المحاورة الثالثة والأربعون

١١ من نوفمبر ١٩٤٧م

عيد الهدنة. قضيت المساء مع آل هوايتهد، وكانت عاصفة من عواصف الخريف تهبُّ في الخارج، مصحوبة بريح شديدة في قوة الزوابع، وأمطار غزيرة.

وظهرا لي في أول الأمر على شيء من الارتخاء، ولم يكن ذلك محل عجبي لما عرفت أن زوجة ابنهما، مسز نورث هوايتهد، قد لاقت حتفها بعد مرض عضال طال معها، وتحتَّم على مسز هوايتهد نفسها أن تذهب إلى بيت فلبس، في زيارة لمستشفى ماساشوست العام، لتحضر عملية تُهدِّد بالخطر العاجل. وقد أشارت إليها ببرود ﺑ «عمل المشرط». وقبل أن يخرج هوايتهد من مكتبه حيث كان في غفوة يسيرة من النعاس، قالت لي على حدة إن الخبر كان أشد وقعًا على نفسه منه عليها.

– «إنه يستطيع أن يُجابِه هذه الأمور عندما تقع، ولكنه لم يعد لديه احتماله السابق، وأمثال هذه الأمور تُفقِده الاحتمال بعد مرورها. وها أنا ذا كعادتي — أو كعادتي تقريبًا — ولكني في صحبته.» ثم كفَّت عن الكلام قليلًا ورمقتني بنظرة فيها شيء من السخرية وقالت: «ربما ظننت أنهم أحرقوا جثتي وبدَّدوا رمادها!»

وكانت حجرة الجلوس مليئة بالأزهار؛ أقحوان أصفر وبرونزي، وزهر الخزامي، مُنسَّقة بطريقة فنية مع أعواد السعف الخضراء. وتحدَّثت عن هذه الزهور فقالت: «نعم، إنني مُدلَّلة، وإنني لأُحِبها! وقد تحسبني مُمثِّلة سينمائية لو عرفت الطريقة التي تأتيني بها الأزهار.»

ثم نهضت، واتجهت نحو مكتبتها المصنوعة من خشب الماهوجاني، وأخرجت حزمة من الرسائل، وقالت: «أودُّ أن أُخطِرك بأمر من الأمور، وإن كنت لا أريد أن يُذكَر عنه في الوقت الحاضر شيء ما.» وأخذت تفضُّ الرسائل وتتصفحها، وهي تتحدث إبان ذلك: «تعلم أن إيرادنا من إنجلترا قد انخفض أثناء الحرب، وسبَّب لنا ذلك أزمة مالية شديدة، ولكني استطعت أن أُدبِّر الأمر، وما أريدك أن تعرفه هو أن مُدير البنك الذي نحتفظ فيه بحسابنا قد تسلَّم ثلاث مرات خلال الحرب صكوكًا مالية مُعتمَدة من مجهول لكي تُودَع لحسابنا، والمبلغ المُحوَّل هو بعينه في المرات الثلاث، ثلاثمائة دولار. وسألته هل يعرف المرسل. قال: لا، ولكنه يستطيع أن يتصل بالبنك الآخر. ولم نستطع أن نقبل عطايا من مجهول بطبيعة الحال، ولكني سألت إن كان من الجائز أن تكون سدًّا لدَين نسيناه أو فضل أديناه، وأجاب قائلًا: «ربما كان الأمر كذلك.» كلا. إن شيخوختنا لا تسمح لنا بذلك، وبلَّغنا اعترافنا القلبي بالجميل، ولكنا لم نستطع أن نقبل … إني لا أستطيع أن أجد الرسالة التي أبحث عنها. هل يحدث لك أن تحفظ الأشياء ثم تفقدها؟»

– «ليس هذا محل سؤال! في الربيع الماضي عُدت إلى وطني بهدايا من أكسفورد حفظتها بعناية، وها نحن أولاء في شهر نوفمبر ولا أستطيع حتى الآن أن أعثر عليها.»

