الفصل الثالث

إسماعيل باشا

١٢٧٩–١٢٩٦ﻫ/١٨٦٣–١٨٧٩م

يعتبر إسماعيل باشا — ابن إبراهيم باشا — المتممَ الحقيقي لأعمال محمد علي، والسائر بإصلاحاته في الطريق التي أبلغت مصر العناية التي هي عليها الآن.

تولى إسماعيل عرش مصر ومدارسُها مغلقة ومشروعات محمد علي مهملة؛ فكان عمله في كل شيء عمل المنشئ من جديد. ولو نظرنا إلى مجموع ما تم في عهده من الإصلاحات والأعمال الهامة لعلمنا مقدار ما كان عليه من الذكاء والنبوغ، وما كان يرمي إليه من النهوض بمصر حتى يجعلها في مستوى أرقى الدول الأوروبية.

figure
إسماعيل باشا (رسم علي أفندي يوسف، عن صورة بدار الكتب السلطانية).
ومع أنه لم ينَلْ حظًّا وافرًا من التعلُّم في نشأته، كان ما حصَّله من المعارف — مضافًا إلى ما فُطر عليه من الذكاء وقوة الملاحظة — كافلًا أن يقوم بعبء المشروعات الخطيرة التي أقدم عليها. وكل ما يُعلم عن تعلمه أنه أُرسل إلى باريس في الخامسة عشرة من عمره، فتعلم بها اللغة الفرنسية حتى صار يتكلمها بطلاقة. وفي أثناء إقامته ساح كثيرًا في أوروبا، وبقوة ملاحظته وقف على كثير من الأمور الاجتماعية وغيرها من أسباب الحضارة الأوروبية. ولم يُرَبَّ تربية خاصة تؤهله لتولِّي الملْك — كما تربى سعيد من قبله — إذ لم يكن يخطر بالبال حينئذٍ أنه سيتولى عرش مصر يومًا ما؛ لأن ولاية العهد كانت لأخيه أحمد أكبر أمراء الأسرة؛ ولذلك بقي إسماعيل مشتغلًا بمزارعه بعيدًا عن حاشية سعيد حتى مات أخوه في حادثة كفر الزيات١ ولم يغير كثيرًا من خطته بعد مماته.

جلس إسماعيل على أريكة مصر في (٢٧ رجب سنة ١٢٧٩ﻫ/١٨ يناير سنة ١٨٦٣م)، وكان عمره إذ ذاك ٣٢ سنة، فلم يلبث أن ظهرت فيه كفاءة عظيمة ورغبة شديدة إلى رفع شأن البلاد وترقيتها، بإدخال كل الإصلاح الذي يراه مؤديًا إلى ذلك. ومع الاعتراف بأن السرعةَ التي سار بها في سبيل هذا الإصلاحِ والإنفاقَ عن سعة في كل شيء أدَّيَا إلى استدانته من أوروبا القناطير المقنطرة من الذهب التي تضاعفت هي وفوائدها حتى وصلت في أواخر أيامه إلى عبء ثقيل لا حول ولا قوة للبلاد على احتماله؛ مما أوجب تدخُّل الدول الأوروبية في شئون مصر. قد يُغتفر له ذلك إذا راعينا مقدار ما قام به من الإصلاح، ولاحظنا أن سعيدًا قد فتح له من قبل باب الاستدانة المشئوم؛ إذ مات وهو مدين بمبلغ ١٠٠٠٠٠٠٠ جنيه.

وتلخص أهم أعمال إسماعيل في مصر فيما يأتي:
  • (١)

    الفصل في أمر وراثة العرش وحصرها في أكبر أولاد الوالي والحصول على لقب خديوي.

  • (٢)

    الإصلاحات الإدارية، وتأييد الاستقلال الداخلي.

  • (٣)

    الإصلاحات القضائية، ومساواة جميع الناس أمام القانون المدني المختلط.

  • (٤)

    التعليم العالي.

  • (٥)

    منع الرقيق.

  • (٦)

    إلقاء المؤاخذة — المسئولية — على النظار، وتشكيل مجلس شورى النواب.

  • (٧)

    توسيع منابع الثروة للبلاد بتنمية الزراعة، وبالمشروعات العامة.

  • (٨)

    توسيع نطاق الأملاك المصرية.

  • (٩)

    إتمام مشروع ترعة السويس (أفاد العالم في مجموعه وإن أضر بمصر في ذاتها).

(١) وراثة العرش

بعد أن تولى إسماعيل ببضعة أسابيع زار مصر السلطان «عبد العزيز»، فكان أول من زارها من سلاطين آل عثمان من عهد سليم الأول؛ فاحتفل به إسماعيل باشا احتفالًا كبيرًا، واجتهد في أن تكون هذه المقابلة فاتحةً لعلاقات ودِّية بينه وبين الباب العالي. وبعد أن عاد السلطان إلى الأستانة أخذ إسماعيل باشا يسعى سرًّا للحصول على أغراض يرمي إليها لتعزيز ملكه، واستعان على نيلها بالمال كلما وجد إلى ذلك سبيلًا؛ فسعى لدى الباب العالي في شأن تغيير القانون الصادر به تقليد سنة ١٨٤١م بشأن وراثة عرش مصر، وهذا القانون يقضي بأن يئول العرش لأكبر فرد في الأسرة بشرط موافقة الباب العالي.

فلما رأى إسماعيل أن ذلك ربما يُحدث فتنًا بين أفراد الأسرة من أجل العرش — بالسعي لدى الباب العالي، أو بقتل بعضهم بعضًا — طلب إلى الباب العالي أن يجعل الوراثة لأكبر أولاد الخديوي بلا شرط ولا قيد، ليحسم كل نزاع بين أفراد الأسرة في هذا الشأن، فلم يقبل الباب العالي ذلك في أول الأمر، لعلمه أنه ينقص من نفوذه في مصر، فإن هذه المزية لم تتمتع بها الأسرة المالكة في تركيا نفسها، وزار إسماعيل القسطنطينية وسعى بنفسه في الأمر فلم يفلح، ولكن عزيمته لم تفتر، وذهب إليها في زيارة أخرى أجزل فيها العطاءَ فنال مرادَه، وأصدر الباب العالي عهدًا بجعْل الوراثة في أكبر أنجال الخديوي في (١٢ المحرم سنة ١٢٨٣ﻫ/٢٧ مايو سنة ١٨٦٦م)، وذلك في مقابل زيادة الجزية التي تدفعها مصر من ٣٢٠٠٠٠ إلى ٦٠٠٠٠٠ جنيه.

وسعى أيضًا إسماعيل باشا لدى الباب العالي ليمنحه لقبًا أرقى من «الباشا» المعتاد، وكان غرضه من ذلك تثبيتَ امتياز مصر عن باقي ولايات الدولة، وهو ذلك الامتياز الذي حصَّله محمد علي بتقليد سنة ١٨٤١م، فمنحه السلطان لقب «خديوي» في (ربيع الأول سنة ١٢٨٤ﻫ/يوليو سنة ١٨٦٧م). وهو لفظ فارسي الأصل معناه الأمير العظيم، وكان يمنحه الفرس لحاكم الهند في عهد حكمهم لها، وبعدُ فما زال الخديوي يسعى لدى الباب العالي في اكتساب امتيازات جديدة بفضل ما كان يبذله من المال، حتى أصدر الباب العالي في ربيع الآخر سنة (١٢٩٠ﻫ/١٨٧٣م) عهدًا مثبِّتًا كل الحقوق التي منحها للخديوي بمقتضى العهود السابقة، وبهذا العهد أيضًا اعترف الباب العالي باستقلال الخديوي استقلالًا تامًّا بشئون مصر الداخلية، وأذن له بأن يعمل بدون استشارته في قرض الديون، وعقد المخالفات التجارية وغيرها مع الدول الأجنبية، ما دامت تلك المحالفات لا تناقض مصلحة الدولة ولا محالفاتها السياسية مع الدول، وأن يزيد جيشه حسب ما يراه صالحًا، على شرط أن لا يكون في أسطوله مدرعات، وقد زادت الجزية المصرية في مقابل ذلك إلى ٦٦٥٠٠٠ جنيه.

ولا شك أن مثل هذا العهد كان من الممكن أن يعود على مصر بأعظم الفوائد؛ إذ يكون من أكبر الدواعي التي تحمل كل خديوي لمصر على أن يسهر على ما فيه صالح البلاد، كي يترك وراءه ملْكًا منظمًا ثابت الأركان.

