الفصل الثاني

الوضع الحاضر لأهم دول العالم

كان العالم إلى وقتٍ قريب خاضعًا لمبادئ دينية وسياسية واجتماعية بسيطةٍ إلى الغاية مقبولةٍ على العموم، ولم تصنع الثورات غير تغيير الأسماء في الغالب.

والأمر غير ذلك في هذه الأيام، فما أبصر العالم ظهوره من قُوى جديدةٍ حوَّلَ شروط حياة الناس واحتياجاتهم ومشاعرهم وأفكارهم تحويلًا تامًّا.

ويُجاوز العالم كله دورًا من أَسْوَد أدوار تاريخه الطويل وأنوَرها معًا: مِن أنورها؛ لِما تمَّ فيه من الاكتشافات العجيبة التي حوَّلَتْ وجه الحضارات المادي. ومن أسوَدها؛ لِما يُحيط بالأمم من وعيد.

وإذ لم يَعِنَّ لي أن أعرض مُفَصَّلًا وضع مختلف البلدان فإنني أُخصِّص بعض السطور لكلٍّ منها، فهي تكفي لبيان الفوضى العامة الناشئة عن التطور الصناعي والاقتصادي والسياسي البالغ من السرعة ما لا يُلائم مزاج الأمم النفسي الموروث.

•••

وضع فرنسة: عانت فرنسة ست سنواتٍ ونُظُمٍ في أقلَّ من قرن ونصف قرن، وقد بلغت حكوماتها من الانقسام ما لم تبقَ معه إلا بمعجزات التوازُن المجدَّدة بلا انقطاع.

واليوم يوجد في فرنسة أحزابٌ كبيرة كثيرة يفصل بينها تناظرها، ويُعَدُّ الحزب الجذري (الراديكالي) والحزب النقابي والحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي أكثرها نفوذًا، ويقترب الحزب الجذري من الاشتراكية شيئًا فشيئًا، وسيندمج فيها ذات يومٍ حتمًا.

وقد استحوَذَتْ على هذه الأحزاب المختلفة أوهامٌ يتعذَّر تحقيقها ويَعُدُّها أنصارها من الحقائق الساطعة.

ومع ذلك فإن هذه الانقسامات السياسية ليست في غير الظاهر، فالواقع أنه لا يوجد في فرنسة غير حزبٍ واحد، غير الحكومة، وإن اختلفت الأسماء كما كرَّرتُ ذلك غالبًا.

فالفرنسيُّون من أي مذهبٍ كانوا يطلبون تدخُّل الدولة في أدقِّ الأمور، والاشتراكية هي أكثر الأحزاب طلبًا لتدخُّل الدولة، وليس في غير هذه النقطة ما تختلف عن أقلَّها تقدُّمًا.

ويُعَدُّ الاشتراكيُّون خطرين بأوهامهم كما يُعَدُّون بمذاهبهم. ومما لوحظ في الغالب كون الاشتراكيين هم الذين حملوا على الجيش عشية الحرب وعلى خدمة السنين الثلاث، وهم الذين أسقطوا الحكومة في يونيو سنة ١٩١٤ متذرِّعين بأنها كانت تبالغ في تصوير الخطر الخارجي.

وفرنسة هي — على الخصوص — ضحية أغاليط سياسيِّيها وما ينشأ عن هذه الأغاليط من القوانين، ومما رُئيَ ذلك المثال البارز في تطبيق قانون التأمينات الاجتماعية المشئوم الذي وُضع لغرضٍ إنساني، فأدَّى من حيث النتيجة إلى فتنٍ واضطرابات وإلى ارتفاعٍ مفاجئٍ في أثمان الأقوات في كل مكان.

