المحاورة الثلاثون

١٩ من يونيو ١٩٤٣م

تغيب هوايتهد عن الغداء السابق بنادي السبت في شهر مايو. وأرسل يقول بأن القرار الذي يُحرِّم استخدام الغاز في الذَّهاب إلى الحفلات الاجتماعية كان يَنطبِق — فيما يتعلق به — على عرَبات الأجرة، ولما كان لا يُفكِّر في ركوب قطار كمبردج الذي يَسير تحت الأرض، فقد تحتَّم عليه عدمُ الحضور، وأسِف الجميع لغيابه. وقلت: «لا بد أن نفكر في الإتيان به إلى هنا بأية وسيلة؛ إن شركة تشكَرَ لعربات الأجرة لديها عرَباتٌ تجرها الخيل في الطرقات.»

وقال الرئيس: «لقد ألَّفنا منك ومن ألفرد كِدَر لجنة؛ لترى ما يمكن أن يُعمَل.»

وقادَتْني هذه المهمةُ إلى الطرَف الجنوبي من المدينة؛ إلى إسطبل شركة تشكر لعربات الأجرة، وهنا كان القرن التاسعَ عشر لا يَزال في حيوية شديدة؛ فهناك خدمٌ للخيول، وسائسون، ولا يقلُّ عن ثلاثين حِصانًا قويًّا، وعربات أصبحَت الآن مما يصح أن يُودَع المتاحف، وعربات من التي لا تتَّسع إلا لاثنين، وحناطيرُ وعرباتُ ركوب، ومَرْكباتٌ مقفلة، وعربات تتسع لأربعة أشخاص، وعربات خفيفة ذات عجلَتَين، وعربات تجرها الكلاب، وعربات يجرها حصان واحد، وصيحات السائسين، بل إن رائحة الإسطبل نفسها كانت قمينةً بالمتحف. إنها تُذكِّر بالأيام السعيدة الخالية! واخترنا عربة يجرها حصان واحد، أنيقة، مُنجَّدة بالجلد الفاخر، نوافذها من الزجاج البِلَّوري، بها بوق للنداء، ومصابيحُ على الجانبين، عمرها أربعون عامًا، وكانت مِلكًا لأسرة ثرية نَسيتُ اسمها، وكانت تسير في الطريق المؤدي إلى واشنطن كلَّ شتاء.

•••

(يبلغ نادي السبت عيدَه المئوي في عام ١٩٥٥م. «كثيرًا ما كان مستر أمرسن يترك مكتبه في كنكورد يوم السبت؛ لكي يتوجه إلى مكتبة أثينيم، ويزورَ أصدقاءه أو يقابل ناشريه بشأن العمل، والأرجح أن يتوقف عند «مكتبة الركن» عند مُلتقى شارع واشنطن بشارع المدرسة.» وقبل إنشاء النادي بستِّ سنوات كان أمرسن يبحث مع أصدقائه مشروعَ إنشاء نادٍ؛ حيث يستطيع العلماء المنعزِلون والشعراءُ والطبيعيون — كأولئك الذين كانوا في كنكورد — أن يَجدوا صُحبة ملائمة حينما يأتون إلى المدينة، وقد انتهى الأمر في الواقع إلى إنشاء نادِيَين في وقتٍ واحد تقريبًا؛ أحدهما نادي المجلة، الذي تولَّدَت عنه في عام ١٨٥٧م مجلةُ أطلنطيق الشهرية، ثم نادي السبت الذي حلَّ محله تدريجًا، أو ابتلعه ابتلاعًا، ومن بين أعضائه الأوائل أمرسن وهوثورن ولنجفلو ولول وهولمز وموتلي ودانا وهويتير وبرسكت وجاسز وباركمان. وكان يقدم الغداءَ فيه — ولا يزال — في السبت الأخير من كلِّ شهر من سبتمبر إلى يونيو، مع بذلِ المحاولة في كل يونيو لحضور حفلات توزيع الدرجات العلمية بهارفارد. وفي تلك الأيام الباسلة من القرن التاسعَ عشر كان الأعضاء يَجلسون من الساعة الثالثة حتى التاسعة، في بيت باركر، في حجرة أماميَّة فسيحة حيث تُطِل النوافذ الطويلة على تمثال دكتور فرانكلن البرونزي — وكان يصلح أن يكون عضوًا له قيمته! — في حقول ستي هول الخضراء، ويلتقي الأعضاء الآن في نادي الاتحاد بشارع بارك، على مرمى حجَر تقريبًا من ذلكما المعلِّمَين الأوَّلَين — أثينيم ومكتبة الركن القديم التي انتقلَت الآن إلى شارع بريفلد — وهذه الحقائقُ والمقتبَسات مأخوذة من العدد الأوَّل من مجلَّدَين ضخمَين عن تاريخه، بعنوان: السنوات الأولى من نادي السبت، تأليف إدوارد والدو أمرسن.)

•••

كان موعد الغداء في الساعة الواحدة والنصف، وطلبتُ من العربة أن تكون بفندق أمباسادور في كمبردج في الساعة الثانيةَ عشرة والنصف، وكانت هناك في الموعد المضروب تمامًا، ولكنها غيرُ العربة التي اخترناها.

وتبين لنا السببُ في ذلك فيما بعد، كانت هذه العربة مَعيبة قليلًا؛ المقبض مخلوع من الباب من جانب الدخول، وكانت منجَّدة بلون أَرْجواني ملكي، وكانت تَفوح بروائح مختلفة، بما فيها رائحة الخيول، ولكني لم أتبيَّن منها أثرًا لرائحة أكاليل الموتى، ورَكِبنا.