(٢) الاستقلال الداخلي والإدارة

لم يكن همُّ إسماعيل باشا قاصرًا على الوصول إلى جعْل الوراثة لأكبر أنجال الخديوي، بل كان يبذل همته في أن يمنح استقلالًا إداريًّا يتصرف به في شئون البلاد الداخلية؛ إذ كان أعظم غرض له في الحياة أن يوثِّق عُرى الارتباط بين مصر وممالك الغرب المتمدينة. والوصول إلى ذلك محال ما دام الباب العالي صاحب النفوذ والسلطان في البلاد؛ إذ كان يخشى أن يعترضه فيما يقدم عليه من المشروعات، وأي فائدة تجنيها البلاد وأي عمل عظيم يمكن لأقدر حاكم أن يقوم به إذا كانت يده مغلولة في شئون البلاد الداخلية؟

لذلك قضى إسماعيل سنوات عديدة من حياته يبذل في أثنائها المال الوفير للوصول إلى ضالته المنشودة، حتى منحه الباب العالي استقلالًا داخليًّا في عام (١٢٩٠ﻫ/١٧٧٣م) بمقتضى العهد السابق الذكر.

ولما أصبح إسماعيل صاحب النفوذ والسلطان في مصر أخذ ينظِّم إدارتها الداخلية؛ فأدخل في البلاد جملة إصلاحات لم يأتِ بها والٍ تولَّى الشئون المصرية قبله؛ فأعاد نظام الإدارة الذي وضعه محمد علي وأُهمل في عصر عباس باشا الأول بعد أن أدخل فيه بعض الإصلاحاته، ثم رتب نظام المكوس ترتيبًا متقنًا، واشترى إدارة البريد المصري من شركة ووضعها تحت سيطرة أحد مهرة الغربيين — كما سيأتي ذكره بعد — وقسَّم القطر إلى أربع عشرة مديرية، وحسَّن طرق الاتصال والقضاء وغير ذلك، مما سنتكلم عليه فيما بعد.

(٣) الإصلاحات القضائية ومساواة جميع الناس أمام القانون

كان أهم مشروع داخلي وجَّه إليه إسماعيل باشا عنايته إصلاح القضاء، وجعْله مستقلًّا عن الإدارة، ونشْر العدل وكان من قبلُ معدومًا؛ لأن القانون الذي وُضع في عهد محمد علي لم يغير من النظام القديم شيئًا وكان حبرًا على ورق، فأراد إسماعيل باشا أن يؤسس المحاكم المختلطة ليتساوى الجميع أمام القانون، ويكون الأجنبي والوطني في مستوًى واحد، وكان غرضه أن يقضيَ على المحاكم «القنصلية» والامتيازات الأجنبية، بشرط أن يتكفل للأجانب بكل ما يضمن راحتهم.

ولم تكن هذه الفكرة بنت يومها، بل كانت مختمرة عند الخديوي قبل أن يتولى عرش مصر، فلما مات أخوه أحمد في حادثة كفر الزيات، وأصبح هو الوارث للملْك تفرغ لدرس الإصلاحات القضائية، ورأى أثناء ذلك ما كان للأجانب من الامتيازات، فعزم على أن يغير ذلك تغييرًا تامًّا، فيكون أول من خطا خطوة في سبيل المساواة ونشر العدل بين رعاياه.

فلما تولى الملْك لم تساعده الأحوال في أول أيام حكمه على تخليص البلاد من هذا النظام الرديء؛ إذ كان منصرفًا بكل قواه إلى تحصيل عهد الوراثة والاستقلال الداخلي من الباب العالي.

ولما سنحت له الفرص في عام (١٢٨٤ﻫ/١٨٦٧م) فاتح الوزارة الفرنسية في هذا الصدد؛ ففاوض نوبار باشا «المسيو موسير» وزير خارجية فرنسا في هذا المشروع حسب إرادة الخديوي، فعُقدت لجنة في باريس كان الغرض منها فحص التغيير الذي يريد نوبار إدخاله في القانون؛ فكانت هذه أول خطوة في سبيل إنشاء المحاكم المختلطة.

وقد ساعد الخديوي أيضًا في تحقيق أمنيته هذه بعض وزرائه، وأولاهم بالذكر شريف باشا، ورياض باشا، ونوبار باشا، غير أن معظم نجاح المشروع يرجع إلى الأخير٢ إذ قضى سبعة أعوام من حياته في كفاح مع دول أوروبا حتى أفلح أخيرًا في تأسيس هذه المحاكم التي مع ظهور بعض الفائدة منها لم تأتِ بكل ما كان مؤملًا فيها.

وإنا نشك في أن إسماعيل باشا كان يعرف كل النتائج التي تنجم من هذا التغيير، فإنه كان يريد بالمحاكم المختلطة القضاء على نفوذ محاكم السفارات التي كان يظهر أنها ستقضي على شيء من سلطته الفردية، لا عليها كلها كما فعلت هذه المحاكم وبرهنت عليه الحوادث؛ إذ اتضح له أخيرًا أن سلطة هذه المحاكم تعلو سلطته؛ لأنها أصبحت تفصل في كل القضايا حتى التي على الحكومة وعلى شخصه نفسه، بل كانت من أكبر العوامل على عزله، ومع ما كان فيها وقت إنشائها من النقائص كانت أكثر فائدة من محاكم الأقسام التي كان يفصل حينئذٍ في قضاياها المدير أو ناظر القسم؛ يدلك على ذلك أن كثيرًا من الأهالي كانوا يفضِّلون الفصل في قضاياهم أمام المحاكم المختلطة على محاكم الأقسام التي كان كلٌّ من المدير وناظر القسم يستعمل السوط في تحقيق قضاياها، ثم لا يفلح في تحقيق قضية واحدة من بين خمسين.

figure
نوبار باشا.

وقد لاقى نوبار باشا الصعوبات الجمة في إرضاء كلٍّ من الأهالي والأجانب، وخصوصًا سفراء الدول الذين رأَوْا أن تأسيس هذه المحاكم يكون من ورائه محو سلطتهم في البلاد، وكانت فرنسا أكبر معارض لإنشاء هذه المحاكم على حسب التغييرات التي اقترحها نوبار باشا، في حين أن إنجلترا كانت أكبر عضد له فيها؛ إذ رأت أن النظام المتبع حينئذٍ مضر بكلٍّ من الأهالي والأجانب، ولذلك كانت تصرح دائمًا أنها مستعدة لمعاضدته، أما الباب العالي فإنه رغم معاضدة إنجلترا للمشروع ورغبة معظم الدول الأوروبية فيه، وضع العقبات في سبيل إنفاذه بعلة أنه مخالف للشرع، فأبى السلطان والعلماء في القاهرة إدخال هذا الإصلاح الذي يعد افتياتًا على حقوقهم، وأعلن العلماء في القاهرة أن مثل هذا التغيير لا يتفق مع الدين الحنيف. فعزل إسماعيل باشا المفتي الذي أفتى بذلك، واستبدل به آخر وافق على إنشائها، ومن هذه اللحظة لم تجئ أي معارضة من هذه الناحية.

وبعد أن انتهى من معظم المعارضات شكَّل هذه المحاكم في (ذي الحجة سنة ١٢٩١ﻫ/أول يناير سنة ١٨٧٥م)، إلا أنها لم تفتح أبوابها إلا في (شهر المحرم سنة ١٢٩٣ﻫ/فبراير سنة ١٨٧٦م)، وذلك للعراقيل التي كانت تضعها فرنسا.

وقد أُسس من هذا النوع ثلاث محاكم من الدرجة الأولى: في القاهرة، والإسكندرية، والمنصورة، ثم محكمة استئناف عليا بالإسكندرية.

وهذه المحاكم تفصل في القضايا المدنية، وبعض المخالفات التي يكون فيها أحد الخصمين أو كلاهما من الأوروبيين أو الأمريكانيين المختلفي الجنسية. أما إذا كان الخصوم من الأجانب المتحدي الجنسية، فالمحكمة لا تفصل في النزاع إلا إذا كان موضوعه عقارًا، وهي مستقلة تمامًا عن الحكومة، وتُعيِّن القضاةَ بها اثنتا عشرة دولة من دول أوروبا والولايات المتحدة، ويجدَّد هذا النظام في كل خمسة أعوام مرة، وهي في مصر أشبه في الحقيقة بمملكة صغيرة، ولقضاتها الحق في شرح القانون وتقرير ما لهم من السلطة، ولا توجد هيئة تشريعية معتبرة يُرجع إليها إذا تعدَّت هذه المحاكم حدود اختصاصها، وغاية ما تستطيع الحكومة المصرية عمله في هذا الصدد أن تفاوض الدول، حتى إذا اتفقنَ جميعًا على رأي عمدنَ إلى تعديل القانون.

(٤) التربية والتعليم

رأى إسماعيل باشا — كما رأى جده العظيم محمد علي من قبله — أنه لا يتسنى له القيام بإصلاحاته ومشروعاته الخطيرة في البلاد إلا بتعليم أبناء الأمة، وإن اختلفت أغراض كلٍّ من الرجلين؛ فكان الغرض الأول لمحمد علي من التعليم أن يكوِّن عددًا عظيمًا من الضباط والموظفين ليساعدوه في إدارة شئون البلاد، أما إسماعيل فقد غرست فيه تربيته الأوروبية مبادئ حب العلم والتعليم، فأراد أن ينشر العلم لذاته بين جميع طبقات الأمة؛ لذلك وجَّه شطرًا عظيمًا من عنايته إلى هذه الوجهة، وكانت الأحوال مساعدة له، لخصب مدارك المصري وقوة حافظته التي لا تضارَع في أكثر الشعوب، ولِمَا له من المجد الأثيل والباع الطويل والميل القديم للعلوم والمعارف؛ يشهد بذلك جامعة الإسكندرية في عصر البطالسة، والجامع الأزهري الذي يؤمه آلاف الطلاب من جميع بقاع العالم الإسلامي.

