قشتمر

العباسية في شبابها المنطوي، واحة في قلب صحراء مترامية، في شرقِيِّها تقوم السرايات كالقلاع، وفي غربيِّها تتجاور البيوت الصغيرة مزهوة بجدتها وحدائقها الخلفية، تكتنِفها من أكثر من ناحيةٍ حقول الخضر والنخيل والحناء وغابات التين الشوكي، يشملها هدوء عذب، وسكينة سابغة لولا أزيز الترام الأبيض بين الحين والحين في مَسيرته الدائبة ما بين مصر الجديدة والعتبة الخضراء، ويهبُّ عليها هواء الصحراء الجاف، فيستعير من الحقول أطيابها، مُثيرًا في الصدور حبَّها المكنون، ولكن عند الأصيل يطوف بشوارعها عازف الرباب المُتسوِّل بجلبابٍ على اللحم، حافيًا جاحظ العينَين، يشدو بصوت أجشَّ لا يخلو من تأثيرٍ نافذ:

آمنت لك يا دهر
ورجعت خُنتني

•••

بدأ التعارف عام ١٩١٥ في فناء مدرسة البراموني الأولية، دخلوها في الخامسة وغادروها في التاسعة، وُلدوا عام ١٩١٠ في أشهر مختلفة، لم يُبارحوا حيَّهم حتى اليوم، وسيُدفنون في قرافة باب النصر، تضخَّمت جماعتهم بمن انضمَّ إليهم من الجيران، جاوزوا العشرين عدًّا، ولكن ذهب من ذهب بالانتقال من الحي أو بالموت، وبقي خمسة لا يفترِقون ولا تَهِنُ أواصرهم؛ هؤلاء الأربعة والراوي. التحموا بتجانُسٍ رُوحي صمد للأحداث والزمن، حتى التفاوت الطبقي لم ينَلْ منه. إنها الصداقة في كمالها وأبدِيَّتها. الخمسة واحد والواحد خمسة، منذ الطفولة الخضراء وحتى الشيخوخة المُتهاوية، حتى الموت. اثنان منهم من العباسية الشرقية واثنان من الغربية، الراوي أيضًا من الغربية ولكنه خارج الموضوع. وتتغير المصائر وتتفاوت الحظوظ ولكن تظلُّ العباسية حيَّنا، وقشتمر مقهانا، وفي أركانه تسجَّلت أصواتنا، مُخلِّدةً البسمات والدموع وخفقاتٍ لا حصر لها من قلب مصر.

•••

قبل أن نهتدي إلى قشتمر جمعتنا الشوارع وميدان المستشفى والنخلة الرشيقة بحقل عمِّ إبراهيم المُمتد بين شارع مختار باشا من ناحية وبين الجناين من الناحية الأخرى. تُطلُّ عليه الحدائق الخلفية لمساكن كثيرة في العباسية الغربية، ويُمِدُّنا بما نحتاج من خضر، في جنوبه تقع غابة التين الشوكي، وفي شماله ناحية الوايلية تدور الساقية التي ترويه وتنتشر حولها أشجار الحناء زافرةً شذاها الطيب. في العطلات الأسبوعية والصيفية نجلس تحت النخلة المغروسة في وسطه، تسيل أفواهنا بالحقائق والأساطير. ودلَّ كل واحدٍ على مسكنه لتتمَّ المعرفة به، فرأينا بيت صادق صفوان ببين الجناين، وبيت إسماعيل قدري سليمان بشارع حسن عيد وسراي حمادة يسري الحلواني بميدان المستشفى وفيلَّا طاهر عبيد الأرملاوي ببين السريات، وأُعجب صادق وإسماعيل بالسرايتين، وتأمَّلا حديقتَيهما بانبهار، وثمل رأساهما بالفخر وهما يُعلنان صداقتهما باثنَين من أولاد الذوات، وفي أوقات السمر تنهمِر المعلومات عن الدنيا والآخرة.

يقول صادق صفوان النادي: بابا موظف بالأوقاف، ونينة ماهرة في كل شيء!

ونرى صفوان أفندي النادي فيجذب اهتمامَنا من أول لحظة، نَحيل الجسم مائل إلى القصر، ولكنه ذو شارب غزير طويل لم نرَ مثله من قبل، مع التقدُّم في العمر يصير شارب صفوان أفندي موضوعًا مُغريًا بالتعليقات والقفش والتنكيت، ويُشاركنا صادق الضحك من أعماق قلبه رغم ما يُكنُّه لوالده من حبٍّ واحترام، أما الأم تيزة زهرانة كريم فصادفتنا مراتٍ في الشارع في تزييرتها السوداء، ومن وراء البيشة .. تُحذِّرنا من الترام ونحن نعبُر الطريق، وتدعو لنا بالسلامة. وصادق مؤدَّب مُهذَّب، ويُصلي، وسوف يصوم عندما يبلغ السابعة، ولكنه لا إخوة له ولا أخوات، بسبب مرضٍ أصاب أُمَّه عقب ولادته. هو وحيد الأسرة وأملها الباقي، ونشعُر كثيرًا بأنه موضع الرعاية والعناية، غير أن أباه الحصيف يقول له كثيرًا: «يا صادق، اجتهد، أبوك لا يملك شيئًا ليتركه لك، فاجعل الشهادة وسيلتك إلى الوظيفة.» ودبَّ تغيُّر عميق في روح صادق منذ طرَق عالمًا قريبًا لهم هو رأفت باشا الزين. صحبه أبوه معه إلى زيارة ابن عمه الباشا بسراياه في بين السرايات غير بعيدٍ من فيلَّا طاهر عبيد الأرملاوي صديقه، يقول صادق وهو يلهث: سراي ابن عمِّ بابا مثل سراياكم يا حمادة، حديقتها تُقارب غيط عمِّ إبراهيم في وسعها، جامعة لأزهار الدنيا والآخرة، والسلاملك، والبهو الأزرق، وبهو السفرة، هائل .. هائل، والباشا في غاية العظمة، وزبيدة هانم حرمه جميلة جمالًا لا قبله ولا بعده، وفي غاية الطيبة، يُحبُّون أبي وأُمي، كما لو أننا أغنياء مثلهم، ابنهم محمود أكبر منِّي بعامَين، أما أميرة ابنتهم فهي أجمل من زبيدة هانم .. كل شيء يجنن!

بدأ حياته من صغار الأغنياء، وبفضل ثروة زبيدة هانم أنشأ أكبر مصنعٍ للنحاس، ورزقه الله بالطول والعرض، ومدَّ حباله إلى الكبراء والسادة الإنجليز ثم نال رتبة الباشوية. ويقول صادق: أهم شيءٍ في الدنيا أن تكون غنيًّا.

حب الثراء غُرس في قلبه في سراي قريبه. ينعكس ذلك في أحلامه أكثر ممَّا ينعكس في اجتهاده، تلميذ متوسط كغالبية شِلتنا. مسحور برأفت باشا وزبيدة هانم وأميرة التي تكبُره بسبع سنوات. هم رموز للجنة ونعيمها، ويظلُّ مثالًا للمؤدَّب المؤمن، وتقدُّم الأعوام لا يُقلل من حيائه، ولا تَجري على لسانه حكاية مكشوفة، وإذا جاء ذِكر لبنتٍ من البنات لاذ بالصمت أو راح يُذكِّرنا بعذاب القبر وحساب الآخرة. ولمناسبة وفاة جده يقول بحيرة: نينة قالت لي إننا كُلنا سنموت.

لا يتصوَّر أن تموت أمُّه أو يموت أبوه. وليس في قوله جديد فيما يبدو، ولكن شعورهم آمن بأن الموت حتمٌ مؤجَّل إلى أجلٍ غير مُسمًّى. كلنا نُسلِّم بالموت بألسنتنا، أما قلوبنا فترمي به إلى موضعٍ في الزمان قصي. وبين حين وآخر تمرُّ بنا الجنازات في طريقها إلى القرافة فنرنو إليها بغير اكتراث كأنها أحداث لا تَعنينا. وتحت النخلة السامقة نلهو بشدِّ الحبل، والْتِهام أطباق الدندورمة المصنوعة من البسكوت، وتقليد المدرسين في أطوارهم الخارقة للمألوف. ولا نكون وحدَنا دائمًا؛ فقد ينضمُّ إلينا عشرة أو أكثر من أصدقاء الدرجة الثانية، فيهم نفر عُرفوا بطول اللسان أو الخشونة أو حُب العنف والأذى، ولكنه يبقى الأساس كنواةٍ صلبة لا يُسمح لغريبٍ باختراقها. ويدعونا صادق إلى وليمة غداء فيُقدِّم لنا طعمية لذيذة وكفتة فاخرة وتشكيلة من السلطات ثم طبقًا من البرتقال اليافاوي. وتُمطر السماء في جوٍّ باردٍ فنتأخَّر في بيته الصغير ببين الجناين حتى العصر. ويرد حمادة يسري الحلواني التحية فيدعونا للغداء في السراي بميدان المستشفى. تستقبلنا الحديقة المُترامية بروائحها الطيبة وخُضرتها المغسولة المُشرقة. نمضي إلى بيتٍ صغيرٍ مُستقلٍّ بذاته في الحديقة مُكونٍ من حُجرتَين وشرفة ومرافق. ثمة نافذة مفتوحة على الحديقة تتحرك الأغصان خارجها كالمراوح، تنتشِر في الأركان على قوائم خشبية أوراق عريضة مُصمغة لصيد الذباب. أما الغداء فشواءٌ وضلمة وسلطات ومهلبية. يتسابقون في الأكل كشدِّ الحبل دون كلفة. يتريَّضون بعد الغداء في مماشي الحديقة. يرَون «توفيق» شقيق حمادة الذي يكبُره بأعوام ينطلق فوق درَّاجة خضراء، ويلمحون «أفكار» الشقيقة الكبرى بنت العشرين في إحدى نوافذ القلعة. زيارة سعيدة لم يُلِم بها شيء من الارتباك إلَّا حين رأينا أدوات الطعام — الملعقة والشوكة والسكين— منظومة حول الطبق. ولكن إسماعيل قدري سليمان بدَّد الارتباك حين قال: نحن لا نستعمل إلَّا الملعقة واليد!

وكان ممَّا يحمده صادق لآل الزين باشا أن الباشا والهانم يأكلان، كما يأكل والداه، مجاملةً ومحبة، ولم يكن يستعمل الأدوات إلَّا محمود وأميرة. يقول صادق: ناس طيبون حقًّا، كأنهم منَّا أو كأننا منهم، وزبيدة هانم تُحب الفسيخ وتُطالب أبي بهديةٍ منه، ونينة تُخبرها بأن لذَّته لا تتمُّ إلَّا بتناول البصل، فأكلت الفسيخ بالبصل.

يروي الواقعة وكأنها معجزة في العلاقات البشرية. على ذلك فهو أجمل شلَّتنا؛ مُعتدل القامة ذو بشرةٍ تميل إلى البياض، دقيق القسمات ذو عَينَين سوداوَين جميلتَين وشَعرٍ أسود ناعم.

•••

ونعرف الشيء الكثير عن حمادة يسري الحلواني وأُسرته؛ نشأة ملكية في السراي، الباشا صاحب أكبر مصنع للحلاوة الطحينية في القُطر، حلاوة أرقُّ من الهواء مَحشوَّة بالفستق، وفي السراي مكتبةٌ هائلة وإن لم يتَّسِع وقته للقراءة. رجل مالٍ وأعمال، رأيناه كثيرًا في سيارته الفورد، ربعةً بدينًا مَبروم الشارب خمريَّ اللَّون تشعُّ منه العظمة، كما رأينا حرَمَه عفيفة هانم بدر الدين، صورتها مقبولة ولكنَّ فخامتها تفُوق جمالها.

– بابا مشغول دائمًا، ماما شديدة وتُحب أن تُطاع، أختي تربَّت في الميردي دييه واختارت لها ماما خطيبًا غنيًّا، وأخي توفيق يُرضيها باجتهاده، أما أنا فلا تكفُّ عن لَومي ومحاسبتي، وتُكرر على مسمعي بأنه لا قيمة للمال بدون العلم والمركز.

ويسأله إسماعيل قدري: ولم لا تجتهد؟

– أحب أن أقلب صفحات الكتب في مكتبة بابا وأتفرج على الصور.

– ألا تحب أن تكون مثل أبيك؟

– كلا، يأخذنا — أنا وأخي — إلى المصنع، أخي يهتم بكلِّ شيءٍ وأنا أتثاءب.

فيسأله صادق صفوان: ماذا تريد أن تكون؟

– لا أدري.

العلاقة بينه وبين أسرته متوترة باستثناء أفكار أخته التي يحبها ويقول بحسرة: ها هي تستعد لفراقنا.

أبوه يطالبه بالاهتمام بمستقبله في المصنع، وأمه لا تكف عن لومه وأخوه يسخر من كسله، وقد مارس الصلاة فترة ثم تهرب من التزاماتها .. قال: لا يواظب على الصلاة إلا أبي.

ويسأله صادق: وماما؟

– لا تصلي .. ولا تصوم .. ماذا عن حرم رأفت باشا؟

فابتسم صادق وقال: مثل مامتك رغم طيبتها المتناهية.

ويغيب عنَّا شهرًا كاملًا في الصيف عندما تسافر الأسرة إلى رأس البر للاصطياف، إنهم أصلًا من دمياط والاصطياف في رأس البر تقليد دمياطي.

ويحدثنا عن عشتهم وموج البحر، حتى يسأله إسماعيل قدري: هل حقيقي أن موج البحر يعلو كالجبال؟

– وأكثر، والأهم من ذلك أن ترى التقاء النيل بالبحر.

إنه يفتن أخيلة صبية لا يبرحون القاهرة على طول العام، حتى آل الأرملاوي يقضون عطلة قصيرة في الريف .. وحمادة عميق السمرة، يبشر نموه بقامة طويلة، رأسه كبير فيه نبل واحترام، ملامحه مقبولة ويمتاز بنظرة هادئة. وفي نهاية المرحلة الأولية وسنه تقترب من التاسعة مرض بالتيفود، وعُزل في حجرة خاصة بالسراي. كنا نزور السراي ولا يُسمح لنا بدخول حجرته، غاب عنَّا شهرًا ثم رجع إلينا كالخيال، وحدثنا عن مرضه طويلًا؛ كيف مُنع عنه الطعام دون أن تريده نفسه، وكيف عضه الجوع في فترة النقاهة وحيل بينه وبين الشبع حتى أوشك أن يفقد وعيه، وكيف كشف له المرض عن حب الجميع له. ويقول مُتفلسفًا: أصل البلوى كلها ذبابة!

وحتى في تلك السن المبكرة تخايلت لأعيننا أهداف عن مستقبل بعيد، إلَّا حمادة بدا غامضًا لا نعرف له هدفًا.

•••

طاهر عبيد الأرملاوي من أحب الشخصيات إلى قلوبنا لخفة روحه وبساطته وميله إلى البدانة، وهو أسمر وملامحه شعبية ولكن جاذبيته لا تُقاوَم، يقول: أنا تعبان لأني وحيد والديه.

– ولكن لك شقيقتين؟

– أنا الولد الوحيد، بابا مصمم على أن يجعل مني طبيب مصر الأول .. وماما تُصِر على تعليمي الفرنسية من الآن.

فيلا الدكتور عبيد الأرملاوي باشا غاية في الأناقة رغم أنها دون السرايات ضخامة، والدكتور الباشا مدير للمعامل بوزارة الصحة وحاصل على الدكتوراه من النمسا، تراه والحاجب يفتح له باب السيارة يتهادى في جلال الميري وأناقة الروح الأوروبية، يلوح دائمًا في القمة رغم أن ثراءه دون الحلواني أو الزين، وبيننا وبينه بُعد يجعله بمعزل عنَّا، ولم يرحب أبدًا باختلاط ابنه بأبناء العباسية الغربية، ولكن طاهر صارحه بأنه لا يمكن أن يقطع ما بينه وبين أصحابه. وإنصاف هانم القللي أمُّ صديقنا ليست مجرد خريجة في الميردي دييه مثل والدة حمادة، إنها أيضًا مثقفة وقارئة وذات عقل ممتاز، وبفضلها كملت مكتبة الباشا العلمية بثمار الفكر والأدب .. واتفق رأيَا الباشا والهانم على أن يجعلا من طاهر شخصًا رفيع المقام.

وتسأله الهانم مرة: ما أحب المواد الدراسية إليك؟

فيجيب بصراحة معهودة: المحفوظات .. مثل:

أيها الطائر أهلًا
بمحياك وسهلًا

حتى في تلك السن المبكرة بدأ يُحب الشعر ويحفظه، وربما وجد شعرًا في مجلة مما يُوجد في الفيلا فيسأل مامته أن تشرحه له ثم سرعان ما يحفظه، ويسعد الباشا بذلك ويقول لحرمه: الولد زكي وسيكون طبيبًا مدهشًا.

وعرف طاهر دينه لأول مرة في مدرسة البراموني، لا ذكر للدين في فيلا الأرملاوي، لا بخير ولا بشر، ولا ممارسة لأي شعيرة، ورمضان والأعياد لا تكون شهورًا دينية إلا بين الخدم. ورغم حصة الدين وتدين صادق صفوان فيمكن القول بأن طاهر نشأ نشأة وثنية أو لا دينية مجردة، وتحية وهيام شقيقتاه كانتا تُماثلانه في ذلك، ولكنه يقول عنهما: لهما صديقات كالأقمار يزُرنهما ويجلسن معهما في الحديقة .. كالأقمار!

ويتسلل إلى مجلسهن مَسُوقًا برغبةٍ مبهمةٍ، ويتلقى المداعبات كالورود، وتنفجر في أعماقه مسرة بريئة وجامحة مُفصحة عن انفعاله الأول بالجنس الآخر. وفي عام من الأعوام دُعيت الأسرة لقضاء أسبوعين بالإسكندرية عند خالته، فسمعنا عن الإسكندرية كما سمعنا من قبل عن رأس البر. واستحمَّ في الحمام الخاص بالنساء في سان ستيفانو مع مامته وشقيقتيه، ودُهش لمنظر الهوانم في أردية البحر التي تُشبه قمصان النوم، وقال لنا ضاحكًا: مثل الأبقار أو أضخم!

مامته إنصاف هانم القللي متوسطة العود، خارجة عن تقاليد عصرها التي ترى في البدانة رمزًا للجمال في عالمي النساء والرجال معًا، ولكن بدا لنا أن شغفه الأول بالمحفوظات التي كان يُرددها تحت النخلة في غيط عم إبراهيم، وفتن أيضًا بالسينما ليلة ذهبنا إليها أول مرة في عيدٍ من الأعياد بدار عرض «المنظر الجميل» بالظاهر. الحق أنها فتنتنا جميعًا ولكنه جُنَّ بها جنونًا، وضاعف من أشواقه أنه لم يكن يُسمح لنا بمغادرة حدود العباسية إلا في الأعياد، غير أن السينما احتلَّت موضعًا هامًّا من حوارنا، ولعبت بخيالنا أيما لعب، وأصبحت قرية رعاة البقر وطننا الثاني يخفق القلب لمرآها ويثور الحنين.

•••

وأيضًا فلإسماعيل قدري سليمان حديثه تحت النخلة، إنه أسمر قوي الجسم ذو عينين عسليتين جميلتين وأنف كبير ونظرة ذكية، بيته صغير ذو حديقة خلفية بشارع حسن عيد، يُشبه بيت صادق صفوان ببين الجناين، أبوه قدري أفندي سليمان موظف بالسكك الحديدية يكاد يماثل ابنه في الشبه لولا بدانته، يقول عن أبيه: أبي يستقل أي قطار في القُطر من غير أن يقطع تذكرة.

ويقول عن أُمه ست فتحية عسل: أمي لا مثيل لها في صنع الكعك والفطائر.

له أربع أخوات سبقنه إلى الوجود، حظهنَّ من التعليم وقف عند حدِّ محو الأُمية، وحُجِزن في البيت لتأهيلهن لعمل ست البيت، كن متوسطات الجمال، بل الحق أن إسماعيل يعد أجمل منهن، ولكنهن تزوجن قبل أن يبلغن السادسة عشرة من موظفين صغار في السكك الحديدية أيضًا، وفي سبيل ذلك باع قدري أفندي سليمان البيت الوحيد الذي كان يملكه في باب الشعرية، وقال لابنه إسماعيل: أما أنت فمستقبلك بيدك.

ولم يُخيب إسماعيل رجاء أبيه؛ فهو أبرزنا في المدرسة دون مُنازع، يذاكر ويحفظ ويتفوق ولا يشبع من ثناء المدرسين ولا من إعجابنا به، تتفق الآراء على أنه الفارس في هذا الميدان، وهو ذكيٌّ لماح، عشِق الدين كما عشق طاهر الشعر، يُصلي مثل صادق وصام في سنِّ السابعة، ولا يكفُّ عن تصور الله في هيئةٍ جليلة لا حدود لعظمتها، ويسأل المدرس حتى يضيقَ به المُدرِّس ويأمره بالتسليم والطاعة. وإلى ذلك فتجاربه كثيرة ومُسلية، يقول مباهيًا: في حديقتنا الصغيرة أزرع البصل، أسقي الزرع، أجمع العنب والجوافة، أصطاد الضفادع وأشق بطونها لأرى ما بداخلها.

يسأله طاهر: تُريد أن تكون طبيبًا؟

– ربما .. لا أدري بعد.

وبشغفه الغامض اندفع يُجرب الجراحة في يد خادمة صغيرة فجرح كفَّها، وغضبت أُمه غضبة عنيفة، وهيَّأت له أنها ستفعل براحته مثلما فعل بالخادمة وهو يبكي ويتوسل، ولما رجع أبوه من عمله وعلم بالذي كان؛ قيد قدمَيه وضربه بعصاه خمسًا! ولعل ذلك كان ضمن الأسباب التي حولته عن التطلُّع للطب فيما بعد. ومن حكاياته المُسلية ما يرويه عن زياراته لأخواته في الأحياء الأخرى، فيحكي لنا عن شبرا وروض الفرج والقبيسي والسيدة زينب، ودُعي أبوه مرةً لنزهة في لونابارك بمصر الجديدة فاصطحبه معه، فجُنَّ بها كما جُن طاهر بالسينما، هُوِس وهوسنا بالألعاب التي سحرته مثل القطار والقارب المُتزحلق والغربال والمئذنة الحلزونية، أما مجد صباه الحقيقي فاستوى فوق سطح بيتهم الصغير، فوق السطح تُربى الأرانب والدجاج وثمة حجرة للخزين، وهو يتطوع لتقديم الماء والغداء وتفقُّد المواليد وجمع البيض، وتحت أمره إذا شاء في حجرة الخزين السمن والمِش والجبن والعسل الأسود، بالإضافة إلى جدار السطح الذي جعل منه لوحة طويلة عريضة للرسم، وفوقه السماء بطيورها ونجومها، وله من الوحدة أحيانًا فرصة للغناء، وفرصة أجمل لدى استقبال بنات الأقارب والجيران، منذ ذلك العهد البعيد بدأ تجاربه مع الدين والجنس، يُصلي في ناحية ويندمج في لعبة العروس والعريس في ناحية أخرى، وأمه تطمئن إلى تدينه، فلا تشك في عبثه، ويسأله صادق صفوان: ألا تخاف من الله؟

يضحك، يرتبك، ولا يجيب، ذلك الصبي يتقدَّمنا في كل شيء.

•••

نجلس فوق النجيل عند أصل النخلة، حمادة وطاهر يرتديان قميصًا وبنطلونًا قصيرًا، وصادق وإسماعيل في جلبابين. عنايتنا بمظهرنا كاملة؛ حمادة وطاهر يمشطان شعرهما الطويل أما صادق وإسماعيل فيحلقان رأسيهما نمرة ٣، وبتأثير السينما شغلنا أنفسنا بتقوية أجسامنا وممارسة الألعاب الرياضية، ومثلنا الأعلى في ذلك بطل الفيلم «الشجيع» مثل توم مكس ووليم هارت وفير بانكس، وزعم كلٌّ منَّا أن أباه «بطل» واختلق له من الحكايات ما يثبت به ذلك مثل تغلبه على لصٍّ ضبطه في البيت أو قهره لبلطجيٍّ تحدَّى الناس في الطريق. ويحدث أن يتحرش بنا بعض الصبية في الشوارع فنتصدى لهم مُتشجعين بخيالنا، وسرعان ما تجيء النتيجة مُخيبة للآمال، فهؤلاء الصبية ينطحون بالرأس أو يضربون بالقباقيب. أما المودة فيما بيننا فهي صافية لا تشوبها شائبة. في وقت انقسمنا فريقَين بسبب السينما فتعصَّب فريق لماشست وآخر لفانتوم، واحتدم النقاشُ بيننا، وتكدَّر بعض الشيء صفونا، ولكن لم تبدُر من أحدنا كلمة نابية أو إشارة مُتحدية، نحن مجموعة تُثير الحسد في صدور من حولنا من الأقران.

•••

وفي عام ١٩١٨ تقدَّمنا لامتحان القبول في مدرسة الحسينية الابتدائية بعد أن ختمنا الدراسة الأولية وبلغنا التاسعة من العمر، وقفنا في فناء المدرسة ننتظر إعلان النتيجة آمِلين ألا يُفرق بيننا الدهر، ونجحنا والحمد لله. نجح إسماعيل قدري بتفوق، وصادق وحمادة مرَّا بسلام، وعبر طاهر بفضل اسم أبيه الدكتور عبيد الأرملاوي، ولتقارُب أعمارنا جمعَنا فصل واحد هو أولى رابع الذي اختصَّ بأصغر المتقدمين سنًّا، ووزعوا علينا الكتب الجديدة فحملناها — كلها — آخر النهار معنا لتنعم برؤيتها الأُسر، والتحق إسماعيل بفريق الأشبال لكرة القدم ثم انقطع يأسًا من الإتقان، وقدم صادق في فريق التمثيل وسرعان ما تركه، أما حمادة فأراد الانضمام للكشَّافة ولكن الأسرة لم توافق. نلتقي في فناء المدرسة للسمر السريع، أما خارج المدرسة فاقتصرت اللُّقيا على يومَي الخميس والجمعة، فنذهب مساء الخميس إلى سينما المنظر الجميل ونقضي صباح الجمعة — إذا سمح الجو — عند أصل النخلة. وحافظ اجتهادنا على إيقاعه السابق، فلم يتأثر بالتفوق إلا إسماعيل قدري سليمان.

وذات مرة قال لنا حمادة يسري الحلواني: سمعت بابا يتحدث عن رجال ثلاثة ذهبوا إلى الإنجليز يطالبون باستقلال مصر!

وتساءلنا عن معنى ذلك فقال حمادة: أي أن يخرج الإنجليز من مصر.

لعلنا لم نكن نعرف عن الإنجليز إلا أنهم جيراننا في العباسية حيث تقوم ثكناتهم، وكثيرًا ما نرى جنودهم في الترام، ولأول مرة تنبض أُسرنا بهذا الحديث الجديد، ووقعت واقعة في مدرستنا نفسها، في أعقاب ما عُرف عن نفي الزعماء، المدرسة تجمع أجيالًا متفاوتة في العمر من التلاميذ دخلوها في ظل أنظمة مختلفة، نحن أصغر الأجيال سنًّا ولكن يوجد تلاميذ في السنة الرابعة بشوارب! وذات صباح خرج من بين الصفوف تلميذ بشارب وصاح بصوت كالرعد: «إضراب»، وحصلت استجابة وهياج، وأمر الناظر أولى رابع بأن تذهب في رعاية المدرسين إلى الفصل مُستأذنًا الثائرين في استثنائهم من الإضراب لحداثة سنهم، وهدر الفناء بالخُطب الحماسية، ثم تدفَّق التلاميذ إلى الخارج في مظاهرة عاصفة. أول درس عملي نتلقَّاه في الوطنية، سرى إلى قلوبنا الحماس رغم الغموض والجهل بما يقع، في بيوتنا سمعنا أصداء ما يحدث في الخارج تتردَّد بحرارة، لأول مرة يلتقي الآباء والأبناء في عاطفة مُتأجِّجة واحدة، حتى الأمهات يُصغين وينفعلن. أنباء المظاهرات يحملها إلى بيوتنا هواء ديسمبر البارد ولكننا نتلقَّاها دافئة بل ساخنة، ومصارع الشهداء تُروى كالأساطير، دوريَّات الإنجليز تخترق شوارعنا محمولة في اللوريات مُدجَّجة بالسلاح، الهتافات تترامى إلينا من الحسينية جنوبًا ومن الوايلية شمالًا. سعد يحيا سعد، الاستقلال التام أو الموت الزُّؤَام، وتذاع الأخبار في منازلنا: قطعت المواصلات.

– المظاهرات في كل مكان .. الفلاحون يحاربون.

زلزلت الأرض بغتة ولا تريد أن تسكت، تدفقت العواطف إلى قلوبنا لتخلقنا خلقًا جديدًا. اجتاح الحماس صادق وإسماعيل وحمادة، وطاهر لم يخلُ أيضًا من حماس، المنشورات توزع فتُؤجِّج النيران المشتعلة، وحدث في حيِّنا حدث عظيم يوم اعتُقل يسري باشا الحلواني منضمًّا بذلك إلى طليعة الأبطال. ونظرنا إلى حمادة بإكبار، ويقول حمادة: بيتنا حزين ولكنه فخور، لو حدث ذلك في ظروفٍ عادية لماتت ماما غمًّا.

واحتجاجًا على هدوء طاهر النسبي سألناه: ماذا عن والدك؟

فقال ضاحكًا: بابا موظف، وهو من رجال السلطان، وهو مع ذلك مع الثورة ولكنه …

فيسأله حمادة: ولكنه ماذا؟

– له رأي خاص في سعد! لا يُعجبه تاريخه.

وقطَّبت الوجوه استياءً فقال طاهر مخاطبًا صادق: قريبك رأفت باشا الزين من رجال السلطان أيضًا.

فقال صادق: هذا الموقف يخصُّه وحدَه ولا شأن لنا به!

وغطى الحماس والقتال والضحايا على مسيرة الحياة اليومية. انحصرنا نحن في عالمنا الصغير بين البيت والمدرسة، وفي المدرسة أصبح حمادة شخصية محبوبة يُشار إليها بوصفه ابنًا لبطلٍ معتقل. وفي الفصل تطوع كل مدرسٍ لتلقيننا درسًا في التربية الوطنية مُستهينًا بأمنه وسلامته ومستقبله، وبفضل أولئك المدرسين العظام عرفنا ما أخفي عنا من تاريخنا منذ الثورة العرابية، وعرفنا سعد كمثالٍ للقوة والنضال والذكاء والنزاهة منذ شبابه الأول، وثملنا بما سمعنا وانبثت فينا روح الوطنية التي لم تُنتزَع من قلوبنا حتى اليوم، وذاق البلد أول طعمٍ للنصر بالإفراج عن الزعماء المَنفيين، ثم شهد أعجب يومٍ في تاريخه يوم عودة سعد، وأُطلِق سراح يسري باشا الحلواني فيمن أُطلِق سراحهم، وحيَّته جماهير العباسية والحسينية والوايلية لدى رجوعه إلى سراياه بميدان المستشفى، وبفضل صديقنا حمادة استطعنا أن نتخيل احتفال عودة سعد الذي شاهده من موضعٍ حُجِز للأسرة في فندق الكونتننتال. وشهدنا الأحداث تباعًا، فطرأ الخلاف بين سعد وعدلي على وحدة الثورة، ووجدنا طاهر في جانب وبقيَّتنا في جانب آخر، كما اختلفنا سابقًا حول ماشست وفانتوم، ولكننا — بخلاف الزعماء — حافظنا على مودتنا وصداقتنا الباقية.

•••

وعلى حين يمضي البلد من كربٍ إلى كرب، ويُنفى سعد للمرة الثانية، ناهزنا جميعًا البلوغ في فتراتٍ متقاربة. ثورة تنفجر في أجسادنا منذرة بالشر. إسماعيل قدري الوحيد الذي تعامل معها بجرأة فنقل ميدان عبثه الجنسي من سطح بيته إلى غابة التين الشوكي بغيط عم إبراهيم، أما صادق وحمادة وطاهر فكابدوا عذاب الغريزة تحت جناح البراءة والجهل.

وصادق صفوان يعيش في بيت ينعم بالحُب والوفاق والحياة الزوجية المُستقرة، وهو — كوحيد لوالديه — يحظى بكل رعاية، غير أن البلوغ يُعتبر من الأسرار المحظور الاقتراب منها، تُرك مع بلوغه وتديُّنه بغير مُرشد أو مُعين، حتى قال لنا مرة: لا علاج لهذا الداء إلا بالزواج، ولكن متى الزواج؟!

وهو يُحب والدَيه ولا يخاف منهما، مثله في ذلك مثل طاهر عبيد، وبدأ صفوان أفندي النادي يصطحبه معه إلى صلاة الجمعة بسيدي الكردي، فننتظر حتى يرجع إلينا صادق فيسأله طاهر ضاحكًا: ألا يدخل طرف شارب والدك في عين من يجاوره عند السجود؟

والأب لا يكف عن حثِّ ابنه على الاجتهاد ليستقر في وظيفة مناسبة طالما أنه لا مستقبل للفقير إلا الوظيفة، ويصارح صادق أباه بحلمه قائلًا: أريد أن أكون غنيًّا مثل رأفت باشا.

فيقول الرجل: الرزق بيد الله ولكن تفكيرك غير سليم.

