مقدمة

على مدار أكثر من ٦٠٠ عام، وكلمة «طاعون» تبث الرعب في قُلوب الرجال والنساء؛ فهي تثير سيناريو مرعبًا لمرض شديد العَدْوَى لا يمكن ردعُه، ولا علاجَ له، ولا مَفَرَّ من أن يموت صاحبُه ميتة مؤلمة. بالنسبة لقاطني أوروبا في العُصور الوسطى الذين عاشوا يوميًّا تحت تهديد هُجوم الوباء على مجتمعهم، كان هذا الخوف مُبررًا تمامًا. ومنذ اختفائه من المشهد في منتصف القرن السابع عشر، استمر هذا العهد من الرعب في تشويق الأفراد وإثارة ما هو أكثر من مجرد مشاعر خوف، حتى أقل أطفال المدارس تركيزًا يستمتعون بشدة بدروس «طاعون لندن العظيم»، حيث الحرق والدمار في عامي ١٦٦٥ و١٦٦٦ المحفوفين بالمخاطر.

والآن في القرن الحادي والعشرين، صار لدينا معرفةٌ أكبر من أي وقت مضى بالمرض، وعددٌ من اللَّقاحات والعلاجات الفعالة، وخبراءُ متمرسون في علم الأوبئة والبيولوجيا الجزيئية، ومجموعة من الاختبارات التشخيصية والتقنيات الحديثة التي من شأنها تحديد تسلسل جينوم أي فيروس جديد في خلال أشهر من ظُهوره الأول. ومع ذلك يظل الرعب من أن يظهر مرض جديد — ربما طاعون آخر — يهدد بقاءنا، بنفس القوة التي كان عليها فيما مضى.

إن ظهور سارس (المتلازمة التنفسية الحادَّة الشديدة) عام ٢٠٠٣ أثبت بجدارةٍ الدمارَ الذي يمكن أن يُحدِثه مرضٌ جديد. وردت أنباء عن ظُهوره في آسيا في يناير من نفس العام، وتصدَّر عناوين الأخبار على مدار الأشهر القليلة التالية. أكان يمكن أن يصبح سارس الطاعونَ الفتَّاكَ الجديد؟ عمَّ الذعرُ على نطاق واسع وفرَّ الأفراد من المناطق المصابة؛ مما ساهم في نشر المرض إلى مسافات أبعد. ولم يَمْضِ وقتٌ طويل حتى وردت أنباء عن ظُهور حالات في أوروبا وبالمثل في الأمريكتين الشمالية والجنوبية. مقارنة بأوبئة طاعون الماضي، كان إجماليُّ الوَفَيَات التي تسبب فيها سارس قليلًا نسبيًّا، فإجماليُّ عدد المصابين به ٨٠٠٠ حالة في ٢٧ دولة، لم يَمُتْ منهم سوى ٧٨٠ شخصًا. وبالرغم من ذلك بذَلت الهيئات المعنِيَّة بالصحة قُصارَى جهدها للتعامل بفعالية مع المرض، فمُنع السفر من بلاد بأكملها لغير الضرورة، وتعرضت شركات الطيران للإفلاس، وانهارت اقتصادات محلية، وكان هناك خوف حقيقيٌّ من انهيار الأسواق المالية العالمية. وارتفعت مبيعات أقنعة الوجه الورقية في الولايات المتحدة الأمريكية، مع أنه لم يَكُنْ هناك سوى ١٩٢ حالة إصابة بسارس تماثلوا جميعهم للشفاء.

تُرى لماذا أثارت هذه المشكلة الصحية التافهة نسبيًّا الذعرَ والفزعَ العالميَّيْنِ، حتى في البلاد التي لم يَكُنْ بها أيُّ حالات سارس أو كان بها حالات قليلة؟ في أبريل من عام ٢٠٠٣، كتب دكتور ستيوارت دربيشير أننا نعيش وسط «أفراد متعطشين إلى الشعور بالهَلَع، ومتلهِّفين إلى سماع رسالة الدمار التي تستدعي مثلَ هذه التحذيرات، فهذه التحذيرات من شأنها أن تمتزج بتوقعاتنا المفرِطة في الخوف والحذر بشأن خراب هذا الكوكب، بل حتى كبار الأساتذة الذين يبدون متَّزِنين لا يَسْعَوْنَ إلا إلى صرف المشتتات عن الشيء الحقيقي المتوقع وحسب. لا يرعبني أيٌّ من عائلَتَيْ «سارس الكامنتين» الفيروسيتين مثلما يرعبني فيروس إنفلونزا جديد خبيث.»