وبما أن العمال رفضوا، كما كان يُمكن أن يُبصَر، تأدية ما يطلبه القانون من دَفَعات على أجورهم، فقد نشأ عن ذلك بحكم الضرورة اضطرار رؤساء المشروع إلى الدفع بدلًا منهم، ومن ثمَّ إلى رفع ثمن المنتجات رفعًا مؤدِّيًا إلى زيادة معدل الحياة حالًا وتعذُّر إصدار السلع التي يُوجب ارتفاع ثمن التكلفة بيعها بأغلى مما يبيعها به المنافسون من الأجانب.

وبأساليب تختلف عن تلك كثيرًا عرف مُستصنعو الولايات المتحدة أن يضمنوا للعمال ما تقتضيه شيخوختهم من رواتب تقاعُد.

ومن الصواب أن قيل إن تطبيق قانون التأمينات الاجتماعي عُدَّ من قِبَل جميع أعداء المجتمع — ولا سيما الشيوعيُّون والاشتراكيُّون — مرحلةً إلى الثورة الاجتماعية التي يحلم بها جحفل عديمي الالتئام.

وكثيرٌ عدد هؤلاء الأعداء البالغي العمى، أي: الشديدي الخطر على المجتمع الحاضر، وكثيرٌ من الصحف روى أنه أُنشِد في المؤتمر الذي عُقد في نِيم في شهر يوليو سنة ١٩٣٠، جامعًا لممثلي ثمانين ألف مدرس تابعٍ للنقابة القومية كما تُسمَّى، النشيد المعروف باسم «الأُمَمِيُّ» والقائل بتقويض المجتمع.

وزيادةٌ جديدةٌ في الرواتب هي ما يطلبه هؤلاء المدرِّسون، هذه الزيادة المتعذرة لأن الزيادة المتصاعدة في النفقات العامة هي كما قال رئيس الوزراء: تقفز بالميزانية من المليارات الخمسة التي كانت عليها قبل الحرب إلى اثنين وخمسين مليارًا في سنة ١٩٣٠.

ويضيف هذا الرئيس إلى ذلك قوله: «لا يصنع المجلسان غير زيادة النفقات بدلًا من تحديدها.»

•••

وضعُ إنكلترة: تلوحُ إنكلترة أقلَّ ارتجاجًا بسبب ثباتها المُتأصِّل، ومع ذلك فهي مضطربةٌ كثيرًا في حياتها القومية لِما تقاسيه من اضطراباتٍ وبطالة، ونزاعٍ شديد بين أنصار حرية المبادلة وأنصار نظام الحماية، وعِصيان ممتلكاتها ومستعمراتها.

ومن أهم نتائج الحرب وجميع المؤتمرات التي عقبتها نقصان سلطان إنكلترة السياسي والحربي، فهي بعد أن أضاعت إيرلندة رضيَتْ بأن تصبح مستقلة تقريبًا مستعمراتها السابقة التي صارت ممتلكات، ولا سيما كندة وأُسترالية، واليوم تطالب مصر والهند بمثل هذا الاستقلال الذاتي.

وتكون أحكامنا حول الأمم الأجنبية مُختلَّةً حتمًا، وذلك لاشتمال هذه الأمم على عروقٍ وأديانٍ ولغاتٍ مختلفة، كما هي حال الهند مثلًا، فالهند قارَّةٌ واسعةٌ يمكن أن يُبصَرَ فيها عند التنقل البسيط جميع وجوه حياة الإنسان منذ عصر الحجر المنحوت حتى عصر التلفون، فوحوش نِلغِيري ومحاربو راجبوتانا المدجَّجون بالسلاح، والعُبَّاد الذين تطالبهم آلهتهم القاتمة على شواطئ أوريسَّا بأن يسحقوا أنفسهم تحت عجل عربتها، ينتسبون إلى أمثلةٍ من البشر لا تربط بينها أية رابطة كما يُمكن أن يُقال، وذلك إذا عدوت الأوهام التي يعزوها إليهم مُصلحون صِبيانيُّون.