– ألم يبدأ من مستوًى قريبٍ من مستوانا؟!

فيقول صفوان أفندي ضجرًا: لا تُبدد طاقتك في الأحلام الفارغة.

ويقول له إسماعيل قدري: كل إنسان يُحب الثراء ولكن الحب شيء والعمل شيء آخر.

سراي آل رأفت تعشعش في دماغه بأناسها وجمالها، وفتنة تواضُعهم أكثر من أي شيءٍ في الوجود. ولا شكَّ أن أميرة أيقظت قلبه من براءته، رغم فارق السن، ورغم أنها مُوشكة على الزواج، بل إنها فَتَنت الجميع بطريقةٍ ما.

•••

وحمادة — ابن البطل — مضى يمتد طولًا ورشاقة، ويتجلى فيه مظهر ابن الذوات الأصيل؛ يتكلم بتُؤدة، ويشتق كلماته من قاموس مهذب، ولعله كان ينعزل عن العالم في كبرياء — مثل محمود بن رأفت باشا — لولا وقوعه في صداقتنا، ولم يتخلَّ عن هذا الجانب الشعبي طيلة حياته. شدَّ ما حزن لانتقال أخته أفكار إلى بيت الزوجية، هي الصديقة الوحيدة في بيئة معادية، أخوه توفيق موضع الحظْوَة ومعقد الأمل، يتبادلان عواطف فاترة، قال له مرة: أصحابك لا يُعجبونني.

فقال بحدة: ولكنهم يعجبونني وهذا ما يهم.

وسعى توفيق إلى إثارة الموضوع مع والدهما بحضور حمادة فقال الباشا: على المرء أن يُحسن اختيار أصدقائه.

فقال حمادة: جميع أصدقائي من الطبقة التي ينتمي إليها زعيمنا سعد!

فضحك الباشا ولم يعقب، ويقول حمادة لنا: بابا يُريدني على أن أكرس حياتي للمصنع، ولا يضايقني شيء مثل أن ينصحني بأن أقتدي بأخي توفيق، ولكنني مدينٌ لمكتبته بأسعد ساعات حياتي.

ويقول طاهر: لا شك أن أباك من كبار المُطَّلعين.

– ربما كان كذلك على عهد الشباب، أما اليوم فلا يحظى بالراحة إلا في عطلة الأحد.

– ومامتك؟

– تقرأ الجرائد والمجلات وتستغرقها الحياة الاجتماعية.

ويقول صادق صفوان: ما دام يُوجَد رجال مثل الحلواني والزين فالثراء ليس حلمًا فارغًا!

ثم يسأل حمادة: ألا تُحب أن تكون غنيًّا مثل أبيك؟

فيجيبه حمادة ضاحكًا: أحب المال طبعًا ولكنني لا أحب المصنع.

– سيحل أخوك محل أبيك بعد عمر طويل ويصير ولي أمر الأسرة، ماذا تكون أنت؟ ماذا تريد أن تكون؟

فيفكر في شيء من الحيرة ثم يقول: لا أدري، لم أحب عملًا بعد، ولكني أحب الحياة.

فيقول إسماعيل: طاهر يحب الشعر.

فيقول حمادة بإصرارٍ: الحياة أجمل من الشعر والمصنع.

وبعد تأمُّلٍ طويل لأناقته يسأله إسماعيل بلا أي مناسبة: ألا ينشب شجار أحيانًا بين والديك؟

يُدهش حمادة ويسأله بدوره: ما معنى سؤالك؟

– أريد حقيقةً أن أعرف.

– لا تخلو حياة من ذلك.

– كيف يجري الشجار الزوجي في طبقتكم؟

فابتسم حمادة قائلًا: تندلع الحدة .. يقطبان .. أبي يقول: يا هانم لا يليق كيت وكيت، فتقول ماما: يا باشا أنا لا أقبل سماع ذلك .. يا هانم .. يا باشا.

فيسأله إسماعيل بجرأة: ألم يسبَّها مرة قائلًا يا بنت كذا وكذا.

ويقهقه حمادة ثم يقول: هذا عندكم لا عندنا يا حضرة.

ويُحدثنا عن حرص أبيه وتبذير أُمه.

– بابا ليس بخيلًا كما يحلو لماما أن تتهمه أحيانًا ولكنه يرى ألا يَضِيع قرش بدون سبب معقول، ماما ترى أن السبب المعقول هذا يجب أن يشمل ما يروق لها من سلع شيكوريل وشملا ومحال التحف والأطعمة والأشربة التي تقدمها في ولائمها بالإضافة إلى هدايا المناسبات، وقد تمادت بالطول والعرض وهي تُجهز أختي أفكار بالأثاث المستورد والحلي، أما ليلة الدخلة فأحيتها منيرة المهدية وصالح عبد الحي.

ويقهقه حمادة ثم يواصل حديثه: ووصف بابا ماما قائلًا: يا هانم ما أنت إلا نسافة من نسافات الأسطول البريطاني.

ومع ذلك فقد تبرع الباشا للوفد بعشرين ألفًا من الجنيهات، وتقدَّم في الوقت المناسب ليحل محل المنفيين، فاعتُقل واندرج في سلك الأبطال، وسوف يكون نائب حيِّنا الهادي الجميل في البرلمان، وتكون سراياه ركن الوفد الركين. ورغم ذلك كله فلم يساو حمادة صديقنا إسماعيل قدري في حماسه ووفديته. وقلت لنفسي إن حمادة لم يرث عن أبيه مزاياه الفذة في العمل والجهاد، ورث البناء المتين والرأس الكبير والجبين العالي، منظر خُلِق للإدارة والسيادة ولكنه جُرِّد من الولع بهما.

•••

طاهر عبيد ينتمي إلى طبقة حمادة ولكنه بمَيله إلى البدانة ومرحه وبساطته يبدو كأنه منَّا. تحت النخلة أسمعَنا أول أشعاره، ومضى يتعلَّم الفرنسية تلميذًا مُحبًّا لمامته، ويهيم بين أركان مكتبة القصر الفاخرة، وينتابه القلق أحيانًا فيقول: أنا مطارد، الويل لي إن لم أصبح طبيبًا فذًّا!

فِتنته بصديقات شقيقتيه غير خافية حتى سأله إسماعيل قدري: أليس للسراي سطح؟

فأجابه ضاحكًا: لا سطح ولا غابة تين شوكي!

ذو هيئة شعبية ومزاج شعبي رغم نشأته في فيلَّا نصف أوروبية، كيف أفلت من قبضة الباشا والهانم؟ في نظر الوالدين نحن نتحمل مسئولية السقوط. وهو أكول بطبعه، وعلَّمناه نحن حُب الرمرمة، فعشق لحمة الرأس والفول والفلافل والممبار والكبد والمشبك والهريسة والكسكسي والباذنجان المخلل. بل تقدَّمنا جميعًا في الاقتباس من قاموس الشوارع والحواري ورصع أشعاره الأولى بألفاظها المُتمردة. وبدأنا طريقنا الثقافي بالقصص المؤلفة والمُعربة، أما هو فبدأها بالشعراء الثلاثة شوقي وحافظ ومطران. ورغم النقد والترشيد فالمرحلة الابتدائية تعتبر أسعد أوقات حياته من ناحية العلاقة مع والديه؛ أسعدَهما بتعلُّمه الفرنسية وبحفظ الشعر وصوغه، واعتبر الباشا ذلك كله من آي الذكاء المُدخر للطب، ويتساءل طاهر في حيرة: أي علاقة بين الشعر والطب؟!

وكنا بوحيٍ من غريزة حب البقاء نتجنب الاقتراب من فيلَّا الأرملاوي باشا أن تقع علينا عينا الباشا أو الهانم، والحق أن فضلًا غير منكور يرجع إلينا في تفجير موهبته الشعبية التي ازدان بها شِعره بعد ذلك، بل جررناه معنا لاستقبال سعد حين عودته من مَنفاه الثاني، كونت شلتنا موجةً صغيرة في بحر مُتلاطم هدرت أمواجه في ميدان الأوبرا. لم نشهد في حياتنا منظرًا رائعًا كذلك المنظر، وابتلعتنا حومة الحماس وفرحة النصر وعزة الجماهير الملتحمة، وانسربت إلى قلوبنا الفتيَّة عواطف مُتأجِّجة وتيارات فدائية ومشاعر مُجنحة تطير في الفضاء فوق هموم الحياة اليومية. ردَّدنا الهتافات لمصر وسعد حتى بُحَّت أصواتنا، وثمل طاهر بالسكرة الطارئة فنسي موقف أسرته من الزعيم القادم، وعندما هلَّت علينا سيارة الشيخ، عندما لمَحْنا من موقعنا فوق سور الأزبكية قامَتَه المترامية، ووقاره الجذاب، جُن جنوننا، واشتعلت جوارحنا بنيران مُقدسة، واختزن وعينا في سراديبه .. يومًا وذكرى وصورة لم يعُد في الإمكان أن تتلاشى. واستقبلت العباسية بعد ذلك التاريخ أيامًا سعيدة صاخبة، فسمعنا لأول مرة عن الانتخابات والبرلمان، وطُفنا بالسرادقات، واستمعنا إلى الخطب والأشعار والأزجال، ولم يكن آن الأوان بعد لنُسجل أسماءنا في الناخبين. وعن طريق طاهر عرفنا رأي الباشا أبيه فيما يجري حولنا، فهو يرى مثلًا أنه من التهريج أن يتمَّ اختيار الحكام بهذه الطريقة البهلوانية، وأننا نُقلد أوروبا في النتائج مُتجاهلين المُقدمات والأسس. بخلاف يسري باشا الحلواني الذي أكد لنا في خطبته الختامية أن صوت الشعب من صوت الله، والواقع أنه لم يكن خطيبًا مُفوَّهًا، ولكن الحفل كان حافلًا بالخطباء والشعراء، على حين أضفى عليه اعتقاله هالة من العظمة والجاذبية، وقال طاهر لأبيه: النفي والسجن والاعتقال هي مؤهلات المعركة.

فقال الباشا بازدراء: الحُكم علم وخبرة ومقدرة لا نفي أو سجن أو اعتقال.

ولم تكن إنصاف هانم القللي دون زوجها في احتقاره لما يجري.

•••

لإسماعيل قدري علينا ما يُشبه القيادة، هذا حقه لتفوقه المدرسي، وللتفوق المدرسي امتياز لا ينكر، وله منزله خاصة عند المدرسين، بالإضافة إلى الإثارة التي يبعثها بسبب مغامراته الجنسية، وهو منذ البلوغ غدا موضع التفاتٍ خاص من أُمه فضاعت من يدَيه فرصة السطح، وتحول بغريزته إلى غابة التين الشوكي يستدرج إليها صغار البائعات المتجوِّلات، وثابر رغم ذلك على تديُّنه مثل صادق صفوان، وأثرت خزانته بمعلومات كثيرة استمدَّها من أُمه عن الآخرة والحساب وعذاب القبر، وظل على شغفه بتخيل صورة الله، حتى قال لنا مرة: لعله شيء مثل سعد ولكنه يمارس سلطانه في الكون كله!

وضحك طاهر وعلق على ذلك قائلًا: عرفت الآن لماذا لا يُصلي أبي!

وهو يحظى بسعادة لما يُحرز من منزلة بيننا فيعوضه ذلك عن بساطة أُسرته، إنه الوحيد بينهم الذي تخلو شجرته من أي فرع ذي امتياز. حتى صادق صفوان وهو يُماثله في المستوى يمتُّ بصلة قربى إلى رأفت باشا الزين أما هو فلا قريب له يبلُّ الريق، والبيت القديم الذي ورثه أبوه باعه وهو يزوج أخواته؛ لذلك فعندما انجذبنا جميعًا نحو الثقافة كان يستعير الكتب للقراءة الحرة من مكتبتَي حمادة وطاهر، ولم يشغله شيء عن إحساسه الوطني وحماسه الفائق للوفد الذي بلغ درجةً من الحرارة لا تكون إلا للعقيدة الدينية، وهذا ما جعله يتَّجه نحو مدرسة الحقوق فتنةً بالقانون والمجد والسياسة، لم يعُد الطب ولا الهندسة مما يشبع طموحه بعد أن أصبح سعد زغلول مثَلَه الأعلى في الحياة، وهو الذي حرض طاهر على والديه قائلًا: السمع والطاعة للموهبة.

ويضايقه ولا شك هذا السؤال الذي يُلِحُّون به عليه «كيف تجمع بين العبادة ومغامرات الغابة؟!» .. فقال لنا يومًا: عقب كل صلاة أستغفر الله كثيرًا .. ولكن ما الحيلة مع نيران مُتأجِّجة؟!

•••

وفي غمرة الأحداث والحماس استعدَّ كل منا لامتحان الشهادة الابتدائية، ونجحنا جميعًا، إسماعيل في المقدمة ونحن وراءه، والتحقنا بمدرسة فؤاد الأول الثانوية لنُمضي بها خمسة أعوام ما بين ١٩٢٣ و١٩٢٨، ولأول مرة نرتدي البنطلون الطويل ونُقلع عن شراء البدل الجاهزة. أعوام انقضت في مراهقة وسياسة وثقافة وحُب، وفي عامنا الدراسي الأول هدانا الهادي إلى مقهى قشتمر، إنه أحد أفراد شلتنا الهامة التي تلاشت تدريجيًّا مع الزمن ويُدعى الصباغ، قال لنا ذات يوم: مجلسنا تحت النخلة لم يعد بالمكان المناسب، عثرت لكم على مقهًى مناسب.

روعتنا لفظة المقهى الذي يعتبر عند أهلنا من المحرمات، كيف نجلس بين رجال في سنِّ آبائنا وهم يُدخنون النارجيلة؟! وقال الصباغ: لا تكونوا جبناء، آباؤنا توظفوا بالشهادة التي حصلتم عليها في الصيف الماضي، والمقهى بعيد عن الأنظار، يقع عند التقاء الظاهر بشارع فاروق، صغير وجديد وجميل وذو حديقة صيفية صغيرة، وما علينا إلا أن نختار ركنًا منزويًا للسمر ولعب الطاولة وشرب الشاي والقرفة والقازوزة.

وفي سرية تامة تلمَّسنا طريقنا إلى الظاهر، تسُوقنا روح المغامرة، ويعتمل في ضمائرنا إحساس بالذنب، وطالعنا قشتمر بلونه الأخضر الزاهي، وحجمه المحدود الذي لا يزيد عن حجم بهوٍ بسراي الزين باشا — كما قال صادق — ومراياه المُثبتة في الجدران، وحديقته الصغيرة الموصولة به بباب صغير مفتوح، تنطلق بأركانها نخلات أربع، ويقوم في الوسط عدد من الموائد في صورة مُربع متساوي الأضلاع، أشار صاحبنا إلى مائدة في عمق المكان في أقرب موضع إلى منصة الشغل، فاتجهنا نحوها متجنبين الأنظار من شدة الحياء والارتباك، بدونا نبتًا جديدًا في عمره ومنظره، ودخل ثلاثة منا في جلابيبهم، وعلى رفٍّ وراء المنصة اصطفت النراجيل وقوارير المشروبات فضاعفت من ارتياعنا، جلسنا حول المائدة نتلقى النظرات المستطلعة بوجوه ساخنة حتى جاءنا النادل وبدأت الممارسة الجديدة، هكذا عرفنا قشتمر في أواخر ١٩٢٣ أو أوائل ١٩٢٤، ودون أن ندري أنه سينعقد بيننا وبينه زواج لا انفصام له، وأنه سيصغي بصبرٍ وتسامحٍ إلى حوارنا وأساطيرنا عمرًا طويلًا، بل ما زال يصغي مُستوصيًا بصبره وتسامحه. وفي ذلك الوقت اشتركنا ولأول مرة في مظاهرة وطنية، لم نعُد أطفالًا من ناحية والمظاهرة مأمونة العواقب من ناحية أخرى، فوزارة الداخلية هذه المرة بيد زعيم الأمة ورئيس الوزراء، في أثناء طابور الصباح خرج رئيس الطلبة من الصف وصاح بصوته الجهوري: «إضراب»، واندفعت الصفوف نحوه في عجلةٍ ولهوجة فخطبهم مُركزًا على أزمةٍ بين الزعيم والملك وأن على الشعب أن يتجمع في ميدان عابدين لتأييد الزعيم دون قيد أو شرط، وماج الميدان بالخلق من كلِّ صنف، كيوم الاستقبال، ولكنه يفور هذه المرة بالغضب، ويهتف من أعماقه «سعد أو الثورة»، تخلف طاهر الأرملاوي عن الاشتراك في المظاهرة فتركناه لرأيه، ولدى عودتنا سأل صادق صفوان: ولكن ما أسباب الأزمة؟

ووضح لنا أننا لا ندري عنها شيئًا ولكن إسماعيل قدري قال بحزم: نحن على أي حال مع سعد لسببٍ وبغير سبب وضد الملك بسببٍ وبغير ما سبب.

واتفقت قلوبنا على ذلك. ومما يُذكر أننا لم نعرف أسباب الأزمة أو لم نهتم بمعرفتها إلَّا بعد انقضاء أعوامٍ طويلة ونحن نسترجع الأحداث بعد أن صارت تاريخًا، في ذلك الزمان صهَرَنا الوفد في أتون وطنيته فبُعِثنا على يدَيه خلقًا جديدًا، ويومًا قال إسماعيل قدري: في مصر أربعة أديان، الإسلام والمسيحية واليهودية والوفد.

فقال طاهر عبيد ساخرًا: والدين الأخير أعظمها انتشارًا!

علَّمنا الوفد ماذا نُحب وماذا نكره، وبأي قوة نحب وبأي قوة نكره، واجتاحتنا القضية الوطنية وملكت قلوبنا، غطت على الأسرة والمستقبل والأمل الشخصي، واندفعنا مع طوفان الحزبية بنفس القوة والعنف ونبضت كل خلية من خلايانا بالحياة والإصرار، وعجبنا للزين باشا والأرملاوي باشا وأحزابهما، أهُم من البشر أم من شواذ الخلق والطبيعة؟!

وإلى جانب السياسة هبت علينا رياح الثقافة المنعشة البيضاء، التهمنا المجلات الأسبوعية والشهرية والكتب المؤلفة والمترجمة، وتنوَّرت رءوسنا بمصابيح مُشعة مثل المنفلوطي والعقاد وطه حسين والمازني وهيكل وسلامة موسى، ودار الحوار حول الفكر كما يدور حول السياسة، وشملت اليقظة العقل والقلب والإرادة.

صادق صفوان رسم بتقواه لنفسه حدودًا لا يتعداها، أحب المنفلوطي والروَّاد ولكنه أغلق وعيه دون ما يمسُّ العقيدة أو يُثير الشك، وإذا جاوز الحوار في قشتمر الحدود والتقاليد لاذ بالصمت واستغفر الله، ولم يضعف شيء من حلمه القديم بالثروة ولا بإعجابه الثابت برأفت باشا قريبه مع استثناء الجانب السياسي. ويقول بطمأنينة: موقفه السياسي لا يمسُّ مودتنا الراسخة، ويُعاتب أبي كثيرًا في رفق متسائلًا: إلى متى يا خالي تنخدع بذلك الرجل المهرج؟ أو يقول لي: وأنت يا صادق تتبع والدك بلا تفكير، هل اشتركت حقًّا في المظاهرة الوقحة بميدان عابدين؟ أراهن أنك لا تعرف لها سببًا، وأرجو ألا تعتاد المظاهرات؛ فهي اليوم آمنة، ولكنها لن تكون كذلك إلى الأبد، كم ضاعت من أرواحٍ فداء للعجوز الأناني!

وتضحك زبيدة هانم من قلبها وتقول لأمي مداعبة: مبارك يا زهرانة، ابنك زعيم من يومه!

ما زال صادق مفتونًا بالباشا وقصره وتحفه وزوجه وتواضعه، وإعجابه بأميرة لم ينضب حتى بعد انتقالها إلى بيت زوجها.

ويقول له إسماعيل قدري: لا عيب فيك إلا حلمك الغريب بالثراء.

فيقول صادق: الثراء يبدأ بحلم.

– لماذا لا تسأل قريبك عن طريق الثروة؟!

– هممت أن أفعل مرة، وشاورت نينة فهالها تفكيري وحذرتني من مغبته أن يتهمني الباشا بالحسد.

إنه شخصية متكاملة وتقليدية ولكنه نصب لنفسه هدفًا بدا لنا غير معقول.

أما حمادة الحلواني — كالآخرين — فقد فتح نوافذه للثقافة دون قيدٍ أو شرط، ويصر على أن يروي لنا في ليلته ما قرأه بالأمس، رواية المسحور المنبهر المُصدق دون أن يجشم نفسه عناء النقد. يقول: الثقافة هجمة ضاربة، أتيحت لنا لتوقظنا من سبات.

فإذا كانت آخر قراءة عن الدين لخَّصها بنبرته المترفعة، ثم يقول بيقين: هذا هو القول الفصل في الدين!

وتدور المناقشة بين أطراف متناقضة، ولم يكن حمادة في الأصل صاحب عقيدة راسخة فلم يُكابد أزمةً حقيقية، ونسمعه تارة أخرى وهو يقول: هذه هي قصة الإنسان وهذا هو أصله.

ثم حدث أن قرأ كتابًا معتدلًا عن الدين والعلم فإذا به يقول: يبدو أنه لا يوجد تناقض بين الدين والعلم!

إنه عميق التأثُّر بما يعرف، وسرعان ما ينتقل من حالٍ إلى حال، يمتنع عن أي تعريف أو وصف، ليلة مع الليبرالية وأخرى مع الاشتراكية، وقد سأله صادق: ولكن من أنت؟

فأجاب بحيرة: أمامي طريق طويل.

طاهر عبيد يبدو ذا هدف واضح وموقف واضح، لا يشك أحد منَّا في شاعريته، إنه يحفظ الشعر ويتذوَّقه وبدأ يبدعه، ويحب الزجل أيضًا، أسمعنا أول ما أسمعنا غزلًا في صديقات شقيقتيه، وألَّف زجلًا فكاهيًّا عن شارب صفوان أفندي النادي والد صادق، ونهل من كتابات الروَّاد فلم يقتصر على الشعراء الثلاثة أو مختارات أبي تمام والبحتري، وقال لنا: عما قريب سأقرأ بالفرنسية.

ولم تضف الثقافة الحديثة جديدًا إلى عقيدته، فقد نشأ بلا دِين تقريبًا، لم يُثر الدين اهتمامه ولا شغل تفكيره، ولكنه هام بالشعب والجمال والأغاني، وكان ضميره عامرًا بالقِيم الرفيعة، وإن تكن نشأته في فيلَّا الأرملاوي قد أقصته عن المجال السحري لسعد زغلول فإنها لم تربطه بالولاء للملك، ثم جاءت المعارك الحزبية فشحنته بالقرف والكفر بالجميع، وكان يقول: مصر جديرة بالحب ولكنها لم تجد بعدُ من يُحبها لذاتها.

إسماعيل قدري لا يقرأ بغزارة حمادة، ولكنه يفكر فيما يقرأ ويناقشه، وقد عبَّر عن موقف عندما قال: الثقافة الحديثة تحتشد للهجوم على حصن الدين والتراث.

وزاد قوله تفسيرًا فقال: إنها تبدأ بالخرافات فتبددها ثم تتصدى للمسائل الكبرى.

فسأله صادق صفوان بقلق: هل أخذ الشك يوسوس في صدرك أنت أيضًا؟

فتملَّاه بنظرة طويلة ثم قال: ليس للفكر حدود.

فقال طاهر عبيد ضاحكًا: دعني أهنئك!

فقال مُقطبًا: الدين موضوع، والله موضوع آخر.

فضرب صادق كفًّا على كفٍّ وقال: اسمعوا العجب.

يبدو أنه يفكر ويشك، ولم يسلم من شكِّه إلا الوفد، ومال في اطلاعه إلى المعرفة أكثر من الفن والأدب، ومن ناحية المستقبل ركز على القانون باعتباره الباب المُفضي إلى المجد والسياسة، ونحن نؤمن به ونثق في قدراته وفي بلوغه هدفه في النهاية، وعلى حين تستوي الثقافة كغاية في حياة حمادة الحلواني، فهي تلعب في حياة إسماعيل دور الدعائم التي يُقيم فوقها بناءه الشامخ، إنه رجل عمل لا قلم، وأحلامه مقدمات لأفعال، وهو يتقدم بخطواتٍ راسخة رغم فقره وانعدام زاده من ذوي الجاه والنفوذ.

•••

ومع الثقافة اشتعلت نيران الجنس، أقسى من الشك وأعند إلحاحًا، تطاردنا ليل نهار، وزاغت الأبصار مُتطلعة إلى مجالات الجنس اللطيف، كلما لاح في نافذة أو خطر في طريق. تسترق النظر إلى الوجوه والسيقان وتكوين الأجسام التي تنبض به الملابس الفضفاضة، أصبح إسماعيل موضع حسدٍ ولكنه لم يكن دون الآخرين معاناة.

وذات يوم جاءنا الصباغ بكتاب متسائلًا: هل سمعتم عن هذا الكتاب؟

غلافه من الخارج يدل على أنه كتاب تاريخ، وقد غُطِّي به لإخفاء عنوانه الحقيقي وهو رجوع الشيخ. ونصحَنا بقراءته سرًّا. تبادلناه واحدًا بعد الآخر. مررْنا بسرعة على أبوابه لنقع في قبضة حكاياته، أجَّجت نيراننا وأمدتها بوقود من العفاريت. ولما تأكد الصباغ من ضياع العقول شرع يُحدِّث عن حي البغاء، وسأله صادق ذاهلًا: والحكومة تعلم؟

فأجاب نبرة خبير: الحكومة تُعطي الرخص وتحفظ الأمن بالمكان.

ويوم الخميس عدلنا عن سينما المنظر الجميل إلى كلوت بك، تقدم وسرنا خلفه ونحن من الدهشة في غاية ومن الخوف في نهاية، هذه البيوت القديمة مُرصعة مداخلها بالنساء من كل شكل ولون، وهمس حمادة: ما أشد الزحام.

فقال صادق: لنرجع بسرعة قبل أن نفتضح!

وقال الصباغ ساخرًا: هل يتوقع أحدكم أن يُقابل أباه هنا؟ .. كل زبون هنا في حاله، تقدموا ولا تكونوا جبناء .. اختاروا وبسرعة.

ووجدنا أن الاختفاء في بيتٍ أخف من البقاء وسط الجمهور، والتقينا عند رأس الطريق ونحن نتبادل نظرات باهتة ولزمنا الصمت حتى جمعتنا مائدتنا في قشتمر، ونفد صبر كل واحدٍ في معرفة ما وقع للآخرين، وكان صادق أول المعترفين: الأولى والأخيرة.

– لماذا؟

– من ناحية الجمال لا بأس بها، الحجرة على البلاط، فراش ومرآة وكنبة قديمة، أشارت إلى طبق ساج فوق الكنبة وطلبت بقلة ذوق أن أضع النقود، وضعت النقود، وبسرعة نزعت الفستان الأحمر عن جسمٍ عارٍ، استلقَت مشيرة بيدها إشارة تدل على السرعة، أنا بردت وكأني ما عرفت الشهوة، قلت بأدب: أشكرك أنا ذاهب، فجلست وهي تقول: مع السلامة .. أعوذ بالله .. هي الأولى والأخيرة.

روَّحنا عن أنفسنا بالضحك فتشجع طاهر وقال: وجدت فلاحة على ذقنها وشم باسِمة الثغر، اتجهت نحوها فسبقتني إلى السلم، لم أهتم بالحجرة، قالت لي: أنت مثل البغل رغم صغر سِنك، وضحكَت فضحكتُ ولكني تضايقت، وبردت كما برد صادق، وشعرت بغربة شديدة، وسرعان ما تغير رأيي فقلت لها: لا مؤاخذة أنا غير مستعد هذه المرة، فقالت: أنت حر ولكن لا بد من الدفع، فدفعت القروش وأسرعت نحو الباب وهي تقول لي: لك قفا يغري بالصفع، فزدت من سرعتي كالهارب.

وضحكنا طويلًا، وقال صادق: الأولى والأخيرة أيضًا؟

ولكنه لم يجب، وقال حمادة الحلواني: تجربة موفقة من حسن الحظ، أعجبتني عيناها، وكانت مؤدبة ومشجعة، تركتني أحضنها ونحن واقفان، وتم كل شيء بسرعة .. لا بأس!

واتجهت الأبصار نحو إسماعيل قدري ونحن نتوقع أفضل النتائج بوصفه صاحب الخبرة الوحيد فينا، وضحك أكثر من عادته وقال: فتاتي صغيرة السن والجسم مقبولة، ولما ضمتنا الحجرة معًا دخلت امرأة بين الأربعين والخمسين، ضخمة الجسم قوية الشخصية، فهرعت إليها الفتاة بأدب ودار بينهما تهامس عن العمل غالبًا ثم غادرت الحجرة، وأُصارِحكم بأني رغبت في المرأة التي لم يفسدها الكِبَر بعد، وبجرأة قلت للفتاة: إنني أريد المرأة، فدهشَت وقالت: إنها المعلمة وليست لذلك. فطلبت منها أن تبلغها رغبتي، فترددت قليلًا ثم ذهبت. وما لبثت المرأة أن دخلت وأغلقت الباب وهي تقول بصوت غليظ: ادفع الضعف. فقلت لها: إنني لا أملك إلا عشرة قروش. فلم ترفض وضممتها إليَّ وذراعاي لا تحيطان بها من جَسَامتها، وكنت في غاية الانبساط.

فهتف طاهر عبيد: أنت إنسان غير طبيعي.

وانقطع عنا الصبَّاغ بسببٍ ما، ولكننا لم ننقطع عن كلوت بك. صادق صفوان الوحيد الذي لم يُكرر التجربة بعد أن أثار الحي كله اشمئزازه ولم يتفق مع تديُّنه وذوقه، طاهر لم يتخلف ولكنه كان في الغالب يجلس في مقهى بلدي يسمع العربي ويتأمَّل الخلق، وعنَّ له رأي في الموضوع فقال: هذا معرض للنساء والرجال في غاية الشذوذ والسوء، فعلى مُريده أن يفقد وعيه أولًا قبل أن يُقدِم عليه.

•••

ومع السياسة والثقافة والجنس أشرق علينا الحب بنوره، وأول من ثمل بخمره المطهرة كان صادق صفوان، يوم رأى إحسان بصحبة أُمِّها ست فاطمة يُغادران مسكنهما بشارع أبو خودة. صاحبنا كان في السادسة عشرة وإحسان بنت ثلاثة عشر، كلما مررنا قريبًا من المسكن في طريقنا إلى قشتمر ارتفعت عيناه بين خدَّين مضرَّجَين إلى النافذة بالدور الثاني، وإحسان أنضج من سنها بكثير، ممتلئة الجسم في رشاقة، ووجهها مستدير مائل للبياض، وشعرها كستنائي غزير، وعيناها عسليتان صافيتان، وثغرها غاية في الدقة، يوصف عادة بأنه خاتم سليمان، ووضح للجميع أن البنت معجبة به، أو على الأقل معجبة بإعجابه بها، وقال لنا صادق بنشوة: البنت مثل التفاحة.

وكلها حيوية، وعرفنا أن أباها يُدعى إبراهيم الوالي، موظف صغير كثير العيال، وسأله طاهر عبيد: هل عرفت الآن ما هو الحب؟

فقال صادق في غير قليلٍ من الارتباك: أنا منبهر بخفتها، وتدور بي الأرض عندما تلقي عليَّ نظرة، وكلما تذكرتها شعرت بسعادة عجيبة.

فقال طاهر عبيد: شعرت بمثل ذلك نحو ماري بكفورد، وبشيءٍ شبيه به نحو صديقات شقيقتيَّ في زمنٍ مضى.

فقال صادق: إنك لم تُحب بعد.

وقال إسماعيل قدري: أنا أُسيطر على نفسي بفضل غابة التين الشوكي وكلوت بك وانهماكي في العمل. لي جارة بنت الجيران ولكن لا صبر لي على إهمال عملي والوقوف في النافذة.

والتفت حمادة الحلواني نحو صادق قائلًا: ها أنت تحب، فما الخطوة التالية؟!

فقال ضاحكًا: صبركم، أنا لم أفق بعد.

وطاهر عبيد أثارنا بشِعره قبل أن يُثيرنا بحُبه، فاجأنا بنشر أول قصيدة غزلية له في مجلة الفكر، ظهرت القصيدة تحت عنوان «الجميلات في الحديقة»، في مجلة عريقة منتشرة ومعروفة بالدعوة لروح العصر والتقدُّمية. إنه تقدير بكل معنى الكلمة، واهتزَّ ركن قشتمر سرورًا وطربًا، وقال حمادة: نحن نشهد ميلاد شاعر.

وسأله صادق باهتمام: هل علم بالنشر والداك؟!

فضحك طاهر وقال: الإعجاب بموهبتي في نطاق الفيلَّا يُسعدهما ويعتبرانه تمهيدًا لموهبتي المدخرة للطب اللَّعين، ولكن بابا وجم حينما اطلع على القصيدة في باب الشعر بمجلة الفكر وقال بامتعاضٍ شديدٍ: هذا شغل أدباتية ولا يليق بمقامك، فقلت له: ولكن شوقي بك شاعر يا بابا، فقال: إن شوقي أمير من البيت المالك أولًا وأخيرًا، أما الشعر في ذاته فحرفة الشحاذين.