في أبريل عام ٢٠٠٣، كتب ديكلن ماكولا؛ وهو مراسل سياسي يقطن واشنطن:

سارس هو أول فيروس يتفشَّى في عصر الإنترنت، فانتفع من حقيقة أنه فيما أصبحت المعلومات أكثرَ قابلية للانتقال، تصبح الشائعات أكثرَ قابلية للانتشار أيضًا. أثارت خدعةُ أحد المراهقين على الإنترنت التي ادَّعَى فيها أنه سيتم غلق حُدود هونج كونج هَرَعَ المواطنين لشراء الأطعمة المعلبة والمناديل الورقية. قضى صاحب متجر بقالة في ساكرامنتو أسبوعين في محاولة إثبات أنه وعائلته ليسوا مصابين بسارس، وأن متاجره آمنة تمامًا على عكس ما أُثير من شائعات. وفي يوم الثلاثاء، حاول أحد العاملين بالمجلس المحلي لمدينة ساكرامنتو تبديدَ الهلع حيث تناول بكل شجاعة تفاحةً خضراء من قسم المنتجات أمام المراسلين الصحفيين.

لكن بالنسبة لبعض الناس، قد ينذر خطر يتهدد الصحة على الصعيد العالمي بسيناريو «نهاية العالم الآن»، أو ظُهور «الوباء الكبير» التالي، عندما يتسبب وباء كبير لمرض مُعْدٍ فتَّاك لا علاج ولا لقاح له في كارثة عالمية ويهدد وجود البشرية.

(١) ماذا نعرف عن الطَّوَاعِين؟

هذا الخوف من مرض غير معروف له أساس راسخ في التاريخ، ولعل أقدم إشارة إلى الطَّوَاعِين ظهرت في الكتاب المقدس في سفر صموئيل الأول؛ فنحو عام ١٣٢٠ قبل الميلاد سرق الفلسطينيون «تابوت العهد» من الإسرائيليين وعادوا به إلى أرضهم:

فَثَقُلَتْ يَدُ الرَّبِّ عَلَى الأَشْدُودِيِّينَ، وَأَخْرَبَهُمْ وَضَرَبَهُمْ بِالْبَوَاسِيرِ فِي أَشْدُودَ وَتُخُومِهَا. وانتشرت الفئران في أرضهم … وَكَانَ بَعْدَمَا نَقَلُوهُ أَنَّ يَدَ الرَّبِّ كَانَتْ عَلَى الْمَدِينَةِ بِاضْطِرَابٍ عَظِيمٍ جِدًّا، وَضَرَبَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الصَّغِيرِ إِلَى الْكَبِيرِ وَنَفَرَتْ لَهُمُ الْبَوَاسِيرُ.

تعلَّم كلٌّ منا في المدرسة وقرأ في الكتب عن أشهر مرض على مرِّ العصور — الموت الأسود — ذاك المرض الفتاك الذي ظهر من العَدَم، وانتشر سريعًا، ومَحَا قُرابة نصف الأوروبيين في العصور الوسطى من على وجه البَسِيطة. لقد سمعنا أغنية الأطفال التالية التي يُقال إنها تُحْيِي ذكرى الطَّوَاعِين الْمُرِيعة:

هيا نرقص في دائرة من الورود،
وبصحبتنا باقات الزهور،
نعطس كثيرًا،
فنسقط جميعًا.

يصور البيت الأول من الأغنية الطفحَ الجلديَّ المحمَرَّ المستدير الذي كان يظهر على جلد ضحية الطاعون. كانت باقات الزهور حلوة الرائحة هي ما يَشْتَمُّه الأفراد لدَرْء العدوى، وأما العطس فهو أحد الأعراض المبكرة للمرض؛ الأمر الذي كان يتبعه على الفور «السُّقوط» أو الموت المفاجئ.

في منتصف القرن السابع عشر، ضرب طاعون عظيم لندن وأودى بحياة ما يصل إلى خُمس السكان. سجل صموئيل بيبس الأحداث في يومياته، ويمكننا أن نتتبع هذا التفشِّي عن كَثَب ونتوحد مع الضحايا بسبب رواياته الواقعية للأحداث.

