رجلان في ضوء القمر

في كل يوم كان ينهض أمام عيني، هيئته الفارعة، وجهه النحيف، مَرةً أراه بجانب جيورج، مرة بجانب أناليزه. روبرت هافَمان، الشخصية الرئيسة الثالثة التي شاركت في كل نقاط التحول الدرامية. نشيط دومًا، سريع، بليغ. إذا كان أحد يعرف الاتجاه الصحيح، فهو. الشخصية المحورية، ورغم ذلك فإن الإمساك به من أصعب الأشياء. هافَمان الأربعينيات، وهافَمان الخمسينيات، كلاهما حاضِر في الوثائق والتقارير، وحده هافَمان عام ١٩٦٩م هو ما ينقصني، فهو الذي يستطيع الإجابة على أسئلة كثيرة باعتباره الشاهد الملك. لا يمكن الوصول إليه منذ أن ألقى محاضراته بعنوان «الدياليكتيك بدون دوجما» التي أعاد فيها تعريف الاشتراكية، وأضحى بذلك الشخصية الرمز المكروهة والمعبودة في آنٍ واحد.

يجلس هافَمان خلف ثلاثة أسوار، كل منها أعلى من الآخر. كل أنواع التفتيش والأختام لدخول الحي الذي يعتبرونه العاصمة لا تسمح للمرء بأن يتجاوز حدود برلين الشرقية لكي يسافر إلى الضواحي والقرى. مَن يجرؤ بالرغم من ذلك، ثم يُضبط، فعليه أن يتوقع العقوبات، المنع من الدخول إلى البلاد، ونهاية كل الزيارات. ثالثًا: فإن كل الطرق المؤدية إلى القرى المحيطة بهافَمان كانت تُراقَب مراقَبة صارمة؛ لأن المُواطن الألماني الشرقي يجب حِمايته أيضًا من سُمِّ نَبِي الاشتراكية الديمقراطية حتى لا تنتقل إليه العدوى. أما الاقتراب بالرسائل والاتصالات التليفونية فهو الغباء الكامل. هافَمان كان نجمًا، مُحاصَرًا، ومُراقَبًا، يتنصَّتُون عليه ويحبسونه في قطعة الأرض الجميلة التي يعيش عليها، وإذا تحرَّك مرة في المدينة، كان يُراقَب من كل الجهات، لا يخطو خطوة من غير الشتازي، لم يكن هناك أمل.

صديقه الذي يسكن في «شوسيه-شتراسه» — الذي يزوره كثيرًا — هو وحْدَه القادر على أن يقوم بدور الرسول. أما الإجابة التي أحضرها لي ذات يوم فقد خيَّبَت أملي، بالرغم من أنها كانت منطقية. هافَمان يكتب ذكرياته، ودار النشر في ميونيخ تنتظرها، كما أنه مريض ولا يستطيع أن يأتي خِصِّيصَى من أجْلِي إلى شقة صديقه في «شوسيه-شتراسه».

إنه يكتب الآن بالتأكيد — هكذا قال لي بيرمان — ما تَودُّ أنتَ انتزاعه منه، حكايات عام ٤٣ و٤٤. إن بإمكانه أن يكتب روايات عن ذلك، فلماذا يحكي لكَ أنت تحديدًا؟ سيكون ذلك غباءً شديدًا يا عزيزي، عليكَ أن تتركَ له ذلك!

غير أنه أحضر لي تحياته، تحيات تَضامُنيَّة طبعًا، وقصيدة أيضًا، نعم، قصيدة نظمها هافَمان، «أعز أصدقائي».

