المحاورة السادسة والثلاثون

١٩ من يناير ١٩٤٥م

منَح جورج السادس وسام الاستحقاق لهوايتهد في رأس السنة، وقد وضَع أساس هذا الوسام إدوارد السابع عند تتويجه، ويتحدَّد عددُ حامليه من الأعضاء البريطانيين بأربعة وعشرين. وقد كتبتُ عنه في مجلة جلوب تحت عنوان «الفيلسوف والملك»، واختتمتُ مقالي بهذه العبارة: إنَّ من بين أسباب العلاج من شرور هذه الدنيا عند أفلاطون أن يُصبح الفلاسفة ملوكًا. وذلك من فكاهات أفلاطون الصغيرة؛ فالفلاسفة ملوك بالفعل؛ لأن الملوك يحكمون في العالم المادِّي وحده، أمَّا الفلاسفة فيَخلقون ذلك الذي تُخلَق منه العوالم! وقد كرَّم هذا الملكُ نفسَه حينما كرم فيلسوفًا.

وحيَّاني هوايتهد وهو يَخرج من مكتبه بقوله: «لقد ربَّتَ كتفي، ويُخيَّل لي أن للفنجستون يدًا في مَنحي هذا الوسام.»

– «هناك آخرون كثيرون في إنجلترا يُهِمهم ذلك إلى جانب لفنجستون.» (في عيد القيامة في عام ١٩٤٧م بأكسفورد أخبرني سر دافيد روسي — وكان حينئذٍ مُحافظًا لأوريل، كما كان من قبلُ نائب مدير — أنه قد اقترَح منح هذا الوسام لهوايتهد من قبل، ومن الجائز أن يكون كِلاهما قد تقدم بالاقتراح.)

واستطرَد هوايتهد في حديثه قائلًا: «أعتقد أنَّ لفنجستون اليوم رجل عظيم الأهمية، إن وظيفة نائب مدير أكسفورد تبدو كأنها في المحل الثاني، ولكنها في الواقع في المحل الأوَّل؛ إن المدير كالملك، أمَّا نائب المدير فهو رئيس الوزراء.»

– «إنه يَكتب لي كتابة شائقة عن مُشكِلاته الإدارية، ويقول: إن وظيفته — ككلِّ عمل إداري — تنحصر في دفع الحوادث له، وهو يحاول أن يجد حلولًا مباشرةً للمشكِلات المباشرة، والصعوبة في أن يَبقى المرء من وراء اضطرار الضرورات مُدرِكًا لأمر غائي، وأن يتجنب إغفالَ المستقبل، وهو يقول: إن الإدارة تجعله يُدرك إلى أي حد كبير يعيش الناسُ في الحاضر المباشر، وإلى أي حدٍّ ضئيل تَدخل في عقولهم أيةُ فكرة عن الأهداف البعيدة.»

– «هذه آراء غير عادية بالنسبة لرجل إداري؛ ولذلك ينبغي أن يقوم بالعمل الإداري رجالٌ من أمثال لفنجستون.»

قلت: «بهذه المناسبة أذكر لك أني عرَفتُ أن تكريمك في رأس السنة أكسبك نجاحًا عظيمًا في البدروم.» (البدروم هو ردعة الفندق، الذي يقع تحت مستوى سطح الشارع بقليل.)

وقالت مسز هوايتهد: «وأصدقُ مِن ذلك ما ذكَره لي مدير الفندق؛ إذ قال: «قرأ لي النبأَ هذا الصباح قبل مطلع الشمس حارسُ الليل»، وكلفَني في شمَم أن أُبلغ مستر هوايتهد ما يلي: «قل له: إنه يستحق كل جزء منه!» ولما نزلتُ إلى لوحة الأخبار في الساعة العاشرة، ألفيتُ صاحبة اللوحة تقرأ النبأ بصوت مرتفِع لمجموعة من النازلين معنا في الفندق المعجَبين به. ولما كانت تَعرف أنني لا أستطيع الرؤية حتى أقرأ، فقد تطوَّعَت أن تقرأ لي النبأ بصوت مرتفع، وذكرتُ لها أني على عجل؛ ولذا فقد باعتَنْي نسختها الأخيرة. ولما خرج ألفرد للنزعة بعد ظهر ذلك اليوم، حدَّثه بائعُ الصحف عن الخبر، وقال: ثم إن الخبر مقروءًا خيرٌ منه مسموعًا! وقد عرَف بائع الصحف الخبر؛ لأنه يهودي.»