واليوم تشتمل الهند على ٣١٩ مليون آدمي، أي تحتوي خُمس سكان العالم بأسره، ويتكلم هؤلاء الأهلون أكثر من مئتي لغة يختلف كثيرٌ منها اختلافًا أعظم مما بين اليونانية والفرنسية، وتقتسم سبعة أديانٍ أو ثمانية أديان عظيمة روح المؤمنين، ويفصل أكثر من ألفَي طائفةٍ بعض هؤلاء السكان الكثيرين عن بعض بحواجزٍ مُحكمة، وتبلغ هذه الفروق الاجتماعية من الشدة ما لا يمكن عقد زواج بين أعضاءٍ من طوائف مختلفة، ويعيش سبعون مليون منبوذٍ منفصلين عن بقية الأهلين وخاضعين لقوانين خاصة، فجميع هذه العناصر المتباينة يجعل من المتعذر ما يحلم به مصلحو الهندوس من حكومة مستقلة.

وليس وضع إنكلترة الداخلي أصلح من ذلك، فهي قد رأت نفسها مضطرة إلى معاناة حكومة اشتراكية وتموين ثلاثة ملايين بطَّال ثقيلي الوطأة على الميزانية، وتَظهر حكومة العمال الإنكليزية في وضعٍ حَرِج جدًّا، وذلك أنها كانت قبل قبضها على زمام الأمور تَعِدُ بمعالجة جميع الأمراض التي يألم منها البلد، ولا سيما البطالة، غير أن من الطبيعي ألَّا تستطيع تغيير وضع ناشئٍ عن ضروراتٍ مستقلة عن جميع العزائم.

•••

وضع ألمانية: قطعت ألمانية بعد الحرب دورًا عصيبًا جدًّا، فقد اضطُرَّتْ إلى مكابدة إفلاسٍ مالي جلب الخراب إلى عدد كبير من المواطنين، ولسُرعان ما نهضت بفضل قدرة أرباب صناعتها ورجالها السياسيين على التنظيم، فأخذت تبدو من فورها أول دولةٍ في أوربة من الناحية الاقتصادية.

ونمت بحرية ألمانية وجيشها وطيرانها نموًّا يقضي بالعجب، وتَفُوق ألمانية منافستها القديمة: إنكلترة، في الأسواق العالمية.

وخيال ألمانية في التفوُّق الاقتصادي أنعم عليها بنهضةٍ صناعية عظيمة، والآن تُجَهِّز مصانعها جميع الأمم بالآلات الزراعية والخطوط الحديدية التي كانت تشتريها من الولايات المتحدة، ويزيد دخل العامل الألماني على دخل العامل الفرنسي بمقدار الثلث، وينشأ هذا عما يكتسبه العامل الألماني في المدرسة وفي الثُّكنة من نظام، وينشأ عن هذا كون أثمان التكلفة في ألمانية أقلَّ منها في البلدان الأخرى، وهذا ما يُسفِرُ عن تفَوُّقٍ تجاريٍّ لا جدال فيه.

ووضعٌ رائعٌ مثل هذا مما يضمن لألمانية عظمةً جديدة مع نهوضها، بيد أنها تنقاد بتأثير المتطرفين من جميع الأحزاب، لأفكارٍ قائلة بالانتقام وتعديل المعاهدات، مُهددةً أوربة بحربٍ أشدَّ هولًا من السابقة، مؤديةٍ إلى ختام حضارات الغرب لا ريب.

والمسألة هي أن يُعرَف: هل تتَّفِقُ على إيقاد حربٍ جديدة ألمانية الراغبة في الإفلات من الغرامة الثقيلة المفروضة عليها، وإيطالية الطامعة في التوسُّع، وروسية التي ترجو نشر إيمانها؟

ومن يُمْنِ سكون أوربة عجز ألمانية عن تجديد تسلحها حتى الآن وعجز روسية عن القيام بحربٍ خارج حدودها، وليس تحالف ألمانية وإيطالية وروسية الممكن نظريًّا مما يَسْهُل تحقيقه في هذه الأيام، أجل، سيقع هذا التحالُف في بضع سنين، غير أن من المحتمل أن يُدرك الألمان حينئذٍ إمكان إغناء النزاع الاقتصادي للغالبين، مع أن مصير الغالب والمغلوب إلى الخراب التام في النزاع الحربي.