على أي حال لم يفسد عليه ذلك سعادته بنشر قصيدته، ونصحه إسماعيل قدري بزيارة المجلة للشكر والتعارف وتوثيق العلاقة ففعل، وهناك اكتسب علاقات زمالة جديدة، وعرف المبادئ التقدُّمية من خلال نخبة من المؤمنين بها، وتعاطف مع الإرادة الطامحة لهدم العالم القديم كله وإقامة بناء جديد موضعه على أسسٍ علمية معاصرة، وكأنما ودَّ أن تبيد مع العالم القديم أفكار أبيه الكئيبة، ولكن التعاطف لم يتجاوز به حدود الصداقة للمبدأ ومُعتنقيه دون الالتزام بمبادئه أو الاندماج في سلوكياته. وفي ذلك الوقت خرج من شرنقة الهيام الغامض إلى حومة تجربة حقيقية. رآه صادق يومًا ينتظر أمام صيدلية العباسية ليرى رئيفة حمزة وهي تغادرها. بنت سمراء رشيقة الملامح فائرة الجسم ثائرة النهدَين خفيفة الحركة، وتماثل طاهر في سنه على الأقل، لا يجهلها أحد من أهل العباسية تقريبًا، فهي تُقيم مع أُمها في شقة بعمارة متوسطة العمر تطل على العباسية من ناحية وعلى القَرَافة من ناحية أخرى، وهي ممرضة تمارس مهنة إعطاء الحقن للمرضى عن طريق الصيدلية، ويُقال إنها تعمل أيضًا في مستشفى، سيئة السمعة دون أي دليل، ولكن هكذا يجري الحال في العباسية، فما دامت تعمل وتنتقل من بيت إلى بيت بخفة ووجه مليح وفستان ناطق فهي سيئة السمعة دون شك. طاهر يعترضها بجسمه المائل للبدانة ونظراته الحالمة، ومن ذا الذي لا يعرف طاهر بن عبيد الأرملاوي باشا؟ إنه ينظر ويبتسم وهي تُعرض عنه دون غضب، وتستمر المطاردة ويلوح الأمل، هكذا يُصبح في مجلسنا عاشقان، وتتجلَّى في أحوالهما أعراض السحر والنشوة. وقال له حمادة الحلواني: رئيفة تحتاج إلى مكان آمن .. أعني شقة خاصة مثلًا!

فقال إسماعيل قدري صاحب الخبرة: هي أدرى بما تحتاج إليه، ولكن يلزمك مصروف إضافي.

فقال طاهر باستياء: كأنكما تُحدِّثان عن مومس!

فلاذا بالصمت في دهشة، وقال صادق صفوان معتذرًا عنهما: لا تؤاخذهما فأنت تعرف ما يُقال.

فقال طاهر بوضوح: كلام فارغ، أنا أحب رئيفة كما تحب أنت إحسان.

وألزم قوله كل أحد حدَّه رغم وساوسه الباطنة، ورجع يقول: أقبلت عليها بادئ الأمر بِنِيَّة سيئة، تبعتها من بيت إلى بيت دون جدوى، وتبين لي أنها فتاة عاملة؛ فهي إما تمارس عملًا أو ترجع إلى بيتها، الناس ألسنتهم لا ترحم، وتقذف بالتُّهَم بلا دليل، والحق أنها لما ابتسمت لي غزاني شعورٌ جديدٌ فأدركت أنني أُحبها.

وتمَّ التعارف وتواعدا للقاء في حديقة بيبرس، وقالت له: الحرص واجب، وأنا أخدم الأسر الكريمة، وألسنة الناس رديئة.

ربما تصوَّر بعضنا أنها فتاة ماكرة وأنه شاعر طيب وابن ناس لا خبرة له بمكر الحواري. وتحدَّانا طاهر قائلًا: هاتوا لي دليلًا واحدًا.

حقًّا لم يضبطها أحدنا مع شخصٍ في شارعٍ خالٍ ولا سمع عنها واقعة محددة، وتمنينا لصديقنا السلامة، وتبادلَا هدايا رمزية وقال لنا وهو ثمل بنشوته: إني ماضٍ معها إلى النهاية المشروعة!

ثم بعد صمت: وهي تعرف أُسرتي وتقدر ظروفي ولكنها سألتني في شيء من الحذر: هل تستطيع أن تقف أمام إرادتهم؟ فأكدتُ لها أنني أستطيع كل شيء.

ويحقُّ لنا أن نذهل لهذا التحول الكبير. وقال له حمادة الحلواني: إنك ما زلت في السادسة عشرة!

فقال ببساطة: للزواج وقته المناسب.

فقال صادق: الوقت المناسب بالنسبة لها مختلف.

فقال ضاحكًا: الحب لا يعترف بذلك.

وسأله إسماعيل قدري: هل تفهمك كشاعر؟

– على الأقل لا تسيء فهمي، ويعجبني فيها بصفة خاصة قوة شخصيتها.

فقال حمادة: قد تفصل من شجرة الأسرة بسببها؟

– لا يهمني ذلك.

وسأله صادق مداعبًا: هل عرفت الآن الحب؟

فقال ضاحكًا: لعله جنون أو مرض، ولكنه على أي حال يمثل السعادة في ذُروتها.

– وماري بكفورد؟ .. وزائرات الحديقة؟

فقهقه قائلًا: هذه فاتحات شهية.

فتساءل إسماعيل قدري باهتمام: هل يختلف عن الجنس؟

– إنه شجرة ملائكية نواتها الجنس.

وهنا اعترف لنا صادق قائلًا: لقد سألت والدتي أن تقرأ الفاتحة مع ست فاطمة أم إحسان، وتفكر والدي طويلًا ولكنه لم يعترض.

ووقع حمادة الحلواني في شرَك الحب وهو يناقش المُحبين. علمنا أنه شغف بسميرة المعروقي، وقال لنا: فيها جميع المواصفات المطلوبة.

وسميرة بنت ستة عشر أيضًا، من الطبقة الوسطى، وعرف عنها أنها تزور الجيران سافرة الوجه وحدَها فاعتُبرت مُتَفرْنجة، وكانت تفعل ذلك بموافقة الوالدين ورغم اعتراض ابن عمٍّ لها غيرةً على سمعة الأسرة، وطبعًا حمادة معروف كنجل يسري باشا الحلواني الثري الكبير والبطل الوطني. وعن طريق خادمتها دعاها إلى لقاء في شارع السرايات الذي يخلو مساء للعشاق.

من بدء الحكاية شعرنا بأن حمادة يخوض مغامرة فريدة ولكنها لم تُمتحَن بالحب الحقيقي الذي اقتحم قلبَي صادق وطاهر، على أيِّ حالٍ تلاقيا في شارع الحب ولكن التجربة أُجهضت قبل أن تبدأ، ما كادا يسيران دقائق معدودة حتى انقضَّ عليهما ابن عم الفتاة كالوحش الكاسر، لطم الفتاة على خدها ففقدت توازنها وتهاوت فوق الطوار، ثم انهار على صاحبنا باللكمات حتى أدركهما شرطي الدَّرك، وذاعت الفضيحة من فمٍ إلى فم ككرة القدم، وغضب يسري باشا غضبًا شديدًا وقال لابنه: يعتدي عليك وأقف مكتوف اليدين لأننا نحن المُعتدون، ألا تدري كيف تكون المعاملة مع بنات الناس؟ ومَن هو المعروقي هذا؟ .. يا لك من طفل مُخيب للآمال.

ونال صاحبنا من المعركة كدمات في الخد والشفة فاضطر إلى الاعتكاف أيامًا في السراي، ولما رجع إلينا لم نتمالك أنفسنا من الضحك، وسأله طاهر باهتمام: ماذا أنت فاعل؟

فأجاب ببرودٍ: لا شيء.

– ألا تُحبها؟

فقال ضاحكًا: تلاشى كل شيء في المعركة.

– ألم تتبادلا أي كلام؟

– مجرد التعارف والإعجاب ثم كان ما كان.

– لعلها تنتظر خطوةً جديدة من ناحيتك؟

– لن يحدث أي جديد.

فقال صادق: المسألة أنك لم تحب.

فهزَّ منكبيه قائلًا: ربما.

ولم يغير إسماعيل قدري من سيرته، ويقول ببساطة: الجنس شيء عظيم ومفهوم وهو مُكتفٍ بذاته.

فيقول طاهر: رأي عجيب لإنسان له ثقافتك وعقلك.

فيقول بتروٍّ: الجنس يضعك في صميمِ الوجود ولا وزن عندي لما يقول المنفلوطي .. لعله شغل عن الحب أو لم يُخلق له.

•••

وفي غمرة الهموم الخاصة الممتعة خفق فؤاد الوطن خفقة أليمة عميقة بموت الزعيم سعد زغلول. شدَّ ما ذُهلنا واشتعلت جوانحنا بنار الحزن والحسرات، حتى طاهر عبيد وَجَمَ وأسف بعد أن أظلت زعامة الراحل الجميع في الائتلاف الوطني وأحبه الخصوم مع المُريدين والأتباع. وكل منا له حكاية عن الخبر في أسرته وما أسال من دموعٍ. كل عين بكت سعد وكل قلب امتلأ بالشجن، وسأل صادق طاهر عبيد: كيف تلقَّى عبيد باشا وإنصاف هانم الخبر؟

فأجاب: بالحزن طبعًا، وقال أبي إنه في أعوامه الأخيرة كفَّر عن ماضيه كله وأصبح أبًا للشعب والوطنية.

وذهبت جماعتنا إلى ميدان الأوبرا وانحشرنا في الجموع الحزينة الواجمة ننتظر، وعندما لاح النعش فوق المدفع ارتفعت صرخات الأسى إلى سماء أغسطس الصافية التي تقطر حرارة ورطوبة، وجرفنا التيار وراء الجنازة إلى شارع محمد علي، وهناك اختلطت الهتافات بصوات المُطلَّات من النوافذ والشرفات، ورجعنا إلى العباسية صامتِين بلا سعد. ونخوض أمواجًا جديدة من تاريخنا المفعم بالحرارة والقلق، فنُبايع خليفة سعد ونرقب ما يلوح في السماء من نُذُر وبشائر.

وفي عام البكالوريا ضاعفنا الهمة تطلعًا للنجاح، واجتهد إسماعيل قدري مستهدفًا التفوق ليلتحق بالحقوق بالمجان، ولكن سوء الحظ اعترض سبيله المرسوم بتدبيرٍ ماكر؛ ففي ختام الثلث الأول من العام الدراسي لزم قدري أفندي سليمان الفراش لمرضٍ في القلب، اختل نظام إسماعيل وشُغِل بأبيه، وازدادت متاعب الأسرة بتكاليف الطبيب والأدوية، وحدثنا إسماعيل عن مرض أبيه بتأثُّر شديد، عن هُزَالِه، وورم ساقيه، وضعف الأمل في شفائه. والحق أن قدري أفندي لم يسترد صحته، وأسلم الروح في أواخر مارس قبل الامتحان بشهر تقريبًا. وأساء مرضه وموته صديقنا إساءة لا تُجبر، نجح في البكالوريا وجاء ترتيبه دون المتوقع ودون ما يستحق، وعجز معاش والده عن توفير المصروفات له، وبالكاد وفَّى احتياجات الأسرة الضرورية. وسُئل عما ينوي فعله فأجاب بأسى: لا تُوجَد فرصة للمجانية إلا في كلية الآداب.

وشعرنا جميعًا بأن همة عالية قد أُهدرت عبثًا، وقال له صادق مواسيًا: لا تحزن، ففي أيِّ مجال فرصة للتفوق.

فقال مُستسلمًا: يا لها من ضربة قاضية!

أما بقية الأصدقاء فقد التحق طاهر بكلية الطب بسعي أبيه وإصراره، وقال الباشا لابنه: نجاحك وحده ودون سعيي لا يؤهلك لكلية الطب، ولكنك قادر على التفوق إذا عزمت.

فقال له طاهر: ولكنني شاعر يا بابا.

فقال الباشا بحدة: حتى مع التسليم بأنك مُعتل بهذه العاهة فلا يمنع ذلك من دراسة الطب، أعرف أطباء مهووسين مثلك ولكنهم أطباء على أي حال.

وسأله حمادة الحلواني: ترى كيف تدرُس الطب على رغمك؟

فأجاب ضاحكًا: دعنا من الطب وسيرته، المهم أن مجلة الفكر ترحب بأشعاري ورئيس تحريرها يحثني دائمًا على الإبداع، والمعركة الفاصلة مع أبي آتية لا ريب فيها.

ودخل حمادة الحلواني كلية الحقوق بلا أدنى رغبة فيها ولا في غيرها، قال: لأُسكِت أبي ليس إلا، كف الآن عن إغرائي بالاهتمام بعمله وقنع بأخي توفيق كخليفة له، وقد دخلت الحقوق لأوهمه بأنني صاحبُ هدفٍ هامٍّ أيضًا.

قال له صادق: بوسعك أن تعمل في النيابة والقضاء.

فقال ضاحكًا: هدفي أكبر من ذلك، أنا عاشق الثقافة والحياة والحرية.

– الحرية؟!

– سمِّها مؤقتًا البطالة إذا شئت.

مع الزمن مضى حلمه يتبلور ويتجسد، أن يعيش كالأعيان، يقطف من كل بستانٍ زهرة، بالطول والعرض، بالروح والجسد، دون التزام أو ارتباط. وقال إسماعيل قدري: إنه قادر على تحقيق حلمه.

أما المفاجأة المثيرة حقًّا فاقتحمتنا من ناحية صادق صفوان، قال ووجهه الجميل يُومِض بالانشراح: معي قنبلة!

وانتظر ليخلق الجو المناسب ثم قال: سأفتح دكان خردوات!

هل جُنَّ الشاب الوديع المُتدين؟ ولكنها الحقيقة، صارح والديه بأنه قرر ألا يكمل تعليمه، وأن يفتح دكان خردوات كخطوةٍ أولى في سبيل الثراء، انزعج صفوان أفندي النادي أيما انزعاج ولم يُصدق، وآمنت ست زهرانة كريم بأن عينًا أصابت ابنها الوحيد، قال صفوان أفندي: أنت تمزح ولا شك.

– بل جادٌّ كل الجد.

– إذن مسَّك جنون!

– لِمَ يا بابا؟ أنا عاقل وأعرف هدفي.

– لم أسمع عن متعلم قبلك يفضل أن يكون صاحب دكان عن أن يكون موظفًا في الحكومة.

– قارن بين أقل ربح مُتصوَّر لدكان وبين أي مرتب.

– المال ليس كل شيء .. الجزار رجل غني!

– المال أهم شيء.

– والكرامة؟

– العمل الشريف كرامة.

فصاح الرجل: أفسدك التدليل، هذه هي المسألة، ومن أين لك الخبرة بهذا العمل؟

فقال بهدوء وأدب ليُلطف من انفعاله: لنا أصحاب من كل لون، منهم أبناء بقالين وأبناء خردواتية!

فسأله بحنقٍ: لا يكفي هذا، ومن أين لك المال الذي تبدأ به؟

– توجد دكان بثلاثة جنيهات في العمارة الجديدة التي شطبت حديثًا على ناصية العباسية مع أبو خودة، نينة تملك بعض الحلي القديمة، وسوف أردها لها أضعافًا.

– إليك رأيي، أفكار أطفال ولعب عيال.

وجاء الفرج من حيث لا يحتسب، ففي زيارة عائلية لسراي رأفت باشا الزين شكا صفوان أفندي ابنه للباشا فما أدهشه إلَّا أن هتف الباشا: برافو!

فتساءل صفوان أفندي في حيرة بالغة.

– برافو يا باشا؟

– تفكير سليم، الدنيا يجب أن تتغير، أتعرِف أنها ستكون دكان الخردوات الوحيدة في العباسية كلها؟!

فبَاخَ انفعالُ الرجل، وتساءل في تسليم: أليس لكلِّ مشروعٍ تمويل يناسبه؟

فقال الباشا: هذا حق، ويجب أن يكون مشروعًا قويًّا، سأقرضه بما يلزمه قرضًا حسنًا بلا فوائد وسوف أُسدد خطاه.

وفي الحال تلاشت معارضة صفوان أفندي وست زهرانة، وضحكت زبيدة هانم وراحت تداعب الشاب قائلة: مبارك عليك يا عم صادق!

وانقلب لعب العيال إلى جدٍّ ونحن لا نُصدق، استُؤجر الدكان، وأمدَّ الباشا صاحبنا برجُل من دائرته، ينظم له الدكان ويتفق مع النجار المناسب ويمسك له دفاتره ويبصره بخفايا عمله، على حين عرَّفه الباشا بتجار الجملة من معارفه وضمنه عندهم، وقبل نهاية الصيف وافتتاح الجامعة جَالَ صادق في دكانه مزهوًّا بين أرفف اصطفَّت فوقها المناديل والإشاربات والسجائر وأدوات الحلاقة والحياكة وصنوف الشوكولاتة والملبن واللب والسوادني، وكان علينا أن نتكيف مع الوضع الجديد وأن نُولِيه ما يستحق من جدية وإن بدا أول الأمر كاللعب أو التمثيل، نمر به، نتبادل الابتسام، نراه واقفًا وراء الحاجز الخشبي، أو ملبيًا طلبًا، نرى زبائنه من الغلمان والبنات والنساء، وهو جاد تمامًا، حتى شاربه تركه ينمو، ومن حسن الحظ أنه لم يتعملق كشارب أبيه، ولكنه استقر فوق شفته العليا كشارب شارلي شابلن، وبعد إغلاق الدكان يلحق بنا في قشتمر، مهاجرًا إلى دنيا الثقافة والسياسة. ويغبطه إسماعيل قدري على كثرة زبائنه من الجنس اللطيف فيعلق حمادة على ذلك بالمثل البلدي «يدِّي الحلق للي بلا ودان»، ويسأل باهتمام عن الربح فيقول: إني أُسدِّد دَيْنِي للباشا أولًا، ولكن يبقى لي ما لا يحلم به موظف شاب.

وما لبث أن قذفنا بالقنبلة الثانية عندما قال ذات ليلة: سأشرع في الزواج دون تأجيل.

لم نعجب هذه المرة لما نعرفه من تديُّنه وعفته، ووضح لآذاننا اللاهية صوت الزمن الغائب في زحمة الأحداث وتتابع الفصول، فبعضنا يجلسون في مُدرجات الجامعة وأحدنا يتوثب لاستكمال دينه، وقرر صادق أن يُعلن رغبته ثم يستمهل أسرته الجديدة حتى يقتصد قدرًا مناسبًا من المال، ويبدو أن إبراهيم أفندي الوالي لم يُعجبه تحوُّل الشاب من أفندي إلى خردواتي، ولكن صفوان أفندي قال له بكبرياء: ابني حاصل على البكالوريا، ألا تقرأ ما يكتب المفكرون عن الأعمال الحرة؟!

وجاءت موافقة إحسان صادقة وحاسمة وقاطعة، فأخذت كل أسرة من جانبها تستعد لليوم السعيد، وقال صفوان النادي لابنه: لِمَ العَجَلة؟ كان الأوفق أن تنتظر حتى تُسدِّد دَيْنك، ثم تقتصد على مهلٍ حتى تضمن لنفسك مسكنًا مناسبًا من جميع النواحي، ولا تنس أن إبراهيم أفندي الوالي رجل على قد حاله والله لا يُكلِّف نفسًا إلا وسعها.

ولكن صادق طمأن أباه إلى أن الأمور تسير سيرًا حسنًا، وعرفنا نحن سِرَّ العجلة أو سِرَّ اللهفة على اليوم الموعود، وقال حمادة ضاحكًا: ستكون معركةً حامية لا هوادة فيها وربنا يستر.

واستأجر صادق شقة من ثلاث حجرات في العمارة التي تتبعها دكانه، وباعت والدته حُليها القديمة لتغطية المهر والشبكة، وعند ذاك قال رأفت باشا لصادق على مسمعٍ من والديه: زبيدة اقترحت عليَّ أن أنزل لك عن باقي الدَّين ولكنني رفضت، أريد أن تبني نفسك بجهدك لا بعون أي مخلوق.

ولكنه أهدى إليه أثاثًا جميلًا للصالة مكونًا من كنبة وفوتيلين، وطاقمًا من الصيني وأدوات المطبخ، وفرشت الشقة بأثاثٍ بسيط ولكنه طبعًا جديد وذو رائحة خاصة عشعشت طويلًا في حواس صادق.

وفي ليلة الدخلة جمعنا سُرادق صغير بشارع أبو خودة، جلسنا بين المدعوين في صفوفٍ متتابعة، ولفت نظرنا صفوان أفندي بجسمه الضئيل وشاربه العملاق، وعلى المنصة أطل علينا عبد اللطيف البنا وتخته وغنَّى لنا أغنيته الخفيفة السافرة:

ارخي الستارة اللي في ريحنا
لحسن جيرانك تجرحنا
يا مبسوطين بالقوي يا احنا

ولاح صادق حائرًا بين العمارة والسرادق، يرحب بنا كثيرًا، يُداري بابتسامته المليحة حيرة جانحة، وقال لنا: سنتناول العشاء على مائدة خاصة.

فقال له حمادة الحلواني: في جيبي زجاجة خاصة هربتها معي .. كل شيءٍ مباح الليلة.

وقال طاهر: نحن مسئولون عنك حتى صياح الديك.

ولم يشهد رأفت باشا السُّرادق ولكن صاحبنا أخبرنا بأنه زار الأسرة مُهنئًا وأن حرَمه تتوسَّط مجتمع النساء كالبدر، وطالبنا العريس بأن نشهد الزفة معه، فجسَّ لنا النبض ولكن خاب المسعى، ولم يقبل المسئولون وجود شبَّان أغراب بين المدعوات. ولما ذهب قال حمادة: ما له كأنه مُضطرب أو خائف.

فقال طاهر: المسألة فاصلة وخطيرة ولن تكون أحسن حالًا منه.

وتساءلنا متى يجيء يومنا، وعلى أي حال يكون، وماجت أنفسنا بالسرور وحُب الاستطلاع، وفي عودتنا إلى بيوتنا تخيَّلنا صديقنا في خلوته المُسربلة باللهفة والارتباك التي طال انتظاره لها مذ ناهز الحُلُم.

وغاب عنا أسبوعًا كاملًا، ولدى أول لقاء في قشتمر انهمرت عليه الأسئلة في حصارٍ يتَّقِد بالرغبات المكتومة حتى اضطرَّ إلى الاعتراف قائلًا: لم أذُق إلا كأسًا واحدة ولكنها كانت كافية، بل فوق الكفاية، وما إن أُغلق الباب علينا حتى شعرت بأنني تحررت من أثقال الحياء والتقاليد وأشباح الزواجر والنواهي، وكان عليَّ أن أُحررها من تاج الفل المُطوِّق لرأسها، وضممتها إلى صدري، ولذة الوجود تفرُّ في حَوْمة ارتباك غريب وجَيَشان رأسٍ لم يصمد أمام نَفْثة الكأس الحامية، اعترفتُ لها بأن رأسي دائر فسمحت لي بالاستلقاء للراحة، وفعلت فتقضَّى الليل وأنا بين اليقظة والنوم، ثم انتبهتُ وانتبهَتْ حواسي فأيقظتها بقبلاتي، ثم .. ماذا أقول؟ أخوكم سبع!

وضحك في سعادة بادية مؤثرة وقال: كلانا شعلة لا تخمد!

إنه مكبوت ملهوف ذو شوق قديم، وهي خفيفة وتعلن خفتها عن فائضٍ من الحيوية، فهو شهر عسل مفعم بالعسل، ورجع إلى دكانه بعد عطلة امتدَّت ثلاثة أيام، وباشر عمله بمُفرده بعد أن أتمَّ مندوب رأفت باشا مهمته في تدريبه. وأصبح الدكان مُلتقى الذاهب والجائي، فهو دكان الخردوات الوحيد وهو ضربة معلم، وخلو العباسية من الدكاكين يرجع إلى كون مساكنها على الجانبين خاصة، سرايات في الشرق وبيوتًا في الغرب، ولا تُوجَد الدكاكين إلا بهدم بيت وإقامة عمارة في موضعه، وانهمك صادق بكليته في الحب والتجارة، أما السياسة والثقافة فتراجعا إلى هامش حياته، قال له حمادة الحلواني: حياتك الراهنة لا تتسع للقراءة.

فقال صادق آسفًا: الجريدة على الأكثر، وقد أقرأ مقالًا في المجلة.

أما الوطن فقد تردَّى في أحداثٍ مباغتة؛ تصدَّع الائتلاف وألَّف محمد محمود الوزارة، فأوقف الدستور، وقام الصراع بين الوفد بزعامة النحاس من ناحية وبين الملك ومحمد محمود والإنجليز من ناحيةٍ أخرى، وكان إسماعيل قدري أشدَّ الجميع انفعالًا، هكذا هو متطرف دائمًا في السياسة والثقافة والجنس، حمادة دونه في الانفعال والحماس بما لا يُقاس رغم أن الباشا والده من أساطين الصراع، واشترك إسماعيل في كل مظاهرة طلابية، على حين اكتفى صادق بإعلان امتعاضه، ولم يشترك حمادة في المظاهرات خارج أسوار الجامعة .. كأنما كان يترفع عن الاندماج في الجماهير، ولبث طاهر في موقفٍ شبه حيادي، لم يعُد يعلن تأييده لموقف أسرته ولكنه لم ينضم للجانب الآخر، وقال لنا يومًا: فليحل القضية من يحلها، إن لم يكن مصطفى النحاس فليكن محمد محمود.

ومرة أخرى أعلن ملاحظة لم نلتفت إليها من قبل، قال: ألا ترون معي أن الوفد تقدُّمي في السياسة ورجعي في الفكر، وأن الأحرار رجعيون في السياسة وتقدُّمِيُّون في الفكر؟!

والحق أننا في الثقافة لم نكن نُفرق بين وفدي ودستوري، ولا نتأثر بعواطفنا السياسية في تقدير من يستحق التقدير من خصومنا، بل ألم نُفتن بكُتَّاب أعدائنا أنفسهم من الإنجليز؟!

وبقدر ما تحظى به حياتهم الثقافية الحرة من ازدهارٍ وتقدم وجرأة فإن دراستهم الجامعية تعثرت في الفتور المنذر بالفشل؛ حمادة يتلقى محاضراته القانونية في برودٍ ولا مبالاة، إسماعيل قدري يعتبر نفسه منفيًّا في كلية الآداب ليحصل على شهادة لا يُحبها ليشتري بها وظيفة يَمقتها، ويواسيه صادق فيقول له مشجعًا: بوسعك أن تكون أستاذًا كبيرًا.

فيقول: إذا حيل بين إنسانٍ وهدفه فقد قضي عليه بالموت.

أما طاهر فثابر على نشر شِعره الجميل، وثبت أقدامه في مجلة الفكر، ومضى يترجم لها مختارات من الفرنسية، وهي من ناحيتها نفحته بمكافآت مالية سعِد بها سعادة غير محدودة وأنفق بعضها علينا في صورة حلوى ممتازة من جروبي، وأنذرناه بمعركة قادمة مع والدَيه، فقال ضاحكًا: لتكن معركة.

فقال له صادق: اجبُر بخاطرهم وانجح ثم افعل بنفسك ما تشاء بعد ذلك.

فأجاب بإصرار: لا أُحب العبودية.

وفي ختام العام الدراسي نجح حمادة وإسماعيل وسقط طاهر سقوطًا شاملًا. انفجرت أزمة حقيقية في فيلَّا الأرملاوي، وخمد أملهم في ولي العهد، وجلس أمام عبيد باشا وإنصاف هانم في قفص الاتهام مُتَّهمًا، قال الباشا بحزنٍ عميقٍ: هذه نتيجة شخص آخر على وجه اليقين!

وقالت إنصاف هانم: مسئوليتك ثقيلة على قدر ذكائك، وأنت مُطالَب بالتفسير؟

طفح قلبه بالأسى ولكنه كان أكبر من أن يُفرط في روحه فقال: دخلت الطب مُرغمًا، هذا هو التفسير.

فسأله أبوه وهو في غاية التجهُّم: لم تعُد طفلًا، فماذا تريد؟

– مستقبلي في الشعر والصحافة.

فهتف الرجل: خبر أسود.

– المسألة غاية في البساطة يا بابا.

– تصورك هذا لها يجعل منها مُصيبة أخرى.

وتأوَّهت الهانم وهي تسند رأسها إلى يدها قائلة: أي خيبة أمل!

فقال بهدوء: أنا آسف جدًّا، ولكن لا حيلة لي.

وبعد أن فرغ من روايته لخَّص لنا الموقف قائلًا: الفيلَّا في مأتم وأنا في غاية الكدر.

فسأله صادق: ألا تراجع نفسك؟

فقال باسمًا: سألتحق قريبًا جدًّا بالمجلة كشاعر ومترجم، سيكون لي مُرتب ثابت، أصدقائي هناك يقدرونني جدًّا.

وقال إسماعيل قدري: إني أؤيدك.

وقال حمادة: أحيانًا يثبت الآباء أنهم في حاجةٍ إلى تربية جديدة.

فقال له طاهر: أبوك بخلاف أبي، ليِّن العريكة.

فقال حمادة بضِيق: احتقارهم يُطاردني.

وأُلْحِق طاهر بمجلة الفكر، وكانت علاقته برئيفة تنمو وتشتد، بل لعلَّها لم تعُد سرًّا، فليس في العباسية أسرار، ويومًا قال لنا: لا مُبرر للتأخير، وعليَّ أن أفعل ما فعله صادق صفوان.

وهمس صادق: الباشا لم يسترد أنفاسه بعد؟!

فقال استهانةً: لا بدَّ مما ليس منه بُد.

وتضاربت الأقوال في قشتمر، اقترح حمادة أن يتم الزواج سرًّا حتى يُعرَف في وقت مناسب، ونصح إسماعيل بأن يتم الزواج كأمرٍ واقع ثم يُبلغه طاهر أباه برسالة تُحرَّر في اجتماعنا، ولكن طاهر قال بحزم: لا .. أريد أن أواجه التحديات بنفسي.

ثم وهو يغرق في الضحك: ولتفعل بنا القوة ما تشاء.

في تلك الأيام المغرقة في الانفعال تلقى إسماعيل قدري الضربة القاضية الأخيرة، قاد مظاهرة في الحرم الجامعي فقُبض عليه خارج أسوار الجامعة، وسرعان ما تقرَّر رفته نهائيًّا من الجامعة. هوى صديقنا مُثيرًا فينا عاصفةً من الحزن والأسف، موت أبيه غيَّر مجرى حياته وبدَّد آماله، وها هو الجهاد يقضي على البقية الباقية، إنه وأُمه يعيشان على معاشٍ صغير ولا بد من احتواء المصيبة بحلٍّ سريع، وتبادلنا الآراء في مجلسنا فقال صادق صفوان: لا بد من وظيفة بالبكالوريا أما المستقبل فبيد الله وحده.

فقال طاهر عبيد: لدينا أناس كبار يُستشفع بهم عند الحاجة مثل يسري باشا ورأفت باشا.

فقال حمادة: أبي وفدي والرياح تهبُّ اليوم ضد الوفد.

فقال صادق: رأفت باشا من خصوم الوفد ولكنه لا يُخيب الرجاء.

وأبدى صادق مروءةً محمودة فاصطحب إسماعيل إلى سراي رأفت باشا، وعرض عليه المشكلة من البداية إلى النهاية، ونظر الباشا إلى إسماعيل وقال كالعاتب: إذن فأنت وفدي.

فقال صادق باسمًا: مثلي يا سعادة الباشا.

ووعدهما خيرًا، وأنجز الرجل ما وعد، وألحق إسماعيل قدري بوظيفةٍ كتابية بدار الكتب. هكذا انتهى الصديق الطامح للزعامة والقانون، وقال له حمادة مُعزيًا: دار الكتب تُناسب عُشاق الثقافة.

وقال له صادق: وسوف يرجع الوفد إلى الحكم يومًا ما.

فقال إسماعيل بفتور: لا يعرفني أحد من القادة.

ثم بصوت خافت: لم يبقَ لي في الحياة إلا الثقافة.

وأراد حمادة أن يُسرِّي عنه فقال: وغابة التين الشوكي.

وفي تلك الأثناء اختفى من مجال صحبتنا الأقران الآخرون، واقتصر المجلس على خمستنا، أصبحنا من معالم المقهى، وفي العطلة الصيفية لا نتخلف عنه ليلةً واحدة، ووقعنا في هوى النارجيلة وثملنا بنشوة الدخان، ونوَّعنا سهراتنا مساء كل خميس فأضفنا إلى السينما المسرح والصالة، وزوَّدنا عشاءنا بالخمر أحيانًا، بل عرف حمادة لفَّ سيجارة الحشيش، وظل قشتمر أحبَّ الأماكن إلينا بما هو المأوى الذي نخلو فيه إلى أنفسنا ونتبادل عواطف المودة، وقد بدأ منا ثلاثة — صادق وإسماعيل وطاهر — حياتهم العملية، أما حمادة فواصل حياته الجامعية الفاترة، وبدا صادق أسعدَنا فقد حقَّق حلمه في الحب والعمل، وكم يُسعده التنويه بنعمة ربنا عليه فهو يقول لدى كل مناسبة: الزواج نعمة الله الكبرى على عبده.

وفي الوقت المناسب أيضًا بشَّرنا قائلًا: دخلنا في متاعب الوحم السارة!

وأنبأ وجهه الصافي في الأيام التالية عن قلقٍ طارئ كالماء الرائق الذي لا يُخفي سرائره، أهو الوحم يا ترى؟ وصارحنا بهمِّه قائلًا: حبها النهم توقف فجأة!