– «إنك بذلك تُشجِّعني … كم كنت أود أن تقرأ الرسالة، ولكني أستطيع أن أُنبئك بما فيها. أرسل مجهول إلى الكلية منحة مالية للتفوق في الدراسة، وأراد أن تُعرَف باسم منحة ألفرد نورث هوايتهد، ويبلغ ربع المبلغ المُقدَّم ألفًا ومائتَي دولار في العام يُدفَع لألفرد ما بقي حيًّا، ويُدفَع لي بعد مماته، ثم يُدفَع بعد ذلك للطالب صاحب المنحة. وأشد ما يُؤثِّر في كلَينا السخاء في الهبة، وكذلك اللباقة والرقة في الطريقة. وقد دُفِع المبلغ للكلية، فتحتَّم بذلك قبولها، ولم يعد لنا في الأمر رأي، وأشد ما سُر له ألفرد هو أن الهبة تترك علاقة دائمة بين اسمه والكلية في صورة حية.»

ثم أضافت قولها: «المنحة ثلاثون ألف دولار، وربحها أربعة في المائة.»

ولم نستطع أن نتكهن باسم الواهب، غير أنَّا فكرنا في احتمالَين أو ثلاثة.

ثم قالت: «هذه هي الرسالة.» ونهضت وأعادت الأوراق إلى المكتبة وعادت إلى مقعدها وأشعلت سيجارة. ودق التليفون. فقالت: «من يكون الملعون!» وردَّت عليه، غير أن المفاجأة كانت سارة لها؛ لأن المُتكلِّم كان شخصًا عزيزًا عليها. ولما انتهى الحديث قرعت باب المكتب ودخلت في رفق، وتحدَّثت بصوت مُنخفِض، قالت: «إن لوشيان هنا، لا تقفز، وتريَّث بضع لحظات قبل أن تنهض.»

وسرعان ما خرج من مكتبه، ولم يتيقظ بعدُ تمام اليقظة، ولكنه بعدما غسل وجهه بالماء البارد عاد إلينا مُعافًى.

وأحسنا استقبالي. والظاهر أنهما كانا يتوقعان زيارة رسول من لدن ناشره، ومعنى ذلك أن مُمثِّلًا من الشركة الإنجليزية قد أتى في صحبة رجل من الفرع الأمريكي.

قال: «الأمر العاجل هو أنهم يُفكِّرون في إصدار طبعة من مؤلفاتي تصلح لقُراء الأتوبيس.»

– «وهل يدخل في ذلك كتابك «التطور والواقع»؟»

– «جزء منه …»

قالت: «إنَّا نُؤثِر أن يطبعوا المؤلف كله أو لا يطبعون البتة شيئًا منه، بدلًا من أن يطبعوا مُقتطَفات من المؤلفات كلها انتقاها الناشرون. ولشدَّ ما كان إحساسنا بخيبة الأمل حينما وجدنا أن الناشرين قد أخذوا على عواتقهم أن ينتقوا المقتطفات، فكانوا أحيانًا يحذفون فصولًا بأسرها.»

– «ولماذا يطبع كل … الضخم، لست أدري ماذا أُسمِّيه؟»

– «وما تظن كان جواب ألفرد؟»

– «ماذا قال في أمر كهذا؟»

– «قال لا شك أنهم أصلحوه …!»

– «كنت دائمًا أقول إنه أطيب روحًا مما يتطلب هذا العالم. ومن الأنباء العجيبة أن يُعاد طبع كتاب «التطور والواقع» في أية صورة من الصور. إنني لا أستطيع أن أحصل على طبعة في مجلد واحد. وقد أعلنت مكتبة «الركن القديم» عن نسخة لي في الشهرَين السابقَين، وأذكر أنك قلت لي إنه الكتاب الذي أردت أن تكتبه أكثر من أي كتاب آخر.»