•••

وضع بولونية: اليوم تَنِمُّ بولونية على ناحيةٍ قاتمةٍ من الحياة الأوربية، ويُعَدُّ هذا البلد الكبير من البلدان التي تدلُّ أكثر من غيرها على ما تصير إليه الأمم المقسومة بين أحزابٍ سياسية متنافسة، فبعد أن قُسِّمَتْ بين جيرانها ومُحِيَتْ من التاريخ السياسي أُعيدَتْ إلى الوجود بالحرب، غير أن الوحدة المادية لم تُنعِم عليها بالوحدة الأدبية، وهي لم تحافظ على كيانٍ تهدده روسية وألمانية كلَّ يوم إلَّا بنظامٍ دكتاتوريٍّ فقط، وإليك كيف دلَّتْ إحدى الصحف الأجنبية في الأسطُر الآتية على الأخطاء التي تُطَوِّق حياة بولونية:

أصبحت بروسية الشرقية واقعةً ضمن بولونية، وفُصِلَتْ دَنزيغ الألمانية بنسبة ٩٧٪ عن الريخ مراعاةً لبولونية، وخسر سكان التخوم الألمانية الشرقية ما وراءها ووُجدوا في حالٍ من الانحطاط الاقتصادي … والآن لا تزال الحال الروحية المعادية لبولونية والسائدة لألمانية نَكِدَةً جدًّا، فيجب أن يُقال إن العلاقات الألمانية البولونية من أَسود نقاط السياسة الأوربية.

وكان يمكن أن يُصبح شأن بولونية السياسي عظيمًا لو دُعِيَتْ مع رومانية إلى تأليف حاجزٍ أمام ما يمكن وقوعه من غزوات الجيوش البلشفية.

•••

وضع النمسة: ذهبت النمسة ضحية خطأٍ سياسيٍّ اقترفه رجل النظر الأمريكي الذي ظهر دِكتاتورَ معاهدة الصلح الحقيقي، فقد فُصلتْ عن أجمل ولاياتها وأخذت تقضي حياةً صعبةً جدًّا، ومن الطبيعي أن تحلم بضمِّها إلى ألمانية التي تعيد إليها ازدهارها الماضي، ويُعَدُّ هذا الضم الذي لا مفرَّ منه من أعظم المشاكل السياسية في الوقت الحاضر، ومن الواضح أن يُقلِق هذا الضم بال إيطالية وبال أُمَمٍ ظافرةٍ أخرى، ومع ذلك فسيتم بالتدريج ضمن مدةٍ لا تزيد ستِّ سنين لا ريب.

وستكون نتيجة هذا الضم النهائية جعل ألمانية أكثر قوةً وأعظم مما كانت عليه قبل الحرب، وهنالك يُرى تجدُّد «إمبراطوريةٍ جِرمانيةٍ، إمبراطورية شارلكن، التي كانت مستقرة بفينَّة، فتستقر الآن ببرلين.» كما أنبأ به مسيو تِيِير بعد معركة سادُووا.

•••

وضع بلجيكة: تُعَدُّ بلجيكة أيضًا مثالًا للمصاعب التي تُعانيها الأمم الأوربية حتى تفوز بشيءٍ من الاستقرار السياسي، فهي مقسومة إلى قسمين متساويَين بعقائد دينيةٍ واجتماعيةٍ متباينة، ويزيد هذا التنافُس بتنافُس العروق.