واستحوذت علينا حيرة بالغة حتى قال: أخبرني نفر من أهلها أن تلك حال عارضة وعابرة وأن لا داعي للقلق.

وعند ذاك قال له حمادة: نحن قوم لا علم لنا بهذه التجارب، فاسعد وحدك واقلق وحدك.

وإذا بطاهر يقتحم قلوبنا بحكايته، جاءنا ليلةً مخطوف اللون ليقول لنا: وقعت الواقعة!

عرفنا بداهة ما يعني وتطلَّعنا إليه في إشفاقٍ فقال: أُعلنت الحرب.

لم يكن بقي بينه وبين والدَيه إلا الصمت، حتى شقيقتاه اللتان تزوَّجتا من دبلوماسيين بعثتا إليه برسالتَين يحثَّانه فيهما على إرضاء أبيه. وتكمُن أزمته الحقيقية في حبه والدَيه مع حرصه الكامل على استقلاله. ولم يعُد يحتمِل التأجيل ولا يقبل بالهرب، فمضى إليهما في الشرفة المُطلة على الحديقة في الأصيل، وبدون مُقدمات قال بصراحته المعهودة: إني أفكر جادًّا في الزواج.

لم يظهر أي ردِّ فعلٍ كما توقع، غاية ما في الأمر أن الباشا تساءل مُتهكمًا: هل تُوجَد فتاة محترمة ترضى بفتًى في وضعك؟

فقال بهدوء: وجدتها وهي جدُّ راضية.

وانفلت الباشا من بروده فقال بانفعالٍ شديدٍ: إذن هو حقٌّ ما سمعتُ وأبَيت تصديقه؟

وسألته الهانم بمرارة شديدة: ماذا تقول؟

فقال بهدوء: لا أدري شيئًا عما سمعتم ولكنها رئيفة حمزة!

– البنت الممرضة!

وصاح الأب: البنت صاحبة السمعة.

فقاطعه طاهر واقفًا: بابا، من فضلك!

فصاح الباشا: ثمة قوة مجهولة تريد أن تنتقم مني وتنكل بسمعتي.

وهمست الهانم: يا للخسارة يا طاهر.

ورجع الأب يقول: حذار .. حذار أن تقترب هذه البنت من بيتنا.

فقال طاهر بأسًى: أمرك مطاع!

تابعناه متأثِّرين فابتسم ابتسامة لا معنى لها وقال: وحملت أشيائي وذهبت.

فسأل صادق: هل تركوك بلا مقاومة.

فقال ساخرًا: إني أعيش مؤقتًا في البيت الصيفي بسراي الحلواني.

– وبعد ذلك؟

– اتفقت مع رئيفة على الإقامة في شقتهم بعد القران فترة من الزمن.

يا لها من رحلة طويلة حقًّا يقطعها العاشق من بيت السرايات إلى شقة صغيرة مُتقشِّفة يطل جانب منها على القرافة، وبدا لنا صديقنا كأنه مغامر لا يُبالي بما يصادفه، اختار حياته بجرأة غريبة وقطع ما بينه وبين أسرته المجيدة بوثبةٍ جنونية. ودار نقاشنا حول الخطوات التنفيذية، واتفق الرأي أخيرًا على أن يكتب الكتاب في مسكن صادق صفوان ونحتفل بعد ذلك بالعروسين في كازينو العائلات بالظاهر. والحق أننا نستطيع أن نفرح في أي مكان. وأُخليت حجرة في شقة رئيفة ففرشت بحجرة نوم جديدة اشتُريَت من تاجر أثاث بشارع الشرفا، بالإضافة إلى حجرة نوم أم رئيفة، أما الحجرة الثالثة فجُعلت للمعيشة والسفرة، وكان الجو خريفًا معتدلًا فجمعتنا مائدة خاصة للشراب والعشاء. وتبدت رئيفة رائقة سعيدة، ولم تشهد أمها الحفل لكبر السن أو لعدم الاستعداد، وشربنا وأكلنا وضحكنا، ومضى ركبنا بعد ذلك في تاكسيين إلى عمارة العروس.

تزوج طاهر في العشرين من عمره، كذلك كانت رئيفة في العشرين، وإن خمن إسماعيل أنها أكبر من ذلك، ولدى عودتنا إلى بيوتنا تبادلنا حديثًا ذا شجون. قال صادق: الحياة لعبة بيد الحظ فلندعُ له بالسعادة.

فقال حمادة: أنا مُعجب بشجاعته، إنه شخص غير عادي.

فقال إسماعيل قدري: أرجو ألا يندم أبدًا.

فتساءل صادق: هل يُطيق حياته الجديدة وهو ربيب النعمة والترف؟!

فقال حمادة ضاحكًا: هي، لدرجةٍ ما، مغامرة سينمائية.

على أي حال انضم طاهر إلى حزب الاستقرار والسعادة، وعرفنا عن طريق صادق وطاهر حبًّا واقعيًّا رشيدًا، لا كالحب الذي نشهده أحيانًا في السينما، ولا كالحب الذي حدثنا عنه المنفلوطي. وبفضل ذلك صار منا عضوان مُنتجان، أحدهما تاجر والآخر شاعر، وعما قريب يصيران والدَين، وهو خير من الإبحار في محيط الثقافة شمالًا وجنوبًا دون ثمرةٍ أو التمادي في تشريح السياسة المصرية دون عمل، ولم نكن نتصوَّر أن ينتهي إسماعيل قدري إلى حياة الوظيفة الخاملة، وسأله طاهر مُحرضًا: لماذا لا تشق سبيلك إلى الكتابة؟!

فقال بفتور: لم يجر لي ذلك في حلم.

كلا، لم نتصور أن يقنع بالهزيمة ويستسلم لمخدر الروتين، وآي ذلك أن حماسه السياسي لم يهِن إن لم يكن اشتد، ولم يبقَ فينا من هو مجرد علامة استفهام إلا حمادة؛ ذلك الرحالة بين الأفكار والمذاهب الذي لا يستقر على حال أكثر من أيام، حتى اعتاد طاهر أن يُداعبه عند اللقاء متسائلًا: من تكون اليوم؟!

ويواصل ركن قشتمر سمَره ما بين الأصالة والمعاصرة منبهرًا بكل جديد في الفكر أو العلم متطلعًا إلى حكم صالح ينعم فيه بالاستقلال والديمقراطية، وتابعنا باهتمامٍ حارٍّ صادق جهاد الوفد في مكافحة الدكتاتورية، أما صادق فكان يحسب الأيام في جريانها منتظرًا الوليد الذي يجود به القدر. وكانت ولادة إحسان غير يسيرة فاضطر إلى استدعاء طبيب لمعاونة الداية، وتلقى — بعد العناء — من ربه وليده الأول الذي أسماه إبراهيم تيمنًا باسم أبي الأنبياء، وفرح به صادق فرحتَين، فرحة بمجيئه، وفرحة بتوقع عودة أُمه إلى طبيعتها الأولى، وبالمناسبة قال طاهر: لا أحب فكرة الإنجاب.

فسأله صادق الذي أصبح ذا تجربة: ورئيفة؟

– طبعًا العكس.

– عظيم، سوف تنجب عاجلًا أو آجلًا.

فقال باستسلام: بل أخشى أن يكون ذلك قد تم!

فقال صادق بأسلوبه الوعظي: هذا حقها فلا تأسف.

كان بعضنا يخاف على طاهر ردة الفعل بعد أن يخبو لهيب رغبته، الحق أنه استمر في حُبه فدلَّ على أنه أحب حبًّا صادقًا، وهضم مقامه الجديد بيسر ومرح، وازداد حماسًا في عمله وإنتاجه ونجاحه وكأنه لم يُخلق إلا لذاك. ومع أنه ابن ذوات كحمادة، إلا أنه كان ذا استعداد شعبي فطري، حتى منظره اختلف في ذلك عن أبيه وشقيقتيه بالإضافة إلى العادات والسلوك التي اكتسبها من صحبتنا وانغمس فيها حتى قمة رأسه. وفي أول عهده بالزواج أراد أن تنقطع رئيفة عن عملها وتستقر في بيتها فلم تُمانع وقالت له: أنا على أتمِّ الاستعداد ولكن، ألا يزيد ذلك من أعبائك؟!

ففكر وحسَبَ ثم قرر أن يتركها في عملها الذي كانت تربح منه أضعاف مُرتبه، وقال لنا بحرارةٍ: إنها على خلق وجديرة بكلِّ ثقة.

وعجبنا في أنفسنا لما ذاع عنها قديمًا من غير أي دليل، وأهدى إلينا الزمن المُتجهم بسمة بسقوط الحكم الدكتاتوري، ولكن حكم الوفد مضى في غمضة عين عقب فشل المفاوضات فلم يَدُم أكثر من إشراقة شمس عابرة في يوم غائم طويل، وخلفه في الحكم إسماعيل صدقي مُفتتحًا عصرًا داميًا من التعسف والإرهاب. وماجت البلاد بالمظاهرات وأنَّت من كثرة الضحايا، وجعل إسماعيل قدري يرقب المعارك في ميدان باب الخلق من نافذة حجرته بدار الكتب وهو يتعجب كيف قُضيَ عليه بأن يكون موظفًا ويُحال بينه وبين الاشتراك في المظاهرات. وأظلت جماعتنا سحابة قلق لاعتكاف يسري باشا الحلواني في سراياه مريضًا، وما أعقب ذلك من إجراء جراحة له في البروستاتا، وما لبث أن تُوفِّي الباشا في المستشفى الفرنسي على مبعدةٍ يسيرة من سراياه. فقدت العباسية بموته أهم شخصيةٍ اقتصادية ووطنية بين أبنائها، كما خسر الوفد أحد مُجاهديه الأوائل، وشُيعت الجنازة في موكب عظيم تقدَّمه أعضاء الوفد وعلى رأسهم مصطفى النحاس، ورغم فتور العلاقة بين الأب الراحل وصديقنا حمادة إلا أن الحزن استغرق الفتى في يوم الفراق، وبكى في المدفن بكاءً صادقًا كأخيه توفيق. ولكن الأمر الذي لا شك فيه أنه شعر بالتحرُّر والاستقلال وأنه سعد بذلك الشعور، وترك الإدارة لشقيقه، واهتمَّ بفرز ميراثه من الأموال السائلة والعقارات، وصادف ذلك أن بلغ سن الرشد قبل الوفاة بأسابيع. ووضح لنا جميعًا أن صديقنا أصبح من الأغنياء بكل معنى الكلمة، ونصحه صادق قائلًا: حافظ على حُسن العلاقة مع أخيك تفاديًا من وجع الدماغ.

فقال موافقًا: أوافق تمامًا، ولكي أحصل على نصيبي السنوي من أرباح المصنع دون متاعب.

وقال له إسماعيل قدري: وعليك أن تُتمَّ دراستك القانونية.

فتساءل بسخريةٍ: وما وجهُ الحكمة في ذلك؟

– على الأقل حتى لا يُهدر تعب مرحلة طويلة من الحياة!

فقال باستهانة: كلام فارغ.

ولم يتردَّد فهجر كلية الحقوق غير آسفٍ وغير مكترثٍ لرجاء والدته، ودعاه التحرُّر إلى تحقيق أحلامٍ ألحَّت على رأسه منذ قديم، فاستأجر شقة في خان الخليلي وأثَّثها على الطريقة الشرقية، كما أعد لنفسه ناديًا خاصًّا في عوامة بشارع الجبلاية، وقال لنا بسرور: كي يتسع أمامكم مجال التسلية.

جاء الوقت ليشبع شغفه بالحياة العريضة، حسية وعقلية، في رحلته الطويلة المتحررة من أي التزام. وكما يأبى الانتماء لرأي فهو يرفض الارتباط بعمل، بل لم يتأثر تأثُّرَنا بزواج صادقٍ وطاهر، فقد هيج الزواج حنيننا إلى الحياة الزوجية، أما هو فلم يتزعزع أنملةً عن موقفه، وتردَّد نهاره بين خان الخليلي وشارع الجبلاية، يقرأ، يستمع إلى الأسطوانات، يشرب القليل من الخمر وعشق الحشيش، ثم لا بد أن يختم يومَه بجلسة ساعتَين على الأقل في قشتمر، وقال لنا بوضوح: غاية الإنسان من كل سعي أن يبلغ الحياة التي أستمتع بها اليوم.

وقال طاهر عبيد: عرف صديقنا ما يُناسبه.

فقال صادق بارتياب: انتظر، قد ينقلب كل شيءٍ رأسًا على عقب!

وها هو إسماعيل قدري يمارس حياته وكأنما قد استنام إليها بصورة نهائية، موظف صغير أبدي، في بيت محدود الرزق بلا مستقبل، رأسه يتضخم بالاطلاع والتفكير، وقلبه قلق بالشك الذي اجتاحه، ومسراته الحسِّية متدنية وتعيسة، لماذا لا يلقى الصعاب بالتحدي المناسب لقدراته؟ لماذا لا يحاول الكتابة؟ لماذا لا يدرس القانون من الخارج؟ لماذا يستسلم للهزيمة؟ وأين تلاشت همَّته العالية؟! وكأنه لم يبقَ له من المُتَع الطيبة الدنيوية إلا أكلة فاخرة وكأسان من الويسكي في العوامة أو خان الخليلي. ولكنه لم يفقد يقظته العقلية المتألقة. ولما جاء حمادة ببعض الخواجات يستعين بهم على تذوق الفن التشكيلي والموسيقى الغربية تجلى إسماعيل على رأس المتذوقين، وربما فتر حماس حمادة أحيانًا، أما حماسه هو فقد استمر. واهتمامه مع ذلك بالفن والأدب والفلسفة لا يقاس باهتمامه بالسياسة ورؤاها، وفي ذلك الميدان يُعَد معلمنا الأول، ووضح ميله للديمقراطية، وإن قال بإيمان: لا ديمقراطية بلا عدالة اجتماعية.

ويظل في ظاهره على الأقل موظفًا صغيرًا، يثابر على استعارة الكتب، والتعلق بالوفد، والسَّمر في قشتمر، ومعاشرة الأسى وهو ما لا يلاحظه إلا من يستشف أعماق عينيه.

طاهر عبيد — رغم منفاه الاختياري — أسعدُنا فيما يبدو. بحسبه أن شِعره يعتبر اليوم أجمل ما يُنشر من شعر، أو في الأقل أجمل ما يُنشر من شِعر في مجلة الفكر ذائعة الصيت. وها نحن نلمح رئيفة في ذهابها وإيابها مُرتدية فساتينها الفضفاضة لتداري حبَلها. وفي الوقت المناسب أنجبت للشاعر درية. وثمل طاهر بالأبوة كما ثمل بها صادق من قبل، وتساءلنا: ترى هل علم عبيد باشا الأرملاوي وإنصاف هانم القللي بمقدم حفيدتهما؟ الواقع يقطع بأن صديقنا قد انفصل عن أُسرته إلى الأبد، ووجه الباشا المتعجرف لا يعِد بأي أملٍ في التراجُع، والهانم لا تقِلُّ عنه ترفعًا واغترابًا، ولم يتصوَّر أحدُنا أن تقف الهانم موقف الندِّ من أم رئيفة العجوز، والمسألة تبدو حلمًا من الأحلام أو الأسطورة نسجها قلب شاعر مُتمرد عذب. يسأله حمادة أحيانًا متذكرًا حبه القديم لوالدَيه: ألَا تحن أحيانًا إلى بين السرايات؟

فيتفكر مليًّا ثم يقول مُداريًا أشجانه بالابتسام: اهجر من يهجرك.

ويقول عن درية بفخار: جميلة حقًّا وصدقًا .. اقتبست أجمل ما في ماما ورئيفة.

فقال له صادق ضاحكًا: وإذا قدر الله أن تقتبس منك بدانتك أيضًا أصبحت بمبة كشر عصرها!

وقال حمادة ذات ليلة: صادق لم يعُد كالعهد به، ألم تلاحظوا ذلك؟

فقال طاهر عبيد: كما تقول تمامًا.

ولما جاء صادق في ميعاده المتأخر نسبيًّا أحاطت به الأعين متفحصة، ولاحظ هو ذلك ولكنه تجاهله، وقال حمادة: فيك شيء تغير!

فتنهد واستمرَّ في صمته، وتوالت الأسئلة عن الصحة والأحوال حتى قال: إحسان لم تعد كما كانت.

شد انتباهنا بقوة. تستحوذ الأسرار العائلية علينا أحيانًا بأشد ما تستحوذ المذابح الدكتاتورية أو الأفكار الفلسفية .. وواصل صادق حديثه قائلًا: إنها اليوم أم مائة بالمائة.

ولم نفهم نحن العزاب، ولكن طاهر أيضًا يبدو مثلنا.

– مع واجبات البيت، فلا شيء يهم إلا الصغير.

ونظر في وجوهنا بوجهٍ جادٍّ ثم قال: وأنا؟! حسبت أن الأمومة تبدأ هكذا ثم يرجع كل شيءٍ إلى أصله، ولكن انتظاري نفد.

فقال طاهر عبيد: الوقت يتسع لكل شيء.

فتنهد صادق قائلًا: كانت شعلةً فأصبحت رمادًا.

– لعلها الصحة!

– الصحة في أحسن أحوالها .. بل لعلها تسمن أكثر مما يجب، تفقد رشاقتها، وتطل من عينيها نظرة هادئة بل خامدة، وتُعنَى بكل شيءٍ ولكنها تهمل نفسها، منظر جديد تمامًا.

وتساءل طاهر: لا مؤاخذة .. هل …؟

فقاطعه بصراحة: تستجيب إذا استجابت بدافع الواجب لا الرغبة!

– هل وقع بينكما شيء؟

– أبدًا، نحن على أتم صفاء، المسألة أعمق من ذلك.

فقال له إسماعيل: عليك بالمزيد من الصبر.

– قلت لها مرة: مالك يا عزيزتي؟ لماذا تُهملين منظرك؟ كنتِ دائمًا وردة يانعة، فاعتذرت بعملها في البيت وعنايتها بالولد .. أعذار واهية وغير مقبولة .. وأكثر من ذلك فهي راضية وسعيدة، غاية في النشاط، لا تهمل شيئًا ولكنها تهمل أهم شيء. بيتنا مثال في نظافته وطعامه، الولد يتألق دائمًا في اللفائف الناصعة، ورغم ذلك فربة البيت كبرت مائة عام!

ونظر حمادة إلى طاهر عبيد وسأله: كيف ترى ذلك؟

فقال طاهر: إنها حال شاذةٌ.

فتساءل إسماعيل: هل يلزم استشارة طبيب؟

فقال صادق: لمَّحت إلى ذلك فاستاءت ودمعت عيناها … إنها مثال في الحياء والتهذيب والطاعة فاعتبرت تلميحي إهانة، وذكرتني بأنه لا ينقصني شيء … فقلت لها إن العلاقة بين الزوجَين لا يمكن أن تكون واجبًا مفروضًا، فأكدت لي أنها ليست كذلك!

ولم نملك إلا أن نحثه على الصبر ونُمنِّيَه بالشفاء، ولكننا أدركنا مدى خَطبه؛ إنه رجل يتفانى في عمله ولا عزاء له في يومه الشاق إلا الحب، وهو لا يشبع منه فكيف يصبر على بلواه؟!

وأخيرًا قال لنا: ثم إنها حملت من جديد وأخشى أن يزداد الأمر سوءًا.

وبات صادق أقلَّنا مرحًا، وجاءته إحسان بابنه الثاني «صبري»، وازدادت الحال سوءًا كما توقع حتى قال لنا: إنها سيدة مثالية، وأم مثالية، أما أنا فزوج بائس.

وصمد قشتمر وكأنه وطنٌ ثانٍ لنا، وتُوفي صاحبه الكهل وحل محلَّه ابنه، وتردَّدت فيه أصواتنا تحتفل بسقوط صدقي، وبشائر سياسية جديدة، وأنباء عن نجاح النازي في ألمانيا بزعامة هتلر، ومعاهدة ١٩٣٦. في أثناء تلك الفترة الطويلة نسبيًّا لاحظنا أن حمادة يسري الحلواني يهتم اهتمامًا خاصًّا بالعمارة القائمة في الجانب الآخر من الطريق، هناك في الدور الرابع تلوح فتاة في النافذة حينًا وفي الشرفة حينًا آخر، بنت تستحق الاهتمام، ظهرت حديثًا في أسرةٍ سكنت في العمارة منذ وقتٍ قصير، ومن موقعها القريب نسبيًّا يتبدى وجهها الأسمر المُستدير غاية في اللطف، بعينَيها الواسعتَين وشعرها الغزير، في هالة محترمة تدل على أنها بنت ناس، ثم تتابعت الأخبار مُسجلةً أن أباها طبيب منقول من الأرياف ليشغلَ وظيفةً هامةً في وزارة الصحة. وقع حمادة — فيما بدا — في شباك الحُسن المُطل، فواظب على الحضور إلى قشتمر مبكرًا لينعم برؤيتها في ضوء النهار. كان الوقت ربيعًا، ونحن في الربيع والصيف ننقل مجلسنا إلى الحديقة الصغيرة فلا يقوم حاجز بيننا وبين الجانب الآخر من الطريق المُفضِي إلى شارع فاروق، وكان قد بلغ الخامسة والعشرين أو ما يزيد، وليس في حياته من قصص الحب إلا تلك القصة الخاطفة التي أُجهضت في معركة. وبعد أن أقام لمزاجه رُكنَين في خان الخليلي والجبلاية زوَّد حياته بالعلاقات النسائية الطائرة، فتجيء المرأة مرةً أو مرتين ثم تذهب لحالها، وهو يجد مسرته في التنقل دون ارتباط أو التزام كحاله في الآراء والمذاهب. فلأول مرة تعتوره أمارات العاشقين، فيُرسل النظر، ويتورَّد خدَّاه، ويتخلى عن الاستهانة، ويُقلقه الشوق والوجد، وقال صادق مُتناسيًا شجونه: لا يُدهشني ذلك على أي حال.

ولم ينفِ حمادة التهمة مُستسلمًا لسحر الواقع، وقال طاهر عبيد: على بركة الله! .. اشتقنا للأفراح والليالي الملاح.

ولم تضِع رسائله في الهواء فتلقى رسائل من العينَين الواسعتَين ونحن شهود، حتى قال إسماعيل قدري: آن لك أن تتحرك.

نحن نُحب الحب، ونرحِّب بنسائمه، علَّها تُخفف من توتر جوِّنا المشحون بنبوءات الحرب، ونُذُر السياسة، وعواصف الثقافة المُفعمة بالمتعة الضارية والشكوك العاتية، ولكن صاحبنا يتمتع ويحلم ولا تندُّ عنه حركة. وقال إسماعيل مفسرًا: اعذروه؛ ليس من اليسير أن يبيع حريته الطاغية ويُسلم قلبه وروحه للقيود الأبدية.

ولكن الحركة دبَّت في الجانب الآخر بشجاعة فائقة ونية صافية، ظهرت في الشرفة ذات أصيلٍ في ثوبٍ أنيق وهيئة دالة على الخروج إلى الطريق، وألقت عليه نظرة ناطقة لا تحتمل التردُّد بعد ذلك، هتف طاهر: دخلنا في الجد؟

وتساءل صادق: هل تخرج وحدَها؟

ورجع طاهر يقول له: إنها دعوة صريحة فعليك أن تستجيب بطريقةٍ ما، جسَّ النبض بإشارة … وزرَّر جاكتته كمن يتأهب للقيام، فابتسمت ابتسامةً واضحة، وقال له إسماعيل: توكل على الله.

من شدة توتره لم يبتسم، غابت الفتاة من الشرفة وقام هو في شيءٍ من الحدة وغادر الحديقة. أتبعناه أنظارنا حتى اختفى، وقال صادق: إنها تدعوه إلى لقاء فاصل، وسوف يتزوَّج حمادة قبل نهاية العام.

جاء في اليوم التالي متأخرًا، وطالعَنا بوجهه القديم الهادئ الخالي من ذبذبات العواطف وتوهُّج الأمل. وجَمْنا بعض الشيء وتساءل طاهر في إشفاق: هل نُهنئ؟

فبدت منه ضحكة باردة وقال: انسوا الموضوع تمامًا.

ولكن حب الاستطلاع لم يترك لنا حيلة، فقال بضيق: انتظرت أمس عند محطة الترام، وحتى تلك اللحظة كنت عاشقًا تمامًا، كما كان صادق وكما كان طاهر.

– ثم؟

– رأيتها بصحبة مامتها قادمتَين نحو المحطة، تخيلت ما سيحدث، سنستقل معًا حجرة الدرجة الأولى، يتم التعارف، نجلس بعد ذلك في مكانٍ مناسب لتحديد الخطوط الأولى، أجل لم يعُد بيني وبين النهاية إلَّا خطوة، خطوة واحدة وأنتقل من حالٍ إلى حال، من دنيا إلى دنيا، من فلسفة إلى فلسفة، وسرعان ما وجدتني على برزخ فاصل بين حلمي الطويل بالحرية المُطلقة وبين عاطفة طارئة مغرية تدعوني إلى العبودية، وشعرتُ بتمزقٍ فظيع، البنت جميلة وتُطالعني بعينَين مرحبتَين، ووراءها أُمها تُضفي علينا طهارة وشرعية، تمزقتُ تمامًا، ملكني رعب هائل، وجاء الترام ووقف، وصعدت إليه أُمها، ثم تبعِتْها وهي تبتسم إليَّ، وما عليَّ إلا أن أصعد وينتهي كل شيء، ولكني تسمَّرتُ في مكاني، ونظرت بعيدًا هربًا من عينَيها، وتحرك الترام، ولبثتُ في موضعي وأنا أتنهَّد بعُمق وأتذوق النجاة وترتعش أطرافي من شدة الخجل.

لفَّنا الذهول مليًّا ثم انفجرنا ضاحكين: الله يخيبك يا بعيد!

– أحرجت البنت وأمها.

– بنت مناسبة جدًّا.

– سوف تندم.

وعند ذاك قال برجاء: انسوا الموضوع تمامًا.

وسكتنا احترامًا لمأساته، ربما نعود إلى الموضوع فيما بعد. الحق أن الموضوع في ظاهره بيِّن الوضوح؛ فهذا رجل يعشق الحرية المطلقة، وله من الظروف المادية ما يُتيح له ذلك، ولكن كيف يطيق إنسانٌ سَوِي ألا يلتزم بشيء؟ .. لقد تصور إسماعيل قدري أنه رجل عاجز عن الحب الحقيقي، ولكنه أحب الفتاة، وهل لا يكون الحب حبًّا إلا إذا جرى على شاكلة حُب المجانين أو حتى الحب السينمائي؟! ولكن حمادة في هذه الدنيا كزائر متحف للعرض لا للبيع، في السراي مع مامته، في خان الخليلي مع الجوزة، في العوامة مع المحترفات، في المكتبة مع العقول والقلوب. وقال إسماعيل قدري مرة: إذا تعدَّدت الأهداف تلاشى الهدف.

أما صادق صفوان فسلَّم بالأمر الواقع قائلًا: أعترف بخطئي وأقول إن حمادة لن يتزوَّج أبدًا.

وقد تزوج أخوه توفيق بعد عامٍ واحد من وفاة أبيه، وعن طريق أُمه عفيفة هانم بدر الدين، من إحدى عقائل الأُسر الكريمة بالعباسية الشرقية، وأرادت الهانم أن تُزوج حمادة أيضًا ولكنه خيَّب مسعاها في ذلك أيضًا. وقالت المرأة متسائلة: لا عمل، ولا دراسة، ولا زواج، لماذا تعيش؟!

أما الشيء الرديء فهو أن أسرار الحياة الخاصة لحمادة يسري الحلواني قد فاحت في العباسية ولهجت بها الألسنة. وما العباسية إلا قبيلة كبيرة لا يخفى فيها سرٌّ. عرف الناس سرَّ الفتى الحائر، وشقته الشرقية بخان الخليلي، وعوامته الجميلة بشارع الجبلاية، وعُرف بالحشَّاش المنحل. وقالت عفيفة هانم: يا خسارة أولاد الأكابر، ومن حمادة الحلواني إلى طاهر عبيد يا قلبي لا تحزن!

وقيل أيضًا إن شلَّتنا اعتُبرت المسئولة عن تدهور ابنَي العباسية الشرقية. ولمَّا انتهت إلينا تلك الأنباء تساءل إسماعيل قدري ضاحكًا: أنُلام على خلق شاعرٍ شعبي فريد وعمر خيام حديث؟!

أما صادق صفوان فقال مازحًا أيضًا: الحق أن العباسية الشرقية هي التي أفسدتكم بتقديمها الخمر والحشيش لكم في خان الخليلي والجبلاية، فويل لأولاد الناس الطيبين من أبناء الذوات!

ولكن إسماعيل قدري هو من يستحق الرثاء حقًّا، ولو حسنت أحواله لتقدَّم الجميع في طريق الزواج لِما عُرف عنه من الانضباط وحب الاستقرار. ومما يُحسَب له أن أوار وطنيته لم يَخبُ رغم إحباطه الشديد، وأنه كان أشدَّنا غضبًا وسخطًا على الملك فاروق في خلافه مع الوفد، ولم يغفر له إقالته الوقحة للنحاس أبدًا، وقال بعنف: قديمًا كان ماهر والنقراشي يُصدران حكم الإعدام على الخونة، أما اليوم فهما يستحقَّان الإعدام.

وفي تلك الأيام تُوفي صفوان أفندي النادي والد صادق، إنه ألصق الآباء بوجداننا بسبب شاربه الأشهر، ودُفن يوم إقالة النحاس من الوزارة. ويحكي صادق خبر والده فيقول: كنتُ منهمكًا في عملي بالدكان عندما جاء أبي لزيارتي على غير عادة، قال لي إنه أحبَّ أن يُجالسني قليلًا قبل أن يذهب إلى مقهى عبده بميدان فاروق، فرحَّبتُ به بكل حبي واحترامي، وأحمد الله أنني لم أتخلف عن زيارة بيتنا في «بين الجناين» كل يوم جمعة، وأنني لم أُقصِّر في معاونته بعد إحالته على المعاش. ورأيته نحيفًا أكثر من المألوف فرقَّ قلبي له جدًّا، وراح يسألني عن إبراهيم وصبري وإحسان، رجوته أن يُعنَى بصحته، فقال لي باسمًا: إن جدي كان أنحف منه لكنه عاش بعد الثمانين، ثم ودَّعني وانصرف داعيًا لي ولأُسرتي بطول العمر، وقبَّلتُ يده وصحِبتُه في سيره حتى ناصية أبو خودة، وأنتم تعرفون ما حدث بعد ذلك.

أجل فقد مات بالسكتة القلبية وهو يلعب الطاولة في مقهى عبده. وجاءنا الخبر في قشتمر فقُمنا مع صادق جميعًا ولم نُفارقه حتى وُورِي الرجل في التراب، وقد حزن صادق لوفاة أبيه حزنًا شديدًا، وصلى على جثمانه داخل قبره. وفي السرادق ليلًا استمعنا لتلاوة الشيخ الشعشاعي، ورأينا رأفت باشا الزين بين المُعزِّين. ولم يخلُ ركننا من حديثٍ عن السياسة والإقالة.

وشهِدَنا مقهى قشتمر ونحن نودِّع الشباب ونخطو أول خطوةٍ في الرجولة، ومارسنا الحياة بين العمل والثقافة والسمر، وكابدْنا حياتنا السياسية بين الأمل والنكد، وكأنما قُضيَ علينا بمواجهة تحدِّيات غليظة راسخة نرسف في أغلالها ونُعاني من قهرها. وبعيدًا عن ذلك، منا من يستمتع بكل متعة متاحة كحمادة، أو مَن يُثبت أقدامه في دنيا المال كصادق، أو من يُحقق ذاته في عالم الفن والشهرة كطاهر، ومنا من ينتظر. وتخضَّب سمرُنا أحيانًا بلونٍ من الحديث جديدٍ عن جيلٍ جديد؛ عن إبراهيم وصبري ابنَيْ صادق، ودُرية ابنة طاهر. إبراهيم اليوم ابن تسعٍ وهو في المرحلة الابتدائية بمدرسة الحسينية للبنين، ودرية تُشارف الثامنة وهي في المرحلة الابتدائية بمدرسة العباسية للبنات، وصبري في السابعة يتأهب للالتحاق بالابتدائي، ونسأل أحيانًا: كيف يتعاملون مع أبنائهم؟ ويقول صادق: رعاية في غير شدة، والاستثناء وارد أيضًا، أحيانًا تهولني جرأتهم عليَّ وعدم خوفهم منِّي، ولكن، أليس ذلك أفضل؟

أما طاهر فيقول: أنا مُغرم بدرية؛ بجمالها وفطنتها، لا أمدُّ يدي إليها بأذًى، وأحُول بينها وبين مامتها أحيانًا، رئيفة تُعتبر شديدةً بالقياس إليَّ، ولا بأس من ذلك.

وقد عرفنا الأولاد وعرفونا في عطلات الأعياد عندما صحبوا آباءهم إلى قشتمر في ملابسهم الجديدة.

وتلبَّد جو الأرض بالغيوم، ومضت الدراما الإنسانية في نموِّها نحو التأزُّم والتوتر، حتى اجتاحت الجيوش الألمانية بولندا، وما لبثت إنجلترا وفرنسا أن أعلنتا الحرب على ألمانيا، وقال إسماعيل قدري: ها هي الحرب العظمى الثانية.

