الفصل الأول

قوى الأجداد

ليست الشعوب أكثر من الكون حيازةً للثبات الذي يلوح أن كُتُب التاريخ تعزوه إليها، فالجماعات البشرية في تطوُّرٍ مستمرٍ كجميع الموجودات، ويُشبَّه الشعب بنهرٍ ذي ثباتٍ ظاهر بسبب جمود ضفَّتيه على الرغم من جريانه الدائم.

وتتألف الضِّفاف التي توجه مجرى النهر البشري من شبكةٍ وثيقةٍ من مختلف العوامل، وهي: الوراثة، والمعتقدات، والعادات، والقوانين، والأخلاق، والتربية، إلخ. فإذا بقيَتْ هذه الأمور الناظمة على حالها من غير كبير تحوُّل كانت التقلُّبات الاجتماعية من البطء ما تُبصر معه بصرًا ضعيفًا، والتاريخ زاخرٌ بأمثلة هذا الثبات الوهمي، كعصر بِرِكلِس وعصر أغسطس وعصر لويس الرابع عشر، إلخ.

وهذه الأدوار العظيمة متجانسة، لا لأن التطور الذي لا مفر منه قد وقف مجراه، بل لتجلِّي ثبات المبادئ الناظمة الدينية والسياسية والأدبية، إلخ، واستمرارها في جميع عوامل الحياة الاجتماعية.

والشعب لكي ينال هذه الوحدة التي لا يستطيع أن يُفلح بغيرها، لا بُدَّ له من اكتساب بعض ثباتٍ في الأفكار والمشاعر والمعتقدات، يمكنه أن يُحوِّل إلى كتلةٍ متجانسة نَقْعَ الأفراد الذين كان قد تألف منهم في البداءة.

والصعوبة هي في نيل درجةٍ من الثبات الوثيق ما تبقى به الكتلة على شيءٍ من المرونة تستطيع أن تتطور معه.

وقليلٌ من الأمم من عرف أن يُحقق شَرطَي التقدم هذين.

•••

وفي الصف الأول للعلل الكبيرة التي تُعيِّن التاريخ تبرز العوامل الموروثة من الأجداد، أي: مجموع القابليات التي تُولد مع الإنسان، وكُنَّا قد أشرنا إلى هذه القوى عندما درسنا عملها في تكوين ذاتيَّتنا الخُلقية، فمن روح الأموات تكوَّنَتْ روح الأحياء، وفينا لا في المقابر يرقُدُ من زالوا بالحقيقة، ويوجد كثيرٌ من القرون خلف كل موجودٍ أتى إلى النور، ويبقى هذا الموجود متأثرًا بماضيه.

وبما أنني عالجت هذا الموضوع في كتابٍ آخر فإنني أقتصر هنا على تلخيص بعض أقسامه الأساسية:

تدلُّ الملاحظة على أنه يُمكن أن تُقَسَم الأمم تقريبًا إلى عروقٍ ابتدائية، وعروقٍ دُنيا، وعروقٍ متوسطة، وعروقٍ عالية.

فأما العروق الابتدائية ومنها: الفِيوجيُّون والأُوسيَانيُّون فقريبةٌ من حيوانية الأجداد الأولين، وهي لا تُبدي أيَّ أثرٍ من الثقافة.

وأما العروق الدنيا ومنها: الزنوج والبُوروج فتستطيع أن تنتفع بشيءٍ ابتدائي من الحضارة، ولكن من غير أن تقدر على الصعود عاليًا مُطلقًا.

وفوق العروق السابقة يجيء صُفْرُ آسية، ولا سيما الصينيُّون، فهم قد اتَّفقَتْ لهم أطوارٌ رفيعةٌ من التمدُّن جاورَتها الأمم الهندية الأوربية، ومن هؤلاء الأخيرين تتألف العروق العُليا.