لم تكن سيَّارة، المقاعد مغطَّاة بالوسادات، ولكنها برغم ذلك جامدة، والمساحة التي تتحرك فيها الركب ليست فسيحة، وعجلات المطَّاط الجامدة التي تكسو الإطارات الخشبية لا تُخفِّف كثيرًا من هِزَّات الكتل المرصوفة (وكان ذلك كله يُعَد من أسباب التَّرَف)، ولكن النوافذ كانت مفتوحة، وكان اليوم من أيام يونيو الصافية تهب فيه نسماتٌ نقية، وتتوهَّج فيه أشعة الشمس، وأقصر الطرق إلى شارع بارك كان يمر بكمبردج من خلال حي المصانع، وفوق قنطرة لنجفلو.

وكان منظرنا يَسترعي الانتباه؛ كان وليام هِل — سائق العربة — يَلبس قبعة من الحرير سوداءَ عالية، ليست جديدةً كما كانت من قبل، وسُتْرة زرقاء، ليست جديدة كذلك، ذات أزرار نُحاسية، وبدَت الدهشة على وجوه المشاة، وأعتقد أنهم ظنوا هذا المنظر في أول الأمر حركة بهلوانية للإعلان، وأخذوا يبحثون عن اللافتة، فلما لم يجدوها طرأَت لهم فكرةٌ أخرى، وهي أننا ربما كُنَّا طالِبين في حالة من حالات المرح، وتطلَّعوا داخل العربة لِيَروا مَن فيها. فوجَدوا أن راكِبيها لا يتفقون وما تصوَّروا، وفغَر الناسُ أفواههم، وانفجر بعضهم بالضحك، ولما انحدرت العرَبة خلال حي المصانع، صاح صغار الأطفال الذين يلعبون في الطرقات بعبارات السخرية، لا تُزعج نفوسَهم نوازعُ الضمير، ومن حينٍ إلى آخر كنَّا نمر بسائق سيارة أخرى، فنراه يُطل برأسه ويُلقي على سائقِنا نكتة، مثل: «تقدَّم ولا تخشَ شيئًا يا جدي!»

كل هذا لم يَزِد على أن يكون صورةً لاشعورية لازمَت الموضوع الذي طُرِح للمناقشة.

قال هوايتهد: «نحن في دَور الانحلال من تلك الفترة التاريخية التي أؤرِّخها على وجه التقريب من حوالي عام ١٤٥٠ بعد الميلاد، والتي بدورها تُعتبَر بدايةً لنهاية العصور الوُسطى، وأشك إن كان أحدٌ في القرن الثالثَ عشر يدرك ما كان قد بدأ بالفعل يَحدث.»

وسألت: «هل مِن الممكن عادةً للناس أن يُدرِكوا حقيقة الانهيار الاجتماعي الكبير، حتى يَحلَّ بهم؟»

وأجاب: «إن والدي يوضح ذلك؛ وُلد في عام ١٨٢٧م، وعاش حتى عام ١٨٩٨م، فامتدَّ عمره واحدًا وسبعين عامًا، وقد شاهدَ الثورة الصناعية الأولى — وعدَّها أمرًا طبيعيًّا — وهي الثورة التي بدأَت في أواخر القرن الثامن عشر، وكان مِن مظاهرها الآلة البخارية، ونظام المصانع وما إلى ذلك، ولكنه لم يتخيَّل ولو في صورة باهتة الثورةَ الثانية، وهي أعظمُ من الأولى، الثورة التي أحدثَتها التكنولوجيا؛ كان قسيسًا، وكان العالم الذي يعيش فيه يبدو آمنًا ثابتًا، بالرغم من أنه كان في نهايته تقريبًا في سنة وفاته … ولما كانت إنجلترا أول ما تصنع فقد أثر ذلك في تاريخنا بطريقة عجيبة عكسية؛ فبدلًا من أن نتحرَّر في عهد الثورة الفرنسية، أصبحَت حكومتُنا محافِظة، وقاوَمْنا آراء القرنِ الثامنَ عشر التقدميةَ، بدلًا من أن نرحب بها.»

وقلت: إن في عصور التغير السريع، يتوقف كثير، وكثير جدًّا، على نوع الشخصيات التي ترتفع إلى مَراكز الحكم.

وقال هوايتهد: «من الأسف الشديد أن أرازمس لم يكن شخصيةً أقوى مما كان؛ كانت آراؤه صائبة، كان مِن الممكن أن تمد العالمَ بحلول لتقدم العالم المسيحي أوفقَ من الحل الذي انتهى إليه الأمر، ولكنه كان يَفتقر إلى القوة، وآلى الأمر إلى أيدي لوثر وكالفن، اللَّذَين وقَعا في أخطاء جسيمة، كانت نظرة أرازمس هي نظرة الأفراد العاقلين المستنيرين، ولو أنَّ مَن قام بتطبيقها كان زعيمًا قادرًا لما كانت هناك حاجةٌ إلى أجنيشس ليولا أو «مجلس الدين». لقد ارتكَب كالفن ولوثر خطأً فاحشًا بِنَبذِهما كلَّ جاذبية للكنيسة من الناحية الجمالية، وهي أحد عناصرها الطبيعية، وأنت تعلم مقدارَ جفاف الصلوات البروتستانتية؛ قليلٌ فيها ما يُغذِّي العاطفة، وهي لا تَلجأ إلى الجمال إلا قليلًا، أو لا تلجأ البتة إليه.»