فقال حمادة متسولًا من الهواء طمأنينة: ولكن إيطاليا لم تعلن الحرب!

على أي حال لم يشك أحدٌ في أنها ستُعلنها اليوم أو غدًا، ومن ثَمَّ تصير مصر ميدان حربٍ بين الحلفاء والمحور. ونشطت الحكومة إلى التأهب حيال المجهول، فأذاعت المعلومات المفيدة عن الغارات ولفتت الأنظار إلى الإرشادات الواجبة، ومضت تطلي مصابيح الشوارع باللون الأزرق، وتُضفي على ليالينا سوادًا لا عهد لنا به، بل وبدأت تُخطط لحفر المخابئ في شتَّى الأحياء.

ولم تتوقف عجلة حياتنا عن الدوران، وشحنتها الأخبار بالإثارة واليقظة.

حمادة الحلواني يواصل حياته بين السراي والعوامة وخان الخليلي، وأضاف إلى تنقلاته بين المذاهب تنقلًا جديدًا بين المحور والحلفاء، فليلة يكون مع المحور، يشرح بحماسٍ النازية وفلسفتها العنصرية مُتابعًا جذورها إلى أعمق أعماق الجنس الآري، وليلة يكون مع الحلفاء مؤيدًا للديمقراطية، منوهًا بثوراتها التاريخية وما أهدته إلى الإنسانية من مبادئ الحرية والمساواة والإخاء. وقد اشترى سيارة فورد من طرازٍ حديث ليؤمِّن نفسه ضد الظلام وجنود الحلفاء الذين أخذوا يزحمون الشوارع، وتشكَّى قائلًا: الويسكي يختفي، والحشيش ترتفع أسعاره، والنساء بصفة عامة يُفضلن الجنود على المدنيين، فأي ميزة تبقى لنا كأمةٍ غير محاربة؟!

فقال له إسماعيل: سوف تنشب الحرب فوق أرضنا.

ولكنه قال ضاحكًا: كلما اقترب الموت انفجرت لذة الحياة.

وطاهر عبيد تحَسَّنت أحواله المادية، ودُعي أكثر من مرة لتأليف أغانٍ للأفلام، وانتقلت حماته إلى رحمة الله في أعقاب إصابتها بالتهابٍ رئوي، فجدَّد أثاث الحُجرتَين بأن جعل إحداهما للمعيشة والسُّفرة والأخرى مكتبة، وقال له صادق مرة: لو زرتَ فيلَّا بين السرايات ومعك دُريَّة لغَزَت البنت القلوب المُغلقة!

فقال طاهر بإشفاق: أخاف ألا تُستقبل درية بما هي أهل له من المودة فيتغير قلبي من ناحية والِدَيَّ اللذَين ما زلت أحبهما.

– ولكن للحفيد سحرًا لا يُقاوم.

فقال طاهر ضاحكًا: إنك لا تعرف والدَيَّ كما أعرفهما.

وفي تلك الفترة أقلعت رئيفة عن ممارسة عملها وقنعت راضية بوظيفة ست البيت، ولكنها حافظت بمهارةٍ وإصرار على رشاقتها، وبدافع من حُبها واعتزازها بزوجها عوَّدت نفسها على النظر في الجريدة والمجلة.

أما صادق صفوان فله حكاية لم نطَّلِع على أسرارها إلا حين تمَّت فصولها، يبدو لنا دائمًا رجلًا مُجدًّا ذا جاذبية خاصة لزبائنه بما طُبع عليه من حلاوة في الخَلق والخُلق. أجل إن مشكلة إحسان تُزمن مع الأيام وهو يحاول مُسايرتها دون إخفاء لكدَرِه وهمِّه، غير أنه في ذات ليلة قرَّر أن يبوح لنا بسرِّه فقال: الحربُ شرٌّ لا شكَّ في ذلك ولكنها لا تخلو من خير!

ودهشنا لقوله، وتساءل طاهر مداعبًا: هل تتفلسف على آخر الزمن؟

أما الحكاية فترجع بدايتها إلى اليوم الذي تولى فيه هتلر الحكم، وفي إحدى زياراته لرأفت باشا الزين قال الباشا: الحرب قادمة آجلًا أو عاجلًا.

فقال صادق: ربنا فوق الكل.

فقال الباشا: عليك أن تستعد لها كما يستعد الحلفاء.

– أنا يا سعادة الباشا؟!

– الإبرة التي تبيعها اليوم بمليم ستختفي وتجد من يشتريها بخمسة قروش، هل فكرت في ذلك؟ التجارة ليست مجرد شراء وبيع ولكنها فكر وتخطيط.

فنظر إلى قريبه التاجر الأكبر بإكبارٍ وذهول، فقال الباشا: خزِّن كل سلعة مستوردة .. أسلحة الحلاقة .. الأقلام .. النفاثات .. الحلوى .. كل شيء .. اشترِ التراب لتبيعه ذهبًا.

هذه هي الحكاية، ونظرنا إليه مُستطلعين فقال: خصصت حجرة في شقتي للخزين .. وابتَعتُ بكلِّ قرش يفيض عن ضروريات الحياة الأشياء الرخيصة الثمينة.

فقال طاهر ضاحكًا: هكذا تتكون الثروات حقًّا!

فقال صادق بارتياح: الحمد لله رب العالمين.

وأخذت تنهمر عليه النقود، واحتلَّ الزين باشا في قلبه المنزلة الثانية بعد الله، وجدد أثاث شقته، وبرَّ أمه في شيخوختها فوالاها بالرعاية وزوَّدها بما تحتاج إليه من مأكلٍ وملبس، ولدى أقل شكوى صحية يجيئها بأطباء وسط المدينة متجاوزًا أطباء الحي، ولكن ذلك كله لم يخفف من كدره من حياته الزوجية، بل لعله ضاعفه وصعد به إلى ذروة التوتر. وقال له حمادة الحلواني: مثلك يُعذَر إذا سعى إلى امرأة.

فقال بحزم: ليس لي في الحرام رغبة.

وهو على تلك الحال جاءته ليلى حسن لشراء بعض الأدوات المدرسية، سمراء مُمتلئة العود، ساخنة النظرة، مُثيرة، مُحتشمة الزي، أثارت اهتمامه وغرائزه، ولم يكن ممَّن يُحسنون إخفاء الباطن ففضحته، وبغزوتها المُباغتة شغلت وعيه طوال الوقت وهو لا يحلم برؤيتها ثانية، لكنها جاءته بعد أيام لتستبضع. فرح بها فرحةً انتزعته من تقاليده فقال لها: لستِ من العباسية فيما أعتقد؟

فتساءلت في دعابة: حضرتك شيخ حارة؟

– أعرف الجميع سواء في الدكان أو في الطريق.

فقالت وكأنها تعرفه بنفسها: نحن من الوافدين حديثًا، نسكن في عمارة عم خليل لقُربها من المدرسة التي أعمل بها.

فقال مُنتشيًا بسروره: تشرفنا.

– العباسية حي خطر لوجود الثكنات الإنجليزية بها.

– الله هو الحافظ.

شعر بأنه يُوجَد قبول واستجابة، وقص علينا القصة، وفكرنا في الأمر طويلًا غير أن حمادة كان أجرأنا فقال له: ظروفك سيئة وأنت تُعذَر إذا تزوَّجت مرةً أخرى.

– فقال دون أن يفلح في إخفاء ارتياحه: ولكن لإحسان منزلة لا تعدلها منزلة.

فقال حمادة: احتفظ بها مُعزَّزة مكرمة مع ابنَيها، وهي ستفهم وتُقدِّر وتَعذر.

وجاءته أخيرًا بصحبة امرأةٍ في الحلقة السادسة، حدس لتوِّه أنها أُمها، فقال لها يجرُّها للحديث: مبارك، إنهم يبنون مخبأً قريبًا من عمارتكم.

فقالت ضاحكة: نعم، على أي حال وبصرف النظر عن الثكنات فالعباسية حي جميل.

فقال مُجربًا نفسه في الغزل: العباسية تشرَّفت بأجمل بنت فيها.

ابتسمت المرأة في سذاجة ودارت ليلى ابتسامة وانتهى الموقف على خير.

ويقص علينا ما يحدث ووجهه يتألق بالسعادة، فلم نشُكَّ في أنه وقع في الهوى من جديد، إنه شابٌّ طيب، وهَيْهاتَ أن يعرف امرأةً إلا على سبيل الزواج. واقتنعنا تمامًا أنه لا مفرَّ من الزواج. وفي الحال كلفنا أهل الخبرة بالتحري عن الأسرة الجديدة بعمارة عم خليل، وجاءت المعلومات تقول: إن الفتاة اسمها ليلى حسن، في الثلاثين من عمرها، أي تُماثل صادق في سنه، مُدرِّسة بمدرسة العباسية الابتدائية، وأُمها ست عيشة أرملة ذات معاش بسيط، أسرة على قد حالها، لعلها لم تكن لترضى بالزواج من خردواتي لولا حُسن سمعته وثراؤه ووسامته بالإضافة إلى حصوله على البكالوريا.

ومضى في حلمه إلى غايته فرنا إلى عمارةٍ جديدة تُشطب على الجانب الآخر من الطريق العام أمام دكانه فقرر أن يحجز بها شقة للعروس الجديدة، إن وُفق في مشروعه، وإذن فقد صدقت نيته وتوكَّل على الله.

ومع الحرب هبَّت على حيِّنا رياح التغيير لا ممتعة ولا سارة. شُقَّ شارع طويل عريض بين شارع العباسية وشارع الملكة ناظلي، واخترق الحقل القديم الذي كنا بفضله نتمتع بجمال الريف بالإضافة إلى حضارة المدينة، ورحل عمِّ إبراهيم وسكت نَعير الساقية واختفت الخُضرة المُنعشة جارفةً معها الشفافية والعذوبة والروائح الذكية، وحلت محلها على جانبي الطريق الجديد خرابات قاحلة سرعان ما استُغلت لبيع نفايات الجيش البريطاني من السيارات الكهنة وتلال المطاط والأدوات الميكانيكية والبطاطين المُستهلَكة. لم نعُد نسمع إلا الدق وضوضاء الشارين وشِجار المتساوِمين، ولا نرى إلا غبار عربات النقل. وفقد الشارع العمومي هدوءه، وجرت فوق سطحه عشرات اللوريات، وتضاعف عدد الترامات واكتظَّ بعُمَّال الأورنس، وانتشر الجنود حتى في المقاهي البلدي. وبيعت جملة من سرايات العباسية الشرقية المطلة على الشارع العمومي، وشُرع في إقامة عمائر شاهقة في مكانها وأخذ يتمايل في الأفق منظرُ حيٍّ جديد مُكتظ بالسكَّان والدكاكين، ويطوي في نموه المتصاعد الحي القديم بسراياته المعدودة وبيوته الصغيرة الأنيقة وسكانه المعدودين الذين تربط بينهم روابط الأسرة الكبيرة الواحدة. وفي أثناء ذلك، قُبَيل شروع صادق في زواجه الثاني وفي خلاله، وثب صديقنا وثبةً أعلنت للملأ ثراءه، فقد استأجر في العمارة الجديدة التي تُشطَّب أمامه دُكَّانين كبيرَين في أسفلها، وجعل منهما دكانًا كبيرًا، وهيَّأه بالديكورات والتجميل، وانتقل إليه، فلم يعُد الخردواتي الوحيد ولكن الخردواتي الفريد الذي يُضاهي في منظره ومعروضاته محال وسط البلد، ونقش أعلى مدخله على لوحةٍ طويلة عريضة اسم «النادي» يُقرأ نهارًا بالخط الكوفي وليلًا بالمصابيح الكهربائية، وجلس وراء منصة الحساب مُستخدمًا للعمل موظفًا شابًّا يُدعى رشدي كامل، وبطيبته المعهودة قال لنا: حلمي يتحقق بفضل الله أولًا والزين باشا ثانيًا.

فقال طاهر مُداعبًا: وهتلر ثالثًا!

ومضى ينفذ ما اعتزمه. ولعل طاهر كان الوحيد الذي أبدى شِبهَ معارضة حين قال: أعتقد أنه يكفي الإنسان زوجة واحدة إن حرص حقًّا على راحة باله.

فقال صادق: إحسان عاقلة.

فقال طاهر: النساء يُفكرن بقلوبهن.

وأفضى صادق بنواياه إلى أُمِّه ست زهرانة فارتبكت المرأة وقالت له: لم يحدُث هذا في أُسرتنا قط.

ولمَّا بثَّها شكواه في شيءٍ من الصراحة دعت له بالتوفيق، ولكنه لقي قهرًا في مصارحة إحسان حتى تمنَّى لو كانت على غير هذا المثال من الطيبة والطاعة والنشاط رغم بدانتها المُتنامية. وطبعًا هو لم يواجهها إلا بعد أن اطمأن إلى موافقة ليلى وأمها، بل إن ست عيشة لم تُبارك رغبته إلا بعد أن أقنعها بأنه لم يُقدِم على خطبة ابنتها إلا بسبب مرض زوجه الأولى التي يتعهَّد بالاحتفاظ بها رغم كل شيء، وعند ذاك قالت له حماته الجديدة: «بارك الله فيك فنحن لا نُحب أن يُقال عنا إننا نخطف الأزواج من زوجاتهم.» ورضي صادق بصفةٍ عامة ولو أنه تمنى لو كانت تصغره ببضعة أعوام، كما أنه تضايق بعض الشيء لمَّا عرف أنه كان لها خطيب سابق انتهت خطبته بالفسخ، ولكنه فسر ذلك بفقر الأسرة وعجزها عن تجهيز العروس بما يليق، ومما أخبرَنا به أيضًا أن أُمَّه — ست زهرانة — صارحته بأنها لا تطمئن كل الاطمئنان للموظفات، وكيف أن زبيدة هانم حرم الزين باشا سخرت من تلك الأفكار البالية قائلةً إن بنات الأُسر الكريمة يتعلمن اليوم ويتوظفن كالرجال ولا غبار على ذلك. المهم أنه خلا إلى إحسان، وقال لها وهو يشعر بحرجٍ لم يشعر بمِثله من قبل: إحسان، علم الله أنك أعز مخلوق في حياتي.

والغريب أنها حدجته بنظرةٍ قلقة كأنما حدس قلبها ما ينوي قوله.

– لم تعُد لي حيلة ولا صبر، ومن الخير لكلَينا أن أتزوج.

توقع غضبةً لو وقعت لكانت الأولى في حياتهما غير القصيرة. ألقت عليه نظرةً سريعة ثم غضَّت بصرها كالخجلة أو الخائفة، ثم أخفت وجهها في راحتَيها.

– سيظل هذا البيت بيتك وبيت أولادك ولن يُفرِّق بيننا شيء.

وكأنما لم تجد إلا الصمت لتُعاقبه به.

ولمَّا رجع إلى شقته مساء عقب سهرته في قشتمر لم يجد إلا الخادمة التي أخبرته أن الست أخذت إبراهيم وصبري وذهبت إلى بيت والدِها بشارع أبو خودة. ولم يصبر إلى الصباح فذهب إلى أبو خودة ليجد إبراهيم أفندي الوالي وست فاطمة في انتظاره. أي حزنٍ وجَد! قال إبراهيم أفندي: إحسان خير بناتي ولكنها سيئة الحظ.

فقال صادق ليُلطف من حرارة الجو: هي خير النساء جميعًا.

وشرح همه بالتفصيل الضروري. وعلى أي حال رجعت إحسان إلى بيتها في اليوم التالي بصحبة صادق، أما هو فبدأ من فوره في تنفيذ ما عقد العزم عليه، وعرفنا الأخبار في توالدها وتتابعها؛ فقد صارحته ست عيشة بأن ما لديهم من نقود يكفي بالكاد لتجهيز ثياب العروس، فتعهد بتأثيث الشقة الجديدة، وطالبت ليلى بأن تكون الدُّخلة في العطلة الصيفية، واعتذر هو عن عدم إقامة أي احتفالٍ احترامًا لمشاعر زوجه الأولى، وهنا قال طاهر عبيد: عندنا كازينو العائلات بالظاهر.

وقد كان، وتم التعرف بيننا وبين ليلى، وتناولنا عشاء طيبًا، وتجول بهما حمادة في سيارته في خلوات القاهرة ثم رجع بهما إلى العُش الجديد. هكذا وجدَتْ حيوية صديقنا المُتديِّن العفيف إشباعًا مشروعًا، وتمتع صديقنا بعروسه في الليالي المُظلمة على صراخ زمَّارات الإنذارات ودَويِّ المدافع المُضادة. وفي عز الشتاء بغتنا يوم ٤ فبراير بدباباته وعودة الوفد المفاجئة إلى الحكم. ارتفعت الأصوات في قشتمر منَّا ومن سائر الزبائن وتضاربت الأقوال. الناس سعداء لعودة الوفد ولكنهم واجِمون أمام ما يُقال من أنه جاء على دبابات الإنجليز. ولم يتردَّد طاهر عن أن يقول ساخرًا: ألا ترَون أن جميع رجالنا خونة؟!

وقال صادق: من العسير جدًّا أن يتَّهم إنسان مصطفى النحاس بالخيانة، ولكني لا أدري ماذا أقول.

وقال حمادة الحلواني: كل وزارة تجيء فبأمر الإنجليز، فلماذا نتكدَّر إذا توافق أمرهم مع رغبة الشعب؟

أما إسماعيل قدري فلم يفتر حماسُه ولا ساوَرَه شك. لقد شك في كل شيءٍ إلا الوفد. يبدو أمام الأفكار كالفيلسوف، ولكنه أمام الوفد مؤمن بسيط من عامة الشعب المُتحمس، وقال بثقة: لا تشكُّوا في الوفد وشُكُّوا ما شئتم فيما يقال!

وذات ليلة دهمتنا أول غارة حقيقية. استيقظنا على زلزلة القنابل. هذه انفجارات في الأرض تخفق بها بيوتنا وليست طلقات مدافع مُضادة في الهواء، إنه الموت يهدر من حولنا، وهُرعنا لا نلوي على شيءٍ إلى المخابئ. وفي مخبأ واحدٍ اجتمع إسماعيل وأُمه وطاهر ورئيفة ودرية، وصادق وعروسه، وإحسان وإبراهيم وصبري وست زهرانة. حفر الرعب حفائره في صفحات وجوهنا، وتمثَّل لنا الموت في قُربه وعُنفه وصوته. صوَّتَت النساء وصرخ الصغار وتجمَّلْنا نحن بالخرس. ولم تستمر الغارة أكثر من خمس دقائق وربما أقل، ولكننا كنا كالعاجز عن التنفس لغوصه تحت سطح الماء. ولدى أول نفَس نتنفسه في استرخاء وإعياء قال طاهر بصوتٍ متهدج: هل يُقضى علينا بأن نعيش في الخيام؟!

وبعودتي إلى الواقع، ورجوعي إلى الوعي، وجدتني أعيش بين ليلى وإحسان. كلتاهما ترتديان قميص النوم ومُتلفعتان بروب. الشعر مُشعَّث والوجه شاحب. وعلى حين تبدَّت ليلى جميلةً رغم كل شيء، فإن إحسان ذاب جمالها في برميلٍ من الدهن، وخرج صادق من هول الغارة ليجد نفسه في حيرة مُمزَّقة بين أفراد أُسرتَيه المُتباعِدَتَين، ذهب وجاء، وجاء وذهب، وتعلق به إبراهيم وصبري ولاح في وجهه الشاحب الارتباك والحرَج، ولم تُخلِّصه من ورطَتِه إلا زمَّارة الأمان التي دوَّت في سكون الهَزيع الأخير من الليل لتردَّ الناس من الاحتضار إلى الحياة مرة أخرى. وقَسَّم صادق وقته بين أُسرتيه، يقضي يومَين في شقة ليلى ويومَين في شقة إحسان، وكان عليه أن ينتظر طويلًا حتى تخلو حياته العائلية من توتُّرات الغيرة، وأخذ ميزان الحرب يميل لصالح الحلفاء، ومضت أشباح الغارات في التلاشي، وكالعادة أُقيلت وزارة الوفد، واستقرت حياتنا في قشتمر بين الراحة والأسى، وأطل جيل الأبناء إبراهيم وصبري ودرية على البلوغ والمراهقة، ونوه صادق وطاهر الفخوران بتفوُّق الذرية في الدراسة وولعها بالثقافة، ولكن …

– إنهم يشهدون الحياة السياسية في تفسُّخها، ولا انتماء لهم لحزب من الأحزاب.

– لديهم تجمعات جديدة كالإخوان والماركسيين ومصر الفتاة.

– ألسنتهم طويلة وسخريتهم مريرة.

ووضح لنا أن صادق يبذل همته ليخلق من ابنيه رجلَين من رجال الأعمال، أما طاهر فكان يترك دُرية لنموها الذاتي في استقلالٍ تامٍّ قانعًا بالمشاهدة والمساعدة عند الحاجة، وما زال نجاح الصديقَين المميزَين يتأكد في الثراء والفن، وحتى إسماعيل فاز بترقيةٍ إلى الدرجة السابعة في حكم الوفد. غير أن إسماعيل كان يدَّخِر لنا مفاجأة بدت في وقتها آيةً في الغرابة. فذات ليلةٍ أشار إليه حمادة الحلواني وقال ضاحكًا: من سيارتي وفي شارع الجبلاية رأيت هذا الأفندي الداهية مع امرأة يتناجيان!

وصوَّبت إليه الأنظار في اتهام مشوب بالاستطلاع. وقال طاهر عبيد: لا بدَّ من التصرُّف بعد زوال غابة التين الشوكي.

وقال حمادة ضاحكًا: أراهن أنه اختلس المصاحف الأثرية من دار الكتب وباعها.

وسأله صادق مؤنبًا: هل تُمارس حياةً سرية من وراء ظهورنا؟

فقال إسماعيل قدري كالمعتذر: انتظرت حتى تكتمل الرواية لأعرف كيف أحكيها لكم، إنها أرملة وأم عجوز، سكنتا في العمارة الصغيرة القائمة أمام بيتي بشارع حسن عيد.

فقال طاهر: ولكن ليس من عادتك مغازلة السيدات!

فقال إسماعيل ضاحكًا: هي التي بدأت.

– وماذا فعلتَ؟

– استجبْتُ!

فسأله صادق: هل عرفت الحب أخيرًا بعد أن تبوأت عز الرجولة؟

– لا مجال للمبالغة، وكل امرأةٍ لا تخلو من أنوثة!

وسأله طاهر: وماذا تفعل وليس بين يدَيك غابة تين شوكي؟

– لا … لا … إنها سيدة محترمة.

– والحل؟

– بالإشارة التقَينا وذهبنا إلى الجبلاية، هي مقبولة من نواحٍ كثيرة، أسمن قليلًا مما ينبغي، أغمق في سمرتها مما أود، في أنفها فطس خفيف، عيناها نجلاوان، حديثها يقطع بأنها تبحث عن الشرع، وفي تقديري أنها في الأربعين من عمرها.

وتريث قليلًا ثم واصل حديثه: أفهمتها بصراحة أنني على الحديدة!

فقال حمادة: أحسنت، ربما رضِيَت بعلاقة غير شرعية حتى يفرجها ربنا!

– لا … ليست من هذا النوع … ولم أقصر في إعلان إعجابي بها.

– مشكلة!

– كلا … صارحتني بأنها غنية، وأن ما يُهمها حقًّا الأخلاق والإخلاص.

فقال صادق بسرورٍ: صَبرَ ونالَ.

وفرحنا له، واعتبرنا هذه الزيجة المُتوقَّعة أقل ما يستحقه الرجل الذي بشَّرت شخصيته بأعظم النهايات، ولكن ست فتحية عسل والدته لم يمتد بها العمر لتشهد استقراره، توفِّيت فجأة وهي تُحادثه ودون أي عناءٍ كأنها مصباح خمدت بطاريته. وكان إسماعيل قد ألِف الحياة المنظمة في كنفها فاستقبل وحدته بكدَرٍ وانزعاج، وتكرر اللقاء بينه وبين ست تفيدة فتوطدت أواصر المحبة بينهما. وقال لنا مرة: من المؤلم ألا يشارك الرجل في إعداد بيته.

فقال له صادق صفوان مُشجعًا: الزواج أهم من كافة طقوسه.

وعرف أن دخلها لا يقل عن مائة جنيه شهريًّا ففاق الواقع ما تخيَّلناه، بالإضافة إلى مُدخر من المال لا يُستهان به. ولا شك أن المرأة أحبَّته ورغبت مُخلصة في الزواج منه، وتمَّ الاتفاق على شراء حجرة نوم جديدة، والاكتفاء بحجرتَي الاستقبال والسفرة القديمتَين، وفي أثناء الإعداد توفِّيت أم تفيدة، وقال له طاهر مازحًا: إني أتَّهمك بقتلِها ليخلو لك الجو وسأُطالب بتشريح الجثة.

وأُعِدَّ كل شيء، وتأجلت الدخلة إلى ما بعد الأربعين، ورُئي ألا يُقام لها أي احتفال فارتاح لذلك إسماعيل زهدًا منه في حفل لا يستطيع أن ينفق عليه مليمًا من جيبه، وترك إسماعيل البيت الذي وُلِد فيه ليستقرَّ في شقته الجميلة مُستقبِلًا حياته الزوجية، ومن أول يوم قال لنا: أودُّ أن يُعفينا الله من الإنجاب.

ولكن لم يكد يمضي شهر حتى قال لنا: الولية حبلت، وخاب أملي في أن تكون قد فاتت سن الحبل.

ويتقدم الزمن فيتمطى فوق كواهلنا كما تسقط حبات الرمل المتطايرة فوق التلال، وتنتهي الحرب وتنفجر أول قُنبلتَين ذريتَين مُنذِرتَين بمولد عالَمٍ جديد مليء بالرعب، وتتطلع مصر إلى حياة جديدة. ويُعد صادق بين الأغنياء ولكن حياته لم تخلُ من هم. واضح أنه راضٍ جدًّا من الناحية الجنسية، وأن هذه النقطة بالذات هي مدخله إلى الإذعان والصبر، وشكا لنا همه قائلًا: يبدو أن ليلى عاقر، وهذا يُحدث لها سخطًا دفينًا.

فسُئل: ألم تستشر طبيبًا؟

– لما طال الزمن استشرْنا فأكد الظنون وازدادت غمًّا.

وبالتالي لم يستطع أن يدرأ عن صفوه القلق، وأراد أن يهوِّن الأمر عليها، فقال لها إنه لا أهمية لذلك، ولكنها أجابته — وبحدة — أنه أب ولا يُهمه بعد ذلك شيء. واعترف لنا أنها رغم أنوثتها المُفرطة فهي حادة المزاج سريعة الانفعال قاسية اللسان، قال: كأنها تُمارس مهنة التدريس في البيت أيضًا.

وباتت تغار من إحسان وتتصور أنه يتلهف على زيارة بيتها ليسعد بلقاء إبراهيم وصبري.

– الحق أنني أتجنَّب الصدام ما وسعني ذلك.

وأسفنا لهذه الأخبار، وعجبنا لحظ صديقنا الطيب الذي لا يدري كيف ينعم براحة البال، وقال لنا: إنها من النوع الذي يُحب أن يفرض شخصيته على من حوله.

ولما استمرَّت الحال أو ازدادت سوءًا اتهمها بأنها تشعر بأنها مُتقدمة عليه في التعليم، وضايقه ذلك فقال: إنها متعلمة ولكنها ضيقة الأفق، لا ثقافة لها، وجاهلة بالشئون العامة، لا تعرف الفرق بين النحاس وصدقي، ولكنه الغرور.

أدركنا أنه أساء الاختيار، وتصورنا أنها واثقة من رغبته فيها فهي تستغل ذلك استغلالًا سيئًا يدل على سوء التقدير والتصرف، ولكن صاحبنا لم ييأس، فكان يقول لنا: الأيام كفيلة بإصلاح الأخطاء.

ولكنه ينبسط ليلة ويكفهر ليلة. ويضيق صدره فيُروِّح عن نفسه قائلًا: هي أحسن النساء لو هذَّبَت طبعها، لم أُحدثكم عن إسرافها، أُنفق عليها أضعاف ما أُنفق على بيتي الآخر بما فيه التزامات الأولاد، في بيتها طاهية، تريد شراء كل ما يُبهرها في السوق، تُحب أن تزور وأن تُزار، إذا دعوتها بلُطفٍ أن تستقرَّ في بيتها اتهمتني بأني أريد أن أحبسها وأنني رجل بعيد عن العصر، أنا لا يُهمني المصروف، وأرحب بأي مساعدة تُقدمها لأُمِّها، ولكنني لا أشعر بعد ذلك كله بأنني أستحقُّ ولو كلمة شكر.

وسأله طاهر: أما زلت تُحبها؟

فأجاب باستسلام: الحقيقة أني أُحبها.

فقال حمادة الحلواني: أنت تاجر خبير ماهر ولكنك رجل بيت طيب، لم تنكشف طبيعتك مع إحسان هانم لأنها أطيب منك، ولكن الأمر مختلف مع هذه السيدة.

وسأله إسماعيل: ألا تتذكر ما قدَّمته لها عند الزواج؟

– نُسِي كلُّ شيء، وطبعًا لا أفكر أبدًا في تذكيرها به.

فقال حمادة ساخرًا: المرأة مُتكبرة، جاحدة، لا فرق في ذلك بين سيدة وبَغِي.

ويعتبر إقامته في بيت إحسان استراحة بين المتاعب. اعتادت إحسان الحياة الجديدة وربما وجدت فيها راحةً من نوع مُعين يناسبها، إن تكن ثمة متاعب في بيت إحسان فهي تحوم حول إبراهيم وصبري، مع تفوقهما في المرحلة الثانوية يزدادان استقلالًا، وانطلاقًا بعيدًا عن البيت، ويتساءل هو ويتساءل، ويتذكَّر أيامه وأيامَنا حين مُراهقتنا ويسأل الله السلامة. ودعاهما لمصاحبته في صلاة الجمعة في جامع سيدي الكردي فلبَّى صبري وتهرَّب إبراهيم، وتساءل أيضًا من سيخلفه في عمله أو يُعاونه فيه، ولكن المال لم يسحرهما، ولا أسعدهما أن يكون رأفت باشا الزين قريبهما، وكل يومٍ يمضي يتَّضح معه أن إبراهيم يرفض كل شيء، كل حزب وكل هيئة، وأنه لا يُعفي أحدًا من اتهامه، فماذا يريد؟ على الأقل صبري يُعيد لدرجةٍ ما سيرة أبيه في التديُّن، فثمة زمام يمكن أن يقوده منه، وقال له إسماعيل: الولدان ممتازان فاقنع بذلك واسعد.

فتمتم بحرارة: الحمد لله.

ولكن ثمة مشكلة أخرى اعترضت أمنه في بيته الأول تتعلق بصحة إحسان، لاحظ أن بدانتها تمضي ببطءٍ وثبات دون توقف، وأنها تنتفخ بصورة لا تغيب عن عين أحد، بل أخذ نشاطها يقل، وحركتها تثقل، وأحيانًا تجلس فلا تقوم إلا بمعاونة الخادمة، هذا بالرغم من أنها أبعد ما تكون عن الإفراط في الطعام، ويقول صادق: ليلى تأكل ضعفها ولكنها لم تفقد رشاقتها.

وأخيرًا رأى أن يعرضها على طبيبٍ فاكتشف بها خللًا في الغدد ووصف لها الدواء، ولكن الدواء لم يُجْدِ، واتبعَتْ نظامًا قاسيًا في الغذاء دون ثمرة، وساورها القلق على نفسها، وشاركها قلقها من قلبٍ بات يقدرها أكثر من الأول، ولم يرَ بُدًّا من استخدام طاهيةٍ لها مُسلِّمًا أمره إلى الله. وفي تلك الأيام وسَّع من نشاطه المالي فاشترى البيت الذي وُلِد فيه ﺑ «بين الجناين» وبيت إسماعيل قدري بشارع حسن عيد، وهدمهما ليُشيد مكانهما عمارتَين جديدتَين كانتا أول عمارتَين حديثتَين تقومان في العباسية الغربية، ويسهمان في زيادة سكان العباسية والقضاء على ما يتبقى لها من هدوءٍ تقليدي.