قلت: «لقد كانوا خيرَ المستمِعين إليَّ لمدة ثلاثين عامًا؛ إنني والعبرية عاشقان من زمان بعيد، قد نختلف متحابَّيْن، ولكني أعرف أصدقائي حين أراهم.»

وقال هوايتهد: «من عجبٍ أن الفكر العبري هو الذي اتجَه شمالًا بين الأوروبيين بدلًا من الفكر الهليني.»

قالت: «كُنَّا برابرة، وكان الفكر العبري يمثل شيئًا خيرًا مما كُنَّا نملك.»

فقال هوايتهد: «المسيحية هي الصورة التي انتقلَت فيها عقلية الإسكندرية شمالًا في أوروبا، وأكثرُ ما لا نُحب من معانيها ومن نتائجها يَصدُر عن لونها الشرقي؛ ما فيها من زهد، وصفتها الاستبدادية، ويقينيتها الجامدة. ولكن لولا الإسكندرية ما انتقل إلينا الفكرُ الهليني بتاتًا؛ إن الإسكندرية نظمَت هذا الفكر، وبتنظيمه فقدَ كثيرًا من قوته، بيدَ أنه كان بحاجة إلى قدر من التنظيم لكي يبقى؛ لأنه في صيغته المجردة مائعٌ زائل. لقد أعطتنا الإسكندرية المفاتيحَ التي استطَعْنا بها أن نستردَّ معناه الحقيقي بعد قرون. ولكن التنظيم غريب تمامًا — لا أقول عن أرسطو — ولكن عن أفلاطون بالتأكيد. في «القوانين»، وهو ما ألَّفَه في شيخوخته، عناصرُ من اليقينية حقًّا؛ إنه يقول: إن أنواعًا معينة من الناس لا يمكن أن تحتمل، ولكنه فيما ألَّف في شبابه كان حريصًا؛ إذ إنه يقول في أحد خطاباته: إنه لا يقدم لنا «نظامًا» للفلسفة الأفلاطونية؛ ليس هناك «نظام» كما يقول، ولكن الباحثين الكلاسيكيِّين الألمان أجهَدوا أنفسهم كثيرًا — برغم هذا — في القرن الخامسَ عشر لبناء نظام أفلاطوني للفلسفة! «ماذا كان يعني أفلاطون على وجه الدقة؟» لقد كان شديدَ الاهتمام بألا يَعنيَ شيئًا على وجه الدقة! لقد أعطى كلَّ جانب من جوانب أي موضوع ما يَستحق، وكثيرًا ما قمتُ بمثل ما قام به، وقدمتُ وجهًا حسبت أنه يستحق الالتفات إليه، ثم أجدُني في مؤلَّف بعد ذلك أُقدِّم ما يُناقضه! ومن ثَم فإني أُتهَم بالتناقض وعدم الثبوت على رأي.»