وقد ساعد الحظ إسماعيل؛ إذ وجد في خدمته نخبة من أكابر الغربيين، نهضوا بالتعليم ورقَّوْه، ونؤثر بالذكر منهم «دور بك» و«كلوت بك» و«رُوجَرْز بك». وكان لبعض نظَّار الحكومة فضل عظيم في هذه النهضة، وبخاصة «شريف باشا» و«رياض باشا» و«علي مبارك باشا» الذي سار بالتعليم شوطًا بعيدًا، وكان له القدح المُعَلَّى في نهضة البلاد الحديثة.

ولا يفوتنا أن الفضل كل الفضل راجع طبعًا إلى رئيسهم الأكبر الخديوي إسماعيل، فأول عمل قام به أنه أصدر قانونًا في ١٠ رجب سنة (١٢٨٤ﻫ/١٨٦٧م) كان الغرض منه وضع أساس منهج قويم للتعليم في جميع أنحاء القطر. وقد ظهرت فائدته؛ إذ زاد عدد التلاميذ في مدة وجيزة إلى ٥٢٠٠٠ تلميذ يتعلمون في ١٣٠١ معهد، ثم ازداد بعدها عدد التلاميذ إلى ١٤٠٩٧٧ وعدد المدارس إلى ٤٨١٧، وكان في القاهرة وحدها ما يزيد على ٢٩٥ مدرسة بلغ عدد تلاميذها ١٠٠٠٠ تلميذ، عدا طلبة الأزهر الشريف، والمعاهد الأجنبية، والمعاهد التابعة للأوقاف، والمدارس الحربية لتعليم الجيش الذي كان يبلغ إذ ذاك ثلاثين ألفًا.٣
figure
علي مبارك باشا.

وأهم مدارسه العالية والخصوصية مدرسة الهندسة، ومدرسة الطب والولادة، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون والصنائع، ومدرسة اللغة المصرية القديمة، ومدرسة الألسن والمعلمين — قلم الترجمة — ومدرسة دار العلوم — المعلمين الناصرين. وكان التعليم في كل هذه المدارس بالرغبة، لا بالإكراه كما كان في عصر محمد علي.

ولا يتسرَّب إلى ذهن القارئ أن كل هذه المدارس أسسها إسماعيل باشا، بل وضع الحجر الأساسي للكثير منها محمد علي باشا، كمدرسة الطب التي شيَّدها في عام (١٢٤٢ﻫ/١٨٢٧م) كما أسلفنا من قبل، غير أن الفضل يرجع إلى الخديوي في تنظيم هذه المدارس وزيادة ميزانية نظارة المعارف ورفعها أولًا من ستة آلاف جنيه في عهد سعيد إلى أربعين ألف جنيه، ثم وقف عليها أراضي الوادي بعد أن اشتراها ثانية من شركة قناة السويس.

وكان غرض إسماعيل باشا من قانون رجب سنة ١٢٨٤ﻫ نشر التعليم، وتوحيد نظامه في جميع أنحاء البلاد مع مراعاة ما يلائم كل طور من أطوار الدراسة، فكان لا يُجهد عقول التلاميذ في الطور الأول بالمواد التي لا فائدة لهم منها، بأن جعل التعليم في المدارس الابتدائية قاصرًا على مبادئ الكتابة والقراءة، وخص المدارس التجهيزية بمن كان يريد التقدم في مضمار التعليم، أما المدارس العالية والخصوصية فكان يتعلم فيها الطلاب كل العلوم الدراسية وفيها اللغات، وكان يُترك لهم الحرية في اختيار اللغة التي يتعلمونها بشرط أن يتعلموا اللغتين العربية والتركية، وكان طلاب المدارس الخاصة على قسمين: قسم يتعلم على نفقته الخاصة، والآخر على نفقة الحكومة؛ ولذلك كان يتحتم على هؤلاء أن يخدموا في وظائف الحكومة مدة معينة. وكان ينتخب أحسن الطلاب لمدرسة الهندسة ومدرسة الطب، وحثالة التلاميذ تذهب إلى المدارس الحربية، وفي ذلك إجحاف عظيم بالمجتهدين من الطلبة؛ لأن معظم الترقية كانت في الجيش.

ولا شك أن هذا القانون الذي يشمل أربعين مادة وضع أساسًا متينًا للتعليم في البلاد، إلا أن الحاجة إلى المال والرجال كانتا حجر عثرة في طريق تنفيذه؛ إذ أخذت الحكومة على عاتقها عدة أعباء ثقيلة؛ فكانت تعلم التلاميذ مجانًا، وتتكفل بطعامهم، وملبسهم، وتعطيهم رواتب شهرية؛ ولذلك كان الآباء أحيانًا يمنعون أبناءهم من الذهاب إلى المدرسة إذا قصَّر أولوا الأمر في شيء من النفقة، وربما كان للفلاح عذر في ذلك، فإن حالته الأدبية كانت منحطة، وربما كان غير قادر على دفع نفقات التعليم لِمَا كان يعانيه من دفع الضرائب الفادحة والسخرة.

وقد شجع الخديوي أعيان الأمة على تعليم أولادهم، فوضع لهم مثالًا ليحذوا حذوه بأن عُني بتربية أنجاله وأمراء أسرته؛ فإنه عند توليته نقل مدرسة «المَنْيَل» إلى قصر عابدين بعد أن كانت بجزيرة الروضة، وكان يتعلم بها مع الأمراء ستون تلميذًا من أبناء الأهالي، فلم يفرق في المعاملة بين الفريقين، وكان من المحتم على الأمراء تمضية الامتحانات كغيرهم من التلاميذ.٤

ولم تقف همته عند تعليم الشبان من أبناء الأمة، بل وجَّه عنايته إلى تعليم البنات أيضًا؛ فأسس مدرسة لذلك الغرض تحت رعاية إحدى زوجاته على نفقتها الخاصة، وكان الغرض منها تعليم البنات المصريات الواجبات المنزلية، حتى يستغنين عن الإماء والعبيد؛ فكانت هذه أول مدرسة من نوعها في كل بقاع الدولة العثمانية.

غير أنه كان في هذه المدارس بعض العيوب: فمنها قلة الأساتذة الأوروبيين الذين يحسنون العربية؛ إذ لا يخفى ما في إلقاء المحاضرات بواسطة مترجم من النقص، ومنها أن المعلمين الوطنيين كان ينقصهم أشياء كثيرة أخصها معرفة طرق التعليم، فكان لا هَم لهم إلا إنماء حافظة التلاميذ، وهذه — بلا شك — طريقة عقيمة تذهب بكثير من ثمرات التعليم.

دار الكتب

ولا يفوتنا عند الكلام على التعليم أن نذكر أن الفضل في إنشاء دار الكتب الحالية يرجع إلى همة الخديوي إسماعيل؛ إذ جمع لها كل ما وصلت إليه يده من الكتب المنسوخة باليد والمصاحف المزخرفة التي كانت مبعثرة في جميع أنحاء البلاد، ولا ريب أن هذه المجموعة لا تقل في بابها عن مجاميع لندن وباريس وتورين. على أن المجموعة الفارسية التي فيها لا يوجد لها نظير في العالم بأسره.

واشترى إسماعيل باشا مجموعة الكتب التي كانت عند أخيه الأمير مصطفى باشا فاضل بعد مماته بمبلغ ٤٠٠٠٠ جنيه، وأهداها إلى دار الكتب.

فإسماعيل باشا يُعتبر بما قام به — وبما تم في عصره من التعليم والنهوض بالأمة — من أعظم المشجعين للنهضة الحديثة بالديار المصرية.

دار الآثار المصرية

لا يكاد يوجد في العالم أرض تضارع مصر في كثرة آثارها القديمة ونفاستها، إلا أن هذه الآثار كانت إلى أواخر أيام محمد علي باشا مهملة؛ لا يهتم بها ملوك مصر، ولا يفتر قناصل الدول الأجنبية وتُجارها عن تبديدها وتهريب ما وصلت إليه أيديهم منها إلى بلادهم. فلما قدم شمبليون مصر لدرس النقوش الهيروغليفية عرض على محمد علي باشا عام ١٨٣٠م إنشاء مصلحة لحفظ العاديات المصرية، ولكن الباشا لم يعمل بنصيحته وقتئذٍ بتحريض قناصل الدول وتصويرهم مشروع شمبليون بأشنع صورة لأغراضهم الشخصية.

