الفصل الرابع

شأن الجماعات الحاضر

ترى المجتمعات نفسها خاضعةً بالتدريج لسلطانٍ جديد، أي: لسلطان الجماعات، وذلك بعد أن سيطر عليها الآلهة والملوك والخواص بالتعاقُب.

ويواجه العالم الحاضر هذا الأمر المتناقض، وهو: إخضاع الخواص لعزائم الجماعات، مع أن الحضارة لم تتقدم قط إلا بنفوذ الخواص وعلى الرغم من الجماعات.

وقد دلَّتْ مباحث علم النفس الحديثة على تأصُّل أوهام محترفي السياسة الكثير حول قدرة العدد المفروضة، وقد أثبتت هذه المباحث كون آراء الجماعات خاليةً من مستندٍ عقليٍّ، فالإنسان في الجماعة يرجع إلى همجية ما قبل التاريخ.

ولا يُؤَثَّر في الجماعات إلا بمخاطبة مشاعرها خلافًا لما يساور محترفي السياسة المعاصرين من أوهامٍ عقلية.

وإذ تعجز الجماعات عن الإدراك فإنها لا تلتمس الإدراك، وإذا صار الفرد جزءًا من جمعٍ نال قدرةً قاهرةً تُغنيه عن التأمُّل والتعقُّل قبل السير، فضعيفو الذكاء من الأفراد إذا ما تجمَّعوا نالوا قدرةً موقتةً، ولكنها عظيمةٌ جدًّا.

ولم يُعرَف انحطاط الجماعات النفسي إلا منذ أبحاث علم النفس الحديث، وقد جَهِلَ مؤرخو الماضي هذا الانحطاط على العموم، ومن ذلك أن عزا مِيشلِه إلى الجماعات قابليَّاتٍ عالية، فهو يرى أن الناس عُرضةٌ للخطأ إذا كانوا منفردين، فيكفي أن يُجمَعوا لينالوا استعدادًا عظيمًا، وهكذا فإن هذا المؤرخ الشهير كان يفتخر بعَدِّه الشعب بطلًا بدلًا من أن يحذو حَذو القدماء، فيكتب تاريخ الأبطال وقادة الشعوب. ومن قوله:

«لقد تناولتُ التاريخ من الأسفل في صميم الجماعات، أي: في غرائز الشعب، فأظهرتُ كيف قاد زُعماءه.»

وبما أن جرائم الجماعات ظاهرةٌ ظهورًا لا جدال فيه فإن مِيشلِه لا يُجادل فيها، ولكنه يعزو هذه الجرائم إلى عوامل مرضية عابرة دعمًا لرأيه، «فعلمٌ للأمراض النفسية المُعديَّة» وحده يمكنه أن يُفَسِّر الهول على حسب نظريَّاته.

•••

ويُرى في جميع أدوار الفوضى — أي: في الأدوار التي تنحلُّ الروابط الاجتماعية فيها — تجلِّي عمل الجماعات المُفسِد للنظام، غير أن شأنها كان موقتًا دائمًا، فلسُرعان ما كان يتوارى عامل التخريب.

وكان عمل الجماعات أقلَّ عُنفًا في الظاهر أحيانًا، فصار أكثر خطرًا في الوقت الحاضر؛ لأنه أكثر استمرارًا، ويَلوحُ أن الشيوعية، التي هي أقصى شكل لقدرة العدد، تُمثِّل آخر تطوُّرٍ للديموقراطيَّات، منتظرةً خاتمتها بدِكتاتوريَّاتٍ شخصية وفق سُنَّةٍ صوَّرها أفلاطون وحُقِّقَتْ غيرَ مرة في غضون التاريخ.