– «هل أستطيع أن أعلل ذلك؟ إن ما تراه من أن جميع الحقائق هي بالضرورة أنصافُ حقائق؛ إن هذا الرأي قد استغرَق مني شهورًا، بل سنواتٍ؛ لكي أُدركه تمامًا. أجل، لقد سمعتُ كلماتك لأول مرة، ووعَيتُها في ذاكرتي، ثم دوَّنتُها، وتدبرتُ معناها. بيدَ أن إدراك ما تَعنيه الفكرة لا يتَّضح إلا تدريجًا؛ لكي يصبح فعالًا في تفكير المرء اللاشعوري، والآن أدرك أن أبسن كانت لديه حتمًا نفسُ هذه الفكرة؛ فقد كان يكتب في فترة مسرحياته الاجتماعية — منذ «أعمدة المجتمع» تقريبًا حتى النهاية — مسرحية، كما فعل في «الأشباح» لكي يَعرِض جانبًا من جوانب قضية من القضايا، ثم يكتب أخرى، كما فعل في «البطة المتوحِّشة» لكي يعرض الجانب الآخر، وأعتقد أن مسرحياته الأخيرة تسير إلى حدٍّ كبير في مثل هذه الثنائية … ولكن لماذا كان الفكرُ العبري هو الذي انتقل شمالًا في أوروبا ولم ينتقل الفكر الهليني؟»

– «من خصائص الفكر الهليني أن يتلوَّن بلون القوم الذين يَستقبِلونه؛ فهو في الإسكندرية إسكندري، وفي روما روماني.»

قلت: «ولكنه لم يكن في كِلَيهما هلينيًّا حقًّا.»

– «كلا. ولكنهما نقَلا منه إلينا ما يَكفي حتى استطعنا أن نجد شكله الحقيقي لأنفسنا؛ أمدَّتْنا الإسكندرية بالهيكل العقلي للديانة المسيحية، وأعتقد أن الرجل الذي شوَّه تعاليم المسيح وقلَبها أكثرَ مما فعل غيرُه هو بولس، وإني لأعجب ما كان يظن به الحَواريُّون الآخَرون، إذا كانوا قد وضَعوه موضع التقدير! الراجح أنهم لم يَفهموا ما كان يرمي إليه، وأشك أنه هو نفسه كان يَفهم ما يرمي إليه! ومن المستحيل أن نتخيَّل شيئًا أشد بُعدًا عن المسيح من الديانة المسيحية! والمسيح ربما يعجز عن فَهم هذه الديانة.»

– «هل تظن أن الفكر اليوناني في العصر الذهبي كان مِن الممكن أن يَظهر في الوجود بغير تلك الأداة التي لا تُبارَى — أداة الفكر — وأعني اللغة اليونانية؟»

قال هوايتهد: «إن العبقرية الفطرية التي ولَّدَت الفكر هي بعينها التي ولدَت اللغة.»

قلت: «إن دقة اللغة اليونانية، ومُرونتها، وقدرتها على التعبير عن ظلال المعاني بدِقة تامة، وجمالِ جَرسها المجرد وعظَمة مواردِها، وبساطتها في كل هذا؛ ذلك كله مصدرٌ للدهشة لا ينضب.»

قال: «ما كان أسعدَنا حظًّا لو أصبحَت اليونانية لغة أوروبا بدلًا من اللاتينية.»

– «لو كان ذلك لتخلَّصْنا من كثير من أسباب الخلط في المعاني، لسبب واحد؛ لأن العبارة اليونانية تَعني عادةً بالضبط ما تقول، ولا تَعني شيئًا آخر. منذ ما حذَفنا من مناهجنا الدراسية التدريبَ على اللغات الكلاسيكية، كانت النتائجُ فاضحة في إنتاج الكُتَّاب المعاصرين؛ لقد كنَّا نتعلَّم قواعد الإنجليزية باللاتينية واليونانية، فإذا كان التركيب الإنجليزي مطابقًا لقواعد اليونانية واللاتينية، كان عادةً في إنجليزية جيدة، ولكنَّ كثيرًا ممن يكتبون الإنجليزية اليوم يكادون يكونون أشباه أُميِّين.»

فقال هوايتهد: «إني لم أتعلم القواعد الإنجليزية بتاتًا؛ لقد علمَني أبي — وكان مدرِّسًا قبل أن يكون قسيسًا — في المنزل حتى بلَغتُ الرابعة عشرة، ولم يرسلني إلى مدرسة حتى هذه السن؛ لأني كنت ضعيف البِنْية في طفولتي، وقد علَّمَني قواعد اليونانية من قواعد اللاتينية؛ كانت كلها مكتوبة باللاتينية، وتعلمتُ وحفظت القواعد اليونانية باللاتينية، فلم أتعلم القواعد اليونانية منفصِلة بتاتًا، ومع ذلك فأنا أقرأ اليونانية بالسهولة التي أقرأ بها الإنجليزية.»

