خاتمة

تنتهي الكتب في معظم الحالات بتوصيات، فتُقدم بعض «الوصفات» وتقترح إصلاحات فضفاضة حتى يتعذر الاعتراض عليها، وتوجه النداءات الداعية إلى التمسك بالواجب الوطني، مع الحرص على التطلع إلى المستقبل. وكثيرًا ما شجبت «ما علينا إلا أن …» (كما في كتابي الرهان الفرنسي) مما يفرض عليَّ عدم الوقوع فيه. والواقع أنني أؤمن إلى حد كبير بقدرة الأحداث على التربية، كما أنني أثق بإفراط في العقل بحيث يحول ذلك دون أن أستسلم لتلك البلاغة الزائفة أو الطائشة. ويبدو لي أن كافة المعلومات الواردة في هذا الكتاب تتحدث عن نفسها. فمن الواضح أن الرأسمالية باتت خطرة من جديد، وأن التمايز بين نموذجَيها وتعارضهما بعمق أصبح مؤكدًا إلى حد كبير. ويبدو لي كذلك أن النموذج الأكثر تعرضًا للأخذ والرد، والأقل فعالية والأشد عنفًا هو الذي يحرز التقدم، ويشكل خطرًا حقيقيًّا.

غير أنني لا أريد أن ألجأ إلى الغش بالاستناد إلى الواقع، فمن الخطأ مثلًا أن أسوِّد الصورة حرصًا على المجادلة أو أن أسدل ستار الصمت على «الأنباء الطيبة» التي أفادتنا بها السنوات العشر الأخيرة … فانهيار الشيوعية كان أيضًا بمثابة تقدم عالمي أحرزته الديموقراطية. كما أن انتصار اقتصاد السوق والتبادل والتبعية الاقتصادية المتبادلة حققت الازدهار بالنسبة لملايين من الرجال والنساء. ولم يحدث أبدًا من قبل أن كان الاقتصاد العالمي أكثر سخاءً بالنسبة لمثل هذا العدد الضخم من البشر. وكان تقهقر البيروقراطيات والرطانة السياسية والاقتصاد الموجه بمثابة انطلاقة هائلة للمبادرة الفردية وللقدرة على الإبداع، حتى في أمريكا رونالد ريجان وحتى في إنجلترا مارجريت تاتشر! فالثورة المحافظة لم تسفر فقط عن مساوئ. ولا يمكننا أن ندرج في سجل سلبيات عهدنا الفردية التي تحررت، والقدرة على التحرك، ودينامية قادة المنشآت، وأهمية التنافس! إذا كان الغرب يبهر مئات الملايين من الرجال والنساء في الشرق والجنوب، وإذا كانت أمريكا «العائدة» تجسِّد آمال شعوب بأسرها، فلا يمكننا أن نتصور أن الأمر ليس سوى هذيان جماعي، أو أنه مجرد «ظاهرة إعلامية» صرفة، ما دام هذا التعبير أصبح رائجًا فالمجريون والبولنديون والألبان الذين يصوبون أنظارهم نحو شيكاغو، أو ليخ فاليسا الذي يذهب لاستشارة مارجريت تاتشر فور خروجه من قصر بكنجهام، كل هؤلاء ليسوا أغبياء. وسيصل بنا الأمر إلى حد عدم ملاحظة ما تحقق خلال عشر سنوات، لأننا استفدنا منه دون أن نشعر، وبلا صدمات. وهذه الملاحظات ليست مجرد نوادر نسوقها.

غير أنني أقول إنها ليست كافية. فبرغم نجاحات الرأسمالية في الآونة الأخيرة وانتصاراتها التي لا يمكن إنكارها، والمكاسب التي حققتها إلا أنها مهددة الآن فعلًا بانجراف يحاول هذا الكتاب أن يوضحه. وبما يزيد من خطورة هذا الانجراف أنه قوي وخطير وليس مؤقتًا أو رهن ظروف طارئة، بل يتوافق مع حركة كبرى للاقتصاد العالمي. وهو شاهد على تصدع جديد في تاريخ العالم المتقدم صناعيًّا. وأنا لست متأكدًا من مدى تصور المعنيين بالقضايا لحجم هذا التغيير.

