الفصل الثاني

تعيينُ الحوادث بالشهادة

يقوم التاريخ والعدل على ما تُمنَحُه الشهادة من أهمية.

وإلى هذه السنوات الأخيرة، أي: إلى أن أتت المباحث النفسية الخاصة لتُلقِي نورًا غير منتظر على هذا الموضوع، لم تكن قيمة الشهادات ليُجادَل فيها مطلقًا عند افتراض صدورها عن حُسن نية، وكان من القاعدة أن يُعتقد كلام الشاهد السليم القلب الذي يَقُصُّ أمورًا رآها، أو يروي أمورًا عن أُناسٍ كانوا قد رأوها، ولِمَ لا يُصدَّق الراوي إذا كان خاليًا من الغرض ولم يستحوذ عليه هوًى ديني أو سياسي؟ ولِمَ لا يَروي الرجل الأمين الذي يقصُّ حادثة شاهدها خبرها بإخلاص؟ أفلا ينطوي الشك في مثل هذه المعارف ذات مرة على عدولٍ عن كتابة التاريخ؟

جاءت مباحث علم النفس التجربي الحديثة لتقضي قضاءً تامًّا على هذه الثقة المتأصلة حول قيمة الشهادة، وقد أثبتت هذه المباحث أن من المتعذر تقريبًا نَيل رواية غير زاخرة بالخطأ عن أبسط الوقائع التي لا يمازجها أي هوًى أو غرض، فالخطأ لا الصواب هو الذي يؤلف القاعدة، ويكون هذا الخطأ خطِرًا بنسبة اقترافه في الغالب عن حُسن نيةٍ تامة. وقام الدكتوران إ. بِرنهَيْم وبورت وغيرهما بتجارب بارزة حول هذا الموضوع، فرأى الدكتور بِرنهَيم أن من الصعب إلى الغاية نَيل رواية صادقة تقريبًا عن حادث مشهود.

وليست الشهادات الإجماعية أصلح من تلك، فهي تدل عمومًا على نتيجة تلقينٍ جماعي صادر عن أحد الناظرين.

وأكثر التجارب إمتاعًا حول هذا الموضوع هو ما أتاه الأستاذ في جامعة جنيف: كلا باريد، فلم يكن الأشخاص الذين خضعوا للتجارب في هذه المرة أفرادًا أيًّا كانوا، بل تلاميذ أذكياء جدًّا، ومع ذلك فإن الشهادات التي حصُل عليها تثير الأسى تمامًا، وكان من أبرز الأسئلة التي طُرحَتْ على الطلبة ما يأتي:

أتوجد نافذة داخلية مُطلة على مجاز الجامعة واقعة على الشمال حين الدخول ومواجِهة لنافذة غرفة البواب؟

أُنكرت معرفة هذه النافذة التي كان التلاميذ يمرون أمامها كل يوم من قِبَل أربعة وأربعين طالبًا بين أربعة وخمسين.

وإلى ذلك أضاف المؤلف قوله: «توجب الشهادة الجماعية التي هي من هذا النوع شيئًا من القلق واليأس، وذلك أنه إذا كان احتمال الصدق حول أمرٍ مشهودٍ غير متناسب مع عدد الشهود الذين يؤكدون وقوعه، هؤلاء الشهود الاعتياديين الذين سُئلوا في أحوالٍ عادية عن وجود شيء اعتيادي، هؤلاء الشهود الذين وُجدوا في مكانٍ مألوفٍ لديهم، فأيُّ مقياسٍ للصدق يبقى؟

ونتيجةٌ مثل تلك تثبت إثباتًا ساطعًا إمكان وجود الحق بجانب فئة قليلة تجاه فئة كثيرة في بعض الأحوال، لا من حيث كون قيمة الشهادة غير متناسبة مع عدد الشهود فقط.

وهنا يُسأل: هل القاعدة ألا تُعرَف الأشياء الفاقدة النفع المحيطة بنا، وهل من المصادفة وحدها — وعلى استثناء — أن تترك هذه الأشياء أثرًا على لوح ذاكرتنا الحسَّاس؟ …»