قال: «كتبت في مقدمته شيئًا ينبغي أن يتكرر في الفقرة الأولى من الفصل الأول، كما يتكرر في مواضع مُتلاحِقة في غضون الكتاب كله؛ وذلك أني شديد التأثر بعجز أية محاولة بشرية تمامًا عن التعبير عن مثل هذه الآراء الفلسفية، وما أبعدَ هذه العمليات العالمية عن أفق تفكيرنا. إن كل ما يستطيعه المرء — حينما يجسر على الخوض في هذه الموضوعات — أن «يتقدم بمقترحات».»

– «هل صحيح أن طبعة في مجلد واحد من كتابك «أهداف التربية» قد أُعيدَ إصدارها في إنجلترا؟»

قالت: «نعم. وقد أرسلوا إلينا نسخة منها.»

– «هذا نبأ آخر سارٌّ؛ لأن بضعة من أصدقائي على الأقل، من النُّظار ومن إليهم، كانوا يسعون في الحصول عليه.»

قال: «سأُعطيك هذه النسخة.»

وتوجَّه إلى مكتبه، وعاد بها، وألقاها في حجري، وكانت الصور هي الأصلية قطعًا (والشركة إنجليزية) غير أن التجليد باللون الأزرق الداكن كان يختلف عن الغلاف القرمزي الذي صدر فيه الكتاب في طبعة عام ١٩٢٨م، وكان يُفضِّله. ولما تقدَّم المساء كتب إليَّ الإهداء.

وقالت مسز هوايتهد: «لقد قضينا وقتًا سعيدًا مع مندوبي الناشرين، ما خلا برهة واحدة كانت رهيبة. ماذا تظن أن الناشرين أرادوا أن يفعلوا؟ أن يطبعوا صورة فوتوغرافية لألفرد على غلاف مجلة «لايف»!»

– «يا إلهي!»

قالت مُقطِّبة جبينها: «تصوَّر وجه ألفرد يُباع في الطرقات.»

– «وكيف خرجتم من هذا المأزق؟»

– «قلت لهم برفق شديد إنه آلى على نفسه طوال حياته ألا يسمح بالمقابلات الصحفية، وألا يُصوَّر للصحافة، اللهم إلا في العيد المئوي الثالث لهارفارد بطبيعة الحال، حينما صُوِّر جميع الطلاب القدامى.»

– «لا أستطيع أن أتصور ألفرد مُلتحِقًا بزمرة هواة الإعلان!»

وعادت إلى حديثها قائلةً: «لقد حسنت نيات مندوبي الناشرين في هذا، فوافقوا على التخلي عن الموضوع.»

– «ومتى تظهر طبعة «الأتوبيس»؟»

– «لا ندري. إنهم لم يُعطونا فكرة عن ذلك.»

وقال هوايتهد وقد رمقني بنظرة خبيثة: «في ظني — وإن كنت لا أدري، وربما لا يليق بي أن أقول ذلك — إنهم يرمون إلى تأجيل النشر إلى ما بعد مُغادَرتي هذه الكرة الأرضية بقليل.»

وقالت زوجته: «إن كان الأمر كذلك، فأنا أشك في حكمهم. إن كانوا يريدون رواجًا باسم هوايتهد فإنما يكون ذلك اليوم. هل رأيت المجلد الجديد للمُقتطَفات؟»

– «نعم. وقد وصلتني حتى الآن ثلاث نسخ.»

– «وما رأيك فيها؟»

– «أعتقد أنهم قد أجادوا الاختيار.»