غير أن نصيحة شمبليون تركت أثرًا في نفس محمد علي، فأصدر أمرًا بعد ذلك بخمس سنوات بمنع تصدير الآثار وإقامة حرَّاس عليها، وفي (ربيع الآخر سنة ١٢٥١ﻫ/أغسطس سنة ١٨٣٥م) أنشأ مصلحة للآثار أمام بركة الأزبكية للمحافظة على العاديات والبحث عنها في أنحاء البلاد، ولم تكن أعمال هذه المصلحة منتظمة في أول أمرها، وبقيت كذلك إلى سنة (١٢٦٥ﻫ/١٨٤٩م) إذ أصدرت نظارة المعارف — التي كانت المصلحة تابعة لها حينئذٍ — أمرًا إلى «لينان بك» بعمل فهرست للآثار وجمعها في مكان واحد. إلا أن ذلك لم يضرب على أيدي السَّرَقة والمبددين، حتى إنه لما نُقلت الآثار إلى القلعة لم تشغل بها إلا حجرة واحدة.

وفي سنة (١٢٢٦ﻫ/١٨٥٠م) قدم إلى مصر رجل من أذكياء الفرنسيين المشتغلين بالآثار يُدعى «المسيو مَرْيِت» — مريت باشا فيما بعد — أوفدته حكومته إلى وادي النيل لمشتري مخطوطات قبطية، فعدل عن ذلك وعكف على درس آثار سقارة حتى كشف بها السرابيوم، ولم تكن له علاقة رسمية بمصلحة الآثار وقتئذٍ، ولكنه لشغفه بالآثار والمحافظة عليها ساعد الحكومة كثيرًا حتى زادت محتويات دار العاديات زيادة عظيمة بين سنتَي (١٨٥٣-٥٤). ولكن ما لبثت أعماله أن ذهبت أدراج الرياح؛ إذ زار مصر في عام (١٢٧١ﻫ/١٨٥٥م) «الأرْشدوق مَكْسِمِلْيان» النمسوي، فطلب من عباس باشا الأول أن يُهديَه شيئًا من العاديات المصرية فسمح له بأن يأخذ كل ما أراد من القلعة! وإذا شاء أحد أن يعرف ما كانت تحويه دار عاديات القلعة فما عليه إلا أن يذهب اليوم إلى فيينا.

أما المسيو «مريت» فإنه بقي مشتغلًا بالآثار المصرية، باذلًا وسعه في أن تكون له صفة رسمية فيها حتى يضمن ثمرة أتعابه، فتمَّ له ذلك في (ذي القعدة سنة ١٢٧٤ﻫ/يوليو سنة ١٨٥٨م)؛ إذ جعله سعيد باشا بتوسط المسيو ديلسبس مأمورًا لأعمال العاديات بمصر.

وقد لاقى في أول الأمر مصاعب جمة في تنظيم الآثار وإدارة حركتها، لقلة المال ولعدم ثبات سعيد باشا على مؤازرته؛ إذ كان أحيانًا يأمر بتوقيف أعماله. ولكن مريت بقي مثابرًا على بحثه، متنقلًا طول النهار بين المصانع والطلال، حتى أخذت دار العاديات تمتلئ بسرعة، وسمح له سعيد باشا بنقلها إلى مخازن أُعدت لها في بولاق.

ثم مات سعيد باشا ومشروع مريت في نشأته، فحزن كثيرًا وخشي أن لا يلقى من إسماعيل باشا ما لاقاه من سعيد من المؤازرة، ولكنه ما لبث أن وجد من إسماعيل باشا أكبر عضد لمشروعه، فأمر في الحال بإصلاح مخازن بولاق وتوسيعها، وافتتحها بحفلة رسمية في ٥ جمادى الأولى سنة (١٢٨٠ﻫ/١٨ أكتوبر ١٨٦٣م).

ثم بقيت دار العاديات سائرة في طريق التقدم بفضل معاضدة إسماعيل باشا ومثابرة مريت، ولما أُقيم معرض باريز (عام ١٢٨٤ﻫ/١٨٦٧م) نُقل أجمل ما فيها إلى فرنسا لعرضه بالمعرض، فكان موضوع إعجاب الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين؛ لذلك طلبت «الإمبراطورة يوجيني» من إسماعيل باشا أن يُبقي العاديات بباريز لإهدائها لفرنسا، فكاد يجيب طلبها لولا مقاومة مريت باشا.

أفلتت العاديات من هذه الأزمة، فوقعت بعدها في ضيق شديد للعسر المالي الذي أخذ بخناق الحكومة في ذلك الوقت. وفي سنة (١٢٩٥ﻫ/١٨٧٨م) فاض النيل على أماكن بولاق، وكاد يُغرق الآثار؛ فعُني مريت بحفظها في صناديق، وبقي محافظًا عليها حتى أُعيد افتتاح الدار بعد هبوط النيل.

figure
مريت باشا.

وبقي مريت مثابرًا على تنظيم دار العاديات المصرية وإصلاحها حتى مات في (صفر سنة ١٢٩٨ﻫ/يناير ١٨٨١م)، وهي تضارع أعظم دور العاديات الأوروبية.

وفي عام (١٣٠٨ﻫ/١٨٩١م) نُقلت دار الآثار إلى الجيزة، فبقيت بها إلى عام (١٣٢٠ﻫ/١٩٠٢م)؛ إذ نُقلت إلى مكانها الحالي قُرب قصر النيل.

ودُفن مريت باشا بناووس في دار الآثار المصرية، لا يزال إلى الآن بها يستقبل القادم عليها.

(٥) منع تجارة الرقيق

بعد أن بذل إسماعيل باشا جهده في تأمين الأمة على نفسها ومالها، وساوى بين أفرادها أمام القانون، وبذل جُل طاقته في رفع شأن الأهالي بالتعليم، رأى أن من الكرامة والرحمة أن لا يتغاضى عن تجارة الرقيق في داخل بلاده؛ فلم يكتفِ بمنعها على الورق كما فعل من قبله محمد علي باشا وسعيد باشا، بل عزم عزمًا أكيدًا على اقتلاع أصول هذه المهنة والقضاء عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلًا. ولما كانت هذه المهنة عادة متأصلة في كل البلاد، وكان الدين الإسلامي، بل كل الشرائع السماوية لا تمنع بيع الرقيق بشروط خاصة، صادف إسماعيل باشا صعوبات جمة في سبيل تحقيق أمنيته وتنفيذ عزمه.

وكان أول من لفت نظر الأمم المتمدينة إلى الفظائع التي تُرتكب في أواسط أفريقيا من جرَّاء هذه المهنة كبار المستكشفين من الإنجليز، نخص بالذكر منهم «لِفِنْجستون» و«بيكر» و«استانلي»؛ إذ كانوا يروون عن ذلك الحكايات التي تُفتِّت الأكباد وتُدمي القلوب، لما كان يقاسيه أهل تلك البلاد من الذل والهوان وأنواع العذاب. ومهما بالغ الإنسان في وصف هذه الفظائع، فإنه لا يمكنه أن يفهم حالة العبيد والاتِّجار فيها إلا إذا قرأ كتاب «الإسماعيلية» أو كتاب «ألبرت نيانزا» اللذَين وضعهما «السير صمويل بيكر» في هذا الصدد. ويكفي أن نقول هنا إن جلَّابي العبيد خرَّبوا بلاد السودان، بصيدهم ما لا يقل عن خمسين ألف زنجي كل عام تحت ستر الاتِّجار في العاج.

وأول من فكر في القضاء على هذه الحرفة المشئومة بالفعل وليُّ عهد إنجلترا في ذلك الوقت؛ إذ عرض على الخديوي أن ينوط بالسير صموئيل بيكر محو الاتجار بالرقيق على النيل الأبيض وتوطيد النظام في السودان؛ فرحب الخديوي بهذا الإصلاح، وعزم على أن يضرب بسهم صائب في أحشاء هذه السلعة بالرغم من معارضة رعيته وعدم ميلهم لذلك.

ولا شك أن تحريم الاتجار في الرقيق صادف قبولًا حسنًا في نظر دول أوروبا العظام، إلا أنه أثقل عاتق الحكومة المصرية بما كلَّفها من النفقات؛ إذ أنفق بيكر وحده في هذا السبيل نحو ٥٠٠٠٠٠ جنيه، ولم يجد إسماعيل باشا معضدًا له من بين رعيته إلا شريف باشا ونوبار باشا والأنجال والأمراء. أما باقي الرعية فكانوا ينظرون إلى المشروع شزرًا.