•••

وجميع الأفراد في العروق الدنيا يحوزون المستوى النفسي عينه تقريبًا، وعلى العكس، يكون التفاوُت الذهني هو القاعدة لدى العروق العليا، ولكن الأفضليَّات إذا ما أصبح بارزةً كثيرًا لم تنتقل قَط، فالواقع أن الوراثة تَرُدُّ إلى المستوى المتوسط دائمًا ذراري الأفراد الذين جاوزوه كثيرًا؛ ولهذا السبب يندر جدًّا أن يترك أعاظم الرجال وارثين جديرين باسمهم.

وتمثل الشعوب المتمدنة الحديثة امتزاجاتٍ نشأت عن مصادفات الفتوح والغزوات، إلخ. وقد ثبتت هذه العناصر المتباينة بفعل تماثل البيئة والمعتقدات والمصالح، وقد أسفر توالدها في نهاية الأمر عن تكوين زُمَرٍ متجانسة كنتُ قد وصفتها بالعروق التاريخية.

ويجب لتمازج مختلف العروق وتأليفها عرقًا جديدًا على شيءٍ من التجانُس، ألا يكون الأفراد المختلطون كثيري التبايُن بأخلاقهم وذكائهم.

ويمكن أن يُسفِر التوالُد عن عُنصرٍ تقدُّميٍّ إذا ما وقع بين عروقٍ عالية قريبٍ بعضها من بعض، وهو على العكس يُصبح عنصر انحطاطٍ إذا ما كانت العروق المتوالدة مختلفة جدًّا، ولم يُبصر الإسبان الذين فتحوا جنوب أمريكة هذا الخطر، فكان هذا سببًا في كون جميع الجمهوريات الإسبانية الأمريكية — التي أُلِّفَتْ بتوالد الغُزاة وأهل البلاد الأصليين، والتي يسكنها مُوَلَّدون جامحون — لم تخرج من الفوضى، وهي لن تتفلَّت من هذه الفوضى، كجمهورية كوبا، إلا بمعاناتها مباشرةً من بعض الوجوه سلطان عرقٍ متجانسٍ رفيعٍ، كالذي أوجب نجاح الولايات المتحدة.

وبعد أن قاسم أمريكيو الولايات المتحدة لزمنٍ أوهام الأوربيين في مساواة العروق، هذه الأوهام التي قررت حرب الانفصال الهائلة، أدركوا في آخر الأمر خطر خطئهم، فتراهم اليوم يجتنبون كل توالُدٍ مع ملايين الزنوج الثلاثة عشر الذين يسكنون بلادهم؛ ولذلك كان قانون لنش ضرورةً عِرقية.

وينطوي كلُّ عرقٍ على مزايا ونقائص لا يُغيِّرها الزمن أو التربية مطلقًا، ولا تتحول نُظُم الأمة ولغتها وفنونها إلَّا بتطورٍ بطيء حتى تلائم مزاج الأمة النفسي الموروث الذي يتقبَّلها.

وإذا ما لاح أن الأمم تعتنق من المعتقدات والنُّظم واللغات والفنون ما يختلف عما كان لدى أجدادها لم يكن هذا — في الحقيقة — إلا بعد أن تكون قد تحوَّلَتْ تحوُّلًا عميقًا، أجل، إن البرهمية والبُدَّهية (البوذية) والنصرانية والإسلام أديانٌ أدت إلى اعتناقاتٍ ظاهرةٍ لدى عروقٍ بأسرِها، غير أن هذه الأديان تحولت كثيرًا بانتقالها من أمة إلى أخرى، فلما انتقلت البُدَّهية إلى الصين شُوِّهَتْ بسرعة، والإسلام في فارس غيره في بلاد العرب أو الهند، ولا يزال ابن بريتانية الدنيا يتخذ من الأصنام كوثنيٍّ حقيقي، ويَعبُد الإسباني تعاويذ، ويبقى الإيطاليُّ مُشرِكًا، فيُقَدِّسُ لصورِ العذراء في مختلَف القُرى كأنها آلهةٌ شتَّى.