قد يعرف بعضنا أيضًا أشهر قصة طاعون على الإطلاق: توغل الوباء في قرية تَلِّيَّة صغيرة تُدْعَى إيم بمقاطعة ديربيشير التي تقع على حافَة منطقة التلال بيك ديستريكت في شمال إنجلترا؛ حيث قدم الكاهن وشعب كنيسته تضحية بطولية حين اتفقوا على رسم نطاق للحَجْر الصحيِّ حول القرية وأخضعوا أنفسهم بِمَحْض إرادتهم للحَجْر الصحيِّ؛ فلم يَكُنْ مسموحًا لأي شخص أن يهرب من العدوى والموت المحقق. بهذه الطريقة كان لديهم أمل في منع استشراء المرض والحيلولة دون وصوله إلى المجتمعات المجاورة. وطيلة مِحْنَتهم، كانوا يحصلون على الطعام من خلال القرويين القريبين الذين كانوا يحضرونه إلى حُدود أَبْرَشِيَّتهم، ولم يكن في مقدورهم في محبسهم سوى الانتظار ومشاهدة أنفسهم وهم يموتون، ببطء في البداية، في حين أنه في ذروة توغُّل الوباء كان الكاهن يدفن عددًا كبيرًا من شعبه كل يوم. استمر الوباء اللعين فترة بشعة وصلت إلى خمسة عشر شهرًا حتى صارت إيم في النهاية أشبهَ بقريةِ أشباح. إلا أن تضحيتهم لم تذهب سُدًى؛ إذ لم تنتقل العدوى إلى مجتمع آخر وتنتشر فيه.

ولكن، هل هذا هو مقدار ما لدينا من معرفة عن الطَّوَاعِين؟ على سبيل المثال، كم منا يستطيع أن يحدد بدقة متى وقعت هذه الأحداث الكارثية؟ هل بمقدورنا أن نحدد ما إذا كانت أوبئة انفجارية لنفس المرض أم لا؟ الأرجح أننا نستطيع القول إن طاعون لندن العظيم كان نتيجة للطاعون الدَّبْلِيِّ، وهو مرض تنشره براغيث الفئران المصابة، وإن لم يَكُنْ بمقدورنا أن نحدد السبب وراء اعتقادنا ذلك، باستثناء أننا نتذكر أنهم أخبرونا في المدرسة أن «حريق لندن الكبير» الذي شبَّ عام ١٦٦٦ قَتَلَ كل الفئران وأنقذ إنجلترا من المزيد من نوبات استشراء الطاعون.

(٢) رحلة بحثنا

في عام ١٩٩٠ كان هذا أيضًا هو كل ما نعرفه عن الطَّوَاعِين التي كان لها أثر بالغ في التاريخ. لم نَكُنْ نعرف الكثيرَ مثل جميع الناس إلى أن عثرنا — بِمَحْض المصادفة — على سجلٍّ مختصر لوباء كارثي استشرى في بلدة إنجليزية صغيرة يُقام فيها سوق مركزية نحو نهاية العصر الإليزابيثي. كانت هذه هي المرة الأولى التي نصادف فيها الطاعون في أبحاثنا حول تاريخ السكان، وقد أثارت اهتمامًا سرعان ما تحول إلى افتنان وعزم على اكتشاف أكبر قدر يمكن أن تطوله أيدينا عن هذا المرض الذي يخشاه الناس بشدة.

في بداية رحلة بحثنا لم نَكُنْ ندرك جيدًا أن هذا سوف يؤدي في نهاية المطاف إلى فضح خطأ التصورات الشائعة حول هذا الرعب القديم. كنا على مشارف قلب التاريخ رأسًا على عَقِب، فلدهشتنا، بل الأكثر أهمية، أننا أَمَطْنا اللِّثام عن رسالة مرعبة لنا اليوم: قد يكون مرض القرون الوسطى راقدًا في مَهْجَعه منتظرًا اللحظة المواتية ليضرب من جديد.

هذه هي قصتنا.

