًا نفسانيًّا، ولكني — برغم هذا — أعلم أن هذه اللحظات لا تُنسى، والإحساس بها قوي، حتى إن المرء ليستطيع استعادتها بعد عدة سنوات، قد تبلغ العشر، كأنها كانت بالأمس فقط، أو اليوم، ويخلق منها شيئًا حيًّا جديدًا.»

فقال هوايتهد: «إن الصوفية تحملنا على أن نُحاوِل أن نخلق من الخبرة الصوفية شيئًا يُبقي عليها، أو على الأقل يُبقي على ذكراها. إن الألفاظ لا تُعبِّر عنها إلا تعبيرًا ضعيفًا. إننا نعلم أننا كنا على صلة باللانهائي، ونعرف أنَّا لا نستطيع أن نُعبِّر عنها بأية صورة من الصور النهائية المحدودة.»

وجاهرت ﺑ «أن الموسيقى قد تكون أقرب إليها من الألفاظ؛ فالمرء أحيانًا — أثناء أداء قطعة من روائع الموسيقى أداءً جيدًا — يُحِس إزاء اللامحدود بإحساس شبيه بما لا بد أن يكون المُلحِّن قد أحس به حينما كان عليه أن يختار لحنًا من الألحان لكي يُعبِّر عنه. إن الألحان المحدودة موجودة، في النغم أو في التوقيع، ولكن الإمكانيات التي لا نهاية لها — أعني الطرق التي يمكن أن يُعبِّر بها عن هذا المجال الفسيح — هذه الإمكانيات تحف بهذه الألحان من كل جانب.»

قال هوايتهد: «من هذا الجهد الذي يُبذَل في سبيل إنقاذ الخبرة الصوفية، أملًا في ابتداع صيغة تحفظ هذه الخبرة لأنفسنا وربما لغيرنا أيضًا؛ أقول من هذا الجهد يأتي الإيضاح، في فكرة أو ربما في صيغة فنية، وهذا الإيضاح يتحول بعدئذٍ إلى صورة من صور العمل؛ صوفية، وإيضاح، وعمل. إنني لم أستطع من قبل أن أُعبِّر عن هذا الموضوع بهذه الصورة، ولكن هذا هو الترتيب الذي أراه.»

وقال: «إن صفة الركود قد ظهرت في الديانة البوذية كما يدل على ذلك تاريخ الهند والصين، وإن التقدم فيهما كان يسير إلى الوراء أو يتوقف، وإنه لم يطرأ على الصين منذ عام ١٨٠٠ق.م حتى العصر الحديث سوى تغيير طفيف، إذا استثنينا هذه التغيرات اليسيرة في بعض نُظم الحياة الصغرى.» ثم وضَّح لنا كيف أن الفكر الديناميكي المُتحرِّك من الصفات الدقيقة التي يعتز بإحرازها الإنسان، وكيف أنه من اليسير أن يفقدها.

وأدَّى بنا ذلك إلى الحديث عن حيوية التفكير في مهنة الطب في عصرنا، وكيف تتقدم علوم الطب بسرعة، ويُحدِّثك أصحاب المهن برغم ذلك أنهم لم يُؤتَوا من العلم إلا قليلًا.

قال: «إن الطبيب الأمريكي الممتاز هو من أكثر النماذج البشرية تقدُّمًا على الأرض في الوقت الحاضر.»

– «لأن العلم عنده يُكرَّس لتخفيف الآلام.»

– «بل إني لأرد ذلك إلى أسباب أعم. إنه مُتشكِّك في وقائع مهنته، ويُرحِّب بالمُستكشَفات التي تقلب فروضه السابقة رأسًا على عقب، ولا يزال العطف الإنساني والإدراك يبعثان فيه الحياة.»

قلت: «لولا تقدمهم لمتُّ بالزائدة الدودية منذ عشرين عامًا. كان المُصابون بها يموتون في عام ١٨٩٢م. أما اليوم فهي تُعَد من العمليات الجراحية الصغرى.»

فقال هوايتهد: «ولولا كُشِف في عالم الطب منذ ثلاثة أعوام فقط لمتُّ منذ ستة أسابيع.» وكان يشكو التهاب الرئة، وقد شُفي منه بالدواء الجديد.

ودخلت علينا مسز هوايتهد ومعها بعض الأزهار المُودَعة بنظام في آنية زجاجية، ثم أخرجتُ «مستقبل التربية» من تأليف لفنجستون.

فقال هوايتهد: «إني أقدُره قدرًا كبيرًا، وقد عملت معه مرة في لجنة ملكية لدراسة مكانة الأدب الإغريقي الروماني القديم في التربية الإنجليزية، وقد شُغِفت به حبًّا.»

وفتحت صفحة ٣٠، وأشرت إلى هذا الاقتباس التالي، وقرأه هوايتهد:

إن الأستاذ هوايتهد — في أحد الكتب القيمة حقًّا عن التربية — قد تحدَّث عن خطر الآراء الجامدة؛ أي الآراء التي يكتفي العقل باستقبالها دون أن ينتفع بها، أو يختبرها، أو يضمها إلى مركبات جديدة … إن التربية بالآراء الجامدة ليست عديمة الفائدة فحسب، إنها ضارة فوق كل شيء آخر … وقد كانت التربية في الماضي مُصابة إصابة شديدة بالآراء الجامدة إذا استثنينا فترات نادرة من التخمُّر العقلي …

ودفعني ذلك إلى أن أقول بأن لفنجستون قد كتب إليَّ منذ بضعة شهور يذكر لي أن «أهداف التربية» هو من الكتب القلائل التي قرأها في الموضوع، وحمله على الاعتقاد بأنه كتاب من وضع رجل يعرف شيئًا عن الموضوع.

وفي الفترة القصيرة التي بقيت من السهرة تحدَّثوا عن سيرة «كاترين أراجون» من تأليف جارت ماتنجلي، وهو الكتاب الذي نُشِر أخيرًا، وقد أثنى عليه هوايتهد ثناءً عظيمًا.

قال: «إنه يجعل الأشخاص التاريخية إنسانية حية. والأوصاف مُستقاة من الخطابات العائلية الخاصة، وإنك لتسمع عن مثل هذه الأشياء؛ كيف كان هنري الثامن يبدو في يوم من الأيام … وأي ألوان العذاب كان طب العصور الوسطى يُلحِق بالملوك الذين يُعانون الموت! كان كل امرئ يعتقد أنه يبذل قصارى جهده، ولم يعرف أحدهم كثيرًا عن أي شيء، وكانت بالطبع عذابات عامة الناس في مثل هذه الشدة، غير أن أحدًا لم يحفل بتسجيلها. ويُعطيك هذا الكتاب أيضًا فكرة عن كرانمر تختلف عن فكرة الاستشهاد المألوفة التي تُنسَب إليه؛ كان يميل أشد الميل إلى الإنكار لكي يُنقِذ حياته، فلما وجد أنه سيُحرَق بسبب هذا الإنكار، أنكر إنكاره.»

– «اعتدنا أن نظن أن الحياة في تلك الأزمنة كانت مُعرَّضة للمخاطر الجسيمة، ولكن انظر إلينا الآن!»

– «أعرف ذلك، ويكاد المرء يخجل من القول بأن اليوم حار، أو أن الحساء بارد، وكأن ذلك من التوافه التي تُحتمَل. لقد بلغ العالم حدًّا من الاضطراب يُحتِّم علينا أن نُعيد النظر حتى في أكثر الآراء شيوعًا، الآراء التي كان يقبلها كل امرئ من قبل.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