حمادة الحلواني يواصل حياته العريضة ولا يكفُّ عن إلقاء أحاديثه المُمتعة التي تُمثل جولاته بين المعارف مُتحررًا من أي التزام. وكم أشفقنا من أن يخطفه الثراء منا فيأنس إلى أناسٍ آخرين وأجواء جديدة ويزهد في العباسية وقشتمر! ولكنه لم يتخلف ليلةً عن قشتمر وأصدقاء طفولته. ولأنه الأعزب الوحيد تعلق قلبه بحرارة بالصداقة وذكريات الماضي، ولم يحظَ بأي تعويضٍ لدى أخيه توفيق للبرود المتبادل بينهما منذ الصغر، واضطُر كذلك للابتعاد عن شقيقته المحبوبة لما ترامى إليه من أن زوجها يتحدث عنه بازدراءٍ باعتباره حشاشًا مُدمنًا، فلم يبقَ لقلبه من مجال يُمارس فيه عواطفه سوى قشتمر وسُمَّاره القدامى، وقد ماتت أُمه عفيفة هانم بدر الدين فيما يُشبه المغامرة؛ إذ كانت أُسرته أول أسرة في العباسية تُركِّب في بعض حجراتها أجهزة تكييف الهواء، وفي يوم اشتدَّ قيظه جلست الهانم أمام التيار البارد تُجفف عرَقها السائل، فأصابها التهاب رئوي، ولما عُولِجت بالبنسلين — الساحر الجديد — تبيَّن أنه يُحدث بها حساسية شديدة ففاضت روحها فجأة، وتلقَّى حمادة حادث الوفاة — في منتصف الحلقة الرابعة كان — برزانةٍ لا تتناسب مع حُبه القديم لأمه. ولما كان أخوه توفيق يُقيم في المعادي وأخته أفكار في الزمالك فقد وجد نفسه يبيت أيامًا في قلعةٍ مكتظة بالخدَم والحشم، وقد يمرُّ أسبوع كامل لا يطؤها بقدم، فمن هنا نشأت فكرة بيع السراي. وتحركت غريزة الملكية والثراء لدى صادق ولكنه خاف أن يبتلع الثمن المطلوب — مائتا ألف من الجنيهات — سيولته المالية، فضلًا عن أنه لا يشتري مثل هذه السراي إلا ليحولها إلى عمائر وهو ما لا يتاح له الآن، فاشتراها عم حسنين صاحب الطابونة، وهدمها وشرع في إقامة أربع عمائر في مكانها، كانت أول سراي داخل العباسية الشرقية تتحول إلى عمائر، وتجذب فيما بعد إلى سكانها أناسًا ما كانوا يحلمون بالوجود في العباسية الشرقية إلا كسيَّاح أو عشاق متسللين، ويزداد ثراء حمادة بنصيبه من ثمن السراي وبما ورثه عن أُمه وهو ما يقارب خمسين ألفًا من الجنيهات. الثراء عادة من عاداته اليومية يكاد يفقد سحره، ونُطلِق عليه عادة: البوق الذي يذيع كل رأي دون أن يكون له رأي، وهو دائمًا وأبدًا القارئ السامع المُشاهد الفاسق الشريب الحشاش، ولكن يغلب عليه الحشيش فيلوح في ثقل نظرته وبطء حركته وشدَّة استهانته. مرة قال له صادق: يا بختك، أنت أسعد الجميع وأصفاهم بالًا.

فحرَّك رأسَه مُعترضًا ولكنه لم ينبس بكلمة، وإذا به يقول لنا ذات ليلة: عندما أستيقظ صباحًا أتساءل: وماذا بعد ذلك؟!

فقال له طاهر عبيد: إذا أتحَفَنا المطرب بنغمة حلوة هتفنا له: أعد … أعد.

فقال بهدوء: أحيانًا لا يرحب القلب بالإعادة!

فسأله صادق باهتمام: هل بدأ الملل يناوشك؟!

فأجاب بسرعة كأنما يدفع عن نفسه تهمة: غير صحيح، ما هي إلَّا حال تمر، ولكن تؤرقني مسألة!

– مسألة؟!

– إن الحياة أخذ وعطاء، أما أنا فآخُذ فقط.

فقال طاهر ساخرًا: ما دام يُوجَد من يُعطي ولا يأخذ فلا بأس أن يُوجَد من يأخذ ولا يعطي.

فقال حمادة بامتعاضٍ: نحن نتقدَّم بسرعة في ذلك الطريق المجهول المُسمَّى بالعمر.

وقال له صادق مواسيًا: ثم إنك تُعطي كما تأخذ وأكثر؛ لا تنسَ ما يأخذه منك المهربون والقوَّادون والمُومِسات ومالك العوامة ومالك شقة خان الخليلي والعديد من البقالين والجزارين وباعة الملابس إلخ إلخ … لا يُوجَد من يأخُذ دون أن يعطي.

ونظر نحو صادق متشككًا تُرى أيجدُّ أم يسخر، وإذا به يصيح: إليكم أول شعرةٍ بيضاء في رءوس شِلَّتِنا المصونة.

إنه يشير إلى رأس صادق، وهذا يقطب ويقول محتجًّا: كلَّا … مستحيل.

ودقَّقنا النظر حتى فرزنا شعرةً في سالفه تختلف عن الشعر الأسود الغزير الناعم، وقام صادق يتفحُّص الموضع المُتهم في مرآة من مرايا الجدار، ثم رجع مُبتسمًا ابتسامةً صفراء وهو يقول: أبي شابٌّ وهو في عزِّ شبابه!

وتساءل طاهر باسمًا: هل تتذكرون كيف التقينا بمدرسة البراموني الأولية؟ كأنما حدث ذاك صباح اليوم!

فقال حمادة بلا مناسبة: قشتمر أيضًا طعن في السن وشاخ، يحتاج إلى طلاءٍ وتجديد في المقاعد والموائد، وترميم في دورة المياه، وحديقته المتواضعة ممكن أن تُضاهي حديقة كازينو العائلات في نضارتها.

فقال إسماعيل قدري: قشتمر أحبُّ إلى نفسي من ركس أو البوديجا.

وتساءل حمادة بلا مناسبةٍ مرةً أخرى: هل حقًّا أن السعادة هي مطلب الإنسان الأخير؟!

طاهر عبيد يُحرز النجاح تِلو النجاح في حياته الشعرية والصحافية ويهيم بحبِّ ابنته دُرية، الحق أنها جميلة جذابة، رشيقة القوام وردية اللون واسعة العينين ذات شعر كستنائي غاية في الثراء. كثيرًا ما نراها في ذهابها أو إيابها من المدرسة الثانوية، وبكل فخارٍ يقول طاهر عنها: ذكية، شجاعة في أفكارها، مُتفوقة في العلوم والرياضة، تُريد أمُّها أن تراها طبيبة.

ويقول باسمًا: أسأل نفسي كثيرًا: ألم تُحب؟! من يا ترى فتى أحلامها؟!

ويسأل حمادة: ماذا تفعل لو صادفتها بصحبة شاب في شارع بين السرايات؟!

فيقهقه ويقول: أعمل مغفلًا وكأنني لا أدري.

ويتساءل صادق صفوان: أليس علينا نحو أولادنا واجب التحذير والإرشاد؟

– أمها تعرف واجبها تمامًا.

وفي ذلك الوقت جمع طاهر قصائده وأصدرها في ديوان عنونه «زائرات الحديقة»، ونال كلٌّ منا هديته وهنأناه من صميم قلوبنا، وقرر حمادة أن نحتفل بالمناسبة في العوامة في ليلة من ليالي العمر، ورحب زملاؤه — وفي مقدمتهم اليساريون — بالديوان، فنشرت عنه المقالات، وظهرت صورته في المجلات، وكثيرًا ما يُثني على رئيفة كست بيت ماهرة، وأم يقظة، زوجة محبة مخلصة ذكية، تعرف كيف تهيئ لزوجها أسباب الراحة والسعادة، ولا شك أنها تغيرت أكثر من المتوقع، فخفَّ وزنها أكثر مما يجب، وظهرت في وجهها أمارات السن، ولكنها ما تزال تُعَد جميلة ورشيقة وفائقة النشاط.

ولكن هموم البلد غطَّت على همومنا الشخصية، فانفجرت الخصومات الحزبية، وامتلأت الساحة بالخصام، حتى قال طاهر لصادق: اعتبرني مثل ابنك إبراهيم رافضًا لكل هذا العك!

على أي حال أصبح فينا — بفضل طاهر — شخصية عامة، تصعد بخُطًى وئيدة إلى النجومية الأدبية. أجل إن صادق صفوان يود أن يعتبر نفسه شخصية عامة بما هو تاجر معروف ومن ذوي الأملاك، ولكن الفن يُضفي على أهله هالةً متفردة. ترى ألم يؤثر ذلك في الأرملاوي باشا وحرمه؟! لم يبدر منهما ما يبشر بذلك. وقد أحيل الباشا إلى المعاش وفتح عيادة للتحاليل الطبية في وسط المدينة، وكل الظواهر تقطع بأنه نسي ابنه تمامًا. أما طاهر فبالإضافة إلى الشعر والترجمة راح يكتب مقالة ساخرة أسبوعية كسبت له المزيد من القراء.

وصار إسماعيل قدري أبًا؛ إذ أنجبت له تفيدة «هبة الله»، وكانت ولادة عسيرة، وتمَّت في المستشفى اليوناني. وفاجأنا ذات ليلة بقوله: سأدرس القانون من المنزل.

وسُررنا بذلك، ووجدنا فيه ما يتناسب مع تفوقه القديم المُتجدد مع الزمن.

وسأله صادق: هل رجعت إلى هدفك القديم؟

– نعم، أنا لا أفرق بين الوطنية وبين الاشتغال بالسياسة.

وانهمرت على ركن قشتمر الأخبار المُثيرة؛ مصرع أحمد ماهر، حرب فلسطين، مصرع النقراشي، الحرب بين إبراهيم عبد الهادي وبين الإخوان، عودة الوفد، حريق القاهرة. كُتب علينا أن نعايش الهموم ونتجرَّع الأحزان ونكظم الغضب أو نزفره سمرًا ونكاتًا ونوادر هزلية. ودخل الأولاد الجامعة وحتى هبة الله دخل الروضة. أما نحن فقد بلغنا الأربعين، تلك العلامة المميزة ذات الطنين الأبدي، بلغ صادق قمة ثرائه، وحمادة الحلواني أدرك الغاية في معالجة الفراغ بالإفراط في الطعام والشراب والمخدر حتى فاق طاهر في وزنه، وبلغ طاهر منزلة فريدة في عالم القلم، أما إسماعيل فقد حصل على الليسانس، فاستقال من عمله في دار الكتب وعمل في مكتب محامٍ وفديٍّ، غير أن أهم الأحداث العائلية جرت في الحريم أو من خلال الأولاد.

ففي بيت صادق صفوان الأول تفاقم مرض إحسان حتى اضطرت إلى ملازمة الفراش عاجزة تمامًا عن الحركة، وظل صادق يرعاها بكل ما في وسعه ولا ينسى، على حد قوله لنا: لم أعرف السعادة الحقيقية إلا بين يديها.

أما زوجه الثانية ليلى حسن فاستمرت في مُلاعبتها الشاذة معه، تُحاوره بين قطبي اللذَّة والألم، حتى تمزَّق تمامًا بين الرغبة في الإبقاء عليها وتمنِّي الخلاص منها. يقول ويُعيد أنه بقدر ما وُهبت من أنوثة بقدر ما أُفعمت بسمِّ العنف، متكبرة على غير أساس كأنما هي المتفضلة، وعند الانفعال ينفث لسانها ألوانًا كريهة من السموم، وهو بدوره لم يعُدْ يسكت فعلمته السبَّ وما يندم على قوله أحيانًا.

ويقول له حمادة الحلواني: حظك في الزواج ليس كحظك في التجارة والمال.

فيقول متحسرًا: كانت بين يدي امرأة ولا كل النساء، يا للخسارة يا إحسان!

واختل عقل ليلى أكثر بسبب عُقمها فإذا بها تقول له ذات يوم: أمِّن لي حياتي بكتابة عمارة باسمي.

يا للمصيبة! .. إنها تفكر فيما بعد موته، وتُذكره بالنهاية التي لا يُحب أن يُذكره أحد بها، واستاء وحنق، وآمن بأنها لا تُفكر إلا في ماله. والواقع أن المال وتوابعه هي ما يستأثر باهتمامها في المقام الأول، وقال لها بصرامة: لله في ذلك شريعة لا أُحب أن أخرج منها.

فصاحت به: اعترف بالحقيقة وهي أنك لا تُحب إلا ابنَيك.

وإذا نشب خلاف بينهما خاصمته، فحتى التحية العابرة تنقطع، وتتبعها المعاشرة، ثم تقضي أكبر وقتها في الخارج.

فقال إسماعيل آسفًا: هذا هو الجحيم.

وقال حمادة: إنها في حاجة إلى من يكبحها.

فقال صادق: ضقت بالحياة، فهل أُطلقها؟

وسادنا صمت لم يخرقه إلا حمادة، قال: الحق أن البُعد عن مثلها غنيمة!

وتساءل صادق: هل فعلتُ ما أستحقُّ عليه عقاب الله؟

تساءل بنبرة المطمئن إلى ورعه وتديُّنه، وتذكَّرنا بعض تصرفاته التجارية مما يُعد في نظر التجارة شطارة وحلالًا ولكن الكثيرين يعتبرونه استغلالًا ضارًّا للناس، ولكننا تغاضَينا عن ذلك وفاءً له ورحمة به، وقال إسماعيل قدري: إذا أردت أن تسعد مع ليلى فأذعن لمشيئتها دون شرط.

فقال بكبرياء: مُستحيل، إنها مثل النار لا تشبع.

فقال الآخر بحزم: إذن فلا محيدَ عن الطلاق.

ووجد أنها لا تكفُّ عن المطالبة بالعمارة، فقال لها بهدوءٍ مخيفٍ: ليلى، الحياة معك لا تُطاق.

فصاحت: هذا ما يؤكده سوء حظي كلَّ يوم.

فقال: إذن ليذهب كل منَّا إلى حال سبيله.

فصاحت بجنون: هذا أجمل ما سمعتُ منك.

وطلق صادق زوجه الثانية قُبيل حريق القاهرة بأيام، وقد غرم لذلك غرامةً لا يُستهان بها، ففازت بالأثاث ونفقة المتعة والنفقة المعتادة، ولكنه قال مُتعزيًا: راحة البال أهم.

ولكنه أدرك في الوقت نفسه أنه رجع إلى عهد الحرمان، وإلى جانب ذلك لم تخلُ حياته من بوارق سعادة، فقد تخرَّج إبراهيم وبعده صبري في كلية الحقوق، والتحق إبراهيم بوظيفة في بنك مصر بعد امتحان أعلن عنه وبسعي أيضًا من رأفت باشا الزين. أما صبري فقد قُبض عليه فيمن قُبض عليهم من الإخوان، وأكد لنا صادق أن ابنه لم ينضم للجماعة ولكنه بدافع من تديُّنه تبرَّع لبناء جامع فعُثر على اسمه في كشف المُتبرعين وعُدَّ من الإخوان، ورغم أنه أُهين وضُرب ولكنه أُفرج عنه، ووقفت فترة الاعتقال عثرة في سبيل توظيفه ولو إلى حين. وثمة مفاجأة سارة سعدنا بها جميعًا لا أسرة صادق وحدَها، فقد صارح إبراهيم أباه برغبته في الزواج من درية كريمة صديقه طاهر، وسعِد صادق بالخبر سعادة كادت تُنسيه همومه ولو إلى حين، وضمن له موافقة الأب على الأقل، وعند ذاك قال له إبراهيم: أنا ودرية مُتفقان تمامًا.

فأُخِذ صادق وتمتم: لقد جاوزت حدودك يا إبراهيم.

فتساءل إبراهيم بدهشة: لماذا يا بابا؟

وصمت صادق طاويًا صدره على تقاليده، وجاءنا مساءً مُنبسط الأسارير على غير عادته في الأيام الأخيرة، ونظر إلى طاهر عبيد بعينَين باسمتَين وقال: يا حضرة الشاعر، محسوبك يطلب القرب منك.

وهزَّنا الخبر هزةً لطيفةً ذكَّرتنا بمرور الأيام، ولكن بأكبر قدْرٍ من الرفق وأقل قدر من الأسى، أما طاهر فضحك عاليًا وقال: لي الشرف يا معلم صادق، من زمن وأنا أتوقع هذا الطلب، ولكنك آخر من يعلم.

وعلت قهقهة فغطَّت على قرقرة النراجيل، والحق أن دُرية بنت ممتازة وقد استهواها فن الرسم فدخلت مدرسة الفنون الجميلة رغم تفوُّقها في العلوم والرياضة، ورغم اعتراض مامتها. ولما أتمت دراستها ألحقها والدها بعمل في مجلة الفكر، وهي تماثل إبراهيم في رفضه الواقع مع شيءٍ من المَيل إلى فلسفة اليسار، ولكن غرامها بفنها فاق كل شيء، وقال حمادة: من حقك أن تفرح وسط أحزانك يا رجل يا طيب، وعليك أن تتزوَّج أيضًا فمثلك لا يطيق حياة العزوبية.

فقال صادق: بل يجب أن أطمئن أولًا على صبري.

وصبري كان يسترد أنفاسه عقب محنته القاسية في الاعتقال، ولمَّا سُدَّ في وجهه باب الوظائف اقترح إسماعيل قدري على أبيه أن يعمل معه في مكتب المحاماة، ولكن صادق حسَّن لابنه أن يفتح له فرعًا في شارع عشرة، تمهيدًا ليحلَّ محله بعد ذلك في تجارته، وحتى لا تُصفَّى التجارة الناجحة بوفاته أو بتقاعُده. وقرر صبري أن يجرب نفسه في المشروع الجديد، وفتح له والده الدكان في شارع عشرة عند نهايته المُطلة على ميدان العباسية، ثم احتفل صادق بدخلة إبراهيم ودُرية بعد أن خصص لهما شقةً في عمارته الجديدة بشارع حسن عيد أمام مسكن إسماعيل قدري، واستأجر طاهر شقةً أخرى في نفس العمارة له ولرئيفة وفرَشها بأثاث جديد يُناسب حالته الجديدة.

وفي أثناء تلك الفترة غير القصيرة تعرض حمادة الحلواني لطوارق خفية مُتسللة من الهم، صار بها في النهاية صاحب مُشكلة، عانى ذلك الحشاش البدين طارئًا جديدًا غير الخمول والذهول، قال لنا ذات ليلة: رغم كل ما يتهيَّأ لي من أسباب الراحة فإنني أضيق بالحياة أحيانًا لحد القرف!

ووجمنا، وطال صمتنا، حتى قطعه صادق بلهجته الوعظية قائلًا: أنت الوحيد بيننا الذي تحيا بلا عمل.

وقال له إسماعيل قدري: حياتك يتمنَّاها كل إنسان كحلم، أما كواقع فهي شيء آخر.

فقال حمادة مُعاندًا: دعونا من المحفوظات، إنها حياة عظيمة، ولكنها تحتاج إلى حلول جريئة.

فقال طاهر عبيد: أفرغ طاقتك المختزنة في نشاط جديد، ما رأيك في الرحلات؟!

عزَّ علينا أن نفقده ولو إلى حين ولكنه كان العلاج المتاح، وقرَّر الرجل أن يقوم برحلات مُتنوعة بادئًا بالداخل، تنقَّل صيفًا بين مواقع الساحل الشمالي، وزار شتاء الأقصر وأسوان، ورجع أحسن حالًا، ولكن ذلك لم يدُم طويلًا، وقال له إسماعيل قدري: قُم برحلاتٍ أُخَر في الخارج.

وهشَّ للاقتراح وعزم على تنفيذه، ولكن التاريخ كان يُعِد لرحلة جديدة في حياة مصر، فاضطر الرجل إلى أن يعدِل عن مشروعه.

وكان طاهر عبيد يتألق كفنان، ويهنأ بأبوَّته إلى أقصى حد، أما كزوجٍ فقد خامرَنا من ناحيته شك. بلغت رئيفة الأربعين أو جاوزتها بقليل، ولكن العمر لم ينل من أحدنا كما نال منها، بل قدَّر بعضنا أنها كانت أكبر ممَّا حدسنا يومَ زواجها. هزلت بدرجةٍ كبيرة جرَّدتها من كافة مزايا الجسد الأنثوي، وبرزت عظام وجهها فتغير شكلها وشحبت صورتها، أجل بقي الحُب القديم كما كان في الظاهر على الأقل، وتبدَّى طاهر كعادته مرحًا ضاحكًا ساخرًا، وتساءلنا: كيف يكون الحال مع الزميلات والمُعجبات؟! وعلى أي حال فإن يكن ثمة وفاء فمرجعه إلى الأخلاق الطيبة لا إلى الغرائز الراضية. وفي تلك الأيام علِم طاهر أن أباه معتكف في فيلا بين السرايات لمرضٍ خطير في المثانة، فأزاح عن صدره عُقَد السنين ومضى إلى الفيلَّا، رجع إليها كهلًا بعد أن غادرها شابًّا في ربيع العمر. وأحدث ظهوره هزة شاملة؛ استقبلته إنصاف هانم بحرارة وقبَّلته، وقادته إلى مخدع الباشا دون استئذان، ورنا إليه الرجل مليًّا وببصرٍ ضعيف، ثم أخرج يدَه المعروقة من تحت الغطاء فتصافحا طويلًا حتى دمعت عينا طاهر، وقال برقة: شد حيلك يا بابا، أرجو أن أُهنئك بالسلامة في المرة القادمة.

فشكره بصوتٍ ضعيف ثم سأله: كيف حال أُسرتك؟

– تود أن تُحييك بنفسها.

فقال بصوت كالهمس: أودُّ أن أراها.

وتمت الزيارة في جوٍّ يعبق برائحة الفناء، الباشا طريح الفراش يطوي الفصل الأخير من حياته الشامخة، والهانم اشتعل شعرها شيبًا وغاض من وجهها ماء الحياة. وصحبته رئيفة ودُرية وإبراهيم، فبعثت دُرية بحيويتها وجمالها انتفاضةً مُنعشة في الجو القاتم، ضمَّتها الهانم إلى صدرها بحنان، وأبقى الباشا يدَها في يدِه طويلًا، ولبثوا في الفيلَّا، حتى تناولوا الغداء، وبعد أيامٍ أسلم الأرملاوي باشا روحه، فرثته الصحف رثاءً لائقًا وودَّعته العباسية في جنازة كبيرة، ودعت إنصاف هانم القللي ابنها وزوجته وحفيدتها وزوجها للإقامة معها في الفيلَّا، ولم يترك الباشا من العقار إلا الفيلَّا وكمية مُحترمة من الأسهم والسَّندَات وقليلًا من المال السائل، ووُزِّعت تركته بين الهانم وطاهر وتحية وهيام. وأصبح لصديقنا صادق صفوان قصران يتردَّد عليهما بين آونة وأخرى، قصر الزين وقصر الأرملاوي، وكان يُسر بذلك دون خفاء.

أما إسماعيل قدري فقد أثبت كفاءةً غير عادية في مكتب المحاماة، وقدَّمه أستاذه إلى نخبة من رجال الوفد، وميَّزته ثقافتُه الشاملة فاحتلَّ منزلةً محترمة في القلوب، وشهد كثيرًا من الندوات في جمعيتَي الشُّبان المسلمين والمسيحيين، واشترك في المناقشات، وبُشِّر بلمعان قريب ولم نشُكَّ في أنه بالِغٌ هدفه طال الزمان أو قصر. ولما جرت انتخابات عام ١٩٥٠ قال له أستاذه: أتنبَّأ لك بأنك ستكون من المرشحين في الانتخابات القادمة!

وعند إلغاء المعاهدة تسنَّمنا ذروة النصر، وعند حريق القاهرة هوَينا إلى الحضيض، وتعاقبت الأحداث وكأنما يُوجهها أبلهٌ أو مجنون، فعلق عليها طاهر عبيد بقوله: ما هذه بدولة ولكنها سيرك هزلي.

ونحن على حالٍ كئيبة من المرارة والسخرية والتقزُّز، هلَّ علينا يوم ٢٣ يوليو كالسحر المُبين، شملتنا صحوة طاغية وتتابعت الحوادث كالأحلام، فرحل الملك والإقطاع والألقاب، وبرز الفقراء والضائعون من القاع فتربعوا على العرش، وأصبح كل مُستحيلٍ مُمكنًا، ولم يعُد لنا من حديثٍ في رُكننا العتيد بقشتمر إلا حديث الحركة المباركة، هُرع صادق إلى قريبه العجوز الزين باشا أو السيد رأفت الزين ليستمدَّ منه الأخبار، وراجع ما تبقى له من وفديةٍ قديمة، ولكنه لم يسعه إلا أن يقول: حقًّا إنها حركة مباركة!

لكن صوته يخونه، وابتسامته تخونه، ونظرة عينَيه تشي بالانقباض والقلق.

ومضى حمادة الحلواني على عادته، ينبهِر يومًا بقرارٍ فيحتدم حماسه وكأنه أحد الضباط الأحرار، ثم تترامى إليه معلومة أو إشاعة فينقلب عدوًّا لدودًا ويقول: ما هم إلَّا عملاء أمريكا!

وأما إسماعيل قدري فقد رحَّب عقله بالأفعال ورفض قلبه أصحابها، لم يتنكَّر لوفديته قط، وساءه التفاف الشعب حول الحركة، واستعرت بين جوانحه معركة بين عقله وقلبه، وقال بصراحة: كان يجب أن يجعلوا من الوفد قاعدةً لهم!

ولا شك أنه وجد آماله الشخصية تُداس تحت أقدام الحركة الغليظة العسكرية. العجيب حقًّا هو حماس طاهر عبيد! لأول مرة في عِشرتنا الطويلة نراه مُتوهجًا متألقًا كالكهرباء، يرقص طربًا ويتغنَّى بالمجد، ويهب قلبه وعقله بلا تحفُّظ، يقول: هذا حلمي الذي لم أعرف تأويلَه إلا اليوم!

ثم بارتياحٍ عميق: ودُرية معي على طول الخط.

وبهذه الروح مضى شِعره ينبض في مجلة الفكر.

وانطلق قطار الثورة من محطةٍ إلى محطة، يُحقق انتصاراتٍ لا حصر لها، ويُذلل العقبات، ويطوي التحديات.

وما زال صادق صفوان يُكابد القلق الذي يأبى أن يفارقه. وشدَّ ما جزع لما حل بأُسرة الزين باشا، فقد التهم الإصلاح الزراعي الجزء الأكبر من أراضي زبيدة هانم، كما توقف نشاط الزين في البورصة، ولم يعُد للأسرة من موردٍ إلا إيجار المُتبقي من الأرض الذي ضمر أيضًا بحكم القوانين الجديدة. وحتى ابنه محمود استقال من السلك السياسي وأقام في إنجلترا مهاجرًا أبديًّا. ويقول صادق: لستُ من الإقطاعيين ولكنني من ذوي الأملاك، وقد يأتي دَورنا، ألا ترَون أن الثورة عدوٌّ سافر للناجحين؟!

دائمًا وأبدًا يشعر بأنه مُطارَد، وأصبح في حيرة وأي حيرة من أرباحه المتصاعدة فيقول: لا أدري ماذا أفعل بمُدخراتي. من الحماقة أن أستثمرها في البناء، ومن الغباء أن أودِعها في البنوك، ومن الجنون أن أُبقيها في بيتي!

وقال لابنه إبراهيم يومًا: لعل بالك قد ارتاح الآن!

ولكن إبراهيم أجابه: ألم تسمع عن استغلال النفوذ؟ ألم تبلُغك أنباء المخابرات؟ ألم تشَم رائحة الفساد؟!

فقال له حانقًا: كأنك تحلم بثورة جديدة، ألا تكفينا ثورة واحدة؟!

وظن صبري يومًا أنه صاحب الثورة باعتباره إخوانيًّا، فلما انقلبت الثورة على الإخوان قُبِضَ عليه فيمن قُبض عليهم وقُدِّم إلى المحاكمة، غير أنه كان من القِلة التي بُرِّئت ساحتها، وفقد ثقته في كل شيء. وفي اللحظة المناسبة هرب إلى السعودية والتحق بعمل مناسب في شركة مقاولات. وقد شقَّ الفراق على صادق وإحسان ولكنه تعزى بأن ابنه وجد في السعودية مستقرًّا وعملًا وأمنًا بعيدًا عن مصر التي أصبح يحكمها — في اعتقاده — قانون الغاب. ورغم همِّه المُقيم وَالَى وليَّ نعمته بِحُبه وإخلاصه وزياراته المُتلاحقة، وكان الباشا القديم قد نيَّف على الثمانين وتدهورت صحته ولزم حجرته، فوهنت ذاكرته وذبلت شعلة اهتمامه بأي شيء، بخلاف زبيدة هانم التي صمدت لتقلب الحظوظ، وعرض صادق عليها أن يُمدَّها بما ينقصها، قال: اسمحي لي أن أردَّ شيئًا من جميلكم الذي لا يُنسى.

وقبلت معونته قائلة: إنك ابني مثل محمود الذي فقدتُه إلى الأبد.

وأخذت السرايات في الاختفاء وحلت مكانها العمائر والسكان الجدُد فتساوت العباسية شرقيُّها وغربيُّها لأول مرة في التاريخ. وذات ليلةٍ أراد حمادة الحلواني أن يُخفف من قلق صادق، فقال له مازحًا: إليك هذا البيت.

ما مضى فات والمؤمَّل غيب
ولك الساعة التي أنت فيها

اتْلُهُ ثلاث مراتٍ قبل غيار الريق!

فقال صادق بفتور: ولكني سأظل أفكر في الفك المفترس!

ولعل حمادة الحلواني أيضًا لم يبرأ خياله من الفك المفترس، ما زال يحتفظ بشقة خان الخليلي والعوامة والسيارة، ولكنه كان يتساءل كثيرًا: ترى ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟ وكلما ناوشته أفكار السوء لَفَّ سيجارةً حتى أصبح يتعاطاه على طول اليوم، مُستمدًّا من سحره استهانةً ولا مبالاة، ويقول ساخرًا: من فضل الثورة أنها تُمدُّنا بعجائب لا يعيش معها الملل.

أو يقول: المسألة واضحة كالشمس، مجموعة من الفقراء ثارت على الأغنياء لتنهب أموالهم وترمي إلى الشعب ببعض الفتات.

وتلقَّى أول إصابة مباشرة حين التأميم، فقد أُمِّم مصنعهم وانقطع دخله الثابت، ولم يهزَّ ذلك ثراءه الواسع، ولكنه ضاعف من مخاوفه كما أكد إدمانه، وقال مُعلقًا وساخرًا: الله يرحمك يا بابا، شدَّ ما أنَّبتني لكسلي .. وأشدتَ بأخي لعلوِّ هِمَّته .. فانظر أيُّنا كان الحكيم.

وقد مرض بكبده وعُولج منه، ولكنه امتنع نهائيًّا عن تعاطي الخمر ولم يكن من عشَّاقها. وحين التأميم بلغ الخمسين من عمره فأخبرنا بأنه لم يعُد ينسجم مع أي امرأةٍ جميلة، وأنه يُدقق في الاختيار ليُحقق لمزاجه ما يريد. ولأول مرة باتت ذاكرته تخونه أحيانًا فجزع لذلك وقال: الموت يبدأ بالذاكرة، وموت الذاكرة أقسى أنواع الموت، ففي قبضته تعيش موتك وأنت حي، وتُرَد وأنت لا تدري إلى الأُمِّية!

ولا شكَّ أن سحابةً من الأسى نشرت جناحَيها فوقه لما حلَّ بأخيه وزوج أخته أفكار الذي كان من كبار الملاك الزراعيين، ولِما جرى على الوفد حزب أبيه، والبطولات التي أطلَّت على الدهر في شموخ والتي تتحول من خلال أبواق الدعاية إلى تلالٍ من الخرائب، وقال: ضايقَني يومًا أنني آخُذ دون أن أُعطي، اليوم أندم على الندم، وخير ما يفعله الإنسان في هذه الأيام أن يُوطِّن نفسه على استقبال الموت، فإذا وقعت شدة وجَدْنا فيه الفرج.

أما إسماعيل قدري فقد عجب لسعي الدهر بينه وبين آماله، كلما ابتسم له المستقبل وثبَتِ الحوادث فطَمَست ابتسامته. ذهب المجد وتولَّى، لكن حظه أفضل من كثيرين من الوفديين الكبار الذين تمزقوا بين الإهانة والسجن، ونشاطه في المحاماة يدرُّ عليه دخلًا لا بأس به، وأسهمه ما تزال في صعودٍ بالإضافة إلى دخل زوجته، ولم يغب عن عقله الموضوعي ما أنجزته الثورة للوطن والشعب حتى يُخيل إليه أحيانًا أنه مواطن في دولة عظمى. أما قلبه فلم ينفتح للثورة أو رجالها، وتابع في كل حين سلبياتها حتى قال لنا يومًا: إنها ثورة ذات أهداف جليلة ولكن القدَر عهد بها إلى شلة من قُطَّاع الطرُق .. ولم يعُد يَجِدُ عزاءً في تفيدة التي بلغت الستِّين حين بلغ الخمسين. ولم تكن تُسلِّم بالواقع أو تستسلم للهزيمة فأنفقت عن سعة على طعامها المختار ورياضتها اليومية، والموضة التي تتنافر مع سنِّها، وتُبالغ في التبرُّج لدرجةٍ تُثير الابتسام. واعترف لنا يومًا قائلًا: هيهات أن أنسى فضلها ولكن رغبتي فيها تموت ساعةً بعد أخرى.

فسأله حمادة الحلواني مازحًا: لعلك تحنُّ من جديد إلى غابة التين الشوكي؟!

الحق أنه ركز اهتمامه الأول على هبة الله الذي جاءت الثورة وهو ابن ستِّ سنوات، ويوشك اليوم أن ينتهي من المرحلة الابتدائية، ويُبشِّر نموه بعملقة في الجسم وقوة الملامح وتفوق في الرياضيات. ويقول إسماعيل ضاحكًا: إنه ابن الثورة مائة في المائة وأنا مُضطر إلى تحمُّله دون تذمُّر، وأتحاشى تصحيح أي معلومةٍ له إيثارًا للسلامة.

ومرةً طرح سؤالًا بلا مناسبة على الإطلاق، قال: للحياة هدف وهذا قد نخلقه بأنفسنا، ولكن للكون أيضًا هدف فما هو؟!

وغرقنا ليلتها في حوارٍ طويلٍ عن هدف الحياة وهدف الكون فنسينا همومنا الشخصية وإلى حين.