ولهذا المؤلِّف ملاحظاتٌ أخرى تدل على أن الأمر الاستثنائي لا يُحفظ أحسن مما تُحفظ الأمور اليومية، ومن الواضح أن من غير الاعتيادي تمامًا أن يُوغِل رجلٌ مُقَنَّع لابس ثوبًا غريبًا ويقفز في المدرج حيث يُلقي أستاذ درسه، فالدكتور كلاباريد الذي نظَّم هذا المنظر من غير أن يُخبِر به أحدًا، طلب من التلاميذ أن يُقدموا خطيًّا سلسلة من الأجوبة في وصف ذاك الرجل، وكان الخطأ الذي اقتُرف في ذلك عظيمًا، ومن ذلك أن أشار الشهود إلى جزئياتٍ في الثوب غير موجودة، كالجزمة١ الكبيرة والسروال ذي الترابيع، إلخ.
ثم أُدخِل بعض التلاميذ إلى بهوٍ حيث كان عددٌ من المنكَّرين الشديدي التبايُن بلِحًى وغير لِحى وأنوفٍ قُنوٍ وأنوفٍ قُعوٍ،٢ إلخ، فكان يظهر بينهم ذلك الرجل الذي برز بغتةً في ذلك المدرَّج، فلم يعرفه غير ستة نُظَّار، ولكن بتردد، من بين ثلاثة وعشرين.

ومما لا ريب فيه أنه كان يُجتنب في جميع المسائل المطروحة، وهو ما يصنعه قُضاة التحقيق على قِلَةٍ تلك التي يمكن أن يُلقَّن بها الشاهد، فالسؤال عن أن شعر المتهم لم يكن أشقر هو غير السؤال عن لون شعره فقط.

•••

ومن المباحث السابقة استخلص مسيو كلاباريد نتائج كثيرة، وإليك خلاصتها: «كلما قلَّ تذكُّر حادث عَظُمَ الميل الجماعي إلى الشهادة حوله.»

«والذي يحفز الشاهد على الجواب هو احتمال وجود الشيء أكثر من جلاء تذكُّره.»

«وبجانب الميل إلى إنكار ما هو موجود يوجد ميلٌ إلى توكيد ما هو غير موجود، وهل فُصِّلَ هذا كذلك أيضًا؟»

ودقة الشاهد في مسألةٍ لا تدلُّ على صدقه في مسائل أخرى، والعكس هو الواقع.

قال كلاباريد أيضًا: «إذا ثبت أن شاهدًا أدَّى جوابًا صائبًا كان احتمال صواب الأجوبة الأخرى ضعيفًا جدًّا، ولكن هذا الاحتمال يكون أضعف من ذلك أيضًا إذا ما أدَّى جوابَين صائبَين، ويظهر أنه يوجد للقدرة على الشهادة حدٌّ طبيعيٌّ لا يستطيع متوسط الأفراد أن يُجاوزه، شأن القدرة على القفز عاليًا مثلًا … وبثلاثة أجوبة صائبة من سبعة يلوح بلوغ شاهد متوسط حد قدرته على الشهادة الصحيحة.»

«وفي الشهادة الجماعية ليس الجواب الصائل هو ما يبلغه دائمًا معظم الأصوات النسبي.»

«ويُسلِّم المؤرخون بأن اتفاق كثير من الشهود المستقلين دليلٌ على الصدق، وعلى العكس تدلُّ تجارب علم النفس على أن الاختلاف الفردي كلما عظم، وُجِدَ مع ذلك بعض المناحي التي تسيطر على روح جميع الأفراد، فيمكن أن يحدث اتفاقٌ على الخطأ حتى لدى الشهود الذين يسير كلُّ واحدٍ منهم مستقلًّا عن الآخرين.»

•••

وسيُحمَل أكثر من قارئ — مختارًا — على عدِّ تجارب المختبر التي قامت عليها التجارب السابقة خاصةً، فيزعم أن الأمور في مجرى الحياة تسير على وجهٍ آخر.

والأمر غير ذلك، فمن غير احتياجٍ إلى البحث التجربي يمكن أن يُشار، عند العود من رحلةٍ، إلى مقدار الشرود والخطأ في ذكرياتنا عندما نكتبها من ذاكرتنا، فنقابل بينها وبين ما في كتب الدليل من أوصاف، أو نقابل بينها وبين الصور الفوتُغرافية.

قال الدكتور تولوز: «إذا ما بيَّن سائحٌ ما يذكره بعد جَولانٍ دُهِشَ واغتمَّ وخجل من الأشكال المضحكة المشوَّهة المُغَلَّطة التي احتفظ بها في أثناء نُزَهِه، ومن ذلك أنني أحببت أن أقوم ببعض تجارب حول ذلك، فسألت بعض الطوافين عما شاهدوه قبل قليل من المناظر والمباني، فأتوني بأوصافٍ يُرثى لها، ولشدَّ ما ذهلوا حينما عرضت عليهم صور تلك الأمكنة الفوتُغرافية.»

وفي جميع هذه الملاحظات السابقة لم يَدُر البحث في غير الوقائع التي لا يمكن أن تتدخل فيها أهواء المُشاهِد الدينية أو السياسية، فإذا ما تحركت هذه الأهواء جاوزت التشويهات الحد، ويمكن أن يُستنتج من هذا كَون الحوادث تُمسخ في الأدمغة كلما تمَّت، وكون شهادة الأشخاص الذين يرونها لا تصلح لغير تشويهها تشويهًا تامًّا.