قالت (فطنة هوايتهد وحكمته): «يا لَه من عنوان! إني أُسلِّم بالفطنة، وبشيء من الحكمة، ولكن …»

– «ليس العنوان جديدًا كل الجدة؛ فقد استُعمل لمُقتطَفات من جورج إليوت أثناء حياتها، كما استُعمل مرة أخرى لمُقتطَفات من جورج مرديث خلال حياته. وليس من شك في أن الجناس في ألفاظ العنوان (وهو واضح بالإنجليزية) كان إغراءً لهم لم تُمكِن مقاومته، ولكني عندما تصفَّحت المجموعة آمنت بأن المختارات قد اقتُبست بعناية ومهارة، وقد تذكَّرت الكثير منها، بيدَ أني لم أذكر بعضًا منها، والنتيجة أني سأقوم بما أظن أن المُقتطَفات ستدفع الكثيرين إلى القيام به، وهو أن أرجع إلى الكتب نفسها.»

وكان العشاء فاخرًا جدًّا، وذكَّرهم هبوب الرياح وسقوط المطر فوق النوافذ، بالبيت المكشوف، في برود ستيرز، حيث التقيا أول الأمر؛ لأن عمة ألفرد، سوزان، كانت تقطن هذا البيت، وكان ذلك بعد إقامة دكنز فيه بزمن طويل. ولقد كان البيت مكشوفًا حقًّا؛ لأن البناء كان مرتفعًا، ضيقًا، ومكشوفًا للعراء. وبالرغم من أنه كان مُشيَّدًا من حجر الصوان، إلا أنه في أمثال هذه الليالي كان يهتز من العواصف التي كانت تهبُّ من بحر الشمال. وقيل إن سفنًا كثيرة كانت ترتطم وتتحطم عند هذا الرأس.

وانتقلا بخيالهما من «البيت المكشوف» إلى أبرشية رامزجيت.

وقالت مسز هوايتهد: «كان هذا البيت مُشيَّدًا من الطوب، وكانت به أشجار جميلة، تحوطه أراضٍ فسيحة، وبه حديقة غنَّاء، في أسفلها — كما كان معروفًا — كهف عميق.»

– «هل كانت جدرانه من الصخر؟»

– «كلا، بل كان في حجر الطباشير.»

– «وهل كان مدخل الكهف يفتح فاه في حديقتكم؟»

قال هوايتهد: «كلا. إنما كان الدخول إليه عن طريق مكان العربات العامة.»

– «ما أشبهَ ذلك بمسرحية الفروسية التي تتخللها الأشجان. هل كان داخل الأبرشية شائقًا؟»

قالت مسز هوايتهد: «أجل، لم يكن قوي التأثير، وإنما كان شائقًا؛ كان به بهو (صالة فسيحة)، بالرغم من أن السُّلم لم يكن بحالة جيدة، وكانت هذه الصالة مبنًى جديدًا أضافه سلف من أسلاف الأب، ولكن السُّلم القديم كان جميلًا، وقد نُقِل ثانية إلى جناح الخدم. كان الداخل بطبيعة الحال ينم عن الروح الديني. كانت غرفة الطعام شديدة الظلام، وكان المطلوب في غُرَف الطعام أن تكون مُوحِشة، بيدَ أن ظلام الغرفة أظهر أدوات الأسرة الفضية، وكان هناك منها الكثير.»

– «ما هي تلك القصة الشائعة التي كنت تقصِّينها للفنجستون هنا ساعة الغداء عن تيت رئيس الأساقفة وابنه؟ ما أكثر ما حدث في الساعات الأربع الماضية حتى إني لا أستطيع البتة أن أتذكَّرها.»