– «وقد يَشوقك أن تعرف أن صديقنا لفنجستون، بعدما أتمَّ قراءة سيرة لوثر التي كُتِبت منذ عهد قريب، كتب إليَّ يقول: إن لوثر بدا له وكأنه «هتلر آخر غيرُ عفِّ اللسان».»

قال هوايتهد: «إن لفنجستون رجل أقدِّر رأيه في مثل هذه الأمور أكثرَ من أي شخص آخر؛ إن مَن كان مطلوبًا في عصر الانتقال ذاك رجلٌ يُعمِّم الآراء القديمة ويُوجِّهها توجيهًا حرًّا، أو يفسِّرها تفسيرًا رمزيًّا يمكن أن يجعلها مقبولةً للناس الذين يتطلَّعون إلى المستقبل؛ ذلك ما فعله شعراءُ المأساة العظام أيسكلس وسوفوكليز ويوربديز، ثم ما فعله فيما بعدُ الفلاسفة، وبخاصة أفلاطون؛ ذلك ما فعله هؤلاء بديانة أولمب الإغريقية القديمة في القرن الخامس ق.م استطاعوا أن يتَناولوا الآلهة القدامى؛ زيوس وأبولو وبالاس أثينا وغيرَهم، وأن يُخفِّفوا من بربرية العقائد القديمة، ويُنقِذوها، ويُحوِّلوا الأساطير البدائية إلى رمزية، ويَبْنوا قنطرة بين ما كان الناسُ يعتقدون فيه سابقًا — ولم يَستطيعوا بعد الإيمان به — وبين الآراء التي يُمكِن أن يقبَلها القوم المتمدِّنون، استطاعوا أن يَبنوا هذه القنطرة بسَوْقهم الناسَ معهم في مجتمَعات شعبية ضخمة، تشهد أداء مسرحياتهم أمام الجمهور.»

وعلَّقتُ على ذلك بقولي: «يُقال: إن الأسطورة هي الصيغة التي يَنقُل الناس بها الحقائق التي يُحِسُّونها إحساسًا عميقًا، قبل أن تبلغ مرحلة الآراء العامة، وكانت لكُتَّاب المسرحية الأثينيين هؤلاء — باستخدامهم موضوعاتٍ أسطوريةً لمسرحياتهم — مَيزةٌ كبرى؛ لأنهم يناشدون فى وقت واحد العقلَ والعاطفة، يُناشدون المواطنين العاديين كما يناشدون المتعلمين؛ مما أدى إلى أن تتمكَّن المجموعتان من زيادة الانسجام فى الشعور والعمل.»

وقال هوايتهد: «إن أية طريقة من طرق التفكير تقوم على أرضنا هذه محدودةٌ جدًّا فى تصوراتها — سواءٌ أكان ذلك فى الدين أم فى الفلسفة — وقد كانت أكثرُ الطرق كذلك فعلًا. إننا نعلم الآن أنَّ أرضنا كوكبٌ تافه يدور حول شمس ثانوية في جزء من الكون ليس كبيرَ الأهمية. وأثرُ هذه المعرفة عند خيار الناس وهم يتَبادلون الحديث كما أتبادله معك — على فرض أننا من خيار الناس (وقال ذلك وهو يبتسم) — ينبَغي أن يكون أعظمَ من ذلك بدرجة لا تُحَد، ولست أرى سببًا يدعو إلى الظن بأن الهواء المحيط بنا والسماواتِ التي تَعْلونا قد لا تكون مسكونةً بأصحاب عقول، أو بذاتيَّات، أو صورٍ من الحياة، لا نَفهمها كما لا تفهمنا الحشرات.

إن الفارق — حجمًا — بين الحشرات وبيننا لا يُقاس إلى الفارق بيننا وبين الأجسام السماوية — ومن يدري؟ — ربما كانت السدم ذاتياتٍ حسَّاسة، وما نستطيع رؤيتَه منها هو أجسامها، وليس ذلك أبعدَ عن المعقول من أنه ربما كانت هناك حشراتٌ لها عقول حادة، وإن تكن نظرتُها أضيقَ أفقًا من نظرتنا (وهنا ابتسمَ مرة أخرى). أقصد أننا جزءٌ من سلسلة لا متناهية، وما دامت السلسلةُ لامتناهية، فيجدر بنا أن نضَع هذه الحقيقة في اعتبارنا، وأن نُقِر في أذهاننا هذه الإمكانياتِ التي لا تنتهي.»

– «كانت لديك في شبابك مَيزةُ الاستماع إلى ما كان يدور الحديثُ فيه في حجرة الجلوس العامة في ترنتي، والمساهمة فيه.»

قال هوايتهد: «وأضف إلى ذلك كنجز.»

– «كنجز وترنتي إذن! وقد دام ذلك خلال العقدين الثالثِ والرابع من عمرك، وكان أولئك الناسُ من غير شكٍّ من الطراز الأوَّل، وكان من بينهم كثيرٌ من رجال العلم، كما كان من بينهم كثيرٌ من أساتذة العلوم الإنسانية، وقد حدث ذلك كلُّه ما بين عام ١٨٨٠م و١٩٩٠م، في الفترة السابقة مباشرةً لتلك التغيُّرات الاجتماعية والتكنولوجية الكبرى التي انقضَّت علينا، ويبدو لي أنه لو كان بالإمكان التنبُّؤ، لاستطاع هؤلاء أن يتوقَّعوا حدوثَ أمر ما. فماذا كان مقدارُ توقُّعِهم فيما تظن؟»

