عمل رمزي

– نحن بحاجة إلى عمل رمزي!

من المحتمَل أن يكون روبرت قد خاطَب جيورج هكذا.

– رمزي مَن؟

سيرد عليه الطبيب مُخفِّضًا من درجة صوت المذياع. إنهم يحتاجون إلى سماع الأخبار الواردة من لندن، لا إلى الموسيقى.

يضحك روبرت على نكات جيورج، ويضحك جيورج على ميل روبرت إلى الكلام الحماسي المُؤثِّر. كلٌّ منهما يثق في الآخَر، ويُكْمِل الآخَر، فريق عمل مُنسجِم. جيورج في نهاية عقده الثالث، أكثر رصانة من صديقه، روبرت في مطلع العقد الثالث، ويشتعل حماسًا. يعملان منذ سنوات معًا، وخلالها لم يُوجِّه أحدهما أي اتهام إلى الآخَر. لا يخرجان أبدًا عن رزانتهما، صُلبان لا يعرفان اللِّين، أستاذان في الإخفاء والتمويه. يساعدان اليهود على الاختباء، ويحصلان على أوراق هوية مُزوَّرة، ويُقدِّمان يد العون للملاحَقِين. هذا هو أقل القليل، بل إنه لا يكفي. يقيم الطبيب اتصالات مع جماعات المقاوَمة التي كوَّنها العمال الأجانب، أما الكيميائي فيحاول الاتصال بالشيوعيين. اللقاء الرباعي ينعقد كل عدة أيام في «رانكه-شتراسه»، رقم ١٩، مع هربرت، وباول، في عيادة الأخير، أو في شقة هربرت الكائنة في آخر طابق. أو في «بسمارك-شتراسه» لدى روبرت. أو — مثل هذا اللقاء — مع جيورج وحده في «آهورن-أليه». لا يخبو داخلهم هذا الشعور أبدًا: علينا أن نفعل المزيد.

بعد الضحكات يُخيِّم الصمْت. يدرك جيورج أي عمل رمزي يَوَدُّ روبرت القيام به. إنه مُتعَب، يشعر بالتَّمزُّق، يشعر تجاهه بالحب، صديقه الأصغر سنًّا، العقل السياسي، الرجل المتحمِّس لقناعاته، المشبوب العواطف، المُناضِل المتواضع. نقطة ضعْف روبرت أنه يفكر في الكليات. جيورج، الطبيب، يرى كل جرح على حده، الألم الذي يشعر به كل إنسان. إنه يريد أن يقدم يد العون إلى أكبر عدد ممكن من الناس، أما روبرت — ونظرًا إلى الإمكانات المحدودة — فإنه يريد أن يساعد المناضِلين السياسيين في المقام الأول. ليس لهذا الصراع أن يُؤدِّي إلى الفُرقة بين الصديقين، ولا إلى انقسام بين أعضاء المجموعة.

من الصعب أن نتخيل رجلين على هذه الدرجة من الرزانة يقعان في إغواء ماكينة صغيرة، ماكينة قد تنفجر في وجه الديكتاتورية، ماكينة تقول الحقيقة وتنشرها، ماكينة لصنع الأمل، لشد أَزْر مجموعة المقاوَمة وزيادة عدد أفرادها. هدية من السماء، معجزة، ليس على المرء إلا أن يحضرها من المخزن الصغير في مختبر هافَمان في معهد الأدوية. هناك تَلفِت الأنظار مثل آلة تنبيه: خُذوني، استعملوني، لن يساعدكم أحد مثلي!

يعرف جيورج السر، قال عن ذلك: رائع! ولكن الوقت لم يَحِن بعد. ربما يلعن في سِرِّه الماكينة؛ لأنها قد تُلحِق الضرر بالمجموعة أكثر من إلحاقها الضرر بالديكتاتورية، هذا ما يخشاه روبرت أيضًا، غير أنه — ورغم كل الاحتياط الواجب — يرى بالأحرَى الفوائد.

بعد مرور نصف عام على ستالينجراد كان كل شيء يدفعهم إلى القيام بعمل ما. الأخبار الواردة من لندن تَتحسَّن أسبوعًا بعد أسبوع — في مايو ويونيو ويوليو ١٩٤٣م — والماكينة تصدح قائلة: أنتم الآن بحاجة إليَّ! فيلق الجيش في أفريقيا يستسلم، القوات السوفييتية بدأتْ في شنِّ الهجوم الشامل، طائرات الأمريكان والإنجليز تهبط في صقلية، موسوليني انتهى، والماكينة تصلصل: إياكم والجُبن الآن! صوت مذيع البي بي سي يشف عن نبرات متفائلة، وكأنَّ الحلفاء على وشك إنزال قُوَّاتهم، والماكينة تهمس في الآذان: احملوني معكم، تدرَّبُوا علي، أشعلوا فيَّ نار الحماس!

