الفصل الثاني

حوادث الحياة وأشكال الذكاء المجهولة

ليس للتاريخ أن يُعنَى ببِنْيَة الموجودات التي يُسَجِّل أعمالها، ومع ذلك فإن من المفيد أن تُبَيَّن باختصار طبيعةُ معارفنا عن حوادث الحياة والفكر التي يُشتقُّ منها جميع الأفعال البشرية وتفسيرها.

ومن العادة ألَا تُدرَس ظواهر الحياة إلا في الحيوانات والنباتات، كأن المولد المعدني يبقى خارج دائرة الحياة.

وما كان هذا التمييز ليستمر بفضل تقدم العلم.

أُلِّفَت الحياة من جملة ترديدات يُعَدُّ بعضها — كالحاسِّيَّة — مشتركًا بين جميع الموجودات من الحجر حتى البشر، على حين لا يُشاهَد بعضٌ آخر منها — كالفكر — في غير الموجودات العليا.

والحاسِّيَّة هي أبسط حوادث الحياة وأعمُّها، فهي موجودة في كل مادة، وقد أثبتت الملاحظات الدقيقة أن الأجسام البالغة الصلابة الفاقدة الحس ظاهرًا، كقضيب الفولاذ مثلًا، تُرَدِّد بفعل ارتفاع الحر جزءًا من مليون درجة، أي الحرارة التي تُحدثها شمعة موضوعة على مسافة عشرة آلاف متر.

وحاسِّيَّة المادة هي نتيجةُ مُلاءَمةٍ سريعةٍ لتقلبات البيئة التي تحيط بها، فعينُ الجسم يكتسب تحت مختلف تقلُّبات البيئة شكلًا مائعًا أو غازيًّا أو بِلَّوْريًّا أو غَرَوِيًّا ليلائم العوامل الخارجية.

وكذلك يمكن أن تُعَدَّ مظهرًا حيويًّا للمادة حركةُ الجزيئات المركبة منها الذرات التي تؤلفها، فكل ذرة تتألَّف مع صغرها الذي لا حدَّ له من جزيئات تدور حول مركز كما تدور السيارات حول الشمس، وتلوح القطعة المؤلفة من صخرة غير متغيرة، وهي كذلك في مجموعها لوقتٍ مُعيَّن في الحقيقة، ولكن لا من حيث الأجزاء التي تتركب منها ما دامت تتأثَّر بأدنى تقلُّبات الجو.١

•••

ويعرض العالَم النباتي في الحال الابتدائية — وهو أعلى من العالم المعدني ببعض الترددات — حوادث يتجلَّى تركيبها في العالم الحيواني فقط، وهذا الاختلاف في الدرجة هو أصل الفرق بين العالم المعدني والعالم الحي.

ويبدو عاملَا الحركة العظيمان في الحيوانات، وهما اللذة والألم، رسمًا ابتدائيًّا في العالم النباتي.

فالنبات يبتعد عن الألم ويبحث عن اللذة عندما يضايقه الظلام، فيتغلب على عوائق كثيرة ليجد شعاع الشمس الذي يحتاج إليه والذي تقوم عليه هناءته.

وتقترن حوادث الحاسية هذه بحوادث أخرى من ذات المرتبة كتلك المنازعات الابتدائية في سبيل البقاء التي تُشاهَد حول جذور بعض الأشجار، كالكستناء مثلًا حين تسير بعيدًا لتُنازع النباتات الأخرى في التراب ما هو ضروريٌّ لها من المواد الغذائية.

وقد ابتُدعت كلمة «التروبِيَّة»٢ للدلالة على تحويل هذه الظواهر إلى أفعال آلية في زمنٍ كان العلم يقيم فيه حواجز بين المادة والحياة، غير أن تلك الكلمة تدلُّ على معلولٍ لا على علة.

وبين هذه الحواجز التي أقامها العلم في أوائله كانت تظهر الفروق التي أوجبها الخيال في البُداءة بين الحيوان والإنسان، واليوم تزول شيئًا فشيئًا.