وأول أعمال المسيو صمويل بيكر في هذا السبيل أن الخديوي عهد إليه سنة (١٢٨٦ﻫ/١٨٦٩م) بالاستكشاف عن الجهات التي قُرب منابع النيل الأبيض، وضمِّها إلى الحكومة المصرية، فخرج بحملة مصرية إلى إقليم خط الاستواء، ثم زحف بها حتى بلغ بلدة «جُنْدُوكورو»، والبلاد الواقعة على بُعد درجتين شمالي خط الاستواء، وأعلن رسميًّا إلحاق المقاطعات الاستوائية بالحكومة المصرية سنة (١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م) وكان أينما حل يؤسس بِاسم مصر نقطًا عسكرية لمنع تجارة الرقيق، أهمها نقطة «التوفيقية». وكان بالسودان في ذلك الوقت عدة بيوت تجارية كبيرة لنقل البضائع من أطراف السودان إلى مصر، فجمع أصحابها رجالًا مسلحة من الزنوج، وشيدوا لهم معاقل حصينة ليستعينوا بها على الاتِّجار فيما يريدون، وخصوصًا تجارة الرقيق لما فيها لهم من الأرباح الطائلة. واستفحل أمرهم في هذه التجارة حتى إن «بيكر» لما عاد من سياحته الأولى وصف للخديوي مبلغ نفوذهم العظيم في القاصية.

فأرسل الخديوي إلى «حكمدار» السودان أن يتفق مع أصحاب تلك المعاقل على تسليمها للحكومة بمقابل تعويض يُدفع لهم ابتغاء منع تجارة الرقيق، فقبل بعضهم وامتنع بعضهم الآخر بزعامة «الزبير».

ومن ذلك الحين صار للزبير شأن كبير في هذه الحرفة، وصار رئيس تجار الرقق، وبنى لنفسه في «شكا» قصرًا يضارع قصور الملوك، ونظَّم له جيشًا مسلحًا لاقتناص الرقيق، وبعد مكافحة طويلة بينه وبين الحكومة، طلب العفو من الخديوي فجعله مديرًا لبحر الغزال دفعًا لتفاقم الشر.

أما السير «صموئيل بيكر» فإنه ذهب في رحلة ثانية إلى مديرية بحر الغزال، ووصل في سفره إلى بحيرة «فكتوريا نيانزا» فرتَّب المقاطعات الاستوائية، وأنشأ فيها نقطًا عسكرية، ولما أخلص النصح في خدمة مصر لقَّبه الخديوي حاكمًا عامًّا على هذه المقاطعات؛ فبقي عليها حتى استقال في سنة (١٢٩٠ﻫ/١٨٧٣م) بعد أن ترك خلفه حكومة مبنية على أساس متين وطرد صيادي الرقيق من هذه الجهات.

وقام بأعباء العمل بعده الكولونيل «غُرْدون». وكل من يعرف ما فُطر عليه هذا الرجل من شدة البأس والمثابرة على العمل، يعلم أنه أتى كل ما يمكن لإنسان أن يفعله في سبيل القضاء على طائفة الجلَّابين، إلا أنه بمجرد تركه لهذه الأصقاع النائية عادت هذه المهنة إلى ما كانت عليه بل زادت في الانتشار، حتى إنه في أيام قيامه بهذه الخدمة في السودان كان يُجلب الرقيق إلى الحدود المصرية ويتجر فيه، وسنتكلم على غردون عند الكلام على السودان.

وكان ثالث رجل قام بهذه الخدمة رئيس جمعية تحريم الاتِّجار في الرقيق «كمت دَلَّا سلَّا»، وكان لا يقل عن سابقه في النشاط والقوة، فطارده بجميع قواه في الوجه القبلي إلى الجنادل الثانية — الشلال الثاني — فنجح نجاحًا باهرًا حتى لم تتمكن قافلة واحدة من قوافل الرقيق من الوصول إلى أسيوط.

ومع ما بَذل كل هؤلاء الثلاثة في سبيل منع الرقيق لم يتمكن أحد منهم إلا من تسكين هذه الرذيلة مدة، وسدِّ بعض الطرق في وجهها. وقد صرح الثلاثة أن من المستحيل محوَ هذه المهنة دفعة واحدة. ولا شك أن الصعوبات أمامهم كانت عظيمة، ولا سيما أن شيخ الجامع الأزهر في ذلك العصر أوعز إلى الخديوي أن تحريم الرقيق جملةً مخالف للشرع، إلا أن الخديوي رغم ذلك، ورغم عدم مساعدة الدول له مساعدة جدية، أمضى معاهدة مع بريطانيا العظمى لمنع بيع الرقيق في (٢٤ رجب سنة ١٢٩٤ﻫ/٤ أغسطس سنة ١٨٧٧م)، وأخرى في (المحرم سنة ١٢٩٥ﻫ/يناير سنة ١٨٧٨م)، وهذا منتهى ما يمكن لإنسان أن يأتيَ به. وفي الحقيقة لم يَغْلُ «اللورد أبريدين» الإنجليزي حين قال: «إنه لا يتسنَّى لأي حاكم شرقي أو أوروبي أن يعمل على محو الرقيق وتحسين حالة رعيته في زمن قصير كما فعل حاكم مصر الحالي.» — يعني إسماعيل.

(٦) منح السلطة للنظار وإنشاء مجلس شورى النواب

كان أول من سار بالبلاد في سبيل الحكم الدستوري محمد علي باشا؛ إذ رأى ضرورة إشراك الرعية معه في تدبير شئون مصر؛ فألَّف من كبار رجال حكومته مجلسًا يُسمَّى «المجلس المخصوص» ليعاونه في إدارة شئون البلاد، ويمكن اعتباره الأساس لمجلس الوزراء الحالي. وأنشأ أيضًا مجلسًا للشورى — مجلس المشاورة الملكي — ألَّفه من العلماء والأعيان.

وقد مُحي هذان المجلسان بعد وفاة محمد علي، وبقيا كذلك إلى أن جاء إسماعيل باشا فأعاد المجلس المخصوص وناط به فحص جميع المشروعات التي يريد إدخالها، وكان يرأس جلساته بنفسه في الغالب، وزاد من اختصاصه حتى صار شبيهًا بمجلس الوزراء الآن. غير أنه بقي هو صاحب النفوذ المطلق لا يعمل نظَّاره إلا برأيه، فلما تدخلت الدول الأوروبية في شئون مصر طلبت إليه أن يمنح أعضاء المجلس سلطة فعَّالة بحيث يكونون هم المسئولين عن قراراته؛ فشكل وزارة مؤاخذة برياسة نوبار باشا (سنة ١٢٩٥ﻫ/أغسطس سنة ١٨٧٨م)، كان ضمن أعضائها اثنان من الأجانب — كما سيأتي مفصلًا عند الكلام على المسائل المالية — فكان ذلك أول مجلس نظار أُنشئ بالديار المصرية.

وأعاد إسماعيل باشا أيضًا مجلس الشورى وسماه «مجلس شورى النواب»، وافتتحه في (١٠ رجب سنة ١٢٨٣ﻫ/١٩ نوفمبر سنة ١٨٦٦م)، وهذه من أهم الخطوات في سبيل الحكم النيابي في جميع ممالك الشرق بأسرها. وكان انتخاب هؤلاء الأعضاء بأغلبية الأصوات في جميع البلاد، إلا أن عيبها الكبير هو أن المدير كانت له اليد الفعَّالة في انتخاب الأعضاء؛ ولذلك كان معظمهم يُنتخب من أغنياء المديريات من غير نظر إلى عملهم ومداركهم، وكان أغلبهم يأبى أن يكون منتخَبًا مخافة أن يُغضب المديرَ أو الحكومة في أمر من الأمور، حتى إن الحكومة كانت تُضطر في أغلب الأحيان إلى انتخاب الأعضاء بالقوة الجبرية. ويقال إن إسماعيل باشا لم يكن غرضه من هذا المجلس أن يتدخل معه في أمور البلاد، بل ليشاركه أعضاؤه في المؤاخذة. وكانت وظيفة هذا المجلس أن يناقش الحكومة، ويُبديَ لها رأيه في كل التغيرات المالية وفي المشروعات العامة الجديدة وكل ما يتعلق بصالح البلاد من الأمور التي تعرضها عليه الحكومة. وكان يجتمع في كل عام مدة شهرين فتَعرض عليه الحكومة التقرير السنوي عن إدارة البلاد أثناء العام.

وكان أعضاء هذا المجلس لا يدرون في أول الأمر شيئًا من أعمال المجالس النيابية ونظامها، فلما همَّ شريف باشا بتعليمهم واجباتهم وطريقة السير في العمل ظَهَر من جهلهم وغرارتهم ما يُضحك.

(٧) التقدم المادي والأعمال العامة

يجدر بنا الآن بعد أن تناولنا الكلام على الإصلاحات الاجتماعية والأدبية في عصر الخديوي إسماعيل باشا أن نذكر شيئًا من إصلاحاته المادية التي لا تزال آثارها تدل على عظمته، وعلى ما كان يطمح إليه في سبيل رُقي البلاد وفلاحها.

وإن كثيرًا من أعداء إسماعيل يدَّعون أنه لم يُفِدِ البلاد، ولم يقم فيها بعمل يُذكر، إلا ما شيَّد من القصور العديدة والمباني الضخمة، والبذْل عن سعةٍ في ملاذِّه وأغراضه حتى استنفد أموال البلاد وتركها تنوء تحت عبء ثقيل من الديون. ولكننا سنُظهر هنا بالبراهين القاطعة، مستشهدين بكلام مشاهير عصره، أن أكثر أقوالهم غير مطابق للواقع، وأن إسماعيل باشا أفاد البلاد ورقَّاها، وأن ما قام به وتم في عصره من الإصلاحات والمشروعات العامة لا يُضارَع، ولا يتسنى لأي حاكم آخر في موضعه أن يأتيَ بمثله. إلا أن خطأه الوحيد يرجع إلى السرعة، وتعدُّد المشروعات، وعدم الحيطة في الإنفاق على أعماله.