– «من نتائج إلغاء الكلاسيكيات (الدراسات القديمة) أن أصبحَت الروايات الإنجليزية «تُعلَّم» في مدارسنا الثانوية، وإني أُقدر كلَّ التقدير أولئك الرجال الذين يعلمونها لأنهم معلمون قادرون مخلصون، ولكني أعجب من فكرة تعليم الإنجليزية!»

وقال هوايتهد: «كنَّا نقرأ الروايات في طفولتي، ولكنا كنَّا نقرؤها للتفكُّه.»

– «وكذلك كنَّا في جيلنا، ولم يَطرأ لنا قطُّ أن نَدرُسها، قل لي متى بدأتَ تقرأ الروايات؟»

– «بدأتُ قراءتها ببكويك، وكنتُ عندئذٍ في السادسة، أجلس على مقعد منخفِض إلى جوار الموقد عند قدمَي وصيفة جدَّتي، جين وايكلو … وكانت جدتي سيدةً ثرية، ولكنها أخطأَت إذ أنجبَت ثلاثة عشر طفلًا، وحينما تُقسَم الثروة — مهما تضخَّمَت — على ثلاثةَ عشر، فلا بد أن تتضاءل. وحينما وصلَتْ إلى الأحفاد لم أحصل على الكثير، ولكني أنفقتُ وقتًا طويلًا من طفولتي في بيت جدتي بلندن، وكانت جين وايكلو تقرأ لي الساعات، فكانت أول مَن علمَتني تذوُّق الأدب، وكان «بكويك» أول ما بصَّرني بالنظام الاجتماعي الإنجليزي.»

– «ألم تعتَقِد أنه بالغ في رسم الشخصيات؛ إنها كاريكاتور؟»

– «أبدًا! إن شخصيات دكنز كانت كلها حولنا، كانوا من سكان لندن، أو جنوبي إنجلترا. إن بكويك — كما ترى — لا يوغِل شمالًا، لا يَعْدو نورتش … إنني أتخيَّلُني الآن واقفًا عند نافذة من نوافذ بيت جدتي …» وأخذ يفكر.

وقالت مسز هوايتهد في لهفة واشتياق: «٨١ ميدان بيكادلي؟»

واستطرد قائلًا: «… مُطلًّا على حدائق جرين بارك، والملكة فكتوريا تمر.»

– «هل كنت تراها؟ …»

– «بالتأكيد، ولم يكن ذلك مرةً أو مرتَين؛ إنما كل يوم، أو ما يقرب من ذلك.»

– «لا أستطيع أن أتصور أنك كنت تشاهد الملكة العجوز مِرارًا كما تشاهد عربة توزيع البقالة!»

– «لم تكن «عجوزًا» في ذلك الحين؛ إنما كانت في زهرة الشباب، ولم تكن شعبية جدًّا؛ إنها لم تُصبح شعبية إلا بعد عام ١٨٧٠م. وانتهت حياتها بأن صارت نظامًا بأسره، حتى إننا لم نكَد نُصدِّق أنها ماتت.»

قالت مسز هوايتهد: «حتى الفقراء لَبِسوا الحداد، ومَن عجز منهم عن شراء الملابس السوداء كان يَصبغ ملابسه العادية بالسواد، إنما كانوا يَحزنون على العصر الفكتوري، وإن لم يُدرِكوا ذلك آنئذٍ.» وقد قالت ذلك وهي مكتئبة.

وواصل هوايتهد حديثه قائلًا: «كُنَّا نخشى بأس إدوارد السابع كثيرًا، وكان أبعدَ ما يكون عن الشعبية عندما اعتلى العرش، ولكنه أمسى في نهاية حُكمه محبوبًا جدًّا، أمَّا جورج الخامس وجورج السادس — من بعده — فقد شقَّا طريقَهما فيما أظن.»