قالت ضاحكة: «إنها قصة ألفرد. وقد كان هناك، ولم أكُن، وإن كنت أُجيد معرفتها كأني كنت …»

قال هوايتهد: «كان تيت رجلًا عظيمًا جدًّا، وكان ينبغي أن يكون رئيس وزراء بريطانيا العظمى، ولكن القدَر أخطأ التوجيه، فالتحق بالكنيسة بدلًا من ذلك، وأصبح رئيس أساقفة كانتربري. ولما كان شديد الجوار بنا في مسكنه فقد أمسى من أصدقاء أبي الأعِزاء، وكثيرًا ما كان يزور بيتنا، وكان أحيانًا ينطلق راكبًا بعد صلاة الصباح من كانتربري لكي يتناول العشاء يوم الأحد في الأبرشية، وفي هذا اليوم بالذات اصطحب الأسقف جور من أكسفورد، وهو رجل قد وجد دينه، وكنت في ذلك الحين في الثامنة عشرة من عمري، فكنت أُدرِك تمام الإدراك أن تيت رئيس الأساقفة كان يشغل المراكز ذات المرتبات الطيبة بأقاربه. ولما سمعت الأسقف جور يسأل مسز تيت — لكي يخلق حديثًا للمائدة — قائلًا: «أية مهنة يميل ابنك إلى الالتحاق بها؟» أدركت أنهما كانا في مركز ضعيف، ثم كانت فترة سكون. وانحنى جور فوق المائدة مُتوسِّلًا إجابة عن سؤاله، وأصغيت في شغف إلى الجواب. قالت ليدي تيت: «لقد فكَّرنا في احتمالات كثيرة، ولكنها كلها تدور حول محور واحد فيما يبدو؛ فنحن نعتقد أن ابننا العزيز جوردون ينبغي أن يلتحق بسلك رجال الدين.» ثم كانت فترة سكون أخرى. ثم قال جور، وكأنه يحدث نفسه: «حسنًا!»»

ولما نهضنا تساءلوا عما إذا كان وباء التهديد باشتعال الحرب الذي تُثيره الصحف قد فترت حدته، وكل ما استطعت أن أقوله هو أننا لم نشتبك في قتال مع روسيا منذ ست وثلاثين ساعة.

وقال هوايتهد: «إذا كانت هذه البلاد أو تلك تُشعِل حربًا بهذه الأسلحة الجديدة، فقُل على المدنية السلام. إنها لن تُهلِك الجنس البشري، ولكنها سترد المدنية إلى الوراء آلاف السنين.»

– «هل ترى شخصية ضخمة خلف مثل هذه الكارثة؟»

– «تلوح لي أشباح ستة من الرجال البارزين فقط.»

– «هل تستطيع أن تلمح من بعيد ستة من أمثال هؤلاء في الأفق؟»

– «إنهم لا يلوحون في الأفق، إنما يبدون بين ظهرانينا، ولا يمكن تمييزهم على الفور.»

– «هل أعترف لكم؟ إنني أُمارِس أعمالي التي اعتدتها، بين أصدقائي، ووسط ما ألفت من مَناظر، وكلي إحساس بالريبة، إحساس بأن كل ذلك قد يتفتت ذراتٍ خلال السنوات القليلة القادمة.»

وقالت مسز هوايتهد: «وأنا كذلك عندي نفس هذا الإحساس.»

فقال هوايتهد: «اسمعوا مني ما أقول لكم. إذا فكَّرتم في تاريخ روسيا الماضي، ومن هم الروس، وما احتملوا تحت القياصرة، واتساع رقعة بلادهم، وكثرة عددهم؛ يبدو لي أنه لا بد من الاعتراف أن حكومتهم الحالية هي أحسن ما يُمكِنهم الوصول إليه، وهي تفضل بكثير أية حكومة من حكوماتهم السابقة. إن هذه الفكرة: «أن كل ما نحتاج إلى عمله هو أن نُعطي لكل امرئ حق التصويت، في أي جزء من أجزاء الأرض، مهما يكن تاريخه الماضي وحشيًّا، ومهما كان شعبه مُتخلِّفًا»؛ فكرة سخيفة.»