والمساواة بين الإنسان والحيوان تامة من حيث الحياة العضوية، وتتم جميع وظائف الحياة الفِزيولوجية كالدورة الدموية والهضم والتنفُّس، إلخ، لدى أحقر ذوات الثُّدِيِّ كما تتم لدى الإنسان.

أجل، إن الفرق بين الإنسان والحيوان كبيرٌ في منطقة المشاعر والأهواء، غير أنه ليس بعيد المدى، وما يُسَيِّر الإنسان من غيرَة وحقد وحب وأهواءٍ أخرى يُوَجِّه الحيوان أيضًا.

والحياة العقلية وحدها هي الفارق بين الحيوان والإنسان، والمسافة بينهما في منطقة الحياة العليا هذه هي من الاتساع ما يُفسَّر به اعتقاد الإنسان أنه موضع خلقٍ خاص.

•••

وتتخذ المادة شكلًا خلويًّا دائمًا لتكون حية، ففي باطن هذه الخلايا تتحول الحرارة والكهربا ومختلف القوى التي يَمِيرُها الهواء والأغذية إلى طاقاتٍ لا بد منها لنشر الحياة.

ويسير بعض القوى التي تتألف الحياة العضوية منها مثل عوامل عُمْيٍ كالجاذبية، وعلى العكس تبدو قوًى أخرى مُدَبِّرة ببصيرة عجيبة أعمالًا أعلى بما لا حدَّ له من التي يمكن أن يدركها — لا أن يحققها — أرقى العقول، وهذ إذا ما قِيسَتْ بمستوى مداركنا البشرية دلَّتْ على ذكاء مُدَبِّرٍ خارق للعادة.

ويظهر أن ذكاءً عاليًا يُدير العمل الخلوي، وما كان لعالِمٍ ضمن نطاق العلم الحاضر أن يُفُكَّ معضلات الفيزياء والكيمياء الهائلة التي يوجد لها حل بالخلايا الوضيعة في كل ثانية.

ويمكن أن يُقاس أيٌّ من ذوات الثُّدِي بمصنعٍ واسع مشتمل على مليارات كثيرة من الخلايا المِكْرُسكوبية، يمثل كل زمرة منها جمعيةً من العمال النُّشطاء،٣ وقد وُضعت هذه الزُّمَر تحت إدارة مراكز عصبية يمكن أن تُسمَّى مراكز الإدراك الحيوي.

وتقوم كل واحدةٍ من هذه الزُّمَر الخلوية بوظائف مختلفة مُعيَّنة تمامًا، وتَصنَع جموعٌ من صغار الكيماويين بينها بلا انقطاع مركَّباتٍ مُعقَّدة، فتوزعها أخرى حفظًا للأعضاء.

والعمل داخل المصنع العادي سهل؛ وذلك لأن كل عامل يقوم بذات الأعمال دائمًا، وأما في المصنع الحي فعلى العامل أن يُغيِّر عمله باستمرار تبعًا للأحوال، ومن ذلك أن حيوانًا إذا ما حُقِنَ بسمٍّ ما أمَرَتْ مراكز عصبية مجهولة بعض الخلايا بصنع مُركب يُسمَّى أنتيكور، ويختلف باختلاف طبيعة السموم التي يجب أن تُدفَع.

وهكذا نفترض في الخلايا الحية وجوهَ معرفةٍ أسمى من ذكائنا بمراحل، ولكن مع الاقتصار على أغراضٍ مُعيَنة.

ولا يزال نظام هذه القوى مجهولًا لدينا جهلَنا لطبيعة القوى التي تُفجِّر من الخلايا الدماغية مباني من الفكر خارقة للعادة.