الزراعة

كان إسماعيل يعلم أن ثروة البلاد في زراعتها؛ لذلك وجَّه جانبًا عظيمًا من عنايته إلى تحسين حالها؛ فكان أول عمل قام به أن حفر أكثر من مائتي ترعة، ورصف مسافات طويلة من شواطئ النيل، وأنشأ آلاف الأميال من الطرق الزراعية في جميع أنحاء القطر، وأقام عليها ما لا يقل عن ٥٠٠ قنطرة؛ من أهمها قنطرة الجزيرة — كوبري قصر النيل — التي تُعتبر من أعظم الأعمال الهندسية في القطر المصري. ثم أصلح ما لا تقل مساحته عن ١٥٠٠٠٠٠ من الفدادين؛ فزاد بذلك الأراضيَ المزروعة في القطر بنسبة ٣٠٪. وإن لم يكن لإسماعيل باشا حسنة أو إصلاح في البلاد غير هذه لكفى.

وفي أوائل حكمه اشتعلت نار الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، فحصرت ولاياتُ الشمال تجارةَ الولايات الجنوبية، ومنعت صدورها إلى أسواق أوروبا، وفي ذلك القطن الذي لا غنى لإنجلترا وفرنسا عنه؛ فارتفعت بذلك أسعار القطن في مصر ارتفاعًا لا مثيل له، فانتهز الخديوي هذه الفرصة وأكثر من زرع هذا المحصول، وشاركه في ذلك الأهلون من تلقاء أنفسهم، حتى صار المال يتدفق إلى مصر تدفقًا، وزادت قيمة الصادرات المصرية من ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه في عام (١٢٧٩ﻫ/١٨٦٢م) إلى ١٤٠٠٠٠٠٠ جنيه في عام (١٢٨١ﻫ/١٨٦٤م). ولكن ما لبثت الحرب الأمريكية أن انتهت، وعادت أثمان القطن إلى حالتها الأولى.

فوجَّه الخديوي عنايته إلى زرْع قصب السكر؛ فكان ذلك شغله الشاغل، وأنفق عليه الأموال الطائلة، وسخر الأهاليَ في زرعه، وأنشأ من أجله خطًّا حديديًّا من القاهرة إلى أسيوط. وقد احتكر زراعته في أملاكه الخاصة على الضفة اليسرى من النيل بين القاهرة وأسيوط، واشترى لصنعه من الخارج الآلات الكافية لتشييد أربعة وعشرين معملًا أُقيم بعضها وأُهمل بعضها الآخر. وقد أنفق إسماعيل على هذه المعامل وما يلزمها سبعة آلاف ألف جنيه، عدا نفقات الترعة الإبراهيمية التي حفرها لريِّ هذه الأراضي، وسخَّر في حفرها عددًا عظيمًا من أهالي القطر، وبعد أن أتم حفرها نصب عليها الآلات الرافعة، وهذه الترعة من أكبر الترع التي أُنشئت في مصر وأعظمها فائدة وأكثرها نفقة.

وكان معظم العمال الذين يشتغلون في معامل السكر يُجبَرون على العمل، ويتقاضَون أجورهم إما من السكر أو العسل.

التجارة

ووجَّه إسماعيل همَّه أيضًا نحو تحسين حال التجارة، لعلمه أن مصر كانت من قديم الزمان مركزًا عظيمًا للتجارة؛ فبنى خمس عشرة منارة في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، لتُرشد السفن التجارية القادمة إلى مصر، فأنفق عليها ما لا يقل عن ٢٠٠٠٠٠ جنيه، ثم شرع في بناء مرافئ ميناء الإسكندرية وميناء السويس، فناط إصلاح ميناء السويس بشركة فرنسية، وبلغت نفقاته ٥٠٠٠٠٠ جنيه، أما ميناء الإسكندرية فإنه عهد أمر إصلاحه إلى شركة إنجليزية عقدت معه اتفاقًا على ألفَي ألف وخمسمائة ألف جنيه، وقد اعترف «السير رِفَرْز وِلْسُن» — أحد الموظفين في الحكومة المصرية في عهد إسماعيل — أن هذا الاتفاق كان مجحفًا بمصر، وأن الميناء لم يُنفَق عليه أكثر من خمسمائة ألفٍ وألفِ ألف. فخُدع إسماعيل في هذا العقد كما خُدع قبله سعيد باشا في عقد قناة السويس. وهذا في الحقيقة مثَلٌ من كثير من أنواع الاتفاقات التي كان يُخدع فيها إسماعيل، ويُضيع من جرَّائها الأموا ل الطائلة.

وبنى أيضًا أسطولًا تجاريًّا ليحمل المتاجر والبريد بين مصر والدولة العلية وبلاد اليونان وغيرها، وأنفق عليه خمسمائة ألفٍ وألفَ ألفٍ من الجنيهات.

الأعمال العامة

قام إسماعيل باشا بعدة مشروعات وأعمال عامة تمَّت في عصره فأفادت البلاد، وجعلتْها تضارع البلاد الأوروبية في المدنية والحضارة.

ومن بين هذه المشروعات مدُّ السكك الحديدية في جميع أنحاء البلاد، وقد أنفق عليها الأموال الطائلة. وكان طول ما أُنشئ من السكك الحديدية قبل توليته لا يزيد عن ٣٣٠ ميلًا، فازدادت في مدته حتى بلغت ١٣٣٠ ميلًا، أنفق عليها ما يقرب من عشرة آلاف ألفٍ من الجنيهات.

وقد شرع في مدته أيضًا في مد خط حديدي يخترق أواسط أفريقيا مبتدئًا من دنقلة، فكان تصميمه أن يبلغ ١١٠٠ ميل، إلا أن العمل أُوقف لقلة المال بعد أن دُفع من نفقاته ٤٠٠٠٠٠ جنيه. على أن هذا الخط لو تمَّ لأتى بنفقاته في مدة سنين قلائل، لمروره في وسط سهول فيها الأنواع الكثيرة من الحيوان؛ مما يكفي لسد حاجات مصر، بل كل جنوبي أوروبا. كما أثبت ذلك القائد «إستون» رئيس أركان حرب الجيش المصري حينما كان يستكشف عن أواسط أفريقيا؛ إذ قال: «إن محصول الحيوان في هذه الجهة لا ينفد.»

وأنشأ إسماعيل باشا أيضًا ما لا يقل عن ٥٢٠٠ ميل من خطوط الأسلاك البرقية، واشترى مصلحة البريد من أحد الغربيين المدعو المسيو «شيني» في عام (١٢٨٢ﻫ/١٨٦٥م)؛ وبذلك أصبحت تحت إدارة الحكومة ونفوذها. وأسس ما يزيد على ٢١٠ من مكاتب البريد في طول البلاد وعرضها؛ فكان مقدار ما وُزع من الخطابات في عام (١٢٩٥ﻫ/١٨٧٨م) يبلغ ٢٥٠٠٠٠٠.

وأنار أيضًا أمهات المدن — كالإسكندرية والقاهرة — بالغاز ومدَّ بها أنابيب المياه، وأنشأ الشوارع الفسيحة بالقاهرة والإسكندرية والسويس، وزيَّنها على النمط الغربي الحديث، وقد بلغ ما أنفقه عليها ما يقرب من ثلاثة آلاف ألفٍ من الجنيهات.

وإن أكبر دليل قاطع على تقدُّم البلاد المادي ازديادُ صادراتها ووارداتها في ذلك العصر ازديادًا مُطَّردًا.

(٨) حروب إسماعيل باشا والفتوح التي تمَّت في عصره٥

لم يكن إسماعيل باشا ميَّالًا للحروب كجده الأكبر محمد علي، إلا أنه رغم ذلك كان يُعنَى بجيشه عناية كبيرة؛ إذ أحضر له كبار الضباط من الممالك الأوروبية وأمريكا لتدريبه، نخص بالذكر منهم «إستون باشا» الأمريكي رئيس أركان حربه.

وقد بلغ أقصى عدد الجيش النظامي في عصره ستين ألف مقاتل مسلحة بنحو ١٤٤ مدفعًا، عدا ثلاثين ألف مستحفظ، وستين ألف جندي غير نظامي.

وكان من أهم أغراض إسماعيل باشا توسيع نطاق ملكه في أفريقيا، وضم كل ما يمكن اكتشافه أو فتحه من أراضيها إلى مصر، فمن ذلك أنه عهد إلى السير صَمْويل بيكر بالاستكشاف عن الجهات التي قُرب منابع النيل الأبيض وضمِّها إلى الحكومة المصرية (١٢٨٦ﻫ/١٨٧٠م) كما سبق ذكره عند الكلام على منع الرقيق.