عصور الرأسمالية الثلاثة

أود أن ألجأ إلى التبسيط لشرح وجهة نظري، حتى وإن استدعى الأمر أن أضغط على الملامح. والواقع أن الرأسمالية مرت في علاقاتها مع الدولة، خلال قرنين من الزمن بالضبط، من ۱۷۹۰م حتى ۱۹۹۱م، بثلاث مراحل مختلفة. وها نحن ندخل الآن حتى العصر الثالث بخطًى حثيثة.

۱۷۹۱م

كانت المرحلة الأولى، مرحلة الرأسمالية في مواجهة الدولة. وقد سجل عام ١٧٩١م في فرنسا انعطافة هامة بصدور قانون لي شابلييه، الذي كان على الأرجح أهم قوانين الثورة الفرنسية في المجال الاقتصادي: فقد ألغى هذا القانون نظام الطوائف المهنية وحظر تشكيل الطوائف المهنية وأقام أسس حرية التجارة والصناعة للقضاء على وصاية الدولة الملكية السابقة. وأعقب ذلك قرن من التطور المتواصل والمدهش. فالدولة تخضع لقواعد القانون، وظهرت الوظائف العامة بشكلها الحقيقي، ولم يعد الموظفون فاسدون، كما تراجعت الدولة بالأخص أمام «قوى السوق» وركزت جهودها على وظيفتها الأولية، ألا وهي دولة الأمن المكلفة بالحفاظ على النظام العام ضد «الطبقات الشريرة»، أي البروليتاريا الصناعية الجديدة. ونشهد في الوقت نفسه الاستغلال الجديد «للإنسان على يد أخيه الإنسان» والاقتلاع التدريجي للعالم الريفي القديم، والاضطهاد الاقتصادي للطبقة العاملة وضراوة الثورة الصناعية التي لم تعهد من قبل.

إنها كل تلك الأشياء التي شجبها كارل ماركس باقتدار عبقري في بيان الحزب الشيوعي (١٨٤٨م). وفي عام ۱۸٩١م، شجبت بدورها كل من الكنيسة البروتستانتية والكنيسة الكاثوليكية بالأخص، الأوضاع الاجتماعية، مقترحة علاجات تتعارض مع الحلول التي تراها الماركسية، أي التعاون بين رأس المال والعمل، لا الصراع الطبقي. ولا تزال الرسالة البابوية لليون الثالث عشر تتردد حتى الآن أصداؤها الداعية إلى إنصاف الدولة للعامل، مما كان له تأثير كبير على تطور الرأسمالية في القرن العشرين.

۱۸۹۱م

وهنا تبدأ المرحلة الثانية، مرحلة الرأسمالية المحجمة من قبل الدولة. فكل الإصلاحات موجَّهة نحو هدف واحد، ألا وهو تصحيح تجاوزات السوق والحد من غلواء الرأسمالية وعنفها. وتبدو الدولة في كل مكان حاجزًا ضد تعسف السوق الحرة ومظالمها وحامية الفقراء. وهي التي تبذل الجهود لإضفاء قدر من الإنسانية على قسوة الرأسمالية الأولى بسن القوانين وإصدار المراسيم تحت ضغط النضالات العمالية، ومن خلال عقود العمل الجماعية … وأحرزت حقوق العمال التقدم، وتزايدت الضرائب ونُظُم إعادة التوزيع بشكل متواصل. وسارت كافة التطورات التشريعية في نفس الاتجاه. وبالطبع فإن أمريكا التي أفلتت جزئيًّا من مآسي «المشكلة العمالية» لم تسر بنفس الإيقاع. غير أنها لحقت بأوروبا في هذا المجال بعد الأزمة الاقتصادية الكبرى في عام ١٩٣٠م. فمنذ عهد روزفلت حتى كارتر، مرورًا بكينيدي وجونسون، لم تكف الولايات المتحدة عن اقتفاء أثر التطور الأوروبي طوال خمسين سنة نحو رأسمالية معتدلة نوعًا، دون أن يصل بها الأمر على أي حال إلى حد بناء دولة الرفاهية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