ومن بين أفراد مجموعتنا الفانية يبزغ طاهر عبيد كالقمر في تألُّقه وينطلق في طريق النجاح كالشهاب. من أول يومٍ دُعي إلى المشاركة في تحرير مجلة الثورة، لماذا؟ لم يكن من المنافقين ولا أهل الثقة، لكنَّ شِعره الشعبي القديم بشَّر بالثورة قبل أن تُوجَد، وزكَّاه أيضًا أنه عُرف ببُعده عن الأحزاب، وسرعان ما توثَّقت العلاقة بينه وبين الضباط المُتولِّين شئون الثقافة، وهو من ناحيته، وبتلقائيةٍ وإخلاص، كرَّس شِعره للثورة، فما من إنجازٍ أو نصر أو موقف نبض به قلب الثورة إلا وأعطاه المُعادل الشعري في أجمل صورة، ثم سرعان ما يُترجَم إلى غناء تُردِّده الإذاعة والتليفزيون في حينه، وسأله صادق صفوان الذي لا يفيق من القلق: ألا تستطيع بمنزلتك الغالية عندهم أن تدفع عنا البلاء إذا حُمَّ قضاؤه؟!

فضحك عاليًا وقال: لا يدفع ذلك شِعر أو نثر.

وقال حمادة الحلواني بأسفٍ: من المحزن وغير المفهوم أنك مُخلص فيما تقول وتكتب.

وقال إسماعيل قدري بمرارة: شِعر جميل ومضمون زبالة!

ويقول طاهر جادًّا: صدقوني إن مصر لم تعتلِ هذه الذروة منذ عصورها المجيدة كما أنها لم تشهد طيلة تاريخها مثل هذا الرجل المُعجزة، وإنه لعظيم مَن يستطيع منكم أن يعلو فوق خسائره الذاتية ليلحق بركب التاريخ في مسيرته الشامخة.

وفي فيلَّا الباشا الراحل ينشب نزاعٌ ودِّي أحيانًا بينه وبين مامته أو بينه وبين إبراهيم. يقول لإبراهيم: أتنتظر حقًّا ثورة أخرى؟ .. ما أنت إلَّا محترفُ ثورات!

فيقول إبراهيم مُتحديًا طاهر ودرية معًا: لقد تغير المنظر ولكن المُمثلين لم يتغيروا.

– لا تخلو ثورة من انتهازيين ولكن بحسبها أن زعيمها رمز للكمال.

– إنه دكتاتور يا عمي.

– بل إنه المُستبد العادل.

وكانت درية سعيدة رغم فوات عشر سنوات على زواجها دون حبَل، وتجلَّت موهبتها في الرسم إلى جانب فتنتها الشخصية.

وتحسَّنت حال طاهر المادية جدًّا فأتاحت له الفرصة لممارسة ما جُبِل عليه من كرم أو إسراف إذا شئت، فهو على حُبه المال لا يسمح له أبدًا باستعباده.

وجرت الأيام تطير بقومٍ وترزح فوق آخرين. وظل رُكننا بقشتمر عامرًا بوجودنا فلم ننقطِع عنه إلا فترة قصيرة حينما قرَّر صاحب المقهى تجديده؛ غيَّر أرضيته، وطلى الجدران بلونٍ ناصع البياض، وأحل أثاثًا جديدًا مكان القديم، وعُني بالحديقة فزرع الياسمين في أصل سورها وزيَّن أركانها بأُصص الورد والقرنفل، ورمَّم دورة المياه، وابتاع طاقمًا جديدًا من النراجيل، وأضاف إليها وحدتَين، واحدة لتقديم الدَّندُورمة والأخرى — فرن — لتقديم الكوفتة. وكالعادة لا نتخلف عن مجلسنا في رحاب صداقةٍ لا تتغير، ولعل ما ساعدنا على ذلك بقاؤنا في حي العباسية رغم ما طرأ عليه من تقلبات الدهر، فلم ينتقل منها إلا حمادة، ولكن سيارته كانت تحمله إلينا كل مساء، وأبَى أن يستبدل بنا قومًا آخرين. أجل ذهبَت في أدراج التاريخ عباسية الزمان الأول، بالهدوء والخضرة والسرايات والترام الأبيض، وانتشرت العمائر، وقامت الدكاكين على الجانبَين، وفاض الحي بسكَّانه، واكتظت الشوارع بالصبية والسيارات الخاصة والعامة، إنه الزحام والضوضاء والأنفاس المُتلاطمة، ولكن لم يجرِ هجرها لأحدنا في خاطر، ولا تصوَّرنا أنه يمكن السَّمر في غير قشتمر. ولم يبقَ من معارفنا القدامى أحد؛ انتقل إلى الأحياء الأخرى مَن انتقل، وانتقل إلى جوار الله من جاءه الأجل، وازداد شعورنا الحميم بالمودة، ووجدنا في صداقتنا سلوى الوجود وحلاوته، وغلب علينا الاستسلام للواقع، وتخلَّصنا من كثيرٍ من رواسب الماضي، واجتاحنا ما يُشبه النعاس الهنيء والحلم العذب حتى انتفضنا قائمين على صوت انفجارٍ كالبركان في يومٍ من الأيام عجيب اسمه ٥ يونيو، دهشة وتساؤل وتعجب، حيرة وعدم تصديق، ثم دهشة وتساؤل وتعجُّب، تجرُّع لواقع لا مفرَّ منه، كيف؟! .. لا ندري، لماذا؟ .. لا ندري، ثم سيل ينهمِر من الحواديت، وفيضان من النكت، ومُضطرَب بلا حدود لعواطف مُتناقضة، من أقصى الحزن إلى أقصى الفرح، ولكن جرثومة الكآبة استقرت في أعماق كل نفس.

وربما تنفَّس صادق صفوان بارتياح لأول مرة منذ عام ٥٢، خجل أن يعلن ارتياحه، وربما لم يخلُ ارتياحه من كدَر، ولكن فضحته عيناه، وفلتات من تعليقاته، وترديده للنكت المنتشرة كالجراد، وسرعان ما زار رأفت باشا الزين، فلم يجِدْه قد استوعب ما حدث لتماديه في شيخوخةٍ متدهورة، أما زبيدة هانم فأشارت بأصبعها إلى السماء وتمتمت: إنه موجود.

ولكن الباشا لم يُعمر بعد الهزيمة إلا أيامًا ومات إثر أزمةٍ قلبية، ثم تبعته الهانم قبل أن يتمَّ الأربعين، وقريبًا من ذلك التاريخ تُوفِّيت ست زهرانة والدة صادق وشُيِّعت جنازتها من الشقة التي انتقلت إليها بعد أن حوَّل صادق بيتهم إلى عمارة. ولم تنتزع هذه الأحداث صادق من انفعالاته بالحوادث العامة، ولم يعُد يشعر بحرجٍ في الإفصاح عن مشاعره فقال لنا ساخرًا: أسد عليَّ وفي الحروب نعامة!

وبصفةٍ عامة لم يَعُد يخشى الفك المفترس بعد أن نزعت الحرب أنيابه.

وتراوح حمادة الحلواني كعادته بين المُتناقضات؛ ليلة ينوح راثيًا لحال الوطن، ويتألم غاية الألم للكرامة التي تمرَّغت في التراب، وليلة يسبق صادق إلى الشماتة والهزل فيقول: ألم يقُل إنه علَّمنا العزة والكرامة؟ اشبعوا عزَّة وكرامة!

وغضب إسماعيل قدري غضبةً مُجلَّلة بالحزن العميق لما نزل بوطنه الجريح، وراح يُردد بانفعال شديد: لا بدَّ من ردِّ اللطمة بمِثلها على الأقل.

ثم يتساءل في حنق: كيف لم يتلاش نظام الحُكم حتى الآن؟ لو أن هذا الرجل عميل مأجور ما استطاع أن يفعل بنا أكثر ممَّا فعل.

ولكن لم يُصدَم أحد كما صُدِم طاهر عبيد، كأنما جنَّ جنونًا أو مات موتًا، ويتنهَّد هامسًا: ليتني متُّ قبل ذلك.

وأراد حمادة أن يُخفف عنه فقال: ما من أمةٍ يخلو تاريخها من كوارث.

فقال بصوت منهزم: ولكن هذه هي كارثة الكوارث.

فقال مدفوعًا بالشفقة عليه: طالما أننا أحياء فلا مفرَّ من الأمل.

فتساءل في شك: أي أمل؟

– الأمل في الأبناء.

فتساءل في حيرة: أبناء الهزيمة؟

وسأل صادق: هل كفرت بالبطل؟

فصمت مليًّا ثم قال: أعتقد أنه يموت الآن وأنا أموت معه.

وازدادت رغبتنا في التلاقي رغم أنه لم يَعُد يَعدُنا بتسلية صافية، لم يعُد لنا إلا حديث واحد ثقيل، وجبة سياسية حامضة ننام وبقاياها المرة ممتزجة بريقنا، وقلَّ الضحك وربما فزعنا إلى التأمُّل والتفلسف، وينقضي بقية العام ويتبعه العام التالي ونحن نمضي على وتيرةٍ واحدةٍ وندنو من الستين.

وذات ليلة قال لنا صادق صفوان: حدثت زيارة هامة في الدكان، جاءتني جارة مع كريمتها لشراء بعض الأشياء.

فأثار في نفوسنا الخامدة اهتمامًا، وحدسنا وراء الخبر مفاجأة مُمتعة، وتمتم صادق: ست أمونة حمدي وكريمتها سناء إبراهيم.

ولم تخلُ الأسماء من مضامين نعرفها، فست أمونة حمدي مطلقة في الأربعين مقبولة بدرجةٍ لا بأس بها، أما سناء فبنت ثمانية عشر ربيعًا وذات جمالٍ موفور.

وهما يعيشان في كنف الأب — جد الفتاة — عَلي بركات وحرمه ست خديجة علام، وهو موظف على قد حاله، وقال حمادة الحلواني: ست أمونة امرأة مناسبة لرجل في الستين.

فقال صادق رافعًا حاجبَيه: ولكن عيني ثبتت فوق سناء.

فقال إسماعيل قدري: إنها يمكن أن تكون حفيدة لك.

فقال محتجًّا: العمر لا يقاس بالسنين.

فقال طاهر: فارق العمر كبير جدًّا.

– إنها تُذكرني بإحسان في قمة رونقها، تفاحة أمريكاني، حيوية وذكاء.

فقال إسماعيل: كابدت الفشل قبل ذلك مرتَين، وفي كل مرة تواري سوء الحظ وراء الفشل، أما هذه المرة فإنك تمضي باختيارك.

فقال صادق بإشراق: ويجيء الفرجُ من حيث لا تحتسب.

وتساءل طاهر: هل تُرحب الأم وأسرتها بعريس في الستين لصبية في الثامنة عشرة؟!

فقال حمادة: الرجال يوزنون اليوم بالقرش أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، والفتاة تعيش في جوِّ فقر في كَنَف جدها، فعريسنا يعتبر لُقطة.

فقال صادق: خُيِّل إليَّ أن الأم جاءت تعرض نفسها وكريمتها لأختار ما يناسبني.

فقال طاهر: فاخترت ما لا يناسبك.

وقال إسماعيل: اعرف لرجلك قبل الخطو موضعها.

فابتسم صادق ساخرًا وقال: ما أجدر أن نُوجِّه هذه الحكمة لبطل ٥ يونيو، أما أنا فإني واثق من نفسي، طال عذابي مع العزوبة والعفة، والله أعلم بحالي.

ولم يُضع وقتًا، فسعى سعيه، وصادف القبول، وغلب علينا الفتور لحرصنا الأكيد على سعادته وتمنَّينا أن تكذب الظنون، وكعادته قام هو بكافة التكاليف، واختار لمقامه الجديد شقةً في عمارة جديدة بميدان الجيش — ميدان فاروق سابقًا — وبالغ في الكرم ليُغطي على نقصه وليستمتع بحياته تعويضًا لها عما ذاقت من خوف حيال الفك المفترس، وهمس إسماعيل بعد أن خلونا إلى أنفسنا في طريقنا إلى بيوتنا: نحن في زمن اللامعقول فلا تدهشوا لشيء!

وكأنما كان يُمهد بقوله هذا لما طرأ على حياة حمادة الحلواني من تغيُّر غير متوقع، لم يعد يقتصد في شكواه من الفراغ والملل، قال لنا: إليكم صورة صادقة عن حياتي، أنا كرجلٍ يتثاءب بانتظام في انتظار نومٍ لا يجيء.

ويقول مُقطبًا: كل يوم يبدو طويلًا ثقيلًا لا جديد فيه.

وقال وهو يُردد ناظريه بين طاهر وإسماعيل: الضَّجر هو سرطان الروح.

وتساءل صادق: ما جدوى دائرة المعارف إذن؟

فهزَّ منكبيه استهانة وقال: حتى السطول بات سوداويًّا، ولا أجد شيئًا من الراحة إلا في قشتمر.

وفي غمار استعداده للاحتفال ببلوغه الستين فاجأنا بقوله: يا رجال، زوِّجوني ..!

فضحكنا طويلًا، ولكنه قال بجدية: إني أعني ما أقول، زوِّجوني، أريد زوجة!

وصمتنا نُفكر حتى هتف صادق: هذا ما تنبَّأت به.

فقال حمادة: المسألة لا تعدو محاولةً لملء الفراغ.

وقال صادق مؤمِّنًا أو مجاملًا: أنت رجل تعتبر لقطة عند أكرم الأُسَر!

هذا كلام يُقال، أما الحقيقة فإن سمعته السيئة كانت أشهر من ٥ يونيو؛ ما من أسرة إلا وتراه مثالًا للرجلِ المُنحلِّ الحشاش الفاسق، بالإضافة إلى شيخوخته. بنات اليوم غير بنات الزمان الأول، ومن النادر أن تتكرَّر ظروف سناء حرم صديقنا صادق صفوان، وكل واحد منَّا سعى من ناحيته فلم يلقَ إلا الرفض! حتى قال له صادق بطيبته المعهودة: ما رأيك في حماتي؟ .. إنها مقبولة جدًّا وأعتقد أنها توافق.

فقال حمادة ساخرًا: أصوم ثم أفطر على بصلة!

وهيج الرفض المُتكرر غضبه فثار كبرياؤه وقال: المحترفات خير من المصونات!

فوجمنا جميعًا، وقال له صادق: اتَّئِد ولا تُلقِ بنفسك إلى التهلكة.

فقال باستهانة: لم يَخبُرهن مثلي أحد.

وانطلق في طريقه بإصرار فاستأجر شقةً في الزمالك وأثثها حتى جعل منها متحفًا، ودعانا على شهود عرسه على مائدة عشاء في الأوبرج، وجدنا العروس امرأةً في منتصف الحلقة الرابعة، ريانة الجسم، حسنة الوجه، لم يفلح ثوب الزفاف في مداراة ابتذالها، ونطقت نظرة عينَيها الثقيلة بالخبرة والمزاج. قلنا إن حياته المُتحررة ما بين خان الخليلي والعوامة لا تتنافر مع أصله بقدر ما تتنافر معه هذه الحياة الشرعية الزائفة، ولو قامت على الحُب لوجدنا له عذرًا ولكننا تصورنا أنها لم تقم إلا على العناد والكبرياء، أما هو فأكد لنا — في قشتمر — أنها أفضل من الأخريات، وأنها تنحدِر أيضًا من أُسرة طيبة! وما وسعنا إلا أن ندعو له بالتوفيق والسعادة.

وببلوغ إسماعيل قدري الستِّين حقق في المحاماة بمكتبه الذي استقل به نجاحًا مرموقًا، وناهزت تفيدة السبعين فانهزمت أمام العمر واستسلمت للواقع وراحت تُعاني من دوالي الساقين والصداع النصفي. وتخرج هبة الله مهندسًا في الرابعة والعشرين من عمره، وبقلبٍ حطمته الهزيمة وانتكاسة البطل فحقَّق حلمًا راوده من قديمٍ وهو الهجرة، فهاجر إلى السعودية، وجزعت تفيدة ولكن إسماعيل قال لها: لستُ دونك في النكد ولكن لعله يجد في المال عزاء.

ولم يُنسه عمله ولا نجاحه أحزانه السياسية ولا هزيمة وطنه، وانضم إليها ذبول زوجته وهجرة ابنه. ولاحظنا أنه مال في تلك الفترة إلى الحديث عن الروحانيات وعجائب الباراسيكلوجي. حقًّا قد مر بها قديمًا في سياحته الثقافية، كما أن جولات حمادة الثقافية المُتضاربة لم تخلُ منها، ولكن إسماعيل وجد في أقوال المُتصوِّفين سحرًا جديدًا، حام حوله، وثمل به، واتجه نحو قبلته كملاذٍ من لواعج قلبه، وقال صادق ببساطة: اعترف بأنك ترجع إلى الدين.

فقال له متأففًا: لا تُبسِّط الأمور فتفقدها مغزاها.

وقال طاهر عبيد: الليالي حَبالَى بالعجائب، والظاهر أن سلسلة الهزائم لا نهاية لها!

وبدا إسماعيل حائرًا بين كبريائه وحنانه.

أما طاهر عبيد فقد حزن على الزعيم أكثر مما حزن الزعيم على نفسه، وتلا علينا ذات مساء قصيدة رثاء تقطُر حُزنًا ومرارة وسخرية من النفس، ولم يسمع القصيدة أحد سوانا، ولم تعُد الأجهزة تردد أغانيه، فهي أغانٍ لا تُسمَع إلا في جو النصر، واعترف لنا ليلة قائلًا وموجِّهًا حديثه إلى إسماعيل بالذات: زوجتي في حالٍ تفوق في السوء زوجتك.

فقال إسماعيل بمرارة: أعطيَتَا خير ما عندهما.

فقال بقسوة: أصبحت أعافها.

فقال إسماعيل ساخرًا: كل شيءٍ يُعاف في النهاية.

وقال طاهر شِعرًا كثيرًا يفيض يأسًا وحزنًا وتشاؤمًا، وتأثر في بعضه تأثرًا واضحًا بفن العبث، ولم ينشر شيئًا مما يمكن أن يسيء إلى البطل الجريح ولو من بعيد، ويقول أحيانًا قابضًا على أي خيطٍ من الأمل: ها هو يطهر الثورة من سلبياتها ويُعيد بناء الجيش.

فيقول إسماعيل ساخرًا: سيزيف يصعد الجبل من جديد.

لم يَعُد يردُّ على السخرية بعد أن انكسرت نفسه وانهزم كبرياؤه.

ولما رحل الرجل عن دنيانا رحيله المفاجئ تلقى الضربة القاضية، وقال: دعوني أُردِّد مع المؤمنين — ولست منهم — كل شيء هالك إلا وجهه.

ولم يخفِ صادق صفوان فرحه فقال: هذا خبر أمتع من شهر العسل.

وقال حمادة ساخرًا: موته يعتبر من أمجد أعماله.

أما إسماعيل قدري فقال: هرب في الوقت المناسب تاركًا الطوفان لمن يخلفه.

واندمج صادق صفوان في حياته بطمأنينة جديدة، وقال لنا: أنا متفائل بالرئيس الجديد.

وسعد بسناء سعادةً شاملة، وشعر بأنه ملك الدنيا والدِّين، ربما لم تكن سناء بالبساطة التي تمنَّاها، فلم تكن صورة طبق الأصل من إحسان، وكانت حصلت على الثانوية العامة قبل زفافها مباشرة، وفي عز الحب واللهو قالت له: أودُّ أن أكمل دراستي!

فانزعج وقال لها: أنا لم أكمل دراستي بعد البكالوريا إيمانًا مني بالعمل، افعلي مثلي وكرِّسي حياتك لعملك كستِّ بيت.

فقالت برقة: كان حلمي دائمًا أن أكمل دراستي.

– لا معنى لذلك ألبتة.

– كل بنت تفعل ذلك اليوم.

– أهو تقليد أعمى؟!

– أبدًا ولكن للعلم قيمته.

– إنه ليس أهم من كونك زوجة وعلى وشك أن تصيري أمًّا.

فقالت بما اعتبره عنادًا ضايقه: بعض طالبات الجامعات متزوجات.

فقال بحدةٍ غلبت على حُبه وسماحته: لا تتصوري أبدًا أنه يمكن أن أوافق على التحاق زوجتي بالجامعة واختلاطها بالطلبة!

فأصرَّت على التساؤل: ألا تثِق فيَّ؟

– كل الثقة، ولكن كرامتي لا تسمح بذلك.

وخطر له أنها لم توافق على الزواج منه إلا تحت ضغط أهلها وظروفها القاسية، فقال بحزم: ليكن مفهومًا أنني لن أوافق على ذلك.

فلاذت بالصمت مغلوبةً على أمرها، وحاولت فيما بعد أن تُقنعه بإكمال دراستها بالانتساب من الخارج ولكنه لم يرتح لذلك أيضًا، وتذكر ما جرَّه عليه لِينه مع ليلى، فقال بحزم: ولا هذا، وما أوله شرط آخره نور!

أدركنا أن الدرس الذي لقَّنته له ليلى لم يُمحَ من وجدانه، وطاب لنا أن نتخيل صديقنا الدمث وهو يُمثل دور الرجل الأسد، وقال له إسماعيل قدري: في كل خرابة لك عفريت.

فقال بثقة: ولكنني قتلتُ هذا العفريت في قمقمه.

ولم يوافقه أحد منَّا على أسلوبه ولكننا تجنَّبنا تكدير صفوه بمُعارضتنا، وقد أثبتت له أنها ست بيت نشيطة بقدْر ما هي جميلة، وأدركنا أنها تُضحي بآمالها أن ترجع مرةً أخرى إلى ركن الذلِّ في بيت جدِّها، خاصة وأن أباها لم يظهر في الصورة قطُّ بما يقطع بتفاهته أو عدمه، وفي أكثر من مناسبة راح صادق يُنوه بحيويتها ونشاطها ويُرجع الفضل في اكتشاف مزاياها إلى حزمه، وقال: ولم أستطع أن أحول بينها وبين مكتبتي، فوقت فراغها كله تُنفقه في القراءة، ولم أجد في ذلك من بأس، ولكنها قالت لي مرة: إن المعرفة أهم من المال نفسه، ولم أرتح لقولها، ولولا الحياء لذكَّرتُها بما قدَّمه لها مالي مما يعجز عنه علم الدنيا والآخرة، وقلت لها: إن رجل المال أهم رجل في المجتمع، وأن كثيرين من المُثقفين يعجزون عن إسعاد زوجة، بل ربما عن الزواج أصلًا.

وضحك حمادة الحلواني وقال ساخرًا: ما أعجب أن تُعاشرنا العمر كله، ويكون لك هذا الرأي!

فقال بنبرة الخبرة والحكمة: للنساء لغة خاصة لا يجوز التحدُّث إليهن بسواها.

وبقدر ما تمنَّينا له السعادة بقدر ما ساورنا الشك في توفيقه حتى النهاية. وأنجبت له سناء بِكريتها نُهَى فأُفعم قلبُه بالسعادة والدفء.

ويمضي بنا الزمن، نطوي كل يوم خطوة في الحلقة السابعة. من عجبٍ أن صحتنا تنافس همومنا في قوتها، وعصر الزعيم الثاني عامرٌ أيضًا بالمفاجآت؛ فهو عصر المنابر والنصر والسلام والانفتاح وعصر أكبر درجات سجَّلها الفساد في تماديه واستفحاله، ولا نكاد نفطن إلى ما طرأ علينا من تغيُّر إلا أن نطَّلع لمناسبة على صورة قديمة فنُقارن ذاهِلين بين ما كنَّا وما نكون، ونزداد التصاقًا ومودة، ويُمسي قشتمر عضوًا فينا كما نُمسي ركنًا فيه، ونتبادل النظرات ونتذكَّر الراحِلين ونعرف أن يومنا سيجيء.

ويقول صادق صفوان ذات ليلة: يا لها من حياة! إبراهيم ابني يرفض فيمن يرفض الأغنياء، وزوجتي لا تضع المال في موضعه اللائق به. ألا يعكس ذلك شعورهما الخفي نحوي؟!

إنه لا يخلو من همٍّ وكرب، شدَّ ما سعِد بنصر أكتوبر ثم بالسلام مع إسرائيل وبالاتجاه نحو الديمقراطية، ولكنه لا يخلو من همٍّ وكرب، وحاول إسماعيل قدري التسرية عنه فقال: لا تقلق فإن البنوَّة والزوجية أقوى من التفلسُف.

وقال حمادة الحلواني: ثم إنَّنا في زمن المال وأصحاب الملايين.

فقال صادق: وأين نحن من هؤلاء؟! ما أنا إلا غني كلاسيكي من الفئة التي يجرفها العصر نحو الفقر.

ونُردِّد بعضًا مما يُقال عن الصفقات والإثراء الخيالي، وفي ذلك الوقت فنيت أسرة زوجته، فرحل علي بركات الجد فسِت خديجة الجدة ثم ست أمونة حماته، وفي سن الرابعة التحقت نُهى بالروضة وإذا به يشغل نفسه ويشغلنا بوافدٍ جديد فيسألنا يومًا: ما معلوماتكم عن المقويات؟!

وكان لا بد أن نبتسم وأن يتورَّد وجهه، ولكنه قال: ليس الأمر مزاحًا.

شعرنا بذلك تمامًا، وهنا قال إسماعيل قدري: عليك بالأخصائيين، هذه هي النصيحة.

وشاركناه قلقه الذي لم يُفصح عنه مباشرة، وحدث أن انتقلت إحسان إلى رحمة الله، فحزن عليها حزنًا صادقًا، يقول: أكمل النساء، لولا مرضها الثقيل لحَظِيتُ بين يدَيها بسعادة لم يعرفها بشر.

ويقول: أشد أنواع الغربة هو ما تشعُر به في وطنك.

أو يقول: لعن الله العصر، إنه يخطف أقرب الناس إلينا ويُحولهم إلى أعداء لنا .. والحقيقة يا أصدقائي أنكم أغلى ما في الوجود.

وهو أول من عرف المرض منَّا، فأصابه روماتيزم مِفصلي فظيع الألم، فتردَّد على الأطباء، واعتاد الدواء، وغيَّر من عاداته الغذائية .. ولكنه كان يقول: الحمد لله على الإيمان، إنه النعيم في الدنيا والآخرة، كلما تنغَّص عليَّ صفو أو حزَبَ ألَم أو جحد قريب، أو .. أو، كلما طاف بي شيء من ذلك تذكَّرت الله سبحانه ولُذتُ برحابه وسلَّمتُ له أمري فيُلهمني الصبر والرضا.

ختام حسن، أو لا بأس به، لولا القنبلة التي فجَّرها تحت أقدامنا حمادة الحلواني، إذ قال لنا فور قدومه: يا جماعة، وأنا قادم بالسيارة لمحتُ حرم صادق في النافذة تتبادل إشارة مُريبة مع جارٍ شابٍّ في العمارة المجاورة!

تلقَّينا الخبر كأسوأ داهيةٍ تنقضُّ علينا من عالَم الغيب، تبادلنا نظرات حيرة، بل استغاثة، متسائِلة مُلِحَّة، مثقلة بالكرب، وخرسنا حينًا حتى قال طاهر: لعلك أخطأتَ الرؤية أو التفسير!

فقال بوجومٍ شديدٍ: أنا على يقينٍ مما قلت، فكروا قبل أن يحضر.

فقال طاهر: الأمر خطير جدًّا.

فقال حمادة: علينا أن نتَّخِذ قرارًا.

فقال طاهر: لا بدَّ من اليقين.

فقال حمادة: أنا على يقين.

ولُذْنا بأثقل صمتٍ حتى قال حمادة: علينا أن نُخبره.

فقال طاهر: ربما دمَّرناه.

– هل نُخفي عنه ما نعلم؟

فقال إسماعيل: لا مفرَّ مِن أن يعرف بطريقةٍ أو بأخرى.

فقال طاهر: قد تدفعه الفضيحة إلى ارتكاب جريمة.

وتبادلنا النظرات طويلًا حتى تساءل حمادة: ما هو الصواب في نظركم؟

– أن يعلم وأن ينتهي الموضوع بلا مضاعفات خطيرة.

وقال إسماعيل: الخطأ لا يمكن أن يستمرَّ إلى الأبد، لا بدَّ من نهاية.

وقال حمادة: ليس في وسعنا أن نُخفي عنه.

وقال إسماعيل قدري: دعوا الأمر لي.

ولما جاء صادق صفوان، مضى به إلى الحديقة، كنا في أواخر الخريف وكانت خالية، وغابا ساعة مرَّت علينا أثقلَ من دهر، ثم رجعا صامِتَين واتَّخذا مجلسيهما. يا لصورة الإنسان الكريم عند الهزيمة! وتشاورنا في الأمر حتى احتوَينا بالتشاور انفعالاته، وطلب مهلةً ليُراقب الموضوع من بُعد. ومرَّت أيام ثم لما جاءنا في ميعاده سأَلَنا: ماذا تقترحون؟

فقال إسماعيل قدري: إليك حلٌّ يتوافق مع حكمتك وتقواك؛ الطلاق لا مفر منه، وعليك أن تحتفظ بنُهَى، وأيضًا لا يجوز أن تترك الأخرى فريسةً لفقرها، وإذن فالاتفاق خير من المحكمة، استأجر لها شقة وأجْرِ عليها رزقًا إكرامًا لابنتها، وأُكرِّر؛ فإن هذا ما يتوافق مع تقواك.

وأعتقد أنه بذل جهدًا جبارًا لكبح رغبته في التأديب أو الانتقام، ولكنه فعل الصواب الذي لم يفعله أحد سواه من قبل، طلَّقها، حفظ كرامتها، احتفظ بنُهَى سادلًا الستار على مأساته، ورجع إلى وحدته ولكنها لم تكن مُطْلَقَة هذه المرة، فعلى كثبٍ منه نُهى ومُربيتها، وفضلًا عن ذلك فبفضل السنِّ والمرض لم يَعُد يُكابد الحرمان القديم، وجاءه نفر يعرضون عليه شراء دُكانه لتحويلها إلى بوتيك من بوتيكات الانفتاح، فتمتم: لم يثبت معي إلى النهاية إلا الدكان وقشتمر.

فقال له حمادة: لو كنت مكانك لقبلت الصفقة؛ المبلغ خيالي، وأنت آن لك أن تستريح.

واختلفنا .. ولكنه قال: لن يَخلُفني أحد في عملي، إبراهيم له دُنياه، وصبري تأقلم حيث يقيم، وحتى متى أعمل من الصباح حتى المساء؟!

وباع دكانه، وتفرغ لتربية نُهى، ومهادنة الروماتيزم، وقراءة القرآن والحديث، وأدَّى فريضة الحج، ولكن ظلَّ رُكننا بقشتمر قُرَّة عينه.

حمادة الحلواني أيضًا كان ممَّن سعدوا بنصر أكتوبر وممَّن رحَّبوا بالسلام، ولكن في هدوءٍ رصينٍ وما يُشبه البوذية. وقد باء زواجُه بالفشل فاعترف بذلك وهو يستمتع بشهر العسل. وتلوح في عينَيه أحيانًا ابتسامة وكأنما يتساءل «ماذا فعلت بنفسي؟» والحق أنه لم يشعر بتغيير حقيقي في علاقته بالجنس الآخر، ولم تُغيِّر زوجته من سلوك المرأة المحترفة؛ ظلَّت عشيقة لا زوجة، تُعنَى ليل نهار بتبرُّجها، وتمارس عاداتها المستقرة في تعاطي الخمر والحشيش، وتتجاهل واجباتها المنزلية عدا إلقاء الأوامر للخدَم، ولا تَكُف عن مطالبها المالية، ومضت في طريقها من أول يومٍ وبلا تدرُّج، وأمَل في التغيير عندما حبلت ولكن الجنين مات في بطنها واقتضت الحال جراحةً وإزعاجًا دون جدوى، وبثَّنا شكواه قائلًا: لا حوار بيننا خارج الفراش، قد أسمع ولكنني لا أجد ما أقوله.

وتضاعف شعوره بالوحدة والملل وتمنَّى دائمًا أن تغيب عن المسكن الجميل لأي سبب، فالوحدة بدونها أخفُّ على القلب.

توقعنا أن نسمع عن الطلاق في أقرب فرصة، وسأله صادق صفوان: أهي شريرة؟

فتفكر مليًّا ثم قال: إنها تافهة، لم تسنح فرصة لإظهار شرِّها، إنها تافهة، الاحتراف يقتُل الإنسانية في قلب المرأة، وفي هذا تكمُن التعاسة الحقيقية.

وسأله صادق بنبرةٍ حزينةٍ: وماذا تنوي أن تفعل؟

فقال ضاحكًا: الطلاق طبعًا.

وبعد صمتٍ قصيرٍ واصَل حديثه: ولكن الأمر ليس سهلًا، ولن يتمَّ إلا من خلال معركةٍ عنيفة، فضيحة وجرسة ومَحكمة وابتزاز، لن تتورَّع عن الاشتباك معي أو التعرُّض لي في الطريق.

فقال طاهر عبيد: قلت يومًا إن المحترفات أفضل من المصونات.

– دعنا مما قلت، ستحاول أن تخرج بأكبر ربح.

فقال صادق: اشترِ راحة بالك.

هذا ما صمَّم عليه، وبدأ بإعلان فتوره، ولم يكن اعتاد على الصبر على الكدَر، وراحت ترميه بنظراتٍ مؤنِّبة مُتحدية، وأخيرًا صارحها قائلًا: الظاهر أنني لم أُخلَق للحياة الزوجية.