(٣) البدايات

كانت سو سكوت تُجري دراسة تاريخية متعمقة عن المجتمع في بنريث بداية من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. تقع هذه البلدة الصغيرة في وادي آيدن بمقاطعة كمبريا في شمال إنجلترا، بالقرب من الحُدود الاسكتلندية. وكان أهلها معزولين عن بقية إنجلترا؛ إذ إنها محاطة بجبال بحيرة ديستريكت الخلابة غربًا، وسلسلة جبال بيناينز الوَعْرة شرقًا، وجبال ويستمورلاند الأقل وُعورة جنوبًا. إلا أن الطريق المؤدي إلى اسكتلندا كان يقطع مركز بنريث مباشرة، وطيلة قرون كان المسافرون والتجار ورُعاة الماشية يتنقلون عبْره. كان من الممكن أن يجلب كل هؤلاء من بعيد أمراضًا مُعْدِية تؤدي إلى الموت، كالطاعون والجدريِّ، حتى من لندن التي كانت تبعد نحو ٢٨٠ ميلًا (٤٥٠كم) من جهة الجنوب الشرقي، تلك المسيرة التي تستغرق عدة أيام بالجِيَاد.

عرَفْنا من دراسات سو أنه في نهاية القرن السادس عشر كانت أرضُ وادي آيدن تعتبر بعيدة عن المراكز الصناعية والتجارية الكبيرة؛ فقد كان الغرباء يَنْفِرون منها؛ إذ كان المسافرون يجدون صُعوبة في الوُصول إليها، ومُلَّاك الأراضي غائبين باستمرار، وقطَّاع الطرق يجولون بلا رادع. في قلب هذه المنطقة كانت تقع بلدة السوق الصغيرة بنريث التي كانت — كما يتضح من خريطة نُشِرَت بعدها بمائتي عام — مقسمةً إلى تجمعات حول كنيسة القديس أندراوس، ومتاخمةً لأطلال إحدى القلاع المهجورة منذ زمن طويل، التي بنُيت لدَرْء غارات المخَرِّبين الاسكتلنديين المتكررة. كانت الحياة صعبةً على قاطني بنريث، وكثيرًا ما اضْطُرُّوا إلى العيش في ظل ظروف أشبه بالمجاعة. ونتيجة لذلك، كانت الخُصوبة ضعيفة، وعادة ما كان يُولد أربعة أطفال في الأسرة، لا يبلغ منهم سوى طفلين فحَسْبُ سِنَّ الخامسة عشرة.

وهكذا بدأت الرحلة، حيث سو جالسة إلى واحدة من الطاولات الكبيرة المصنوعة من خشب الماهوجني في مكتب السجلات بمدينة كارلايل. يتمتع هذا المكتب بموقع مميز؛ إذ تُطِلُّ بِنايته المصنوعة من الطوب والمكونة من طابقين على أحد جوانب ساحة قلعة كارلايل حيث كانت ماري ملكة اسكتلندا معتَقَلة، كما يضم المكتب كافة السجلات التي تخص مقاطعة كمبرلاند القديمة، التي أصبحت جزءًا من كمبريا الآن. كانت سو تدرس سجلات أصلية للأَبْرَشِيَّة، الوثائق الرسمية لكنيسة إنجلترا، التي يعود بعضها إلى عام ١٥٣٨، والتي كانت تُودَع للحفظ عُمومًا في مكاتب سجلات المقاطعة المختلفة المتناثرة في أنحاء البلاد. وبالإضافة إلى كون هذه الوثائق الخاصة بالْمَعْمُودِيَّة والزواج والدَّفْن، والمحفوظة بعناية، مصدرًا لأخصائيي علم الأنساب ومؤرِّخي العائلات، فإنها تقدم أيضًا بياناتٍ قَيِّمَةً للباحثين المحترفين؛ لما تقدمه من فَهْم عميق فريد عن تاريخ العائلة والمجتمع على مَدار ثلاثة قرون.

مع أن أهل بنريث ظنوا أنهم في مَأْمن لكونهم معزولين عن بقية البلاد؛ فقد اكتشفت سو أنه لم يكن هناك مخبأٌ من الطاعون. تقول سجلات الأَبْرَشِيَّة:

طاعون عنيف في ريتشموند، وكيندال، وبنريث، وكارلايل، وأبلبي وأماكن أخرى بمنطقة ويستمورلاند وكمبرلاند في سنة ١٥٩٨ بعد الميلاد.