وطوال تلك الفترة التي تميزت بتزايد نفوذ الدولة، كانت الرأسمالية تتطور والقهقرى، نوعًا تحت تأثير الضغط المعنوي والسياسي لغريمها، الأيديولوجية الشيوعية التي انتحلت ميزة بث الآمال والتطلع إلى المستقبل. ويتعين على المرء أن يشحذ قريحته لكي يتذكر الآن مدى شدة ذلك الضغط. لقد كتب فرانسوا بيرو، وهو من أعمق رجال الاقتصاد فكرًا، يقول منذ ثلاثين سنة مضت: «لقد تعرضت الرأسمالية للهجوم عليها بشدة وجهارًا، وواجهت معارضة خبيثة حتى باتت وكأنها بالنسبة للأغلبية الساحقة عدو الجنس البشري. فتوجيه الإدانات لها يعني الاضطلاع بدور لا يتضمن المخاطرة. والدفاع عن قضيتها هو بمثابة مخاطبة قضاة يحتفظون في جيبهم بحكم جاهز بالإعدام» (الرأسمالية، مجموعة «ماذا أعرف؟»).

۱۹۹۱م

غير أن الحركة سارت في الاتجاه العكسي منذ حوالي عشر سنوات. فقد أوشكت الدولة على خنق الاقتصاد من فرط حرصها على ضمه بين ساعديها أو التسلط عليه، وأدت مغالاتها في فرض الاعتدال على السوق إلى شله. وهكذا سئم الناس خضوعهم أكثر فأكثر لإملاءات بيروقراطية يتزايد طابعها الكافكوي. ولنتذكر إضراب رجال الإسعاف في بريطانيا خلال شتاء ١٩٧٩م الذي جرد حزب العمال من أهليته وجاء بمارجريت تاتشر إلى السلطة.

لقد تغير إذن ترتيب الأولويات. ولم يعد الناس ينظرون إلى الدولة كحامٍ أو منظم، بل كمتطفل ومعرقل وحمل ثقيل. لقد دخلنا بذلك المرحلة الثالثة، مرحلة حلول الرأسمالية محل الدولة. وقد اقتضى الأمر منَّا مرور عشر سنوات لكي ندرك حقيقة الأمر. فقد بدأ كل شيء في الواقع في عام ١٩٨٠م بانتخاب مارجريت تاتشر في بريطانيا ورونالد ريجان في الولايات المتحدة في آنٍ واحد تقريبًا، فكم كان عدد المراقبين الذين أدركوا أن المسألة لم تكن مجرد تداول للحكم عن طريق الانتخابات؟ لقد جاءت بالفعل أيديولوجية رأسمالية جديدة إلى السلطة على جانبي الأطلنطي.

ومبادئ تلك الأيديولوجية معروفة وهي تتلخص في بضع كلمات: السوق خير والدولة شر. وبينما كانت الرعاية الاجتماعية تعتبر مقياسًا لتقدم المجتمع، أصبحت تُشجَب باعتبارها تشجيعًا على التكاسل، وبينما كان ينظر إلى الضرائب كوسيلة أساسية للتوفيق بين التطور الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، أصبحت الضرائب متهمة، عن حق، بأنها تثبط همة الناس الأكثر دينامية وجسارة. ولذا يتعين تخفيض الضرائب والحد من المشاركة في تكاليف الرعاية الاجتماعية، وإلغاء القواعد، أي دفع الدولة إلى التراجع في كافة الميادين لكي تتمكن السوق من تحرير طاقات المجتمع الخلاقة. فلم يعد الأمر يقتصر فقط على جعل الرأسمالية في مواجهة الدولة كما كان الحال في القرن التاسع عشر، بل الحد من مجالات اختصاصها إلى أقصى درجة، وإحلال قوى السوق محلها بقدر الإمكان. ففي القرن التاسع عشر لم تكن الرأسمالية تسعى إلى الحلول محل الدولة في مجالات الصحة أو التعليم أو وسائل الإعلام وذلك لسبب بسيط، وهو أن المدارس والمستشفيات والجرائد كانت من اختصاص المبادرات الفردية. ولكن في عصرنا هذا، ينتقل تدريجيًّا العديد من النشاطات من القطاع العام إلى القطاع الخاص في أغلب البلدان المتقدمة صناعيًّا بدءًا بالإذاعة والتلفزيون، وبتوصيل الماء حتى نقل البريد، مرورًا القمامة برفع من البيوت.

