المحاورة التاسعة والثلاثون

٦ من يونيه ١٩٤٥م

في مساء الأربعاء في الساعة الرابعة، في حجرة الأساتذة، في قاعة الجامعة، قُدِّم وسام الاستحقاق — الشارة وشهادة التكريم — لألفرد نورث هوايتهد، الدكتور في العلوم، والدكتور في الآداب، وصاحب الشهادات العلمية الأخرى، وأستاذ الفلسفة المُتقاعِد في جامعة هارفارد.

وكان التقديم على هذه الصورة في المرتبة الثالثة، فلو كان في إنجلترا لكان المنظور أن يتوجه إلى قصر بكنجهام، ولو كان السفير البريطاني أقل انشغالًا لقدَّمه إليه إما في واشنطن أو كمبردج. ولما كانت الظروف غير ذلك، فقد قام بالتقديم القنصل العام البريطاني في بوسطن. وإذا وضعنا في اعتبارنا أبعاد العالم الذي سيعيش فيه هوايتهد، وأبعاد الإمبراطورية البريطانية، كانت فكرة منحه تكريمًا أو وسامًا أشبه بقاربي الصغير الذي أملكه في سوامبسكت إذا قيس إلى الباخرة «الملكة إليزابث»، والواقع أن هوايتهد نفسه قد أنكر أن يكون لذلك أية أهمية في ذاته. وأذكر أيضًا أن جورج مرديث عندما مُنِح وسام الاستحقاق (واختصاره بالإنجليزية O. M.) قال إن هذين الحرفَين إنما يعنيان أنه رجل عجوز (بالإنجليزية old man، والحرفان الأولان O. M.).

وعلى أية حال فقد كان منظر الطبيعة خلَّابًا، واليوم يُشبِه في جوه يومًا من أيام شهر يونيو في إنجلترا؛ رياح جنوبية غربية، وشمس مُشرِقة أحيانًا، ومطر خفيف أحيانًا أخرى، وسُحُب بيضاء في أطرافها رمادية في صدرها تندفع في سماء زرقتها صافية. ولما حلَّت الساعة الرابعة كانت أشعة شمس الأصيل تتدفق خلال النوافذ ذات الأقواس المرتفعة في الجانب الغربي من الردهة، في حين أن كراسي الأساتذة وعددها نحو مائتَين تقريبًا صُفَّت بحيث تُواجِه النوافذ الشرقية التي تبلغ نفس الارتفاع، والتي تُطِل على الحقول الخضراء في مُربَّع كنيسة سفر وأيدنر التذكارية.

ويدل مظهر الغرفة على الجلال في هدوء، ويبلغ ارتفاعها طابقَين؛ الثاني والثالث من ردهة الجامعة، ومهندسها المعماري هو شارلز بُلفنش، والجدران مَطلية باللون الأخضر الشاحب، الذي يبدو في بعض الأضواء أزرق فاتح اللون، وترتفع الأعمدة القصيرة البيضاء المُخطَّطة الأيونية من الأرض إلى الكورنيش بين النوافذ المُقوَّسة، وتتدلى من السقف أربع نجفات بلورية.

وقد صرفَت نظري عن أكثر رفاقي القريبين مني تماثيلُ نصفية من المرمر وُضِعت على قواعد حول المنصة التي تُحاذي الجدار بأبعاد الردهة الطويلة. وهناك تمثال رائع لبنيامين فرانكلين، من نحت هدسن فيما أظن، وهناك آخر للرئيس إليوت، وآخر لصديقي ومُعلِّمي القديم دين برجز، وكأنه حي إلى درجة مُذهِلة، حتى بريق عينَيه، وأدق تجاعيد خده الأعجف الأمريكي. وقد عُلِّقت فوق الجدران الأربعة صور لرؤساء هارفارد وللعلماء البارزين في القرون الثلاثة الماضية. وهذا هو أستاذ القواعد اليونانية و. و. جودوين، وعلى كتفه ثوب الدكتوراه القرمزي، ببشرته النضرة الوردية، وشعره الأبيض الناصع، وابتسامته اللطيفة السماوية. وإذا استثنينا بضعة أفراد بارزين، فإن الرجال المُعلَّقة صورهم فوق الجدران أكثر أهمية من الأفراد الجالسين فوق المقاعد.

وقد وُضِع فوق كل مقعد برنامج مجلد بالورق الأخضر الرمادي الثقيل. وبدأ البرنامج بالرئيس كونانت الذي قال — من بين ما قال — إن هوايتهد قد جاء إلى هارفارد بعد حياة طويلة حافلة في إنجلترا ليُلقي سلسلة محاضراته الأولى في الفلسفة، و«أول محاضرة في برنامج دراسي للفلسفة استمعتم إليها هي المحاضرة التي ألقيتَها».