– «كان كبيرًا بالتأكيد في الناحية العلمية؛ ذهبتُ إلى كمبردج في عام ١٨٨٠م، وكنتُ رياضيًّا ممتازًا بالنسبة إلى فتًى في التاسعةَ عشْرة من عمره، وكان مُعلِّمي تلميذًا لكلارك ماكسويل، الذي مات قبل ذلك بنحوِ عام، وهو أيضًا كان مُبرَّزًا، وكانت آراءُ نيوتن لا تزال في تمام قوتها، وقد عمل كلارك ماكسويل على التوفيق بينها وبين المستكشَفات الحديثة آنَذاك في الكهرباء، أمَّا في الطبيعة الرياضية فيَبدو أن الجهد فيها كاد ينتهي، واتجهَت المحاولةُ نحو شرح بعضِ ما تبقَّى من مفارَقات بين ما كان مفهومًا وما لم يكن؛ وذلك بطريق التفسير الرياضي. وفي محاولةِ ذلك انقلب كلُّ شيء رأسًا على عقب، وكان الناس في ترنتي بين عام ١٨٨٥م وعام ١٨٩٥م تقريبًا — وبعضُهم من العباقرة — يَعرفون على وجه العموم ما سوف يأتي في سبيل التقدم العلمي، أمَّا ما لم يستطيعوا بطبيعة الحال أن يتنبَّئوا به فهو ما سوف يترتب على الحِيَل الفنية الجديدة من الناحية الاجتماعية؛ ليست هناك فكرةٌ واحدة في طبيعيَّات نيوتن — مما كان يَعلم كحقيقةٍ كُلية — لم يَحلَّ محلها غيرُها. إن آراء نيوتن لا تَزال نافعة، كما كانت في أي وقت سبق، ولكنها لم تَعُد صادقة بمعنى الصدق الذي تعلمتُ أنها تُمثِّله، وقد أثَّرت هذه التجرِبة في تفكيري أثرًا عميقًا؛ لقد ظن الناسُ أنهم على يقين، بل وعلى يقين مِن أصلَبِ شيء في الكون على ما يبدو، ثم رأَوا أن هذا اليقين قد تحوَّل على أيديهم إلى لانهايات لا يتصورها العقل، فأثر ذلك بالنسبة إليَّ في كل شيء آخر في الكون.»

وقد عبَرَت العرَبة قنطرة لنجفلو، وأخذَت تتَّجه نحو شارع كمبردج بدلًا من شارع شارلز.

فأطلَّ هوايتهد وسأل: «في أي طريق تَعتقدون أنه يسير؟»

قلتُ: «هذه هي الطرقات شديدةُ الانحدار التي تقَع خلف بيكن هل، إنه لا يستطيع أن يصعد في أيِّ واحد منها، أعتقد أنه بحَث مع رئيسه الطريقَ الذي يسلكه، واختار أيسرَ الطرق للحِصان.»

فقال هوايتهد: «إن الحصان يترنَّح كثيرًا من جانب إلى آخر، والظاهر أنه لم يعتَدْ جرَّ العربات، وأعتقد أنه يَصلح أن يكون مُسرَّجًا، إن فكرته في تيسير الأمور على نفسه هي — فيما يَظهر — أن يحاول السير في كلِّ شارع جانبي.»

(وكانت تلك ملاحظةً تَنِم عن ذكاء؛ ففي نهاية الرحلة اعترَف لي وليام هل أنَّه لم يَمتلك هذا الحصانَ إلا منذ يوم الإثنين السابق.)

وانطلق خلال ميدان سكولاي، وعلى امتداد شارع ترمنت إلى جوار مخزن الحبوب، ومَدافن كنيسة كنجز إلى زاوية شارع بارك، متجنبًا بذلك كل التِّلال حتى المائة الياردة الأخيرة من الطريق، حيث أولُ انحدار بشارع بارك حتى مقر الحكومة، وهنا أيضًا اجتذب الانتباهَ الشديد منظرُ عربة يجرها حصان تقف عند نادي الاتحاد، ومما زاد في اجتذاب الانتباه أن العربة كانت تسير في الطريق الضيق الذي يقع بين النادي وعمارة تِكْنُر، ثم توقفت فجأة بين الرصيفَين، وقد اعترضَت سيارة نهاية الطريق المسدود من الداخل. وطلَب إليَّ سائقُ العربة أن يَنزل الركابُ ليُحرِّكوها.

وخيرًا فعل، ودخَلنا الناديَ في الساعة الواحدة والدقيقة الخامسة والعشرين بعد الظهر، وسلَّمتُ رسالة السائق إلى الكاتب في مكتبه، ونظر إليَّ في دهشة وذهول، وأعدتُ الرسالة.

قلت: «إن الأستاذ هوايتهد قد أتى لِيَحضر غَداء نادي السبت في إحدى العربات ويقول السائق: إنه لا يستطيع أن يسير بالعربة فوق التل، وهو يريد أن يسير في طريقكم هذا، ولكنه مسدود بإحدى السيارات.» ونظَر إليَّ الكاتب وكأنه لم يفهَم شيئًا، قلت: «اخرج معي؛ لأُريَك.»

وخرج معي. ثم ضَحك مقهقِهًا، ولكنه حرَّك السيارة، وانطلق سائقُ العربة إلى الداخل، وقد لزم جانبَ الطريق، ملتمِسًا الظلَّ للحصان، ومبتعِدًا عن حركة المرور (نهاية النصف الأوَّل، وقد تقدَّمنا).