عام أو عام ونصف على أكثر تقدير، ثم تنتهي الحرب، ومعها النازيون. الأصدقاء متفقون حول هذه النقطة، لكن السؤال هو: التحمُّل والصبر واجتياز هذه الفترة، الدفاع عن النفس، والعمل استعدادًا لمرحلة ما بعد الحرب، ثم الهجوم. الماكينة تَعِدُهم: بمعونتي ستتحملون وتستعدون للمرحلة اللاحقة على نحو أفضل. لا يستطيع الألمان وحدهم — وهذا شيء يعلمه الأصدقاء — بناء ديمقراطية، لا بُدَّ من أن يكون الهدف هو أوروبا ديمقراطية، ولهذا يَتحتَّم الاتصال بالعمال الأجانب. وهنا بإمكان الماكينة أن تُقدِّم العون.

يتساءل جيورج في النهاية: أنتَ تريد إدخال الماكينة إلى المعركة، أليس كذلك؟

يومئ روبرت برأسه. تستطيع الماكينة — إذا استخدمها المرء على النحو الصحيح — أن تكون مُلهِمًا للمقاوَمة وسندًا لها، غير أنها تزيد أيضًا من مَخاطر الوقوع في شبكة الجستابو. بمساعدتها يستطيع المرء بكل سهولة نَسْخَ المنشورات المكتوبة على ورق الاستنسل.

كيف يحصل المرء في ظل نظام ديكتاتوري على ماكينة استنساخ؟ في منتصف الثلاثينيات كان بمقدور عالِم مثل الدكتور هافَمان أن يستعير ماكينة مثل هذه عبْر شركة تمتلك براءة تصنيعها أو تقوم ببيعها. كانت تكفي الحُجَّة التالية: للاستخدام العلمي داخل المعهد.

سيُذعِن جيورج، هذا ما يَحدِسه روبرت. في الفترة الأخيرة أذعن هو لرغبة جيورج، والآن لا بُدَّ من حدوث العكس. أثناء البحث عن اسم للمجموعة تقدَّم روبرت بالاقتراح التالي: الاتحاد الديمقراطي الاشتراكي، لكن جيورج اعترض على الفور: كأنك تقول «الاتحاد السوفييتي»، إننا نحتاج إلى مفاهيم لم تفسدها البروباجندا، وسرعان ما طُرح اسم «الاتحاد الأوروبي» أ أ، وتم قبوله بالإجماع، وروبرت المِهْذار عقَّب قائلًا: ونحن الأربعة أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الأوروبي.

ليس الأصغر بحاجة إلى إلقاء الخطاب القصير على الأكبر الرزين، ذلك الخطاب الذي حاول به أن يُقنع بعد عدة أيام روبرت وباول المتردِّد: الآن، ومع التقارب الذي تشهده الجبهات، لا بُدَّ من أن نقول للناس: إن المقاومة تَحيَا وتنمو، لا بُدَّ من إخبارهم بما سيأتي بعد النازية وبعد الهزيمة، لا بُدَّ من القيام بعمل رمزي لصالح مُناهِضي الفاشية المُحبَطين المعزولين، يجب أن تنمو الجماعة، يجب تجنيد أعضاء جُدد، علينا أن نشرح لهم أفكارنا وأهدافنا وما اتفقنا عليه:
  • (١)

    إسقاط الفاشية في أوروبا كلها.

  • (٢)

    إعداد مُناهِضي الفاشية لتَولِّي السُّلطة.

  • (٣)

    إعادة العمل بالحقوق الأساسية الديمقراطية.

  • (٤)

    الاشتراكية بدون ديكتاتورية ستالينية.

  • (٥)

    إنشاء الولايات المتحدة الأوروبية.

كِلا الرجلين يشعر بالتعب، بالإنهاك من العمل المِهَني. لا يكاد جيورج يلتقط أنفاسه من كثرة العمل في المستشفى، أضناهما الاحتياط المستمِر والقناع الذي يرتديانه أمام النازيين والمتربِّصِين بهما في كل مكان؛ عليهما أن يُثيرَا الانطباع بأنهما لا يُسبِّبَان الأذى لأحد، سباق محموم يخوضانه للبحث عن خُطط سِرِّية ومخابئ ومعاوِنِين ومُتبرِّعين؛ يشعران بالإرهاق من شبكة الاتصالات التي تَزداد اتساعًا، الطرق الطويلة المتشعبة في المدينة. كلما ازداد عدد حلقات الاتصال بين أعضاء اﻟ «أ أ»، تَوَجَّب على المرء أن يزداد حيطة وارتيابًا. مُنهَكو القُوى بسبب القصف الليلي وساعات الاختباء في القَبْو، كما أن جيورج رُزق بطفل ثانٍ يُهدهِدانه على وقْع صفارات الإنذار وانفجارات القنابل. الدموع المكبوتة عندما يفقدان أثر أحد الأصحاب أو الأصدقاء في البلقان أو في الصحراء أو في روسيا. النظرة الخرساء التي تُلْقَى كل يوم على صفحة الوفيات ذات الصلبان العسكرية، أو على أكوام الأنقاض المتزايدة على حافَّة الطريق.

بلغ بهما الإنهاك غايته، لا يكادان يستطيعان مقاومة إغواء الماكينة بعد الآن، يشعران بالأمن، حتى الآن سار كل شيء على ما يرام.

يقول جيورج: أراهن على أن في جيبك منشورًا.