وحتى عام ١٩٩١م كان بوسع الناس أن يتساءلوا هل ستكون تلك «الثورة المحافظة» بوسع مجرد مرحلة عابرة لا مستقبل لها. وقد آمن بذلك العديد من الناس في أوروبا، فواصلوا وحتى سخريتهم من «الريجانية» أو «التاتشرية». ومن الممكن التساؤل اليوم حول مستقبل التاتشرية في إنجلترا. ففي لندن سارع جون ميجور، الذي حل محل مارجريت تاتشر باتخاذ إجراءات رمزية تتعارض مع الفلسفة التاتشرية، ومنها مثلًا إلغاء ضريبة الرأس. أما في الجانب الآخر من الأطلنطي، فيبدو أن الريجانية قد ترسخت على العكس في أذهان الرأي العام.

ويبدو أن حرب الخليج وانتصار الجنرال شوارزكويف مصحوبًا بعودة «الأولاد» مظفرين، وبارتفاع مذهل في سعر الدولار، قد خلص أمريكا لأمد طويل من الإهانات والشكوك التي عانت منها من قبل. لقد أصبحت موقنة تمامًا من جديد بأن رأسماليتها هي خير نظام عرفه العالم. وهي لا تتصور ذلك وحدها. فالكل أو الكل تقريبًا يؤمن بنجاح الثورة المحافظة ويحاول تطبيق وصفاتها.

وهذا صحيح في البلدان الشيوعية السابقة، حيث لم يسمع أحد بعد أي شيء عن اقتصاد السوق الاجتماعي أو النموذج الرايني. وقد افتتح البولنديون مؤخرًا بورصة وارسو في المقر السابق للحزب الشيوعي، حتى قبل أن يتمكنوا من إقامة نظام مصرفي جدير بتلك التسمية، بينما راح ليخ فالسا يجوب أوروبا الغربية مبشرًا بأفكار فتيان شيكاغو ومدرستهم الاقتصادية.

وهذا صحيح في البلدان النامية. فقد كانت التجارب تشير على ما يبدو قبل ريجان أن انطلاقتها تفترض دفعة من جانب الدولة، كما جرى في اليابان، وكوريا الجنوبية. فالنجاحات الأشد تألقًا كانت خلال السنوات الأخيرة من نصيب بلدان مثل شيلي والمكسيك وتايلاند التي لجأت إلى التخلص من القواعد وإلى ممارسة الخصخصة. بيد أنه يتعين أن نلاحظ على أي حال أنه إذا كان النموذج الرايني قد أثبت أنه الأكثر فعالية في أوروبا، إلا أن نقله إلى العالم الثالث بصيغته الديموقراطية الاجتماعية كثيرًا ما كان مبررًا لتكاثر المنشآت العامة المدمرة ولتدخلات من جانب الحكومة ما كانت تؤدي إلا إلى نشر الفساد. فضغط النفقات، والحد من عجز الميزانية العامة، وتخفيض بعض الضرائب والخصخصة، وإلغاء القيود، كل ذلك مؤلم، ولكنه مجزي في الكثير من الأحوال.

كما أن «سوق عام ١٩٩٢م الكبرى» في أوروبا هي أيضًا من وحي الريجانية إلى حد كبير، من خلال الحد الأقصى من التنافس والحد الأدنى من تدخل الدولة، وما يترتب على ذلك من عواقب اجتماعية على المدى الطويل. فطالما ظلت السوق الموحدة غير مقيدة بوحدة سياسية فإن كل حكومة من حكومات البلدان الاثني عشر الأعضاء ستكون مرغمة، أيًّا كانت أفضلياتها السياسية الخاصة، إلى تعزيز قدرة اقتصادها على التنافس عن طريق إفقار الدولة، وإعفاء الأغنياء من الرسوم وفرض المزيد منها على الفقراء على غرار ما أقدم عليه ريجان. وقد بدأ ذلك بالفعل.