ثم أضاف إلى ذلك: إنه بالرغم من أن الأسلحة الحديثة — وبخاصة القنبلة الذرية — قد جعلت كل أساليب الحرب السابقة بالية كالقتال بالأيدي أو العصي، إلا أن هذه الفكرة «لم يُدرِكها الرجال العسكريون، بالرغم من كل ما يتشدقون به عنها، كما لا يكاد يُدرِكها أي فرد آخر. خُذ هذه الغرفة مثلًا؛ إنها تبدو صلبة مُستقِرة، وكنا نحسبها كذلك؛ والواقع أنها معمعان ثائر من الحركة، وليس فيها شيء قط ثابت، إنها في تغيُّر دائم بنِسب مختلفة في السرعة، وفي انحلال وتفكُّك، قد يمتد من بضعة أسابيع إلى آلاف السنين، وهي في طول الزمن لا شيء. لا يكاد يُدرِك أي فرد أن عالمنا قد تغيَّر منذ عام ١٩٠٠م تغيُّرًا لا يمكننا معه التنبؤ بالمستقبل بتاتًا، وكل محاولة لتطبيق معايير الماضي على الحاضر غاية في الخطورة. لقد انتهى القرن التاسع عشر تمامًا بحلول عام ١٨٨٠م وما بعده، وكانت السنوات فيما بين عامَي ١٨٧٠م و١٨٨٠م هي آخر عقوده الخصبة، ولم يكن عام ١٩١٤م إلا الضربة النهائية لما تراكَم من آثار، ولكنا اليوم في عصر التغيُّر فيه أخطر بكثير من ذلك الذي قضى على القرن التاسع عشر.»

وبطريق غير مباشر سألته أهو قد أحس في أي وقت مضى بتسلُّط قوة عليه من خارج نفسه وهو يكتب.

قال: «كنت في كل ما كتبت أُحاوِل أن أُعبِّر عن الإحساس العام.»

وتحدَّثنا عن «أنصاف الحقائق» فمضى يقول: «إن الناس يُخطِئون حين يتحدثون عن «القوانين الطبيعية». ليست هناك قوانين طبيعية، إنما هناك عادات للطبيعة مُؤقَّتة …

… وأكثر من ذلك، أرانا مُتمسِّكين أكثر مما ينبغي بفكرة الحجم؛ نقيس كل شيء بالنسبة إلى أجسادنا. ومما كشفه العلم عن الصغر اللانهائي والاتساع اللانهائي، نجد أن حجم أجسامنا لا يكاد يكون له البتة صلة بالقياس الصحيح. إن في هذا الحامل المصنوع من خشب الماهوجاني [ومسَّه بيده] قد تُوجَد مدنيات مُعقَّدة متنوعة في مداها كمدنيتنا. وتلك السماوات العلا، بكل رحابتها، قد لا تكون شيئًا سوى جزء يسير من نسيج عالم ليست أكواننا كلها شيئًا يُذكَر بالقياس إليه. لقد بدأ الإنسان منذ عهد قريب فقط، لا أن يُدرِك هذا الاتساع، لأننا لا نستطيع الإحاطة به، وإنما يُدرِك أن هذا الاتساع موجود، وأنه يقضي على كل مقاييسه السابقة. إن الخطر في المعرفة الميتة. والمعرفة الميتة خطر يتميز به خاصة البحث العلمي والجامعات. والعجيب أن لها احترامها الشديد؛ فإن «عرفت» الكثير رأى الناس في ذلك الكفاية، في حين أن المطلوب هو «الحركة مع وجود المعرفة»؛ وجهات نظر مُستحدَثة، المعرفة مُطبَّقة على الخبرة.»

وسألته أيعتقد أنه تعلَّم من الكتب أكثر من الناس، أو من الناس أكثر من الكتب؟

فقال: «أعتقد أني تعلمت من الناس أكثر مما تعلمت من الكتب بكثير.»