وفي عام (١٢٨٧ﻫ/١٨٧٠م) ولَّى «مُنْزِنْجَر» السويسري محافظًا على «مصوَّع»، وكان الخديوي قد اشتراها هي وسواكن من الباب العالي في عام (١٢٨٣ﻫ/١٨٦٦م) في مقابل ضريبة سنوية قدرها ٣٠٠٠٠ جنيه، وقد اهتمَّ «منزنجر» هذا بتوسيع أملاك مصر في السودان الشرقي؛ فألحق بها «بلاد البوغوس» و«بركة القضارف».

أما في وادي النيل، فقد طلب الخديوي من الحكومة الإنجليزية بإرشاد ولي عهد إنجلترا أن تمنحه تنصيب القائد «غردون» مديرًا لمقاطعة خط الاستواء، فوصل إلى مصر ونصَّبه الخديوي «حكمدارًا» لخط الاستواء في (ذي الحجة سنة ١٢٩٠ﻫ/يناير سنة ١٨٧٤م)، ومن ذلك الحين اهتمَّ الخديوي بأمر السودان اهتمامًا عظيمًا؛ فقسم بلاده الجنوبية إلى قسمين؛ أولهما: السودان الحقيقي — وآخر حدوده «فاشودة» جنوبًا — وجعل إدارته لحاكم السودان العام، والثاني: إقليم خط الاستواء، وهو ما كان جنوبي فاشودة، وجعله تحت إدارة غردون؛ فبسط غردون نفوذ الحكومة المصرية على تلك الجهات، وأسس النقط العسكرية لضبط السفن التي تتجر بالرقيق.

فتح دارفور

وفي عام (١٢٩٠ﻫ/١٨٧٣م) حسَّن «الزبير» للخديوي أمر فتح بلاد دارفور، وكانت مملكة مستقلة، فعضدته الحكومة المصرية، وتلاقى الزبير بجيش سلطان دارفور المؤلَّف من ٢٠ ألف مقاتل، فهزمه مرارًا وانتهى الأمر بفتح هذه البلاد، وصارت تابعة للحكومة المصرية؛ فعهدت الحكومة إلى الزبير إدارة الجهات الجنوبية من دارفور، ومنحه الخديوي رتبة باشا. ثم شكا الزبير كثيرًا من ثقل الضرائب على الأهالي، وطلب أن يتشرف بمقابلة الخديوي فأُذن له بذلك، فسافر إلى القاهرة وأناب عنه قبل سفره إليها ابنه سليمان. ولمَّا لم ينل الزبير مطالبه عند قدومه إلى القاهرة لم تأذن له الحكومة المصرية بالرجوع إلى السودان، وأبقته في القاهرة مخافة أن يثور بالسودان عند عودته.

figure
الزبير باشا.

فتح هَرَر

في سنة (١٢٩٢ﻫ/١٨٧٥م) تنازلت الدولة العلية للحكومة الخديوية عن مدينة «زَيْلَع» وملحقاتها في مقابل مبلغ تدفعه سنويًّا قدره ١٣٣٦٥ جنيهًا مصريًّا، وبعد أن ضُمت زيلع إلى الأملاك المصرية أخذت الجنود المصرية تستطلع أحوال «هَرَر» وتتعرف مسالكها، ولما تمَّ لها ذلك سارت فرقة بقيادة «محمد رءوف باشا» في (شعبان سنة ١٢٩٢ﻫ/سبتمبر ١٨٧٥م) فوصلت بعد قليل إلى مدينة هرر، واحتلتها بدون مقاومة تُذكر، ورفعت العلَم المصري فوق قصر أميرها.

حملة نهر جوبا وجهات قِسْمايو

ولمَّا أن تمَّ للخديوي توسيع الأملاك السودانية من الجهة الجنوبية، عزم على إرسال حملة إلى بلاد الصومال الجنوبية لضم البلاد الواقعة على نهر جوبا إلى مصر، حتى يتسنَّى له إيصال أملاكها في تلك الأصقاع بما لها في جهات خط الاستواء؛ فجهز لذلك حملة بقيادة «ماكيلوب باشا» من طريق البحر في (شهر المحرم سنة ١٢٩٢ﻫ/فبراير ١٨٧٥م)، فلما وصلت إلى بلدة «براوة» الواقعة شرقي نهر «الجُب» خضعت بعض القبائل للحكومة المصرية. ثم ترك فيها ماكيلوب باشا محافظًا وحامية وتقدم إلى «قِسْمايو» عند مصب نهر جوبا. ولمَّا لم تتمكن الجنود من السير فيه بالقوارب رجعوا إلى «قسمايو» ونزلوا إلى البر، وأخذت الحملة تستكشف عن النهر. ولكن الحكومة رأت أن تستدعيَ ماكيلوب باشا وحملته خوفًا من وقوع المشاكل بينها وبين حكومة زنجبار التي كانت تحت حماية إنجلترا، هذا إلى نشوب الحرب وقتئذٍ بين مصر والحبشة.

حرب الحبشة

علمنا فيما سبق أن الحكومة المصرية ضمَّت إلى أملاكها في السودان الشرقي بلاد البوغوس وبركة القضارف على يد «منزنجر باشا» والي مصوَّع، ثم أرادت أن تعيِّن الحدود بينها وبين الحبشة من تلك الناحية، وأن تستوليَ على بعض مقاطعات تتمكن بها من مدِّ طريق حديدي بين مصوَّع والخرطوم على طريق كسلة «والتاكة»؛ فجردت لذلك حملة بقيادة «أرِنْدِروب بك».

فلما وصلت هذه الحملة إلى بلدة «سعد زجه» ورأى النجاشي توغل الجنود المصرية في بلاده، أخذ يتقهقر أمام القوات المصرية خديعةً منه. حتى إذا وصلت الجنود المصرية إلى بلدة «عدخالة» أرسل القائد «أرندروب بك» إلى ملك الحبشة «يوحنا» يطلب منه جعْل نهر «خور الجاش» الحد الفاصل بين الأملاك المصرية والحبشة، فلم يقبل. وكان «أرندروب» قد بلغه أن ملك الحبشة يستعد للهجوم عليه من ثلاث جهات، فعزم على أن يبدأه بالهجوم، فتقدم نحو «جونديت» واشتبك مع العدو، وكان جيشه أضعاف الجيش المصري يقوده النجاشي نفسه؛ فكانت الدائرة على الجيش المصري، وفني معظمه وقُتل قائده العام، وتقهقرت فلوله إلى الحدود الأصلية بين الحبشة ومصر.

وكان الخديوي في هذه المدة أمر منزنجر باشا حاكم السودان الشرقي والبحر الأحمر أن يجرد حملة على بلاد الحبشة، ويذهب بها من طريق «غندار» (عام ١٨٧٥م) فخرج عليه بعض القبائل في الطريق، فاغتالته وفتكت بجيشه.

ولما ذاعت أخبار هذه الهزيمة غضب الخديوي وعزم على الفتك بالحبشة محافظةً على شرف الجيش المصري، فأخذ يجهز لذلك جيشًا عظيمًا نصَّب عليه «راتب باشا» قائدًا عامًّا، والجنرال «لورنج باشا» الأمريكي رئيس أركان الحرب له.

وبعد أن تمَّت كل المعدات أخذت السفن تنقل الجيوش من السويس إلى مصوَّع، وكان الخديوي قد أصدر أمرًا لثالث أنجاله «الأمير حسن باشا» بمرافقة الحملة تشجيعًا للجنود وتدريبًا له، وبعد أن نزلت كل الجنود في مصوَّع أخذ الجيش يزحف على بلاد الحبشة، فاستمر في التوغل حتى وصل إلى «قرع» في (٣ المحرم سنة ١٢٩٣ﻫ/يناير سنة ١٨٧٦م) بعد أن ترك وراءه بعض الجنود لحفظ خط الرجعة بين مصوَّع والحبشة، ولمَّا عسكر الجيش في قرع وأقام الاستحكامات رأت القبائل المجاورة قوته، فأخذت تنضم إليه وتذعن له بالطاعة.

أما الأحباش فإنهم لما رأَوْا ذلك جمعوا جيشًا عظيمًا بقيادة النجاشي، وقصدوا المصريين أولًا في «قياخور»، وكانت تحميها قوة مصرية بقيادة «عثمان رفقي باشا»، فلم يفلحوا في مهاجمتها لمناعة الاستحكامات المصرية، فقصدوا جيش القائد العام وأخذوا في مهاجمته عند قرع، وبعد معركة لم تدُم طويلًا تشتَّت شمل الجيش المصري بعد أن هُزم شر هزيمة وقُتل منه عدد عظيم، منهم «محمد علي باشا الحكيم» الطبيب الشهير، وقد نجا القائد العام والأمير حسن بعد أن رأيا الهلاك عيانًا. أما الأحباش فكانت خسارتهم أيضًا في هذه الحروب جسيمة.