وروى القنصل قصة وسام الاستحقاق. ولما اطلعت على قائمة أعضائه الحاليين، وعددهم ثمانية عشر، لاحظت من بينهم أسماء جلبرت مري، و. ج. ترفيليان، وج. و. ماكيل، وفون وليامز، وجون ميسفيلد، وأغسطس جون. وكثيرًا ما طرأ لي أن عددًا كبيرًا من الرجال البارزين في إنجلترا يشعرون بالسخف في قبول ألقاب العصور الوسطى، وربما كان وسام الاستحقاق هذا حيلة اخترعتها الحكومة أخيرًا (بما فيها الملكية) لكي تُواصِل تشجيع استمرار العبقرية الإنجليزية.

وأشعل المُصوِّر الفوتوغرافي المصباح مرتَين بينما كان القنصل يُعلِّق شارة الوسام بشريط حول رقبة الفيلسوف، والوسام كحلية يخطف البصر.

وجلس المُشترِكون في الحفل — ومن بينهم بك عميد الكلية، الذي كرَّم الفيلسوف بحضوره — حول مائدة مُستديرة، بدت كأنها تلك المائدة التي جلس حولها وليام جيمز وجوشيارويس وجورج هربرت بامر، لترسم لهم صورة وهم جالسون معًا.

وعلى الحائط الشمالي صورة نبيلة لوليام جيمز، تراه واقفًا إلى جانب مكتبه الذي يبلغ في ارتفاعه مستوى صدره، في غرفة دراسته بشارع أيرفنج رقم ٩٥، وخلفه رفوف الكتب وصفوف عن المجلدات المُغلَّفة باللون البُنِّي، ومكتبه من خشب الجوز البُنِّي، وهو يلبس بدلة رمادية، وشعره ولحيته أحمران وخطَّهما المَشيب، ويُمثِّل ضوء الغرفة لون جو الخريف الرطب الأحمر الداكن ووجهه وردي وكأنه اكتسب هذا اللون من قضاء الصيف في الخلاء في كوكروا بهامبشير الجديدة، ونظرته في الصورة أعنف قليلًا من حقيقة نفسه العادية الرقيقة، وقد ألقت شمس الأصيل التي تدفَّقت خلال تلك النوافذ الغربية ضوءًا جميلًا على الصورة. وبينما كنت أُبدي إعجابي بعد أن انفض الحفل، جاءني الأستاذ رالف بارتن بري، تلميذه في أول الأمر، ثم زميله، ومُؤرِّخ سيرته أخيرًا، وتحدث إليَّ.

سألته: «متى رسمت؟»

وأجاب: «حوالَي عام ١٩٠٨م فيما أظن.»

– «وإلى أي حد تُرضيك هذه الصورة؟»

– «إنها تُرضيني جدًّا! لأن «مس ألن أمت» كانت ترسم بخطوط جريئة.»

– «كان عام ١٩٠٨م قبل وفاته بعامَين فقط. لا بد أنه كان ضعيفًا (والواقع أن كلَينا كان يعرف ضعفه) ولكنه في الصورة يبدو قوي البِنية موفور النشاط.»

فقال الأستاذ بري: «كان دائمًا يبدو أقوى بِنية من حقيقته، وربما كان ذلك لشدة نشاط ذهنه.»

وقد لاحظت نفس الشيء في هوايتهد؛ فهو يتكلم بقوة الشباب؛ لأنه يفكر بقوة الشاب …

وسألته بعد تقديم الوسام إليه إذا كان يحتفظ بنسخة من كلمته. وكان التبادل بيننا شفويًّا كله تقريبًا، حتى إني لم أحتفظ إلا بقطعتَين من الورق مكتوبتَين بخط يده، وقد أجابني بأنه سيُرسِل إليَّ المخطوط. وفي اليوم التالي تسلمته ونصه كالآتي:

سيادة الرئيس كونانت، يستحيل عليَّ أن أُوفي التعبير عن فضل الجامعة التي ترأسها عليَّ وعلى زوجتي. لقد مكَّنتني هارفارد — كمعهد وكمجموعة من الأفراد — أن أُعبِّر عن الآراء التي أخذت تنمو في ذهني طوال حياتي. وأود أن أُؤكِّد إعجابي ومحبتي الشخصية لكثير من الأصدقاء في هارفارد، الذين حضر اليوم بعضهم. لقد سعدت خلال حياتي سعادة عظمى بالتعليم في بلدَين أضافا كثيرًا إلى العلم وإلى كرامة البشرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