ويَنِمُّ تفوُّق العوامل الجماعية على تأخُّرٍ حقيقيٍّ مؤدٍّ إلى تلك الأشكال المنحطَّة التي تُلاحَظ لدى الهمج الفطريِّين، هؤلاء الذين يكون تحرُّر روحهم من الروح الجماعية من القِلَّة، ما يُعَدُّ معه جميع أعضاء نفس القبيلة مسئولين عن أعمال أحدهم، وتُواصَل هذه الحقوق الجماعية الكثيرة المباينة للمبادئ الأوربية من قِبَل كثيرٍ من الشعوب، ولا سيما الأنَّامِيُّون.

•••

ومن دواعي الأسف أن ظهرت الجماعات في زمنٍ يُصبح فيه شأنُ الخواص الموَجِّهين أمرًا ضروريًّا مقدارًا فمقدارًا. ومما لُوحِظَ منذ زمنٍ طويلٍ أنه إذا ما حُذِفَ من بلدٍ ما — كفرنسة مثلًا — بضعة آلاف الأفراد الذين يتألَّفُ منهم خيار جميع الطبقات، ومنها طبقة العُمَّال، سقط هذا البلد من فوره إلى مستوى الصين.

أجل، إن العدد يُوجِدُ القوة، غير أن قوة العدد هذه لا تقوم مقام التوجيه الذي يتمُّ على يد الخواص.

وقوةُ العدد هدَّامةٌ على الخصوص، ولو سيطرَت الجماعات على العالم منذ أصل الأجيال ما خرج الإنسان من الهمجية، ولم يتفلَّت الإنسان من الهمجيَّة إلا بفضل بعض الأدمغة، البالغة من القدرة، ما حققت به كلَّ تقدُّمٍ أساسيٍّ أدَّى إلى ظهور الحضارات ونموِّها.

وتُصبح الأخطار التي تُعَرَّضُ لها الأمم بفعل سلطة العدد المتصاعدة أكثرَ ظهورًا يومًا فيومًا، فيُمكن أن تنشأ حروبٌ طاحنة عن حركةٍ بسيطة في الرأي تَشيعُ بين الجموع بفعل العدوى النفسية.

ولا مِرَاءَ في أن القوى الاقتصادية التي تَصدر عن اختلاط الأمم تسيطر على العزائم الجماعية بالتدريج، بَيد أن هذا التطوُّر ليس في غير أوائله.

•••

وتكون الجماعات خَطِرةً بنفوذها المحافظ أحيانًا أكثر مما بعملها الثوري.

وقد جَرَّبَتْ فرنسة ذلك عدة مرات منذ الثورة الفرنسية حتى أيامنا، وعن المحافظة الشعبية نشأت الإمبراطورية الأولى والإمبراطورية الثانية مع نتائجهما المشئومة.

وينطوي عمل الجماعات على هَوْلٍ متساوٍ، سواءٌ أكان هذا العمل ثوريًّا أم محافظًا، وذلك لِما يُلازم الحركات الشعبية من عُنفٍ في كل حين، ولِما تُصبح به هذه الحركات أشدَّ خطرًا في كل يوم بفعل اكتشافات العلم الحديثة، ولو أضحى الكومون سيد باريس في سنة ١٨٧١، وكان حائزًا لوسائل التخريب الحديثة، لتحوَّلَتْ هذه العاصمة العظيمة إلى رُكامٍ من الأنقاض، ولم يتفلَّت اللُّوفَر وعجائبه الفنية من الحريق الذي قضى على دار البلدية والتوِيلُري وغيرهما من مباني باريس إلَّا لنقص وسائل التخريب المعروفة في ذلك الحين، ولو سقطت هذه المدينة القديمة بين يدَي جماعةٍ ثوريةٍ مرة أخرى لخُرِّبَتْ تمامًا على ما يُحتمل.

وإذ لم يُبالِ مُحترفو السياسة بهذه الممكنات، وإذ يحاولون استغلال صَولات الشعب، يَدُلُّون على جهلٍ نفسيٍّ فيهم يُلقي الحيرة في مؤرخي المستقبل.