ثم ابتدأت المفاوضات في أمر الصلح، فقبلت الحكومة المصرية المهادنة بشرط أن ترد الحبشة ما أخذته من الأسلحة المصرية، وأن تكون التجارة متبادَلة بين المملكتين، فامتنع ملك الحبشة من رد السلاح معتذرًا بأن جيشه ليس منظمًا حتى يتسنى له جمع كل الأسلحة. وبعد مُدة وجيزة تقرر الصلح وأذن ملك الحبشة بعودة الأسرى (٢٧ ربيع الأول سنة ١٢٩٣ﻫ/أبريل سنة ١٨٧٦م). ثم عاد القائد العام والأمير حسن وفلول الجيش المصري.

رجوع غردون إلى الحكومة المصرية

وفي عام (١٢٩٤ﻫ/١٨٧٧م) دعا الخديوي «غردون باشا» للخدمة في الحكومة المصرية، فاشترط عليه أن يجعله الحاكم العام على جميع الأقطار السودانية، فقبل منه ذلك. ولما تولى الأمر في هذه الأصقاع الواسعة رأى عدم استطاعته الانفراد بالحكم فيها وإدارة شئونها وحده؛ فقسم المديريات الاستوائية إلى قسمين: سمَّى الأول منهما «مديرية خط الاستواء» وجعل مقرها «لادو»، وجعل الحاكم عليها أمين باشا — الدكتور شنتزر. أما القسم الثاني فإنه سمَّاه «مديرية بحر الغزال» وجعل المدير لشئونها المسيو «جِسِّي» الطلياني.

وكان للمسيو جسي اليد الطولى في كشف جميع مجاهل هذه المديرية، وقد أحسن معاملة الأهالي فيها وعوَّدهم الأعمال العسكرية، وشجَّعهم على إنشاء السفن للاتِّجار؛ فكان ذلك مدعاة لحنق الجلَّابين لأن فيه كسادًا لتجارتهم، فأرادوا أن يخرجوا عليه، فتجمعوا بقيادة «سليمان بن الزبير» الشديد الحنق على الحكومة المصرية لمنعها والده من العودة إلى بلاده.

فلما علم غردون بذلك وجَّه إليه بعض الجنود تحت إمرة «جسي»، فتقاتلا قتالًا شديدًا كان النصر فيه حليف الجيش المصري، وقُتل سليمان في هذه الموقعة. وقد وجد «جسي» معه رسائل من والده «الزبير باشا» تدل على أنه كان هو المحرض على هذا العصيان.

وبقي غردون يدير شئون السودان ويكافح تجارة الرقيق فيه حتى استقال في أوائل حكم توفيق باشا.

(٩) إتمام قناة السويس

سبق أن أفردنا فصلًا في هذا الكتاب للكلام على ترعة السويس أوضحنا فيه مشروع حفرها، وأتينا بشيء من تاريخ هذا المشروع منذ أزمان غابرة. ولا بد لنا من كلمة هنا على افتتاح هذه الترعة؛ لأن ذكرها مقرون دائمًا باسم إسماعيل؛ إذ له العمل الأكبر في نجاح مشروعها واليد القوية في إنجازه بعد أن دخل في طور احتضار وكاد يذهب أدراج الرياح.

عز على إسماعيل باشا أن يقف هذا المشروع الخطير بعد أن قارب الانتهاء، فأقبل عليه يعضده بكل الوسائل، حتى إذا قرب أجل افتتاح الترعة أخذ على عاتقه أن يتكفل بإقامة حفلة الافتتاح على نفقاته الخاصة، غير مدَّخر وسعًا في جعْلها على حالٍ من العظمة والفخام، بحيث تُلائم ذلك المشروع الخطير.

أقام إسماعيل باشا حفلة الافتتاح بالإسماعيلية، فكانت غاية في الإبداع؛ دعا إليها ملوك أوروبا وأمراءها وعظماءها وعلماءها وأدباءها، فأجاب الدعوة منهم عدد عظيم، وفي مقدمتهم «الإمبراطورة — زوجة إمبراطور فرنسا نابليون الثالث — ثم إمبراطور النمسا «فرنسيس يوسف»، والأمير فردريك ولي عهد ألمانيا.

ثم أخذ إسماعيل باشا يعد المعدات ويقيم الزينات، غير ضانٍّ بما يحمِّله ذلك من المال، ظانًّا أن في ذلك إرضاءً لزوَّاره الأوروبيين، ووسيلة إلى رفع قَدره وقَدر مصر في أعينهم. ومن أهمِّ ما أعده لتلك الحفلة أن شيَّد بالإسماعيلية قصرًا بديعًا على شواطئ بحيرة التمساح لتقام فيه حفلة راقصة احتفاءً بالإمبراطورة يوجيني، لِما كان لها من المكانة في هذا الاحتفال؛ إذ كانت هي النائبة فيه عن فرنسا صاحبة المشروع. وأقام السرادقات الفخمة المزيَّنة بجميع أنواع الزينة، لتُمدَّ فيها الأسمطة للزائرين أيام الاحتفال.

ولمَّا علم أن الإمبراطورة يوجيني ربما تود أثناء إقامتها في مصر أن تزور الأهرام، أمر أن يُنشأ على وجه السرعة طريق يصلح لسير العجلات — العربات — من القاهرة إلى قاعدة الهرم الأكبر، فجد في إنشائه نحو ١٠٠٠٠ عامل حتى تمَّ في أقل من ستة أسابيع. ومن المباني التي شيَّدها سريعًا بمناسبة هذا الاحتفال أيضًا ملهى «الأوبرا» بالقاهرة.

أما ما لاقاه الزائرون في مصر من أنواع الكرم والحفاوة فلا يكاد يدخل تحت وصف؛ إذ كان قدومهم من أوروبا وعودتهم إليها على نفقة مصر، وسُمح لهم بالسفر مجانًا في جميع خطوط السكك الحديدية، وأمرت الحكومة موظفيها أن لا يدَّخروا وسعًا في مساعدتهم وإرشادهم أثناء وجودهم بمصر، وأعدت لهم العجلات والدواب والتراجمة بدون مقابل. وفي الجملة لا نكون مغالين إذا قلنا إنه كان في استطاعة كل زائر أن يقضيَ بمصر نحو شهرين من غير أن يصرف درهمًا واحدًا من ماله. وقد بلغ مجموع ما أُنفق على هذا الاحتفال نحو ١٤٠٠٠٠٠ جنيه.

figure
حفلة افتتاح قناة السويس بالإسماعيلية.

وكانت الحفلة في (شعبان سنة ١٢٨٦ﻫ/نوفمبر سنة ١٨٦٩م)، وبها ابتدأ طور جديد في تاريخ الملاحة، فصارت السفن التي تجري بين الشرق والغرب تسير بطريق ترعة السويس بعد أن كانت تعاني أعباء الرحلة الطويلة حول جنوبي أفريقيا. وقد كان لابتداء هذا الطور وقْع عظيم في أنحاء العالم المتمدين، ولم يأتِ ذكره في نادٍ من الأندية أو دائرة من الدوائر إلا كان مقرونًا باسم بطله الأكبر «إسماعيل باشا خديوي مصر».

١  غرق قطار السكة الحديدية عند قنطرة كفر الزيات، وكان يقل الأمير أحمد وغيره من أمراء الأسرة من الإسكندرية إلى القاهرة.
٢  كان نوبار باشا من أنجب رجال عصره: رباه قريبه بغوص باشا — من مستشاري محمد علي — تربيةً سياسية، فكان يُحسن معظم لغات أوروبا قراءةً وكتابةً ويلم بكل الأحوال الأوروبية، مع كونه أرمينيًّا مسيحيًّا استطاع أن يخدم ثلاثة من ولاة مصر مدة عشرين عامًا، حائزًا لكل رضاهم إلى أن غضب عليه إسماعيل باشا. وكانت خاتمة إصلاحاته تأسيس المحاكم المختلطة التي نحن بصددها.
٣  وقد قارن المستر «أدون دي ليون» في كتابه عن الخديوي عدد المتعلمين في مصر من الشبان الذين في سن التعليم بنظرائهم في أوروبا في ذلك الحين فقال: «إن نسبة المتعلمين في مصر تبلغ ٢٣٪، على حين أنها تبلغ في الدولة العثمانية ١٠٪، وفي الروسيا ٣٪، وفي إيطاليا لم تتجاوز ٣١٪.»
٤  وبعد فترة أُلحقت هذه المدرسة بمدارس العباسية التي تمت في عهد شريف باشا ناظر المعارف في ذلك الحين، حتى صار بها قسم ابتدائي يبلغ عدد تلاميذه ١٢٠٠، وقسم تجهيزي بلغ عدد تلاميذه ٧٠٠ بينهم أمراء الأسرة الخديوية، عدا ثلاث مدارس أخرى، ومدرسة للهندسة ومدرسة للمعلمين، وكان يجمع الجميعَ بناءٌ واحد ضخم.
٥  انظر خريطة السودان المصري.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