وصاحت مسز هوايتهد ونحن نتحدث في ذلك قائلةً: «إنما تتكلمان أيها الرجلان كمنهومَين بعد الامتلاء! لو أنكما كافحتما طوال حياتكما وعانَيتما الحرمان من التدريب العلمي المُنظَّم، لَتحدَّثتما عن الكتب بلهجة أكثر احترامًا لها. لا يشل المرءَ شيء كعدم المعرفة، وعدم الإحساس قط باليقين التام بالأرض التي يقف فوقها. وما يُقدِّم لك التدريب المُنظَّم بالكتب هو أن يُمكِّنك من تنظيم ما تعرف.»

وأدركنا أنها غلبتنا في الجدل، فتراجعنا من ميدان العراك مخذولين، وعاد هوايتهد إلى موضوعنا يشرحه بصورة مختلفة.

قال: «يُدهِشني عجز اللغة عن التعبير عن آرائنا التي نعيها، وعجز تفكيرنا الواعي عن التعبير عما في عقولنا الباطنة. إن أشد عيوب الفلسفة هو أنها تفترض أن اللغة وسيط دقيق. إن الفلاسفة يُعبِّرون باللفظ ثم يفترضون أن الفكرة قد تقرَّرت إلى الأبد. وهي حتى إن كانت قد تقرَّرت بحاجة إلى إعادة التقرير في كل قرن، بل في كل جيل. ولقد كان أفلاطون الفيلسوف الوحيد الذي عرف الحقيقة أكثر من غيره ولم يقع في هذا الفخ، وحينما كانت تخونه الوسائل المعروفة، كان يُقدِّم لنا أسطورة من الأساطير، فلا يتحدى بها دقة المعرفة، ولكن يُثير بها الأحلام. الرياضة أقرب ما تكون إلى الدقة، وهي أقرب ما تكون إلى الحق، وقد يشيع استخدامها بعد ألف عام كلغة كما نستخدم الكلام اليوم. إن أكثر ما نفكر فيه وما نقول بعقولنا الواعية وبكلامنا ضحل سطحي، وفي اللحظات النادرة فقط يظهر في الفكر الواعي أو في التعبير ذلك العالم الأعمق الأوسع؛ وتلك هي اللحظات الجديرة بالذكرى في حياتنا! حينما نُحِس — حينما نعلم — أننا لسنا سوى أدوات لقوة أعظم من أنفسنا، لأغراض أعلى وأبعد مدًى من أغراضنا. وتكثر هذه اللحظات عند العباقرة، ولكن كل امرئ تقريبًا تمر به لحظات قلائل يُشرِق فيها هذا الضياء. وللشعراء أهمية هنا؛ لأنهم يُعبِّرون عن هذا الوحي العظيم بالألفاظ أفضل مما يُعبِّر عنه أكثر الفلاسفة في أكثر الأحيان، وفي ألفاظ — مهما كان قصورها — تُثير برغم ذلك وبطريقةٍ ما في القارئ وفي المُستمِع نوعًا من الإحساس المُقابِل للانهائية الفكر أو الشعور أو التجربة التي يتحدث عنها الشاعر. وأنا أقصد بطبيعة الحال أعظم الشعراء وحدهم.»

– «هل ينبغي للشعراء أن يعرفوا كثيرًا؟»

– «كان ينبغي لبعض الشعراء أن يعرفوا أكثر مما عرفوا (وبخاصة شعراء العصر الحاضر)، وبعض الشعراء الآخرين كانوا يُصبِحون شعراء أفضل لو قلَّ ما يعرفون. كان شكسبير يكتب شعرًا أفضل لأنه لم يعرف كثيرًا. وأعتقد أن ملتن كان في معرفته أدق مما يسمو بشعره.»

وقالت مسز هوايتهد: «وهل تذكر صديقنا القديم والتر رالي؟»

– «نعم أذكره. وكنت دائمًا تقولين إنه كان ينبغي له أن يكون شاعرًا، لا رئيسًا لجامعة.»