قالت: «وإن يكون جورج السادس يبدو لي شخصًا لا لون له — إلى حدٍّ ما — بعد أبيه؛ فقد كان لجورج الخامس مزاج.»

قلت: «من العجيب أن الملَكية قد عاشت حتى عام ١٩٤٥م.»

قال هوايتهد: «كلا، ليس ذلك عجيبًا؛ إن الإنجليز لا يُبلغون شيئًا، بل يحفظونه في مخازن التبريد؛ ولذلك فوائده، فإن احتاجوا إليه ثانيةً وجَدوه!»

– «إن ذلك ينطبق أيضًا على كنيستهم الرسمية، لو سمحتَ لي أن أقول ذلك يا سيدي.»

فعلَّق على ذلك هوايتهد بقوله: «إن الإصلاح الدينيَّ يبدو لي — كما ذكرتُ لك من قبل — كارثةً من كوراث التاريخ! أعتقد أن الكنيسة كانت تُصلِح من داخلها إذا اتسَع لها الوقت.»

كانت لأرازمس الآراءُ الصائبة عينُها، وقد مُنِح قَلَنْسوة الكاردنال قبل وفاته، وإن يكن قد رفَضها، ولكن ثورة البروتستانت قوَّت مقاومة الكنيسة، وقد نبذ البروتستانت ذلك الجانب عينَه من الكنيسة الذي يَجعلها رحيمة محتمَلة؛ أقصد جاذبيتها الجمالية العاطفية. ولو كنتُ لأختار مذهبًا من مذاهب المسيحيين المعاصرين لاخترتُ مذهب الموحِّدين، ولكني أود لو كان نفوذُهم أشد! إنني أدرك أنهم يَقربون من مذهب «استقلال الكنيسة»، وأعتقد أنه من الأفضل أن يشتدَّ قربُهم، فلا أدهش إذا سادَت الكاثوليكيةُ الولاياتِ المتحدة، في خلال مائة عام أخرى.»

قلت: «إن الأمر الوحيد الجذاب من الناحية الجمالية والعاطفية الذي لم يَنبذه البروتستانت هو الموسيقى.»

فقال هوايتهد: «إن الديانة لا يمكن أن تبقى بغير موسيقى؛ فهي شديدة التجريد.»

– «هذا حق! وحتى المتطهِّرون «البيورتان» في إنجلترا الجديدة الذين استغنَوْا عن الأرغن والأدوات الموسيقية في الكنائس، احتفَظوا بترتيل مزاميرهم!»

قال: «إن الموسيقى تأتي قبل الديانة؛ لأن العاطفة تأتي قبل الفكر، والصوت قبل الحِس. ما أول ما تسمع حينما تدخل الكنيسة؟ عزف الأرغن. وما آخر ما تسمع عندما تُغادِرها؟ الأرغن. والصلاة نفسها تكون غِناءً عند الكاثوليك. إن الموسيقى تسبق الدين بأجيال كونية! إن البلبل لا يُغنِّي لأنثاه لأي سبب سوى متعة الحياة؛ من أجل حب الغناء. إن هذه الأمور أعمقُ غَورًا من الفكر، كما أن الصوت أعمقُ أثرًا في نفوسنا من النظر، وأعتقد أننا حينما كنَّا متوحِّشين كنا أشدَّ تأثرًا بصوت الرعد من وَميض البرق.»

وعلقَت مسز هوايتهد بقولها: «نستطيع أن نحميَ أنفسنا من النظر بإغلاق أعيننا، ولكننا لا نستطيع أن نُغلق آذاننا! إننا لا نستطيع أن نتَّقيَ الصوت. عندما كنت أرودُ المسرح في شبابي كان عِناق العاشقَيْن على المسرح يؤذيني أحيانًا بتمثيله. فما كان عليَّ إلا أن أُغلِق عينَي.»