وكذلك المشاكل الاجتماعية زادت في بلجيكة، وذلك لأن العرقين اللذين يُعمِّرانها، وهما: فلامان الشمال، وفالون الجنوب، يتكلمان لغتين مختلفتين، ويُظهران مشاعر مختلفة أيضًا، وللفلامان مناحٍ انفصالية يُمكن أن تكون خَطِرةً على مستقبل البلد، وتبدو مطالبهم السياسية عظيمةً جدًّا أيضًا، فهم يُطالبون بأن تكون مدة الخدمة العسكرية ستة أشهر، وبأن تُفتح مدارس فلامانيةٌ خالصة، إلخ.

•••

وضع إسبانية وإيطالية: لم يُفلت هذان البلدان من الفوضى التي تنشأ عن تحقيق الاشتراكية، إلا بفضل دِكتاتوريَّات شديدة رضي بها جميع من أتعبهم عدم النظام.

ولكنه يُجْهَل ما يصير إليه هذان البلدان الكبيران إذا عاد لا يكون على رأسهما أولئك السادة الفعَّالون الذين وُفِّقوا للقضاء على الفوضى.

والآن تقضي إيطالية حال سعادةٍ لا عهد لها به أيام كان مختلف الأحزاب السياسية — كما هو أمرها في فرنسة — يناضل للوصول إلى السلطة، لا لزيادة سعادة البلد، وكذلك الصناعة قد نمت ضمن نطاق الإمكان لدى هذه الأمة التي ليس عندها فحمٌ حجري، وما كان قد ضاع من جهودٍ في الخصومات السياسية سابقًا خُصِّصَ اليوم لإصلاح الوضع الاقتصادي.

ومهما يكن مستقبل الدكتاتورية فإنها تؤدي إلى نتيجةٍ ثابتةٍ تُمنح بها إيطالية عاداتٍ في النظام والتدريب وحبِّ العمل واحترام السلطة، أي أمورًا لا يستطيع بلدٌ حديثٌ أن يزدهر بغيرها.

•••

وضع دول البلقان الجديدة: لم يكن الرئيس وِلسُن ليتمثَّل ما كان يُعِدُّ من مصائب حينما كان يتصرف عند وضع معاهدة الصلح، في سلطانة المطلق الذي هيَّأَته له الأحوال، فيُقَسِّم أوربة الوسطى إلى دُويلاتٍ مستقلة باسم مبدأ القوميَّات الخائب، فدول البلقان كشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافية التي أُقيمَتْ على وجهٍ مصنوعٍ هكذا، والتي كانت تعيش هادئةً أيام كانت من أجزاء النمسة، تتخاصم دائمًا ويتألَّفُ منها خطرٌ جِدِّيٌّ يهدد سلم أوربة، وما فتئتْ كِروَاتية تكون على خصامٍ مع صربية منذ سنة ١٩٢٨ مطالبةً بانفصالها عنها، فيتشاجر نُوَّاب الصرب والكروات في البرلمان، ويطالب الكرواتُ بالاستقلال الذاتي، ويُعلن الصرب مقاومتهم ذلك بالقوة، ويُصَرِّح الكروات بأن «يوغوسلافية لا تستطيع البقاء تحت الطغيان الصربي.»

وفي حديثٍ بين زعيم اتحاديِّي الكروات ومراسل «الدِّيلي إكسبرس» يقول هذا الزعيم:

«هذه هي خاتمة المطاف، فمن المتعذر تمامًا أن نداوم على إخلاصنا الماضي نحو الصرب … نحن لا نفكر في تجزئة المملكة، ولكننا نطالب بأن تُحَرَّر كرواتية من تدخُّل بلغراد وفسادها، وأنتم ترَوْن بأنفسكم أننا أمةٌ غربيةٌ تمامًا وأننا ذوو مزاجٍ نفسيٍّ يختلف عن مزاج الصرب اختلافًا تامًّا.»

وليس الوضع في بقية البلقان أحسن من هذا، فما بين بلغارية ويوغوسلافية من اختلافٍ يحمل بذور الوعيد دائمًا.