وليام فلبس، الذي شغَل منصب وكيل وزارة من عام ١٩٣٣م حتى عام ١٩٣٦م، كما كان سفيرًا في إيطاليا من عام ١٩٣٦م حتى عام ١٩٤١م، أحد أعضاء النادي، وكان حاضرًا، وقد عاد من وقت قريب جدًّا من مهمته في الهند كمُمثِّل شخصي للرئيس بلقب سفير، وبعد الغداء تحدث عن هذا الشأن بِناءً على طلب الحاضرين لمدة نصف ساعة تقريبًا ثم دعا إلى سؤاله، ولو استَثنينا بعضَ ما ذكَره عن لنلثجو نائب الملك وأوكنلك رئيس قوات الجيش وفيلد مارشال ويفل؛ فقد حرَص على ألَّا يَزيد في كلامه عما يُمكن أن يُذاع في مؤتمر صحفي، ولكنه أظهَر في جِلاء أن الولايات المتحدة تتَّصل بهذا الجزء من العالم اتصالًا لا يَسُر، وأن أعمال الحكومة البريطانية التعسفية تُكذِّب في آسيا مَزاعِمَنا كمُحرِّرين.

وفي الحديث الذي تلا ذلك وجَّه إليه السؤالَ هوايتهد والأستاذ هارلوشابلي، عالمُ الفلك بهارفارد، وبلس بري وجيروم هنسيكر، مهندس الملاحة الجوية، ورئيس القسم بالمعهد التِّكنولوجي بماساشوست، وكامرن فوربس، الذي كان حاكمًا عامًّا في الفلبِّين، وسفيرًا في اليابان، والذي تحدث كرجل له خبرته الخاصة كسياسي عَمِل في آسيا.

وكانت الحُجرة باردةً مريحة، بالرغم من أن جوَّ الظهيرة في الخارج كان شديدَ الحرارة، وهي طويلة، مرتفعةُ السقف، لها مِدْفأة مُزخرَفة في أحد طرَفَيها على طِراز أوائل القرن التاسعَ عشر؛ لأن البناء كان في الأصل منزلَ أبوَيْ لورنس لول بالمدينة، وقد ذكَر مرة أن هذه الحجرة كانت حجرةَ نومٍ لأمه. ويُطِل المكان على قمم الأشجار في الحقوق العامة التي أينعَت وأورقَت واشتدَّت خُضرتها بفعل الربيع المطير، وتعلو هذه الحقولَ سماءُ يونيو الزرقاء، مبْيضَّة من أثر ضوء الشمس القوي، ومليئة بالسحب الفِضِّية التي تجري سريعة تَدفعها الرياح الجنوبية الغربية. وقبل أن ننصرف طلب إليَّ إدوار فوريس سكرتير النادي أن أُلقي نظرة على دفتر الزيارات، ولم تكن أمامي سِوى لحظة واحدة؛ لأننا كُنَّا قد طلبنا عودةَ العربة في الساعة الثالثة وخمسَ عشْرةَ دقيقة، وهي الآن الثالثة والنصف تقريبًا. وفي هذه اللحظة التي توافرَت لي رأيتُ توقيعات فرانسسن باركمان ووليم جيمس وتوقيعَ جده وجدِّ أخيه كامرن، ر. و. أمرسن.

وخرج إدوارد بكمان وألفرد كِدَرْ؛ لكي يُلقِيا على العربة نظرة، وتذكَّرا السنوات التي قضَياها في الكلية، وقالا: إن الرواية لا تتم فصولًا إلا إذا تَناولوا قليلًا من الشراب، وإن السائق — لكي يَعيش وفقًا للتقاليد — ينبغي أن يَكون ثملًا، ولكنه لم يكن، غيرَ أنهما ابتهجا لما عرَفا أنه لم يكن من الممتنِعين عن الشراب.

ولما كان الوقت مساءَ السبت، والجوُّ لطيفًا، فقد كان الناس وزوجتُه وابنهما الصغير في المدينة يَسيرون على الأقدام فوق الأرصفة، وأكثرهم في شارع ترمنت، حيث كان علينا أداءُ رسالة منزلية عند س. س. بيرس: كان لا بد لنا من تَسلُّم ثلاث عُلب ثقيلة مصنوعة من الكرتون، طلَبْناها من قبلُ بالتليفون؛ لأن قلة تموين الغاز لا يُمكِّنهم من توصيل البقالة إلى كمبردج. ولما اقتربَت العربة من الرصيف الذي يقع أمام المحل التجاري، شقَّ على المشترين — وأكثرهم من السيدات — أن يَلزموا آداب السلوك. دهشن لأول نظرة، ثم ابتهَجْن، ثم تحيَّرْن، ثم حاولن أن يكتمن ضحكاتهن! واستطعن لأول وهلة بطبيعة الحال أن يُدرِكن أننا اضطُرِرنا إلى ذلك بسبب قلة تموين الغاز، ولكنهن لم يكنَّ على استعداد لأن يتقبَّلنَ التقاليد الملكية كلها التي سادت في القرن التاسع عشر بغيرِ تحوير.

وقال هوايتهد بعدما وضَعْنا بِضاعتنا في العربة؛ عُلبتَين إلى جوار رُكبتَيِ السائق، وعلبةً إلى جواره على المقعد: «أظن أننا لو أطلَلْنا برءوسنا من النوافذ وانحنَيْنا، استقبلَنا الناسُ بالهتاف.»