وكان الانفصال الإصلاحي نتيجة تفسير الكتاب الديني عينه من قِبَل شعوبٍ مختلفة، فكانت شعوب الشمال تريد النقاش في معتقداتها وتنظيم حياتها بنفسها، وكانت شعوب الجنوب تُفَضِّل الخضوع بلا جدالٍ لعقائد تفرضها سلطةٌ عالية.

ويُسيطر على جميع تقلُّبات السياسة لدى الشعوب اللاتينية — ولا سيما الفرنسيُّون — عنصرٌ بارزٌ من عناصر مزاجهم النفسي الموروث من الأجداد، وهو احتياجهم أن يُساعَدوا ويُوَجَّهوا في أدق أعمالهم من قِبَل حكومة، فالحكومية هي النظام الوحيد الممكن لدى الأمم اللاتينية وإن اختلفت الأسماء.

•••

حقًّا إن الحوادث التي تظهر كل يومٍ ليست وليدة الحاضر، بل وليدة ماضٍ طويل، فإذا ما وَحَّدَتْ قرونٌ من المصالح المتماثلة والمعتقدات الواحدة أمة حازت هذه الأمة من المسيرات الوراثية ما يتألف من مجموعه كيانٌ يُسمَّى: الروح القومية، وهذه الروح هي التي تعمل في الأحوال العظيمة التي تُهدِّد وجود العِرق، كالغزو مثلًا، وهذه الروح القومية أيضًا هي التي تجعل جميع أعضاء العرق يُبدون أخلاقًا مشتركة على الرغم من اختلافاتهم الفردية، ومن ذلك أنك تجد لدى الإنكليز أو البريتون أو الأُفِرنيين أو البروفَنسيين أو اليابانيين، إلخ، من طُرُز الشعور والتفكير، ومن طُرُز الاستدلال غالبًا ما يجعلك تعرفهم من فَورِك.

وليست العوامل التي تستطيع أن تمنح الأمة مجموعةً من الأخلاق المشتركة الصالحة لتكوين روحها القومية كثيرةً، ويكون العقل غريبًا عن تكوينها في الغالب، ولها ركنٌ بتوحيد المشاعر الجماعية والدينية، وما كان دينيًّا منها يُعدُّ أقواها، فعبادة رومة في العالم القديم، والنصرانية في القرون الوسطى من أبرز الأمثلة على مثل تلك العوامل.

•••

وأشدُّ الأهوال التي يمكن أن تُصاب بها الأمة: هو ضياع روحها القومية، فلم تكن غزوات البرابرة المسلحة هي التي قضت على عظمة رومة، بل امتزاجات الشعب الروماني الطويلة بالأجانب.

وكما لاحظنا فيما تقدم: كادت الولايات المتحدة في الوقت الحاضر أن تذهب ضحية مثل هذا القدر، نتيجةً لغزو متباين العناصر غزوًا تدريجيًّا، فشعرَتْ بالخطر في الوقت المناسب، وانتهت إلى إغلاق أبوابها إغلاقًا تامًّا تقريبًا دون المهاجرين.

وما كانت أكمل تريبة وأصلح نظم سياسية لتُحوِّل بعض العوامل الوراثية، ولو تألف شعبٌ خِلاسيٌّ من حملة البكلوريا ومن المحامين والدَّكاترة لغدا عُرضةً للفوضى، فإلى النظم الدكتاتورية التي تؤدي إليها هذه الفوضى لا ريب.

وتدلُّ أوربة الحديثة مرةً أخرى على مقدار ثِقَل المؤثرات الوراثية في حياة الأمم، وما تلاقيه محاولة تحقيق اتحاد أوربِّي من مصاعب خارقة للعادة، يُثبت ضعف الضرورات النظرية إذا لم تستند إلى بعض المشاعر الوراثية مُجتمعةً.

وما بين الأحياء من تضامنٍ يستند بحكم الضرورة إلى تضامُن بين الأموات الذين تكوَّن الأحياء منهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