ثم يندفعون لقراءة المُسوَّدة التي وضعها روبرت. يختلفون، يصححون، يشعرون بالسعادة لرؤية الكلمات الممنوعة مكتوبة على الورق، تلك الكلمات التي فكَّرُوا فيها دومًا وهمسوا بها كثيرًا.

في تلك الحالة من الشجاعة المتهوِّرة، هل آمَنوا بسُلطة الكلمة؟ لن نعرف أبدًا ما إذا كان الأصدقاء المجتمعون في شقة جروسكورت خلال الحديث عن أول منشور قد احتسَوا الخمر من زجاجة كونياك فرنسية، كما ادعى جيورج في التحقيق مع الجستابو. لا أحد يعلم إلى أي مدى كان المرشحون للإعدام يجيدون الإجابات التكتيكية، أم أن جيورج كان قد أعدَّ مُسوَّدة، كما قال روبرت في التحقيق؟ الأكيد أنهما ظهرَا أمام باول وهربرت وفي يديهما المانيفست المشترَك الذي أُطلق عليه فيما بعد: رسالة اللجنة المركزية في الاتحاد الأوروبي إلى كل مُناهِضي الفاشية. ومن المؤكد أن الرغبة في ضم أعضاء ومساعِدين جدد في يوليو ١٩٤٣م كانت تُمثِّل لهم دافعًا كبيرًا جعلهم يُهوِّنون من شأن المُخاطَرة التي قاموا بها، عندما وزَّعُوا منشورات قد تُخلِّف آثارًا تُؤدِّي إليهم.

لم يَعُد من الممكن أن نحسم الأمر، ونُحدِّد ما إذا كانت المجموعة الرباعية قد أعدَّت النص للنسخ، أم أنها كانت ترغب في إدخال تعديلات وتحسينات، غير أن الفرصة لم تُتَحْ لهم، كما ذكر جيورج في التحقيق؛ أم أن الأغلبية كانت موافقة، كما يدعي روبرت. الأكيد أن جيورج نقل ماكينة الاستنساخ بالسيارة من المعهد إلى شقة هربرت الكائنة في الطابق الأخير في «رانكه-شتراسه». الأكيد أيضًا أن روبرت اتسم بالشجاعة أو التَّهوُّر— مَن يستطيع الحكم على ذلك اليوم؟ — ووثق في إحدى عاملات الاختزال، وأعطاها المُسوَّدة كي تكتبها على ورق الاستنسل. كان زوج تلك المرأة شيوعيًّا معتقلًا منذ عام ١٩٣٤م، ثم نُقل عام ١٩٣٩م إلى أحد معسكرات التصفية، باستخدام هذه النسخة من ورق الاستنسل قام روبرت بصنع ٤٠ نسخة.

لن يمكننا إيضاح السبب الذي حدَا بروبرت في غضون أيام قليلة إلى كتابة ثلاثة منشورات أخرى باسم «الاتحاد الأوروبي»، شارحًا فيها أفكاره عن الاشتراكية، ومتحدثًا عن «الاستعداد لِتولِّي السُّلطة»، وواضعًا الخطوط العريضة لمستقبل أوروبا. أفاد جيورج — خلال التحقيق أيضًا — أنه فوجئ؛ لأنهم لم يَتحدَّثوا في حضوره عن كتابة منشورات كهذه. قد يكون كلامه جديرًا بالتصديق؛ لأنه يعترف في الوقت ذاته بأنَّ مُحتوى الأوراق الثلاث مُستمَدٌّ جزئيًّا من المُسوَّدة التي وضعها مع روبرت، كما أن ثمة أجزاء من تأليف روبرت. ولن يمكننا أبدًا أن نقطع في أمر ما إذا كان جيورج — كما تَدَّعِي شقيقته لويزه دورينج — قد ألحَّ على روبرت كي يقوم بحرق المنشورات فورًا، وهو ما وَعَد به روبرت، لكنه لم يفعل.

المُؤكَّد هو أن المنشورات لم تُوزَّع أبدًا. لقد عرض روبرت المنشور الأول على ثلاثة رجال موثوق بهم، كما أن جيورج أعطاه لصديق، على الأقل، حتى يَطَّلِع عليه.

الأكيد أيضًا أن أناليزه جروسكورت، وأنيته هافَمان، كلٌّ على حده، سَمعتَا شيئًا عن المنشورات، عندئذٍ قالت أناليزه لجيورج: هذا عمل مثالي، هذا عمل أحمق، دعكم من ذلك!

على الفور تَولَّد لديَّ إحساس واضح، هكذا قالتْ بعد مرور خمسة وعشرين عامًا: المنشورات هي الحكم بالإعدام، ولكن مَن كان يجرؤ على النطق بذلك؟ بعد خمسة أسابيع كان كل شيء قد انتهى.

داخل الاتحاد الأوروبي أيضًا يصح القول إن المقاوَمة كانت أمرًا مقصورًا على الرجال؛ النساء بطبعهن خائفات، يمكن الاحتياج إليهن، من الممكن أن يُقدِّمْن العون، ولكن الخوف، للأسف، يَشلُّهن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