حُفِظَت سجلات الأَبْرَشِيَّة بالكامل أثناء هذه الفترة، وبالفعل عندما توصلت سو إلى الْمُدْخَلات المناسبة وجدت:

سجلات مدافن بنريث، ١٥٩٧
سبتمبر
٢٢ أندرو هوجسون، غريب
(ها هنا بدأ الطاعون (عقاب الله) في بنريث)
(أولئك المُشار إليهم بحرف بي P لَقُوا حَتْفهم بفعل المرض، وأولئك المُشار إليهم بحرف إف F (اختصارًا لكلمة fell بمعنى مُنحدَر) دُفنوا أعلى مُنحدَر جبلي.)
آنذاك، تَعَيَّن على الكهنة بموجب القانون تمييز وثائق دفن ضحايا الطاعون من خلال إضافة كلمة Pest (اختصارًا لكلمة pestilence، الاسم الشائع للطاعون) أو مجرد إضافة حرف P إلى أسمائهم.
من الواضح أن العدوى وصلت المجتمع الصغير عن طريق أحد الغرباء الذي يُفترض أنه أتى عبر الطريق الرئيسي الذي يقطع المدينة. وكانت النتيجة كارثية: فقد تبع قيد أندرو هوجسون موجة مريعة من وثائق الدفن المُضاف إليها حرف P. دام هذا الوباء العنيف ١٥ شهرًا، لكن مع أن الوقت كان عصيبًا بلا شك بالنسبة لكاهن المنطقة (إذ فقد زوجته وابنه الصغير)، فإنه سجل الأحداث التي وقعت إبَّان هذا الابتلاء المرعب بكل إخلاص في سجلات الأَبْرَشِيَّة. وكما جرت العادة، أخبر الكاهن شَعْبه أن هذا كان عقابَ الله لهم على خَطاياهم.

واحد من الألغاز التي سَبَرْنا غَوْرَها في التَّوِّ لدى دراسة السجلات: أنه عقب موت أندرو هوجسون، لم يكن هناك حالات موت بسبب الطاعون لمدة ٢٢ يومًا. أليست هذه فترة كُمُون طويلة للغاية بالنسبة لعدوى عادية؟

في لحظة ما، عند توقف توغُّل الوباء أخيرًا، نُقِشَ على جدران الكنيسة ببنريث أعداد الأفراد الذين ماتوا في وادي آيدن:

بنريث ٢٢٦٠
كيندال ٢٥٠٠
ريتشموند ٢٢٠٠
كارلايل ١١٩٦
ثم نُقل هذا الإهداء إلى جدار محراب الكنيسة عند إعادة بنائها عام ١٧٢٠، لكن على ما يبدو طُمست معالمها أثناء الترميم؛ فقد حل محلها طبقة نُحاسية، وقد تحققت سو من الأرقام إبَّان زياراتها إلى بنريث. وكانت سو تعرف من دراساتها السابقة تقديرًا مؤكدًا بأن بنريث لم يَكُنْ يقطنها سوى ١٣٥٠ شخصًا قبل بَدْء تفَشِّي الطاعون مباشرة، وعليه فمن الواضح أن رقمَ ٢٢٦٠ حالة وفاة، المذكورَ في النقش على جدار الكنيسة، كان رقمًا غير دقيق بالمرة، فعُدْنا إلى السجلات وأحصينا ٦٠٦ وثيقة دَفْن مُضافًا إليها حرف P، إلا أنه كانت هناك فجوة في سجلات الدفن بلغت ١١ يومًا عندما كان الوباء في ذروته، وقدَّرنا أن تعداد الوفيات النهائي بلغ نحو ٦٤٠ حالة وفاة في الغالب. ومع أن هذا الرقم كان يمثل نحو ٥٠٪ من تعداد سكان هذا المجتمع الصغير — كثافة مرعبة للموت بالنسبة لفترة مدتها ١٥ شهرًا — فقد كان من الواضح أنه أقل كثيرًا من الرقم المنقوش على جدار الكنيسة. إذن ما الخَطْب هنا؟ أثار هذا حَيْرتنا، وقرَّرنا أن نُمْعِنَ البحثَ أكثر في الموضوع.