كنتُ أود طرح ثلاثة أسئلة عليه، لو كنتُ أعرف آنذاك كل ما أعرفه اليوم:
  • قال أحد أصدقائكَ: إنك كنتَ تعتقد دومًا بقدرتكَ على خداع العالم كله، ولكن، إذا حدث خطأ أثناء ذلك، أو وقع أحد ما بين المطرقة والسندان؛ ماذا ستفعل عندئذٍ؟

  • إن الانتهازية والمثالية لديك تسيران بكل سهولة يدًا في يد، هكذا قال عنكَ شخص كان يعمل معك سرًّا، ولكن ماذا يحدث إذا كانت المثالية أقوى من الانتهازية لدى أصدقائك؟

  • يصفونك كثيرًا بأنك أستاذ في الخروج من المِحَن سالمًا. هل تستطيع أن تتخيل أن جيورج وأناليزه لا يحبان سماع ذلك؟

حتى لو كنتُ طرحتُ هذه الأسئلة آنذاك، لم أكن لأجرؤ على النَّيْل من صورة الرجل العظيم. كان نموذجًا، يريدون له أن يبقى كذلك. كل ما لاحظتُه هو أن الرغبة في لقائه — وعلى كل حال لم يكن هناك أمل في تحقيقها — اختفت تدريجيًّا. لقد تخلَّيتُ خلال الفترة الماضية عن رغبتي في حل لغز هافَمان. إنسان شجاع، مستمتِع بالحياة، متفائل وذكي، مؤمِن ومستفز، زير نساء، مقامِر حَذِر: كل كُتَّاب سيرته يجمعون على هذه الصفات. لقد سالَ حِبر كثير عنه، كما أنه ترك أعدادًا لا تُحصَى من المَقالات والمُقابلات والتصريحات والاعترافات، إضافةً إلى الكتب التي ألَّفها، آلاف من الناس يَدَّعون أنهم يعرفونه جيدًا، وكل واحد يقدِّم أكثر الآراء تناقضًا عنه. لا أستطيع مسايرة كل هؤلاء. لا أستطيع سوى الاستشهاد بقصيدته، «أعز أصدقائي».
وسط الشارع الفسيح
كنا نقف.
قاسيًا سطعَ ضوء القمر
في السماء الخالية من الغيوم.
المدينة المُعتِمة كانت تنتظر
مثل كل ليلة — ومنذ شهور—
نيران قاذفات القنابل القاتلة.
كنا نفكر في الحياة،
في أصدقائنا،
في عملنا السِّري.
أنتَ تعرف — هكذا قلتَ —
ما ينتظرنا، إذا …
لا ينقص الكثير
كي يحدث ذلك، رددتُ عليك.
لكني أحب الحياة
أكثر مما يجب بالتأكيد، هل تفهم،
أحب الحياة،
أحيانا ينتابني الخوف،
ليس علي،
بل على ولدَيَّ، لماذا
يجب عليهما أن يعيشَا في هذا العصر؟
وجهك الكبير يَختلِج
اختلاجة غير عادية.
اليوم أعرف
أنك بكيت.
كان جيورج إنسانًا رائعًا،
أعز أصدقائي.
عندما قَطعوا رأسه،
كان في التاسعة والثلاثين.

بالرغم من ركاكة الأبيات فإنها حرَّكت مشاعري. روبرت الذي واصل المقاوَمة في سجن براندنبورج بشجاعة كبيرة وحِيَل كثيرة، الذي صعد صعودًا مدهشًا في الحزب، الذي احتكر الحقيقة، روبرت هذا ظل سنوات عديدة يفكر تفكيرًا مكثفًا في دموع صديقه الممسوحة، حتى إن الكيميائي امتطى حصان الخيال المجنَّح باحثًا عن العزاء في قصيدة.

يقوم «زووم» آلة تصوير الماضي بتكبير المنظر: من «بسمارك-شتراسه» رقم ١٠٠ – حيث ينهض الآن هذا الصندوق الخرساني البائس – آنذاك كان المنزل الذي بُنِي في عصر تأسيس المدينة يضم قبل تدميره مكتب هافَمان، في الناحية الأخرى الضحايا، القمر يسطع فوق المدينة المدمرة تدميرًا جزئيًّا، الشارع الفسيح وفيه سيارة جيورج، هناك أراهما، كِلَا الشَّابَين، يتحدَّثان بصوت خافِت: لكني أحب الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