ولم يكن الأمر يختلف عن ذلك كثيرًا؛ فقد لفَت الملاحون — وهم في زيِّهم البحري — رءوسَهم صَوْبَنا، وابتسموا ساخِرين، ووقف الفِتْيان — وهم في زيهم العسكري — صامِتين في طريقهم تبدو عليهم الدهشة، كما وقف المشترون وأيديهم مليئة بالحُزَم، وتطلَّعوا إلينا في ذهول، مُحاوِلين أن يُكيِّفوا موقفنا من غير شك، ولما كُنَّا نكف عن المسير عند علامات المرور، كُنَّا نستمع في وضوح إلى ما يُبديه بعضُ المارة من ملاحظات، وكنَّا نستطيع أن نتلقَّى كثيرًا من نكات الجمهور السائرين فوق الرصيف لو أرَدْنا ذلك.

وأذكر فوق هذا كله روعةَ هذا اليوم من أيام شهر يونيو، ولا يَرى المرء كثيرًا من الخضرة — فيما خلا مخزن الحبوب وحقوق مدافن كنيسة كنجز — وهو في طريق العودة كما كنَّا، وقد لزمْنا نفسَ الطريق الذي أتينا به، خلال ميدان سكولاي إلى شارع كمبردج عبر قنطرة لنجفلو، ولكن العين تقع هنا وهناك على شجرة أو على رُقعة خضراء، مترعرِعة، كثيفة. وقمم الأشجار كلها تتمايل وتهتزُّ من فعل الرياح الجنوبية الغربية، والمدينة في رِداء يونيو، تحت سماء يونيو الزرقاء، بدَت جميلة على غير عادتها.

وكُنَّا نَثِب فوق الكتل الحجرية التي تَعترض شارعَ كمبردج، وكان هوايتهد يتحدث عن اختلاف المميِّزات العامة بين النساء الإنجليزيات والنساء الأمريكيات.

قال: «إن التشابه السائد بين تربية البنات والبنين في أمريكا يجعل النساءَ الأمريكياتِ جامداتٍ، والنظريةُ هنا هي أن تربية البنات مع البنين، ولعبَهنَّ معهم، واشتراكهن في ألعابهم، ومرافقتَهن لهم إلى المدرسة، بل وإلى الكلية أيضًا في كثير من الأحيان، ذلك كله يكسبهن قوةً في شخصياتهن. والواقع أن هذه التربية لا تَنجح النجاحَ الذي يتوقعه الإنسان، وأعتقد أن أنجحَ النساء — كنساءٍ — كُنَّ في القرن الثامن عشر (وأنا أتحدث بطبيعة الحال عن نساء الطبقة الممتازة)؛ فقد كان لهن مجالٌ أفسحُ لقدراتهن الفطرية التي يتميَّزن بها، وزوجتي سيدة من هذا الطراز؛ فقد نشأَت في أسرة على طِراز القرن الثامن عشر من الوجهة العمَلية من الأرستقراط، وخفف مِن حدة هذا الأثر الأرستقراطي اضطرارُها — كشابة لم يَكمل استعدادُها — إلى كسب قوتها، وقد فعلَت! أما إن أردتَ أن تعرف كيف كانت المرأةُ في القرن الثامن عشر فاقضِ مساءً مع زوجتي.»

قلت: «لقد قضيتُ معها أُمسيات كثيرة، فتكوَّنَت لديَّ نفس هذه الفكرة.»

وواصل حديثه قائلًا: «وأرجو ألا تفهَم أني أقول: إن نساءكم الأمريكياتِ لسْنَ على حيوية شديدة وذوات تأثير كبير؛ إنهن في كثير من الأمور أشدُّ تحررًا من نسائنا الإنجليزيات، ولكن من بين النساء العاملات — إذا حكَمْنا عليهن كطبقة — أولئك اللائي يَقُمن بعمل عام إلى جانب إدارة بيوتهن وأُسراتهن بجدارة وحسن تدبير — أعتقد أن لنسائنا الإنجليزيات مجالًا أوسعَ …» ولخَّص رأيه في اقتضاب قائلًا: «لو أني وُلِدتُ امرأة؛ لأردتُ أن أولد في أمريكا وأعيشَ هنا الثلاثين سنةً الأولى من حياتي، ثم في إنجلترا بعد ذلك، وأعتقد أن المرأة بهذه الطريقة تَحصل على خيرِ ما في العالَمَين.»

– «هل صَداقة أسرتكم مع خدمكم، التي لاحظتُ أنها عميقة خالصة، أمرٌ فردي أو أمر شائع؟»

قال: «بل إنه أمر شائع أكثر منه فرديًّا، وأستطيع أن أذكر لك السبب؛ إن العلاقة بين المخدوم والخادم بيننا أمرٌ لا نفكر فيه — وإنْ بدا ذلك عجيبًا — بطبيعة نظام الطبقات عندنا؛ لِما ترسَّب فيه من نظام الإقطاع. إن الصداقة بين أشخاصٍ من طبقات مختلفة أقربُ إلى الإمكان؛ لأنَّا لا نَحُط من شأن المرء الذي لا يَرتفع في طبقته؛ حيث إنَّا نُدرك أن الطبقة التي يولَد فيها المرء مسألةٌ تتعلق بحظه.»

وأمَّنتُ على هذا القول، ثم أضفتُ: «كان المفروض في هذه البلاد حتى عهدٍ قريب أن المرء إذا لم يَنجح في هذه الدنيا فإنما يَرجع ذلك إليه، ولا يزال في هذا شيء من الصدق حتى هذا الجيلِ الحاضر، وبخاصة في الغرب الأوسط حيث نشأت، وهذا أحدُ الفوارق الكبرى بين الجيل الماضي وهذا الجيل؛ كان عندنا أمان — أو نحسب أنه كان عندنا — أمَّا أبناء الجيل الحاليِّ فلم يَعرفوا الأمان قط، ولا يبدو أمامَهم لكي يتطلَّعوا إليه.»