كان واضحًا من النقْش الموجود على جدار الكنيسة أن هذا الوباء الغريب والمخيف لم يَكُنْ قاصرًا على بنريث، وإنما كان منتشرًا على نطاق أوسع في وادي آيدن. كشف بحثُ سجلات ومحفوظات أَبْرَشِيَّات المنطقة أن العدوى انتقلت من نقطة تَمَرْكُزِها الأساسية في بنريث إلى كارلايل التي تبعد ٢٠ ميلًا (٣٢كم) شمالًا، وكيندال التي تبعد ٣٢ ميلًا (٥١كم) جنوبًا. الأمر المثير هو أن أُولَى حالات الوفاة في كلتا المدينتين وقعت في اليوم نفسه، بعد مرور ١١ يومًا على أول حالة وفاة في بنريث. ذُهلنا من اكتشافاتنا واندهشنا لدى معرفة أن هذا المرض كان بمقدوره أن ينتقل لمسافة بعيدة وبسرعة كبيرة. بَيْدَ أننا لم نندهش لدى علمنا بتسجيل معدل وفيات مُرَوِّع مرة أخرى في كل من كيندال وكارلايل.

إن اكتشاف هذا الوباء غير المعروف على نطاق واسع، الذي ضرب ثلاثًا من البلدات التي كانت تُعقد فيها سوق مركزية في شمال غرب إنجلترا في نهاية القرن السادس عشر، حَمَلَنا على التفكير. في التَّوِّ اعتبر الكاهنُ وأبناءُ البلدة هذا الوباءَ نَوْعًا من الطاعون أو الوباء اللعين؛ لقد كانت لديهم خبرة عن هذا المرض، من المفترض أنها خبرة شخصية مباشرة. لكن كان هناك عدد من السمات المحيِّرة في هذا الوباء: هل كانت نوبة تفشِّي بنريث عادية؟ هل كان هذا المرض هو نفس نوبات تفشي الطاعون الأخرى في أنحاء أوروبا؟ هل كان هو الموت الأسود؟ وعليه عَقَدْنا العَزْم على تقَصِّي الأمر.

(٤) الخيوط الأولى

كما سيخبرك أحد المخبرين السريين الأَكْفَاء، يتطلب التعرف على قاتلٍ ما فحصًا شاملًا لمسرح الجريمة، ومعرفةً تفصيليةً بكافة الأدلة. اليوم لدى علماء الأوبئة الذين يدرسون مرضًا ظهر حديثًا مجموعة من الأساليب العلمية الحديثة. في الواقع هم بمقدورهم أن يفحصوا مَرْضاهم ويسجلوا ملاحظات مباشرة. بَيْدَ أنَّ مؤرخي علم الأوبئة مهمتهم أصعب بكثير؛ لأنه لا يكاد توجد معلومات بمقدورهم الاعتماد عليها للتشخيص. الأمر صعب لأنه مرَّ زمن طويل على الأحداث؛ ومن ثم لا بد أن يستخدموا كل ما في جَعْبَتهم من فِطْنة للتمييز بين الحقيقة والخيال.

وهكذا، تمثَّلت مهمتنا الأولى في تلخيص ما عرفناه حتى الآن عن هذا المرض الغامض في بنريث:
  • مرض فتَّاك؛ إذ لم نعثر على أية أدلة تشير إلى أي شخص أُصيب بالعدوى وعاش.

  • مرض معدٍ جدًّا؛ فقد انتشر المرض انتشارَ النارِ في الهَشِيم، وبالأخص في صيف عام ١٥٩٨.

  • وصول العدوى إلى المجتمع حدث عن طريق مسافر غريب.

  • بعد أول حالة وفاة، كانت هناك فترة كُمُون مدتها ٢٢ يومًا قبل دفن ثاني ضحية، وبالتأكيد كان هذا أمرًا لافتًا للنظر.

  • سُرعان ما قَطَعَ الوباءُ مسافات كبيرة ليصل إلى كارلايل وكيندال؛ حيث مات أول ضحيتين هناك في ذات الوقت بعد مرور ١١ يومًا على دفن هوجسون.

تمثلت الخطوة التالية على طريق البحث في الرجوع إلى الروايات الأصلية عن الطاعون الذي اجتاح أوروبا التي تطيح بكل التأويلات والروايات الزائفة التي أُضيفت خلال المائة عام الأخيرة، وفي البحث عن المزيد من الخيوط. نستهل رحلتنا بالسنة المشئومة سنة ١٣٤٧ عندما ظهر الطاعون أول ما ظهر دون سابق إنذار وضرب الحضارة الأوروبية تاركًا آثارًا كارثية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