وتجد الجماعات في عناصر الشعب المُنَوَّرة دعامة استحسانٍ لطلباتها. والواقع أنه ينتصب اليوم ضد الدولة جحفلٌ من الموظفين الذين يجب عليهم أن يؤيدوها وجحفلٌ من المربِّين الذين يُعهَد إليهم في تثقيف الجموع.

ولو تمَّ النصر لهؤلاء العصاة في فرنسة لسقطت من فَورها في حالٍ مُنحطَّةٍ من الفوضى، التي كادت إيطالية تَسقط فيها حينما ظهر لإنقاذها من مصيبةٍ نهائيةٍ جَبَّارٌ فَعَّال.

•••

وتجاوز أوربة دورًا من التردد ما انفكَّت الأوهام الديموقراطية تُغَذِّيه أكثر مما تُغَذِّيه الحقائق، واليوم يُحَقِّق ذلك جميع أقطاب السياسة، وقد أبان ذلك جيدًا أحد مشاهيرهم: جورج كلِيمَنْسُو، في السطور الآتية التي اقتطفناها من كتابٍ كبيرٍ له كَثَّفَ فيه نتائج ملاحظاته. قال كلِيمَنسُو:

ما فَتِئَتْ نفس المسائل تُوضع منذ القرون القديمة على شكل مباحث أبديةٍ من غير أن تَدنو من حلٍّ نهائي.

… وقد أمكن القضاء على الأُلِيغارشيات التاريخية القائمة على الوجاهة والثروة، وهي تُبعثُ من رُفاتها ضمن أُليغارشيات جديدة من غير ما كانت عليه من نفوذ القِدَم الذي ينطوي على سرِّ قُوَّتها … وكلٌّ منها يعترف بالشعب حَكَمًا، ولكن مع جعله يتكلم.

… وغوستاف لوبون إذ بيَّنَ لنا بيانًا قاطعًا كيف أن الأكثريَّات عاجزةٌ عن القيام بغير أدنى دركات الذهن، أتاح لنا فرصة إيضاح أوضع النتائج للحكومات القائمة على الأكثريَّات …

وعلى العموم تُرَى أُليغارشيات الديموقراطية تحت الاختبار، وهي تَحمل مع مساوئ السلطة الشخصية أيضًا مساوئ الغُفلِيَّة غير المسئولة بألفاظ المسئولية.١

إذا لم تكن ممكنات التطوُّر من السرعة ما تُلائم الحياة الاجتماعية به ضرورات الوقت، عَقبَتْ ذلك اضطراباتٌ عميقة، ويُعَدُّ عدم الملاءمة هذا من عِلَل فوضى العالم الحاضرة، فالإنسانية تحت ضغط سلسلةٍ من الاكتشافات العجيبة: كتحوُّل العمل المِيكاني وتواصل الأمم الاقتصادي والتجاري نتيجةً لإزالة المسافات، إلخ، تبدو في أيامنا متنازعةً تنازُعًا زائدًا مع إنسانيةٍ متأخرة تُعَدُّ بقيةً موروثة من أجيالٍ سابقة، وتؤلِّفُ كتيبةً عظيمةً من عديمي الالتئام، ويقوم خيال هذا الجمع على تقويض الحضارات الرفيعة بالعُنف في سبيل ذوي الأمزِجة النفسية المنحطَّة.

ويقع بسرعةٍ متصاعدة في الوقت الحاضر ذلك التطوُّر الذي كان يتمُّ فيما مضى ببطءٍ بالغٍ، فيجب مرور عِدة قرونٍ لتُبصَرَ نتائجه، وتُقدِّم ملاءمة أحوال العيش الجديدة السهلة على الأدمِغة النامية بما فيه الكفاية مصاعب شديدةً على أكثرية الناس الساحقة، التي لم تَنَلْ مستوًى نفسيًّا بعدُ، فينشأ عن هذا اختلافٌ كبيرٌ بين العدد الحائز للقوة والخواص المتصفين بالذكاء.

ففي كتب التاريخ القادمة وحدها يُمكن ذَرَارِيَنا أن يُدركوا نتائج مثل هذا الصراع.