•••

ويدل علم الأجِنَّة وعلم المستحاثات على أن الأشكال الحاضرة عُيِّنَتْ بحالاتها السابقة، فوجود كل فرد يبدأ بخلية مماثلة للتي كانت نقطة بدء الحياة في الماضي البعيد، ولكن مع الفارق القائل إن الطريق التي وجب مرور أكداسٍ من القرون لمجاوزتها تُقطع في أسابيع قليلة في رحم الأم، ولا يَفعل الموجود في حاله الجنينية غير رسم أشكال متوسطة ثَبَتَ أمره بها في أثناء حياته الموروثة عن الأجداد.

وليست هذه العوامل الخفية المسيطرة، التي تحكم على العالم بأن يتحول دائمًا، غير مظاهر لضروراتٍ غير منظورة لطبقة مجهولة من الأمور تجمعها كلمة الطبيعة.

ومع أن جميع الملاحظات التي يشتمل عليها هذا الفصل تبتعد عن فلسفة التاريخ ظاهرًا فإنها ترتبط فيه ارتباطًا وثيقًا، وهي تدلنا على مقدار ما وجب تراكمه من الأزمان حتى انتقلت ذرات السديم الابتدائي الذي يُشتقُّ منه عالمنا، من الحياة المعدنية إلى الحياة المفكرة مقدارًا فمقدارًا.

١  يجد القارئ هذه المسائل التي يمكن أن تجتذبه مُفصَّلة في كتابي: «تطوُّر المادة». فقد انتهيت بمباحثي التي دامت عشر سنين، فنشرت تفاصيلها في ثماني عشرة مذكرة، إلى النتيجة القائلة خلافًا لجميع الآراء المُسَلَّم بها: إن المادة مكونة من تكاثُف جسيم للطاقة التي عينت درجة اتساعها، وقد جاءت مباحث كثير من علماء الفيزياء مؤيدة لهذه النتائج التي ألقت حيرة في البداءة، وهي تلخص في مقالة للأستاذ بوتاريك نشرتها الناتور في ١٥ من أبريل سنة ١٩٢٩، وتشتمل هذه المقالة على الأسطر الآتية، وهي: «إن تجارب روترفورد جاءت بدليلٍ صريح مؤيد للفرضية التي أتى بها غوستاف لوبون للمرة الأولى، والتي تنصُّ على أن الذرات مبانٍ متقلبة مشتملة على ذخيرة عظيمة من الطاقة الكامنة التي يمكن إطلاقها عند تحطيمها.»
وتدل مباحث علماء الفيزياء الحديثة على أن الذرة السابقة المركبة من عناصر بسيطة جامدة هي على العكس معقدة جدًّا.
ويتألف كل واحد من هذه العناصر من أجزاء كهربية سلبية صغيرة إلى الغاية تُعرف بالإلكترونات الدائمة الدوران حول مركز كهربي إيجابي يُعرف بالبروتون، وذلك كالسيارات التي تدور حول الشمس. ولذلك يكون أعظم جزء من الذرة فارغًا، وقد حسب أنه إذا ما اقترب من النقطة التي يمكن جميع عناصر الذرات أن تتماس عندها وجد أن حجم الرجل الشاب الذي يزن مائة كيلوغرام يكون دون حجم رأس الدبوس بمراحل، غير أن رأس الدبوس هذا يزن مائة كيلوغرام دائمًا، ويبدو أن هذا التقريب بين الذرات يتم في نجومٍ كثيرة، ولا سيما رفيق الأبرق. ولذلك تكون كثافة المادة هنالك أعظم من كثافة الماء بخمسين ألف مرة.
٢  Tropisme.
٣  عدد هؤلاء الصغار يثير العجب، ومن ذلك أن عدد كريات الدم يترجَّح بين أربعة ملايين وخمسة ملايين في كل مليمتر مكعب، فبعد أن تقطع ما بين القلب ومختلف الأعضاء من مسافة في مرات تترجَّح بين ٤٠٠٠٠٠ و٥٠٠٠٠٠، وتكون قد ختمت حياتها في الطحال وقامت مقامها كريات جديدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