وقال هوايتهد: «كان الخدم دائمًا أصدقائي، اعتَدتُ وأنا صبيٌّ في السادسة من عمري أن أقفز هنا وهناك متنقِّلًا مع البستاني وهو يؤدي عمله، وقد علَّمَني أسماءَ الأزهار والنباتات، واعتدتُ كذلك في صِباي أن أقضيَ الشهور متواصلةً في بيت جدتي لأمي، الذي يُطِل على جرين بارك في لندن، وكانت وصيفتُها جين وايكلو تقرأ لي دكنز بصوت مرتفع، وقد قرأَت لي «صحائف بكويك» كما قرأت «دافيد كبرفيلد»، وأكسبَتْهما عندي حياة قوية، وكانت أسرةُ أمي أرفعَ مكانة بدرجةٍ ما من أسرة أبي من الناحية الاجتماعية، بيْدَ أنه لم تكن لها ما لأسرة أبي من امتيازٍ عقلي، وكان أفرادُها شَديدي التنازع، فلما كان يدب بينهم خلاف — وكثيرًا ما كان يَحدث ذلك — كانوا في أغلب الأحيان يَرفعون أمرهم إلى جين وايكلو، وكانت تُسوِّي الأمر؛ كانت جين السمنت «المادَّة اللاصقة» الذي يضمُّ أفرادَ الأسرة بعضهم إلى بعض.»

قلت: «هل وقعَت من نفسك شخصياتُ دكنز موقعَ الصورة الهزْلية لأشخاصٍ أطوارُهم غريبة، وأنت تستمع إلى وصيفةِ جدتك تقرؤه عليك بصوتٍ مرتفع هناك وسط لندن؟»

«كلا، إن شخصيات دكنز هي الطبقات الفقيرة في لندن، وليست البتةَ صورًا هزْلية؛ إن هذه الفكرةَ تنشأ بطبيعة الحال بين القُراء الذين لا يَعرفون أهل لندن، أمَّا بالنسبة إلينا فإن مُتعة دكنز تَنحصر في أنه يصف أشخاصًا حقيقيِّين، عرَفْنا أشباههم. وأطوارُهم الغريبة من أخص مميزاتهم، ولست أعرِف مكانًا يُولِّد هذه الأطوارَ مثل لندن.»

– «كُنَّا نتحدث منذ بضعِ ليال عن روائيِّين استطاعوا ذلك، وغيرهم ممن لم يستطيعوه؛ ما رأيك في ثاكري؟»

– «إنه يرى أكثرَ مما ينبغي في طبقة ما، ولا يرى ما يَكفي في طبقة أخرى، إن محاولاته طَموحة، ولكنها ليست ناجحةً كل النجاح، وشخصيات ترولوب أقرب إلى الحقيقة من شخصياته، إني أعرفهم معرفة دقيقة؛ لأني عشتُ بين أمثال هؤلاء الناس بعينهم.»

– «كُنَّا نتحدث عن الخدم منذ لحظة، وكنتُ أريد أن أقول: إن المرء في الغرب الأوسط — في صباي — إذا لم يُصادِق «الفتاة المستأجرة» كما كانت تُسَمَّى الخادمة، وإذا لم تُجالس هذه الأسرة على مائدة الطعام، فكأنه لم يَحصل على واحدةٍ منهن!»

واستطرد هوايتهد قائلًا: «إن الإحساس بالمساواة بين الناس يَنشأ عن الآراء السائدة عن تهيؤ الفرص، إن القدراتِ البشريةَ تتنوع تنوعًا لا حصر له، وبعض الناس يتميزون بالنجاح في بيئة معينة، وبعضهم لا يتميز قط. وصورُ التآلف الممكِنة للقدرات البشرية سلسلة لا حصر لحَلْقاتها، وهي في ذلك كالبيئات الممكنة التي تَصلح لإظهار هذه القدرات. وتَلاؤم القدرة مع البيئة أمرٌ يتوقف على الحظِّ إلى حد كبير، ومن الخطأ الفاحش أن نَحسب — كما يحدث في كثير من الأحيان — أن القدرة الحقيقية تَنحصر في صور الاستعداد الذي يتَّفق عرَضًا أن تكون مطلوبةً في وقت معين ومكان معين، وفي الصور التي تؤدِّي إلى التقدم الاقتصادي كذلك. إن المواهب التي تتجاوب مع مثلِ هذه الفرصة قليلةٌ جديدة بالنسبة لمجموع القدرات البشرية.»

قلتُ: «لقد تحدثتَ أكثر من مرة عن عنصر الحظ، حتى في أكثرِ الحيَوات تحديدًا في مصيرها، فما رأيك في حياتك؟»

– «كانت هناك في كمبردج في شبابي وظيفتان شاغرتان، وكان ذلك مِن حسن حظي؛ إحداهما وظيفة الزميل، والأخرى وظيفة المحاضر، ولولا الوظيفةُ الثانية لكان مِن الأرجح أن أشتغل بالتدريس في مدرسة خاصة، وألا أتقدَّم أكثرَ من ذلك.»

وذكرت: «أن بعض الناس يتركون في نفسي انطباعًا بأنهم يَحملون بين جوانحِهم مِغناطيسًا يخلق لهم الفرص، ويبدو كأنه الحظ! ولا أعتقد أنه كذلك، وربما كنتَ واحدًا من هؤلاء.»

وقال مؤكدًا: «كلا، إنني لم أَخلق فُرصي بنفسي قط، ولقد نجحتُ إلى حد كبير، ولكن بعض هذا النجاح يعود إلى عنصر الحظ.»