•••

وهنالك عوامل شقاقٍ كثيرةٌ أخرى تُهَدِّد السلم الأوربية، ومن بينها ذكرت جريدةٌ كبيرة ما يأتي:

حسرة إيطالية التي تألم من سوء إنصافها، وسخط هنغارية المبتورة البادي، وغضب بُلغارية المُضَيَّفة، ووضع لِتوانية تجاه بولونية، ووضع ليتُونية تجاه روسية، وادِّعاءات الألمان حول ممر دَنزيغ، وليس من شأن مطاليب هذه «القسائم السيئة» مضافةً إلى ألوف الحوادث التي قد تنشأ كلَّ يوم عن الحدود الجديدة البالغة سبعة آلاف كيلومتر، أن تُسَهِّل الهدوء والوِفاق الأوربيين اللذين يَصعُب بغيرهما تصور قيام السلم الأوربية، حتى مع تدخُّل جمعية الأمم وتوسُّطها.

وتَبذل بلدان أوربة العظيمة بتأثير جمعية الأمم جهودًا مستمرة في سبيل اتحادها ولو قليلًا، ومما يُورِثُ النفوس يأسًا من أسباب العقل ألا ينتهي أقطاب السياسة المجتمعون في جنيف إلى إدراك ضرورة التعاوُن تجاه الأخطار المتوعِّدة من كل جانب.

•••

وضع روسية: من العبث أن تُفَصَّل حال البؤس التي غَرِقَتْ فيها هذه الإمبراطورية الواسعة بفعل الثورة البُلشفية، وتجعل حكومتها الشرطية القائمة على الهول فقط أمر الحياة قاسيًا جدًّا لدى جميع المواطنين، فقد قامت اشتراكيةٌ حكوميةٌ مبالغةٌ في التدقيق مقام الصناعة الخاصة، وزادت وطأةٌ الأزمة الاقتصادية التي تعقب أدوار السلب والقتل. وقد وُقفت مصادر بيت المال على إيجاد جيش يقوده متعصبون يُمكن عقائدهم السياسية ذات الشكل الديني أن تكون بالغة الخطر على سلم أوربة، وعلى سلام العالم أيضًا.

•••

وضع آسية: آسية فريسةُ مصاعب أعظم من التي تَقلِبُ أوربة، والصين على الرغم من قِدَم نُظمها، وبسبب هذا القِدَم البالغ على ما يُحتمل تذهب منذ سنين كثيرة ضحية الحروب الأهلية التي تُهدد بتخريبها.

وإذا عدوتَ الحقد على الأجنبي المشترك بين جميع الأحزاب، لم تجد بعد ظهور أي مبدأ جديد في هذه الإمبراطورية الضخمة قادرٍ على تأليف ما بين النفوس.

•••

وضع اليابان: لا يزال الدور الذي ستمثله اليابان في العالم الآسيوي مشكوكًا فيه بعدُ، ففي الشرق الأقصى على الخصوص قد أصبحت مُعضلة السكان هائلةً، ومما ذكرته في كتابٍ سابق كون زيادة السكان في ذلك الطرف الأقصى من العالم ستودي إلى حروبٍ جديدة حتمًا.

وترى اليابان الزاخرة بالأهلين سكانها يزيدون مليونًا في كل عام باستمرار، فعادت لا تدري ما تصنع لإعاشتهم، ومن المتعذر إرسالهم — كما كانت تحلم — إلى الولايات المتحدة التي استطاعت بفعل الحرب الأوربية أن تبني أسطولًا وتُنشئ جيشًا يجعلانها في مأمنٍ من جميع الغارات. وبما أن الصين نفسها أكثر زخرًا بالسكان ولا تستطيع أن تتقبَّل فائضًا من الأهلين، فإن اليابان ستوجِّه جهودها إلى جهة منشورية على الأرجح.