– «قلتُ لي مرة: إنك تعتقد أن الإنسان قد أولى الانطِباعات التي ترتسم لديه عن طريق العين نصيبًا من العناية أوفرَ مما ينبغي.»

قال «إن تربيتنا تعتمد إلى حدٍّ كبير على المكتوب والمطبوع.»

«ولكن الصوت يتبخر، أمَّا الكتابة والطباعة فثابتة إلى حدٍّ كبير؛ لقد ألقى بركليز مرثية، ولكنها وصلت إلينا؛ لأن ثيوسيديد دوَّنها.»

وصححَت مسز هوايتهد قولي وهي تبتسم: «الأرجح أن المرثية لثيوسيديد، وليست لبركليز كما تَعلم.»

– «ولو صح هذا فإن الحكم لا يتغير!»

قالت: «بل ربما كان حكمًا أصدق.»

ووافَق على ذلك هوايتهد قائلًا: «إن ما أنقذ الكتابةَ هو قيمتها من حيث شكلُها الثابتُ نسبيًّا؛ مما يؤدي إلى بقائها. ولكن الصوت يخاطب العواطف، ثم تتحول العواطف إلى تفكير، والتفكير إلى عمل.»

وصححَت ذلك مسز هوايتهد بقولها: «إن العاطفة قد تتحوَّل إلى عمل دون أن تمر بمرحلة التفكير، وأرجو أن تَذكر ذلك.»

قال: «إني أذكره، والعلاقة بين الصوت والعمل قد تكون أنفذَ كثيرًا من العلاقة بين النظر والعمل! إن ما نراه يوحي إلينا — عامة — بالتفكير، أمَّا ما نسمعه فيثير العاطفة، والموسيقى تخاطب العواطف مباشرة، وأنا أعترف أنها قد توحي بالأفكار أيضًا …»

قلت: «ولكنها إذا أوحَت بالأفكار صراحة، فهي على الأرجح ليست موسيقى جيدة.»

وقالت مسز هوايتهد: «لما كان أطفالي صغارًا بدأتُ أُسمِعهم موزار، وقيل: إن هذا تَعالٍ من جانبي. ولكني لم أُسمِعهم غثًّا قط في بيتي، وعندما سمعوه فيما بعدُ عرَفوا أنه غثٌّ ولم يعبأوا به.»

قلت: «لا صلة للموسيقى بالأخلاق؛ إنها كأية قوة أخرى في الطبيعة، ليست في ذاتها خيرًا أو شرًّا، إنما يتعلق الأمر كلُّه بطريقة استخدامها، إنها تنشط ما هو كامنٌ فينا من قبل؛ إنْ شرًّا فشر، وإن خيرًا فخير.»

قالت: «لا أوافق على أن الموسيقى ليست لها بالأخلاق صلة؛ إن موسيقى فاجنر كثيرًا ما تثير الحواسَّ بشكل واضح، ولا أعُدُّها موسيقى «خالصة»، سواءٌ من الوِجْهة الجمالية أو الأخلاقية، وأود أن أنبه إلى أني أحبها أحيانًا، ولكني — برغم هذا — أعرف أثرَها.»

وقال هوايتهد: «إن الموسيقى يمكن أن تكون خُلقية وغير خلقية؛ خذ فاجنر مثالًا إن شئت. إنكم أيها الأمريكان تُحبون موسيقاه، ولا أرى أنها عادت عليكم بأي سوء، ولكني أعتقد أنها عادت على الألمان بضررٍ بليغ؛ إنها توحي إليهم بأحلام القوة التي تؤدي إلى العنف.»

– «أعترف بأن فاجنر يمكن أن يكون موضعَ جدل حتى الآن، ولكنا ينبغي أن نستثنيَ بيتهوفن؛ هل هناك ديانة أنقى من موسيقى رباعياته الأخيرة؟! وهي كذلك صوتٌ خالص.»

قال هوايتهد: «أميل إلى الاتفاق معك، وأعتقد أن مِن عواطف الإنسان التي ظهرَت مبكرًا في تاريخه ما كان استجابةً لصوتٍ رزين.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