– «وما زِلت عند رأيي؛ فلقد كانت لديه أمثال هذه اللمحات اللانهائية، وله رباعية نُشِرت منذ سنوات — وإني لأذكر أين نُشِرت (في وستمنستر غازيت) — لصقت بذاكرتي بصورة لا تُمحى.»

ثم روت ما يأتي:

قِف على هيكل الدنيا،
وارقب تقلُّب العالم،
حيث تُلقى السكاكين والكرات النارية،
ويسمو الله فوق نجم الدب في السماء …

وتقدَّم المساء، وضربنا في الليل أكثر مما ظننت، وكانت عاصفة الخريف لا تزال تُهطِل الأمطار مدرارًا خارج البيت، وكلما تقدَّم المساء تردَّد عليَّ هذا الخاطر؛ وهو أن زيارتي الأولى لهما في كانتون منذ أكثر من اثنَي عشر عامًا كانت في السادس من أبريل، يوم الذكرى السنوية لدخولنا في الحرب العالمية الأولى، وأن اليوم هو يوم الهدنة، وهو عيد آخر للذكرى. وضايقتني هذه الفكرة قليلًا؛ لأني كنت في كل مرة أراه في هذه الأيام الأخيرة أخشى أن تكون المرة الأخيرة. وأبعدت الخاطر عن ذهني؛ لأنه في بداية المساء بدا لي ضعيفًا مُجهَدًا، ولكنه عاد الآن يتكلم بحماسة الشاب عن القوة الخالقة في الدنيا:

«كان من الخطأ — كما حاوَل اليهود — أن نظن أن الله قد خلق العالم من الخارج دفعة واحدة؛ خالق بكل شيء عليم، استطاع أن يخلق العالم كما نجده اليوم. ماذا نظن بمثل هذا الكائن؟ إنه بكل شيء عليم. وهو — برغم هذا — يُودِع في العالم كل ضروب النقص، التي تتطلب للخلاص منها أن يُرسِل ابنه الأوحد إلى الدنيا يُكابِد فيها العذاب والموت الشنيع. يا لَها من آراء مُثيرة! لقد كانت الديانة الهلينية محاولة أفضل من هذه. تصوَّر الإغريق الخلق قائمًا في كل مكان وفي كل زمان داخل الكون. وأعتقد أيضًا أنهم كانوا أسعد بعقائدهم في الكائنات غير الطبيعية التي تتجسد فيها تلك القوى المختلفة، التي كان بعضها خيرًا، وبعضها الآخر شرًّا؛ لأن هذَين النوعَين من القوى موجودان، سواء شخَّصناهما أم لم نُشخِّصهما. وفي الكون ميل عام لإنتاج أشياء لها قيمتها، وهناك من اللحظات ما نستطيع فيها أن نعمل مع هذا الميل، ويستطيع فيها هذا الميل أن يعمل من خلالنا، ولكن هذا الميل في الكون إلى إنتاج أشياء لها قيمتها ليس قادرًا على كل شيء بأية حال من الأحوال؛ فهناك من القوى ما يعترض سبيله.

الله كائن في الدنيا — وإلا فهو ليس موجودًا — يخلق دائمًا فينا ومن حولنا. وهذا المبدأ الخلَّاق كائن في كل مكان، في المادة الحية وما يُسمَّى بالمادة غير الحية، في الأثير، في الماء، في الأرض، في قلوب البشر؛ ولكن هذا الخلق عملية مُستمِرة، والعملية هي نفسها الواقع؛ لأنك ما تكاد تصل حتى تبدأ رحلة جديدة، وبقدر ما يُشارِك الإنسان في هذه العملية الخلَّاقة، يشترك مع السماء، مع الله. وهذه المشاركة هي خلوده، وهي التي تجعل هذا السؤال: «هل تبقى شخصيته حية بعد موت جسده»؛ سؤالًا غير ذي موضوع. وفيما قدر له حقًّا كمُشارِك للخلق في الكون كرامته وعظمته.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