•••

ولا يقوم سلطانُ العدد على ما يُعزَى إليه من قدرةٍ مادية فقط، بل يقوم أيضًا على ما كان يُفرَض له من قابليَّات، إلى أن أثبتت الأبحاث الحديثة في روح الجماعات انحطاط الجماهير النفسي. وكان نظريُّو الثورة الفرنسية يقولون: «إن الشعب لا يُخطئ مطلقًا.» ويبقى هذا الاعتقاد رُكنًا من أركان المذاهب الديموقراطية، والزمن وحده هو القادر على إزالته، وفي أيامنا يُترَك للجماعات أن تعتقد إمكان قيام العدد مقام المزايا الفنية التي ارتقَت الحضارات بها حتى الآن، فبتأثير هذا الوهم زعم كثيرٌ من بلاد أوربة الكبيرة: كإيطالية، وإسبانية، واليونان، وبولونية، إلخ، إعادته تنظيم حياته الاجتماعية، فأدَّى ذلك إلى الفوضى بسرعةٍ، فوجب ظهور دِكتاتوريَّاتٍ لإعادة النظام إلى نِصابه.

أجل، يظهر أن النظريات القائلة بحقِّ العدد في الحكم قد فازت في روسية، ولكن الحقيقة تقول بأن الحال لا يستقيم في روسية إلا لأن العدد فيها غير ذي سلطانٍ حقيقي، ولأن ضروب السلطة فيها قبضةٌ دِكتاتوريةٍ شُرطية أشدَّ وطأً من دكتاتورية القياصرة السابقين.

وقد انتشر الإيمان بقدرة العدد على التوجيه بين الأمم، واليوم يُطالب الصينيُّون والهندوس والمصريُّون، إلخ، بالخلاص من حكومة الأمم الراقية. ومن المؤسف أن ظهرت هذه الحاجة إلى الخلاص في دورٍ من أدوار تاريخ العالم لم يُضطر إلى المعارف الفنية كما اضطُرَّ فيه، فسيكون خُسْرُ المصريين والأناميِّين والهندوس كبيرًا بتواري الإدارة الأوربية (!).

ومن الواضح مثلًا كون الحكومة الإنكليزية قد حوَّلَت الهند ومصر تحويلًا تامًّا فيه نفعٌ لأهليهما، وكون الحكومة الفرنسية قد مارست ذات النفوذ الملائم في الهند الصينية ومَرَّاكش (!).

ومن ذلك مثلًا قول جريدة ألمانية كبيرة عن مصر: «إن إنكلترة جعلت في خمسين سنةُ من هذا البلد الشرقي، الفقير، المَدين، الخالي من وسائل النقل، والفريسة للفتن الداخلية، دولةً مُنظَّمةً عجيبةَ الريِّ ذات خِصْبٍ منقطع النظير، مع ماليةٍ متينة وإدارةٍ رائعة وطُرُقٍ عصرية.»

وستكون مشكلة المستقبل الكبرى في معرفة ضرورة إعادة تنظيم المجتمعات، حتى تكون على مستوى عديمي الالتئام، وذلك تجاه تعذُّر رفع هذا الجَحفل من عديمي الالتئام إلى شيءٍ من النشوء، وذلك إلى أن هؤلاء لا يكسبون شيئًا من ذلك، فمهما يكن من حقدهم على الخواص يتوقَّف على الخواص دائمًا ما يَنتفع به العدد الأكبر من تقدم.

ويظهر من حال العالم الحاضرة أنه عاد لا يُمكن أن يكون للحكومة غير واحدٍ من شكلين: سيطرة الخواص، أو دِكتاتورية الصعاليك، فإلى هذا الشكل الثاني تميل أوربة مقدارًا فمقدارًا، وإلى الشكل الأول ستسير بعض الأمم ذات يوم، فيكون في هذا الخيار سِرُّ عظمتها.

١  كتاب «مساء الفكر»: لجورج كليمنسو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