وقد أتى جُول سيمون بمثالٍ بارز عن فتنةٍ وقعت أمامه، حيث قال: «كنت قد قصصت غير مرة خبر يوم ٣١ من أكتوبر سنة ١٨٧٠، وكل قصة على شاكلته، ولا يمكن إلَّا أن يُحار كثيرًا من تناقض أُناسٍ كثير من ذوي الصلاح فيما بينهم عندما يَقُصُّون وقائع كانوا قد شاهدوها، وأجدُ في كل خطوةٍ هذا المنظر الهائل، وهو أن أقلَّ ما يطمئن إليه الإنسان هو نفسه، وهو لا يَثِق بعينيه، لِما بين عينيه وذاكرته من ناحيةٍ وخياله من ناحيةٍ أخرى من صراعٍ مستمر، هو يعتقد أنه يرى وأنه يذكر، فيخترع.»

والتشويه أشدُّ ما يبدو عميقًا في الحوادث الدينية، وهو يُشاهَد في قصص الخوارق والظهورات الزاخرة بها الكتب، ففي عشرة قرونٍ رأى الشيطانَ ألوفُ الناس، فلو عُدَّتْ الشهادة الإجماعية التي أتاها هؤلاء الناظرون الكُثر دليلًا لقيل إن الشيطان هو الشخص الذي يكون وجوده قد أُثبِتَ خيرًا من غيره، ومما لاحظه لانغلوَا في هذا الأمر وجود وقائع تاريخية قليلة قامت على مثل هذا العدد من الشهادات المستقلة.

•••

وكان المؤلفون السابقون يُفسِّرون هذا الاختلاف في الشهادات بقولهم إن بعض الشهود كان حَسَن النية وبعضًا آخر منهم كان سيئ النية، ويدلُّ علم النفس الحديث على أنه أُتِيَ بهذه الشهادات المتناقضة بأمانةٍ تامة في الغالب، فكلُّ ما يشاهده الناظر يُمثِّلُ صورًا استدعتها حادثةٌ في خياله، لا الحادثة نفسها، والناظر يستكمل سلسلة من الخواطر والإنابات لم تلبث نتائجها أن تبدو له من الحقائق.

وفي الشهادة يمكن أن يُقال على العموم إن الخطر في حُسن النية لا في سوئها، فيسهل كشف سوء النية بتناقُض الشاهد عندما يكرر قصةً كاذبة، ولكن كيف تُشَخَّص الضلالات النفسية التي ذهب الشخص المُخْلِص ضحيتها؟ ثم إن سوء النية يتحول إلى حسن النية بتلقينٍ ذاتي، والواقع أنه يكاد يتعذَّر على الإنسان أن يُكرر الكذب عينه لزمنٍ طويل من غير أن يُصدِّقه في آخر الأمر.

وإذا كان من الصعب أن تُروى الوقائع بدقةٍ؛ فذلك لأن القدرة على الملاحظة تظلُّ قليلة النشوء حتى في أبسط الأحوال، كالنظر إلى بناءٍ أو إلى ما يَحدث في الشارع مثلًا، ولا ريب في أن رجال الجامعة عندنا في كل وقت عدُّوا هذا الفن غير نافع ما داموا لا يعلمونه، وهذا يوضح السبب في كون تلاميذهم يَجوزون الحياة من غير أن يرَوا شيئًا فيها.

ومع ذلك يُمكن أن تُكتسب صفة الملاحظة عمليًّا بمناهج سهلةٍ بعض السهولة قد عرضتها في مكانٍ آخر.

وتضمن الملاحظة الصحيحة للإنسان أفضلية في الحياة لا جدال فيها.

وتدلُّ التجارب التي أُدرِجَتْ في هذا الفصل دلالةً واضحةً على كون الشهادة التي عُدَّتْ من أضمن مصادر التاريخ فيما مضى لا تنطوي على غير قيمة ضعيفة.

وجمع شهاداتٍ حول حادثةٍ — كما يُصنع اليوم عن الحرب — عملٌ لا نفعَ فيه، فليس بتكديس الخطأ ما يُمكن استخراج حقيقةٍ.

والآن ندرس مناهج أخرى أضمن بمراحل من المناهج التي ذُكر نقصها، وذلك وصولًا إلى تصحيح حياة أحد الأدوار.

١  Botte.
٢  جمع أقعى، وهو من الأنوف ما أشرفت أرنبته ثم مالت نحو القصبة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