ولا يوجد ما يُخشى كثيرًا من معارضة الروس لذلك، فقد أصبحت حضارة اليابان وقوتها العسكرية أعلى مما عند روسية.

•••

وضع الجمهوريَّات اللاتينية في جنوب أمريكة: أوضحتُ في كتابٍ قديمٍ بعض القِدَم كون الجمهوريَّات اللاتينية الأمريكية عُرضةً لفوضى دائمةٍ، بسبب توالُد العروق الأهلية الأصلية بعرق الفاتحين من الإسبان.

وما انفكَّتْ هذه النبوءة تتحقق، فقد رأينا في سنين قليلةٍ أن البيرو وبوليفية والأرجنتين والبرازيل، دَع المكسيك، فريسة الحروب الأهلية وصولًا إلى تغيير حكوماتها مرة أخرى، ومع ذلك فإن هذه الحكومات ليست غير دِكتاتوريَّاتٍ بسيطة على أشكالٍ مختلفة، وإن اتخذت نظم الولايات المتحدة نماذج لها، وما كان ليوجد مثالٌ أصلح من هذا لإثبات مقدار اتِّباع النظم السياسية لنفسية الأمم التي تدعوها إلى الحكم، لا للأوهام التي يتصوَّرها النظريُّون البالغو الجهل للضرورات التي تُسَيِّر الناس في الحقيقة.

ومع ذلك فإن تدخُّل حكومة الولايات المتحدة بالتدريج أمرٌ لا مفرَّ منه إزاء انحطاط الجمهوريَّات اللاتينية الزائد، وذلك كما صنعت تجاه كوبا وهايتي، إلخ.

وقد بدأ نفوذ الشمال الأمريكي بالتحكيم، وسينتهي بالاستعمار لا ريب.

•••

ويعتقد ممثلو جمعية الأمم أنهم يستطيعون إقرار السلام في العالم بنزعٍ عامٍ للسلاح، ومع ذلك فإن نزعًا للسلاح كهذا لا يُجدي نفعًا، فمما يلوح وضوحه بالتدريج كما هو واقعٌ: أن الحروب ستكون حروبًا جويَّةً تقتصر أسلحتها على قنابل مشحونة بالمتفجرات أو على غازات سامة. والحق أن الطائرة الحربية لا تختلف عن الطائرة التجارية إلا بما تنقُل من مواد، فلا يُبصَر مقدار ما ينطوي عليه نزع السلاح من صحةٍ في الوقت الحاضر.

وبما أن الحروب القادمة تلوح أكثر تقتيلًا من الحروب الماضية بدرجاتٍ، فإن من الصواب بذل الدِّبلُميِّين جهودهم لاجتنابها، وقد وُفِّقُوا لذلك حتى الآن، غير أن عجزهم عن خلق جوٍّ سلميٍّ كان من الثبوت ما يُسأل معه عن إمكان حدوث هذا؛ نظرًا إلى نفسية أمم أوربة في الوقت الحاضر، وسينشأ عن هذا كثيرٌ من الصعوبات، وذلك للقوة الهائلة التي تنطوي عليها المشاعر الجماعية: السخط، والحقد، والكرامة المكلومة، إلخ. ويُعرِبُ كثيرٌ من البلاد العظيمة في أوربة مع التوكيد عن عزمه على اتخاذ العنف وسيلةً لتلافي الإجحاف الذي يعتقد ذهابه ضحيةً له، حتى إن إيطالية وألمانية لا تُحاولان كتم مشاعرهما من هذه الناحية، وتُرى روسية — التي استحوذَتْ عليها أوهامٌ سياسيةٌ بالغةٌ قوةَ الأوهام الدينية — مستعدةً للاشتراك مع الأمم التي تخوض غمار الحرب.

وتقوم المعضلة الحاضرة الكبرى على إحلال سلم الوِفاق محل السلم المسلح، ولا يزال حلُّ هذه المعضلة غير بادٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