فتساءلت بقِحَة: تزوَّجتني للتجربة؟

فقال برقة: على خير ننفصل مثلما اجتمعنا، أرجو أن تغفري لي خطئي.

فسال لسانها بأقوالٍ بذيئةٍ، ولاذ بالصمت والصبر، وعرض عليها أن يبحثا عن اتفاقٍ يرضي الطرفَين بعيدًا عن المحكمة، طالبت بمائة ألف جنيه، فآثر الاحتكام إلى حُكم القضاء، وبعد نزاع وأخذٍ وردٍّ رضيت برُبع المبلغ، وقال لنا: إنها خسارة فادحة في هذا الزمن المجنون، لا قيمة لثروتي اليوم، والغلاء يحرق الأخضر واليابس، إني أدفع أربعين جنيهًا أو خمسين ثمنًا للقرش الذي كنت أشتريه بخمسين قرشًا! ولكن الملل يعتبر رحمة بالقياس إلى مُعاشرة محترفة تافهة.

فقال له إسماعيل قدري مُعزيًا: على أي حال إذا أردتَ أن تتزوج زواجًا حقيقيًّا …

فقاطعه بشراسة: توبة!

واعتبر رجوعه إلى الحياة التي سبق أن ضاق بها غُنمًا وأي غنم. وحدث أن انقطع عن قشتمر على غير عادةٍ سابقة، مرَّت ليلة ولحقت بها أخرى، فذهب الأصدقاء يتحرَّون عن سرِّ غيابه في مظانِّه ما بين خان الخليلي والعوامة وشقة الزمالك، وعرفنا الحقيقة المُزعجة، وهي أنه يُعالَج في مستشفى المعادي على إثر ذبحةٍ صدرية دهمته، وقصدنا المستشفى ونحن من القلق في نهاية، واستقبلنا هناك أخوه توفيق وشقيقته أفكار فأهديا إلينا السلام والطمأنينة بأنه عبر الخطر ولكنه ممنوع من الزيارة بضعةَ أيام، وقد صار توفيق صورةً من يسري باشا في آخر أيَّامه، أما أفكار فتبدَّت عجوزًا عجفاء مسحاء مُكرمشة الوجه كأن لم يجلس الجمال يومًا على عرش كينونتها ويتيه ويتحكم، وتمتم طاهر عبيد: ما أكثر الأردية التي يلفعنا بها الدهر.

ولما اجتمعنا به بعد يومَين سُرَّ بوجودنا حوله سرورًا طفح به وجهه الذابل، وحدَّثنا عن الذبحة فقال: حضورها وحشيٌّ مُرعب، فإذا مرَّت استرد الإنسان طبيعته وكأنه لم يكن على مبعدة قيراط من الموت.

وقال إنه كان وحده في غاية من السطل، وقام ليتناول عشاءه في تلك الساعة المُتأخرة من الليل عندما اشتعل مسٌّ كهربائي في أعلى صدره، وعصره الألم عصرًا وأوشك أن يختنقَ فتأوَّه وصرخ وانطرح على الأرض يتقلَّب على الجنبَين، واتصل الخادم ببيت شقيقه فجاءه بصحبة طبيبٍ صديق ثم نقلوه إلى المستشفى.

وغادر المستشفى بعد ثلاثة أسابيع ورجع إلى قشتمر ليملأ مكانه الذي لا يملؤه سواه. وطرق بابه الدواء والرجيم. قال: يريدون سلب اللذَّة الباقية لي في الحياة.

فقال صادق صفوان: أيضًا للروماتيزم رجيم خاص وللضرورة أحكام.

فقال حمادة: ولكن الحياة إما أن تكون حياةً أو لا تكون.

وتبيَّن لنا فيما بعد أنه يواظب على تناول الدواء، أما الرجيم فتخطَّاه كأن لم يكن، استمسك بعاداته الغذائية بكلِّ جرأةٍ واستهانة، ولم يمتنع عن الكيف ولم يُقلل منه، وخاطبناه بلسان الوعظ فأمطرَنا بسخرياته حتى سأله طاهر عبيد: هل قررتَ الانتحار؟

فقال ضاحكًا: قررتُ ألَّا أتهاون في حُب الحياة.

حتى النساء لم يقلع عنهن تمامًا، يستضيفهن ولو مرة في الشهر. وسأله صادق باسمًا: ألا تُعفيك السنُّ من هذا الواجب؟

فقهقه قائلًا: لكلِّ حالٍ ما يناسبها!

أما طاهر عبيد فقد وجد نفسه تحت حُكم الزعيم الثاني في عالمٍ غريبٍ كريهٍ لا يُحتمل، وأساء به الظن منذ أول ساعةٍ وعدَّه عميلًا لجميع القوى الرجعية في الداخل والخارج، وما لبث أن عُزل من رئاسة تحرير الفكر دون أن يُفصَل من المجلة، فغضب وغضبنا معه وامتنع عن الكتابة فلم يهتمَّ به أحد، ولم يظهر له أثر في أي جهاز من أجهزة الإعلام. ولما حدث النصر العظيم تلقَّاه بفتورٍ غريب، وراح يُرجع جذوره إلى البطل الراحل، إنه الوحيد في شلتنا الذي عبد الراحل في حياته وقدَّس ذكراه بعد مماته، ولولا صداقتنا العجيبة لربما ضاق بنا وانصرف عنا، ولكنه أبقى علينا وصمد لنا يَلقى الجدَّ بالجد والهزل بالهزل، واقتصر نشاطه في تلك الفترة على نشر بعض القصائد في المجلات العربية التي تصدُر في الخارج. ولما جاوز الستِّين بقليلٍ صادفته تجربة جديدة لم تجرِ لأحدٍ في تقدير؛ في ذلك الوقت عرف مُحررةً جديدة تُدعى أنوار بدران التحقت بالفكر، وضح أنها كانت من قُرائه وأن إعجابها بشِعره فاق كل أحلامه، وقد زارته مراتٍ في قشتمر وتعرفت إلينا، وعرفنا أنها خريجة آداب قسم اللغة الإنجليزية، ووجدناها غاية في الذكاء وعلى قدْرٍ عظيم من الثقافة بالقياس إلى زمانها وعمرها البالغ خمسة وعشرين عامًا، سمراء رشيقة عادية المَلاحة صغيرة العينَين وبأنفها فطس خفيف ولكنها في الجملة جذابة، ومن واقع الملاحظة الدقيقة سأله إسماعيل قدري ذات ليلة: هل تُحب تلميذتك؟

فأجاب بإيجاز وصراحة: نعم.

فتساءل حمادة الحلواني: هل اللعب على الطريقة العصرية ممكن؟

فأجاب طاهر: ولكن عاطفتي جادة!

فقال صادق صفوان: ظننتُك أحببتَ بما فيه الكفاية.

– ليس للحب قانون!

– ورئيفة؟!

– انتهت من زمنٍ غير قصير.

فقال إسماعيل قدري ضاحكًا: شلتنا تستحقُّ أن يُخصَّص لها فصلٌ في كتب الجنس!

فقال طاهر مُستسلمًا: الحذَر لا يُنجِي من القدر!

ومن الغريب أنه في ذلك الوقت حملت ابنته درية لأول مرةٍ منذ زواجها، حملت بعد أن قاربت الأربعين، وبعد أن يئست من الحمل واستشارة الأطباء، وبدلًا من أن ينتظر طاهر حفيده في وقارٍ مناسب أسلم نفسه للحب. وجاءنا ذات ليلة ثملًا بفرحة شاملة لم تُر عليه منذ زمنٍ طويل، وقال لنا قبل أن يطلُب القهوة: سنتزوَّج!

ولم يسعنا إلَّا إزجاء التهاني، وسأله صادق: ورئيفة؟

فمط شفته السُّفلى، وقال: كان لا بدَّ من المصارحة، موقف عسير ومؤلِم ولكني مُتعود على مواجهة التحديات، وهي مُوقِنة من أنها لم تَعُد تملك ما تعطيه .. وطمأنتُها من أول الأمر بأنها ستبقى في بيتها مُعزَّزة مُكرَّمة.

وصمت قليلًا ثم قال في حياء وتأثُّر: قالت لي بهدوءٍ ولكن بصوتٍ مُتهدِّج وعينَين شارقَتَين بالدمع «تقبل رثائي ولكن ما باليد حيلة.» فقلت لها «أنا مقتنع بأنني مُخطئ»، فقالت: «لا شك في ذلك، أوتيتَ حكمةً كبيرة في وقتٍ لم تكن في حاجة مُلحَّة إليها، وفقدتَها في ساعة الحاجة إليها، ربنا معك.»

تخيَّلنا بأسى شديدٍ الزوجةَ التعيسة التي هجرها زوجها بعد أن تنكَّر لها زمانها وتركها نفاية. وقال صادق صفوان: لا شك أنها تتجرَّع من المرارة ما لا يتصوَّره أحد، رأيتُ إحسان في حالٍ مثلها رغم وضوح عذري وقوته.

لكن السعادة استخفته وجرفت في طريقها المشاعر المتردِّدة. يبدو أحيانًا كطفلٍ بريء فيُذكرنا بأيام نصره الخيالية، وقال لنا على سبيل الاعتذار: لا يُوجَد في دُنيانا شيء صحيح سليم، فلماذا أُطالب أنا بذلك؟

ولأول مرة تُخالفه دُرية وتُدِين قراره، قالت له: بابا، ما كنتُ أتصوَّر.

فقال لها باسمًا: إنه شيءٌ طبيعيٌّ ويحدُث كل يوم.

فقالت برقة: وماما؟ نحن مُطالبون بالوفاء وهو جميل كالحب.

أعاد علينا حوارها بفخارٍ خفي، ولكنه مضى في سبيله باندفاعه المعروف عنه منذ قديم، وقال لنا كالمعتذر: الحب هو الحب، ولدى حضوره تتلاشى القوى المُضادة جميعًا في غمضة عين.

وواجهته — وهو يبحث عن عش الزوجية الجديد — مشكلة لم نعرفها في زماننا الأول وهي العثور على شقة، ولكن حلها لم يكن مُستعصيًا، فبعد تعبٍ غير قليل وجد شقةً في الجيزة بإيجار حديث مرتفع وبلا خلو، واستقبل حياته الجديدة كأنما يدخل دنيا لأول مرة، ولم تسعده أنوار بالحب وحده ولكنها أنعشته بذكائها وصداقتها وعشقها الصادق للثقافة، بالإضافة إلى تذوقها العميق لشِعره، قال لنا ذات ليلة: إنها تصلح أن تكون عضوًا في مجلسنا هذا!

وقررت تأجيل الحمل فسرَّه ذلك جدًّا، ولكنه لم يعرف لها انتماءً سياسيًّا، فهي تسمع وتقرأ ولا تُصدِّق ولا تهتم، ويتركز وعيُها في الشعر ونقده ومحاولة قرضه أحيانًا، ولما باح لها بناصريته قالت له: لن تعثر على جدية حقيقية إلَّا في التيار الديني.

فسألها مُنزعجًا: أهذا إعجاب؟

– أبدًا، إنهم وحدهم يقفون على أرضٍ صلبةٍ في محيطٍ يمور بالاضطراب والفساد.

فسألها وهو يزداد قلقًا: هل يلوح لكِ أمل من ناحيتهم؟

– أبدًا.

ثم متسائلة: لماذا لا تُهاجر؟ .. الغلاء يتمادى يومًا بعد يوم، وفي الخارج توجد فرص رائعة.

– لم تنعدم كل الفرص في الداخل، ها هي مسارح القطاع الخاص تطلب منِّي أغاني واستعراضات.

فهتفت: كيف تستهين بسُمعتك وترضى بالهبوط؟!

وقلنا له صراحة إنه ليس من الحكمة في شيء أن يفكر إنسان في الهجرة وهو يقترب من منتصف الحلقة السابعة، وقال له صادق صفوان: تلبيتك لطلبات القطاع الخاص ستمدُّه بأسبابٍ للارتفاع!

والواقع أنه استجاب لمُغريات القطاع الخاص تحت ضغط ظروف المعيشة وارتفاع الأسعار ومسئوليته في الإنفاق على بيتَين، وبذل أقصى ما يملك من مهارةٍ ليتجنب الهبوط ولكنه شعَر بأن صورته المثالية قد اهتزَّت في عينَي أنوار. وازدادت أرباحه ولكن لاحت في عينيه نظرة شاردة أنذرت بما وراءها وبرَّرت مخاوفنا. وتوقَّعنا مع جرَيان الزمن أن تعزف الرباب أنغام الأسى التي ألِفنا سماعها من صادق وحمادة. وحملت أنوار في أثناء ذلك مختارة، ولكنها كابدَت ولادة متعسرة وأنجبت طفلة ميتة، وقال لنا طاهر: ليس هذا فحسب، ولكنها اقتنعت أخيرًا بأنها لن تكون شاعرة وكفَّت عن المحاولة.

على أيِّ حالٍ فإنها تتقدم كناقدة، وما زال بوسعها أن تحمل من جديد وأن تلِد ثمرةً حية رائعة. وغلب على طاهر تذكُّر ماضيه المضيء في ظل حاضره، فتضاعف همُّه وقلقه، وبدا كأنه يفيق من سحرٍ عشقه وأنه لا يجد في قبضته إلا هواء. وفي ذات ليلة اعترف لنا بصراحته المعهودة قائلًا: انتهى صاحبكم!

تطلَّعنا إليه مُتسائلين عما يعني فقال: استقلَّ كلٌّ منا بحجرةٍ منفردة.

ثم بصوتٍ هامسٍ: ما زالت العلاقة بيننا كأحسن ما يكون.

وعُرض على أنوار عمل في مجلة عربية تصدر في لندن، وشعر برغبتها في السفر، فضلًا عن أنه لم يجد مُبررًا للرفض. ولعلَّ صادق صفوان كان الوحيد بيننا الذي قال له: هذا وضع غير لائق.

ورجع طاهر إلى شارع السرايات ليُقيم من جديد مع رئيفة ودرية وإبراهيم وحفيدته الجديدة نبيلة، واندفع في ميدان الفن السهل بعيدًا عن أنوار التي عذَّبته فترةً كأنها ضميره الغائب، وكان قد أحيل على المعاش ولكن المال جرى بين يدَيه في فيضٍ ويُسرٍ حتى قال لنا ساخرًا: أصبحتُ من أغنياء الانفتاح.

ولكنه في أعماقه حزين حزين، يُطارده الشعور بالسقوط، وسألَنا مرة: ما أعذب أمل في حياتي؟

فأجابه حمادة ساخرًا: أن يموت الزعيم أو يقتل!

ولكنه أجاب نفسه قائلًا: إنه الموت، إني أودُّ الموت وأستجديه.

وسكت حتى انتهت احتجاجاتُنا، ثم قال: لولا درية، أو لولا درية ونبيلة لانتحرت، يمنعني حبي لهما وخجلي منهما.

فقال له إسماعيل قدري: سيبقى شِعرك القديم شامخًا ويغفر لك ما تأخر.

وقال صادق صفوان: وهل من الإجرام أن يدفع إنسان عن نفسه غائلة الجوع والفقر؟!

وتردَّد قليلًا، ثم قال بصراحته الطيبة: وكيف تعد أعمالك الأخيرة هابطة؟! إنها في نظري كأعمالك الأولى في جمالها إن لم تزد!

وكابد وهو يقترب من السبعين اضطرابًا في البول غير حميد، فاكتشف الأطباء خللًا في البروستاتا، ووصفوا له علاجًا كتجربةٍ فإن لم تفلح فلا مناص من الجراحة، واستقبل المرض باستهانةٍ ظاهرة، وتمتم برجاء: لعلها النهاية.

وذات ليلة ونحن راجعون من السهرة قال صادق: ما رأيكم؟ إني أفكر في أن أقترح على طاهر تطليق زوجته أنوار؟

فسأله إسماعيل عن السبب فقال: إن لم يُبادر هو فستسبقه إلى ذلك وتُضاعف من شُجُونه، هل تتصوَّرون أن تعيش فتاة في سنِّها في تلك البلاد بلا قلب؟

– ألا يُضيف الاقتراح إلى أحزانه حزنًا جديدًا؟

– كلَّا، لقد خرجت من حياته إلى الأبد.

وكاشفه صادق برأيه في الليلة التالية، وكأنه لم يفاجأ بالاقتراح وقال: فكرت في ذلك طويلًا، ومن العدل أن تُجرب حظها مرةً أخرى.

وحرَّر لها رسالة رقيقة بطلبه، وتمَّ الطلاق، وتنفَّسنا جميعًا الصعداء، ولكن يُخيَّل إليَّ أن طاهر لم يَكُف عن الرغبة في الموت وانتظاره.

وزهد إسماعيل قدري في المحاماة فانتظر حتى يستحقَّ المعاش وأحال نفسه عليه، وفي فترة عودة الأحزاب، وعودة الوفد بالذات، خفق قلبه وناوشته أحلامه القديمة، حقًّا إنه اليوم شيخ أبيض الرأس ولكن الحزب الجديد عامر بذوي الرءوس البيضاء، ومنهم من يكبُره بعقدٍ أو عقدَين من السنين، ولكن طاهر عبيد سأله: ما رسالة الوفد اليوم؟

فأجاب بقوة: الدفاع عن الديمقراطية.

فقال طاهر: والدفاع عن الاقتصاد الحُر ثم تصفية ثورة يوليو، وبذلك يكرِّس نفسه كالحزب الأول للرجعية.

– لا يمكن أن يتجاهل مطالب العدالة الاجتماعية وهو أول من سبق إليها في إطار زمانه.

– هذا ما يقوله الحزب الوطني، فما معنى أن يقوم حزبان لتحقيق رسالة واحدة؟!

وجعل يفكر في الموضوع، ويتابع الحوار بين عقله وقلبه، ولكن الظروف اضطرت الوفد إلى تجميد نشاطه فأعفته من حيرته.

وبدا إسماعيل مع مرور الأيام أصحَّنا بدنًا وأيقظنا فكرًا وأشغفنا بالاطلاع المُستمر، وما زالت ست تفيدة مُتشبِّثة بالحياة رغم تفشي الشيخوخة في جسدها وروحها، حتى أوشكت أن تنسى ابنها المهاجر. وأكبر ما واجه الأسرة في ذلك الوقت مشكلة أعباء المعيشة؛ فرغم إيراد ست تفيدة ومعاش إسماعيل ومدخراته من العمل لم تطمئن إلى التغلُّب على الغلاء مع المحافظة على مستوًى معقول من الحياة، وكانت ست تفيدة تملك خرابة في السبتية فاقترح صادق على إسماعيل بيعَها والانتفاع بارتفاع سعر الأرض الأهوج، وأقنع إسماعيل حرمه بذلك، وبيعت الخرابة بخمسين ألفًا من الجنيهات، ووهبته هدنةً طويلة يطمئن بها القلب ويستقر، وغلب عليه بوضوح ميلُه إلى الروحانيات والتصوُّف، واستشهاده بيننا بأقوال كبار الصوفيين وشرح رموزها، وتفرَّد بذلك فلم يحظَ بمن يستجيب له أو يأنس إليه؛ فصادِق صفوان مؤمن بسيط لا قِبل له بالشطحات أو الرموز، وحمادة هواه في التنقُّل، يتصوَّف معه ليلةً وينقلب عليه في الليلة التالية فيسخر منه ومن جميع الأقطاب، أما طاهر فلا دين له، وقد سأله مرة: أأنت دارس مُحب للاستطلاع أم تبغي السَّير في الطريق؟

يا له من سؤال يُطرَح على رجلٍ يؤمن الإيمان كله بالعقل والعلم ولا يستطيع أن يتخلى عنهما. وأجاب: الإلهام وسيلة للمعرفة كالعقل ولكلٍّ منهما مجاله.

فقال طاهر: أما العقل فنعرفه معرفة حميمة، أما الإلهام فنسمع عنه فقط.

– ويمكن أن نعرفه أيضًا، وقد عرفه الكثيرون.

فابتسم طاهر في استهانةٍ وقال ساخرًا: علينا أن نتوقَّع أن تجيئنا يومًا مُرتديًا خرقةً معرِضًا عن الدنيا وما فيها.

فقال بحزم: كلا، لستُ من هؤلاء، السر يُوجَد في الدنيا كما يوجد وراءها، والسماء والأرض والأشياء تُخاطبنا في كل حين، وعلينا أن نعي ما تقول، فأنا أعشق السرَّ كما يتجلى في هذه الدنيا، كما سأعشق وجوده الآخر بعد الموت.

ويضحك طاهر قائلًا: إنها الشيخوخة والخوف من الموت.

فيقول إسماعيل باسمًا: إنه الحب، وهو أكبر من الشيخوخة والخوف.

– جميل أن تُبرر تعلُّقك بالدنيا على هذا النحو.

– فهتف: كلَّا، إنه تعلقٌ من نوعٍ خاصٍّ، تعلُّق مُقدس، ولا يخجل من الاعتراف بأن قمة الجمال في الدنيا يتركز في المرأة!

ويقهقه حمادة الحلواني قائلًا: لا داعي للفِّ والدوران، قل إنك تستقبل المراهقة الثانية، وأنك ترسم خطةً لارتكاب الخيانة الزوجية.

فقال باسمًا: عليَّ أن أتحلى بالصبر.

وضحك طاهر كما كان يضحك قديمًا وقال: وضحت طريقتك يا شيخ إسماعيل، ومقاماتها هي الثروة والتأمُّل والحب ثم المقويات الجنسية!

على أي حالٍ فإن سلوك إسماعيل لم يجافِ خيال طاهر في الظاهر على الأقل، ورفض بكل قوةٍ أن يعدَّ مسلكه هروبًا، فإنه لا يُعرِض عن الحياة حتى آخر لحظة ولا يزهد في حُبها وتصوُّر الكمال لها، ولم يُسلم نفسه للتأمُّل والحب إلا بعد أن أدَّى واجبه في نطاق قُدراته عمرًا طويلًا، ولم نعرفه كما نعرفه اليوم صفاءً وعذوبة؛ فهو لا يجري وراء الملامح كما يجري حمادة مثلًا، ويقينًا إنه يجد في الحُبِّ ما لا يجد أي عاشقٍ عادي، بل يجد في الجنس ما لا يتصوَّره أي رجلٍ عادي! ولكن حُقَّ لصادق صفوان أن يقول: الشرطة لا تعرف لهذا السلوك إلا وصفًا واحدًا هو المنصوص عليه في قانون العقوبات، فربنا يستر عليه!

•••

هلموا نمضي معًا في الحلقة الثامنة. ركن قشتمر باقٍ، ربنا يُديمه! المكان المُستقر الوحيد مهما تثُرِ العواصف من حولنا، ولا تحول جدرانه القديمة بيننا وبين الدنيا، وتمر السنون سراعًا فلا تمنع قلوبنا من الخفقان أو ألسنتنا من الكلام، حتى الحلم تنعم به، فضلًا عن ذِكرياتنا المشتركة ومودَّتنا الأصيلة، تمدُّنا بين الحين والحين بنادرةٍ نردِّدها أو ابتسامة نبتسمها، حقًّا يُرعبنا الغلاء، ويُكدرنا الفساد، ويحزننا الظلم. ويوم قُتل الزعيم فزعنا وتساءلنا عمَّا يُخبئه لنا الغد، ورغم الشيخوخة والروماتيزم والذبحة والبروستاتا والتصوف ذهبنا مُتوكئين على العِصي إلى مركز الاستفتاء بالمدرسة القديمة ﺑ «بين الجناين» لننتخب الرئيس الجديد الذي تعلقت به آمالنا بقدْر تعلُّقها بالأمان والحياة.

وتلقى صادق صفوان من الروماتيزم آلامًا كثيرة، ولكن بيته سعد بنموِّ نُهى ودخولها المرحلة الإعدادية وبزيارات إبراهيم ودُرية ونبيلة له، ولم تنقطع المراسلات بينه وبين صبري الذي وعده بزيارةٍ قريبة لمصر هو وأسرته التي كوَّنها في الخارج، وأصبح صادق يُصلي وهو قاعد، ويُمضي وقتًا كل يوم في سيدي الكردي، وقد هبطت عليه الشيخوخة بجمالها الخاص الذي تجلَّى في بياض رأسه وشاربه ووقار وجهه، وربما تساءل: تُرى كيف يكون زمان نُهى ونبيلة؟!

فيفتح باب الحديث عن الشباب وتحدِّيات الواقع له وما فعله الماضي بحاضرهم ومُستقبلهم، فيقول حمادة الحلواني: أبناؤكم أفضل حظًّا من الملايين الضائعة.

ويقول إسماعيل قدري: عسى أن تصهرهم الشدة فتخلق منهم عمالقة.

فيستطرد حمادة: عايشنا الوطن مع ثورتَين، وصادفنا من الآمال والإحباطات ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى، وها نحن نشهد الوطن مطحونًا في مأزقٍ لم يجرِ لأحدٍ في خاطر.

ويقول إسماعيل: لا أُعفي أحدًا من مسئوليته، ومن الخطأ أن نحصر الذنب في شخصٍ أو شخصين.

وقدَّمنا أنفسنا للمحاكمة، فطال الجدل بين دفاع وهجوم، وعجز صديقنا حمادة عن الدفاع عن نفسه. ثم حدَّثنا صادق عن ابنته نُهى فقال: يسرُّني أنها مُتدينة ولكنها مُولعة بالأغاني الإفرنجية، عاشقة للتلفزيون، ورغم تفوُّقها الدراسي فهي لا تُحب الثقافة المقروءة، ولا اهتمام لها بالشئون العامة.

فقال طاهر ضاحكًا: إنها متصوفة على طريقتها الخاصة!

ونظر صادق في وجوهنا الشائخة وقال ضاحكًا: حقًّا أصبحنا هياكل عظمية، وسيكون أتعسنا من يمتدُّ به العمر بعد رحيل الآخرين.

أما حمادة الحلواني فكأنما اعتاد ضجره، فصبر وندرت شكواه، وكلما جرى الزمن صالَحَ الحياة ورضِيَ عنها، ولم يحتمل قيادة السيارة وفكر في استخدام سائق ولكن هاله الأجر الذي طالب به، فركن السيارة واستعمل التاكسي، وعاد يقول: لا قيمة اليوم لأغنياء الزمن الماضي.

بقي له من لذائذ الحياة الطعام والحشيش، وحتى الحشيش عجز عن تدخينه في الجوزة، أما القراءة فلم يعُد يستمتِع بها أكثر من ساعتَين في اليوم، وسمع صادق صفوان يقول مرة: من الحكمة أن يفترض الكفرة منكم أنهم مُخطئون ولو بنسبة ١٪ وأن يعملوا في هذا النطاق حسابًا للآخرة.

ولم يمر قوله بلا أثر كما مرَّ بطاهر عبيد، لم يكن غريبًا عن الإيمان كل الغربة، فقد طاف به كما طاف بكل رأيٍ وعقيدة، تبنَّى مرةً الإسلام ومرة المسيحية وثالثة اليهودية؛ لذلك فكر في قول صادق باهتمام، ولما جاء رمضان قرَّر أن يصوم ويُصلي، فعاش مُسلمًا حوالي الأسبوع ثم ارتدَّ أو نسي، كما نسي الذبحة، بل كِدنا ننساها معه، وإن حدث وحرَّك أحدُنا الموضوع قال: مجنون من يُعذب نفسه في مثل عمرنا حرصًا على الحياة!

ويشرد أحيانًا ثم يقول: أي مقلبٍ نشربه لو أن إحساسنا بالموت يستمر معنا في القبر ولو لمدة قصيرة!

وسأل صادق صفوان يومًا: ألا تندم على أنك لم تتزوج ولم تنجب؟

فأجاب بصدقٍ: مُطلقًا، ولكني ندمتُ على تجربتي السخيفة مع الزواج.

وطاهر عبيد يزداد ثراءً وقرفًا ولم يَخِفَّ وزنه، ولا يُعفيه مرضه من إزعاج وكدَر بين الحين والحين، وهو وإن ثابر على رغبته في الموت إلا أنه يخاف المرض ومضاعفاته. ووافته أنباء بأن أنوار بدران تزوَّجت من زميلٍ في المجلة فأبلغنا الخبر دون مُبالاة، ويقول صادق صفوان: كيف تتمنَّى الموت وبين يدَيك دُرية ونبيلة؟!

فيقول طاهر مقهقهًا: حقوق الإنسان ينقصها حق جديد هو حقُّه في الموت إذا شاء ليتولَّاه الطب الشرعي بأيسر السُّبل.

وإسماعيل قدري يمضي في طريقه من مقامٍ إلى مقامٍ ما بين التأمُّل والحب والجنس، وصحته صامدة بصورةٍ عجيبة. وتمرُّ الأعوام ولكنه يبدو أصغرَ مِنَّا بخمس سنوات على الأقل.

وقال له طاهر عبيد: الطاقة الجنسية لها حدود على أيِّ حالٍ!

فقال بطمأنينة: ربما، ولكن تبقى معي الأزهار والنجوم والليل والنهار، ولا تنسَ هذا الركن الأمين في قشتمر، ركن الوفاء والمودة الصافية.

أخبرَنا أن ابنه هبة الله ذكر له في آخِر رسالة تلقَّاها منه أنه يفكر في العودة إلى مصر وإنشاء مشروع مناسب، فسُرِرْنا بالخبر.

•••

وتسير الأيام بلا توقُّف، لا تعترف بهدنة أو استراحة، نحن نكبر وحبُّنا يكبر، إن غاب أحدنا ليلة لعُذرٍ قهري قلقنا وتكدَّرنا، وفي لحظات الإحساس الفائق يسمعنا الزمن صلصلة عجلاته، ويُرينا قبضته وهي تطوي الصفحات الأخيرة. ويتساءل حمادة الحلواني: ترى كيف تجيء النهاية؟

في البيت؟ .. في الطريق؟ .. في المقهى؟ يسيرة رحيمة أم خشنة وحشية؟ وسرعان ما نهرب إلى شتى الأحاديث. ومضت الذاكرة تتمرَّد فلم يعُد حمادة وحده، ويناقش موضوعًا ذات يوم ولكنه ينسى اسم من يريد أن يستشهد به، ولما أعياه تذكُّره قال: أقصد صاحب نظرية الموناد!

فيتذكره إسماعيل قائلًا: ليبنتز.

فيتنهد قائلًا: كيف غاب عني اسمه؟! .. هل يكون ختامها الأميَّة من جديد؟!

ورحنا نتذكَّر من طواهم النسيان، صفوان النادي وزهرانة كريم، رأفت باشا الزين وزبيدة هانم عفت، إحسان، يسري باشا الحلواني وعفيفة هانم نور الدين، عبيد باشا الأرملاوي وإنصاف هانم القللي، قدري سليمان وفتحية عسل، وعشرات من الزملاء والمعارف.

العباسية القديمة هل بقيَ منها أثر؟ أين الحقول والحدائق؟ أين النخلة ومجلسها وغابة التين الشوكي؟ أين البيوت ذوات الحدائق الخلفية؟ أين السرايات والقلاع والهوانم؟ هل نرى اليوم إلا غابات من الإسمنت المُسلح، مظاهرات من المركبات المجنونة؟ .. هل نسمع إلا الضجيج والضوضاء؟ هل تُحدق بنا إلا أكوام الزبالة؟!

– كلما ضنَّ الحاضر بنبأ يَسُرُّ هُرعنا إلى الماضي نقطف من ثماره الغائبة. نفعل ذلك رغم وَعيِنا بما فيه من خداعٍ وكذب، وعلمًا بما أترع به الماضي من سلبياتٍ وآلام ولكننا لا نستطيع أن نردَّ النفس عن الاستمتاع بذلك المورد المليء بالسحر والسراب.

وقال لنا صادق صفوان يومًا: أقترح أن نحتفل بمرور سبعين عامًا على صداقتنا الوطيدة.

وضمَمْنا الاقتراح إلى صميم قلوبنا، وقال حمادة: لنحتفل به في خان الخليلي.

فقال طاهر عبيد: العوامة أفضل.

ولكن إسماعيل قدري قال: بل في قشتمر، فنحن وصداقتنا وقشتمر كلٌّ لا يتجزأ.

ووافقنا على ذلك دون تردُّد، وأملَى المكان على الحفل بساطةً تُناسِب أعمارنا وصحتنا، فاكتفينا بشراء تورتة، وأعددنا الشاي، وأخذ كلٌّ منَّا قطعة، وفرقنا الباقي بين صاحب المقهى والجرسونات وماسحي الأحذية، وتراءى لنا أن يقول كل واحدٍ كلمة للمناسبة، فقال صادق صفوان: أقول وأنا أستعيذُ بالله من الحسد والحاسدين: إن سبعين عامًا مرَّت فلم تندَّ عن أحدنا هفوة تُسيء إلى الوفاء من قريبٍ أو بعيد، ألا فليدُم هذا الصفاء وليكن مثلًا للعالمين.

وقال حمادة الحلواني: لو جمعنا الضحكات التي روَينا بها قلوبنا المُنهكة بكئوس الأحداث لملأت بُحيرةً من المياه العذبة الصافية.

وقال طاهر عبيد: أحقًّا نحن نحتفل بمرور سبعين عامًا على صداقتنا؟ لقد مرَّت على بلادنا سبعون عامًا، أما صداقتنا فلم يمُر عليها سوى دقيقة واحدة.

وقال إسماعيل قدري: ينطوي التاريخ بما يحمل ويبقى الحبُّ جديدًا إلى الأبد.

وكدت أجنح إلى تذكُّر عازف الرباب القديم، ولكن صادق صفوان أيقظني من سُباتي وهو يتلو بصوتٍ واضحٍ: وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