– «لقد قمتَ بجانب كبير من العمل الإداري في ترنتي، ثم في جامعة لندن فيما بعد؛ مما جعلك تحيا حياة العمل جنبًا إلى جنب مع حياة الفكر … وقبل أن أضع سؤالي الرئيسي، اسمح لي أن أُوجِّه إليك سؤالًا عارضًا: ما رأيك في جامعة لندن؟»

وفي الإجابة عن هذا السؤال وصفَ في شيء من التفصيل وظائفَها، وبعض واجباته في عمل مجلس الجامعة، واختتم حديثه بابتسامة وهو يقول: «ولما كنتُ أحدَ أعضاء المجلس؛ فإنني أعتقد أننا أدَّينا عملًا رائعًا!»

– «ويؤدِّي بي ذلك إلى سؤالي الثاني: أيُّ الحياتين عمل على نُموِّك أكثر مِن الآخر؛ حياتُك كعالم، أو حياتك كإداري؟»

– «تعلمتُ مهنتي من الكتب بطبيعة الحال، بيْدَ أن العمل الإداري لم يكن أقلَّ أثرًا في تنميتي، بل إني في الواقع لأَميل إلى القول بأنه كان أشدَّ أثرًا، ولولا مقابلاتي المستمرَّة ومعاملاتي وحديثي مع الناس لانحصرتُ في زوايا العالمِ الباحث. إنني قويُّ الإيمان بالمحادثة، وأعتقد أني حصَلتُ على الجانب الأكبر من نمو شخصيتي من الحديث الجيد الذي أسعفَني الحظ دائمًا بالحصول عليه، وذلك فيما يَخرج عن نطاق معرفة الكتاب الضرورية لتدريبنا المهني.»

– «يصح ذلك في ترنتي، وفي لندن فيما بعد. ولكن هَب أنك قضيتَ تلك السنوات في مكتب صحيفةٍ من الصحف …»

قال: «أنت أيضًا أُتيحَت لك فرصةٌ عظيمة من الأحاديث التي جرَت في مكتبك.»

– «حقًّا إن الحديث في مجلة «جلوب» يَفضُل كثيرًا ما يَتصوَّر أكثرُ رجال العلم، والواقع أني أعترف أنه أعلى قدرًا مما أستطيع أن أحصل عليه في كثير من المجتمَعات العلمية؛ إن رجال العلم لا يُقابِلون من صنوف الحياة بقدر ما نقابل. ومن ناحية أخرى، نجد أن رجال الصِّحافة يحيَوْن حياة عمل، إنهم لا يَعيشون عيشة التأمُّل؛ لأننا حتى بعد أن نعود من الطريق حيث نلتقط الأخبار، ثم نكتب كما أفعل، لا بد أن نكون قادِرين على الأقل أن نُدوِّن شيئًا عن موضوعات الساعة، وأن نرويَه مع تقدير مسئوليته؛ حتى لا تُقذَف نوافذ مكاتبنا بالطوب في صبيحة اليوم التالي.»

وقال هوايتهد: «إنني أسمِّي هذه الحياة حياةً عمَلية، كما أسميها حياةً فكرية. أمَّا عن حياتي — وأنا أستعيد ذِكراها الآن — فترجع إلى أيام الدراسة؛ كنتُ زعيمًا في الألعاب، وكنتُ أجيد لعب كرة القدم، كما ألعب الكرِكِت بدرجة مقبولة، وإن كنتَ قد لا تتخيَّل ذلك الآن. كان بمدرسة شربورن أربعمائة طالبٍ تقريبًا، تسعون منهم داخليون، وكنتُ رئيسَ الطلبة وزعيمَ الفِرَق الرياضية، فكان عليَّ من أجل هذا أن أحفظ النظام في الداخلية، ومن ثَم فقد تدربتُ طوال حياتي كلها على إدارة الأمور … أعتقد أننا أوشَكْنا على الانتهاء من رحلة العودة.» وكان يُطِل من نافذة العربة، حيث كان المشاةُ على الجانبَين — وقد ازداد عددهم مرة أخرى ونحن ننطلق في الشوارع السكَنية في كمبردج — كانوا يتطلَّعون إلى إعداد العرَبة بدهشة، ثم يَثوبون إلى أنفسهم في الوقت الملائم، فيَكتمون الضحك.

وقطعنا الرحلة عائدين في خمسٍ وأربعين دقيقة، وقد نقلَنا وليام هل ذَهابًا وإيابًا دون حادثة، اللهم إلا إذا حسبتَ الرحلة حادثةً واحدة متصلة! وفي المسكن في الطابق العلوي كان إدوار بكمان في الانتظار؛ لينقُلَهما إلى مزارع ددلي في بدفورد، وكانت مسز هوايتهد أنيقةَ الملبس، ترتدي القبعة، وتلبس القُفاز؛ استعدادًا للرحلة. وسألَتْنا: كيف كانت رحلتنا في العربة؟

وقال هوايتهد: «ذهبنا وجئنا في جوٍّ من انتباه الجمهور الشديد.»

قالت: «تقصد سخرية الجمهور؟»

وأجاب في شيء من المجاملة: «كلا، بل أقول: «بسمات» الجمهور.»

وقلت: «إن الرحلة كانت أقلَّ إتعابًا وأكثرَ سرعة مما توقعت.»

ولم يعلق هوايتهد على جانب التعب. أمَّا عن جانب السرعة فقال في لطف: «لقد قضيتُ يومًا ممتعًا بعد الظهر، ولكني لا أجد بينه وبين السرعة صِلة!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