ومن جهة أخرى فإن أغلب الجامعات ومدارس الإدارة تلقن كوادر وقادة المنشآت المرتقبين، بأن ذلك هو منحى التاريخ وقانون المستقبل.

فبعد أن توصلت القوى الديموقراطية والدولة، على مدى حوالي قرن، إلى تحجيم الرأسمالية ودفعها إلى الاعتدال، ها هي الأدوار تنقلب رأسًا على عقب، خاصة بسبب تدويل الاقتصاد الذي يزدري عجز الدول المنقسمة على بعضها.

وهذا واضح تمامًا منذ عام ١٩٩١م على الأقل بدخولنا مرحلة حلول الرأسمالية محل الدولة.

والصدع التاريخي الذي يبرزه هذا الكتاب كثيرًا ما يكون منبعًا للدينامية والازدهار، ولكنه مصحوب بتمزقات اجتماعية تكون مأساوية وخطرة أحيانًا. ولا يمكن القبول بإعادة النظر في هذا التقدم، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن جوهر التقدم الاجتماعي الذي جاء به قرن من الزمن مجرد ضلال غير اقتصادي، وأنه يتعين أن تلجأ اقتصاديات كافة البلدان المقدمة صناعيًّا إلى التشدد والتمزق والانحسار اجتماعيًّا بدعوى استعادة فعاليتها، على أن يشمل ذلك كافة المجالات: المدينة، والصحة، والمدرسة، والعدالة، والتضامن … إلخ. غير أن المفارقة تكمن في سير الأمور بشكل يوحي بأن هناك قبولًا عامًّا بتلك الردة. ففي مواجهة النموذج الريجاني الخلاب، تبدو الرأسمالية الراينية، التي نوهت هنا بمزاياها، بل وبتفوقها، وكأن مفاتنها لا تقل عن مفاتن عانس من الأقاليم تقيدها التقاليد ويؤرقها الحنين إلى المشاعر الإنسانية المفتقدة، ويربكها الحرص على الدقة واتخاذ جانب الحذر.

وإذا كان هناك شيء واحد يثير حنقي في ختام هذا الكتاب، فإنه يتمثل في تلك المفارقة الغريبة والشاذة حقًّا. فكثيرًا ما تساءلت عما يجب فعله أو قوله لكي يعي كل شخص حقًّا حجم ذلك الرهان. ولا أعتقد أن المناداة بالتمسك بالمبادئ الكبرى يمكن أن يكون فعالًا للغاية. وأشك في هذا المجال في جدوى المواعظ. وعوضًا عن ذلك فإنني أميل إلى القول المأثور للفيلسوف الصيني لاو-تسو الذي يؤكد فيه أن كل مشاكل العالم يجب أن نتمكن من اختصارها في شيء بسيط مثل «شيِّ سمكة صغيرة». وعلينا أن نثق في فضائل التربية وأن نؤمن بذكاء مواطني بلد ديموقراطي عندما تكون لديهم معلومات واضحة. ولكن كيف يمكن تبليغهم الرسالة؟

ربما سيكون كافيًا في نهاية الأمر أن نتصور ما سيحدث فعلًا في حياتنا اليومية. إذا ما تواصل انجراف الرأسمالية في طريقها هذا حتى آخر المطاف. ماذا سيكون وضعنا لو أن أوروبا وفرنسا انساقتا بالكامل وراء النموذج الريجاني؟ إنه ليس افتراضًا محالًا. فأمركة أوروبا لا تقتصر في الواقع على الاقتصاد وحده. فالحركة أعمق من ذلك إلى حد كبير، وقد أجرى مركز البحوث والمعلومات حول الاستهلاك (CREDOC) تحقيقًا نشر في ۳۰ ديسمبر ۱۹۹۰م، وحاول أن يحلل خلاله التغيرات الرئيسية التي طرأت على سلوك الفرنسيين وعاداتهم المعيشية وأفكارهم. ولم تحظَ نتائج هذا التحقيق الذي نُشر في خضم أزمة الخليج بأي ترويج إعلامي وهذا مؤسف حقًّا، إذ إن هذا المركز استخلص بالذات أربعة تغييرات أساسية هي:
  • (١)

    إعفاء النقود من كل وزر، وهو ما يشكِّل تحولًا رئيسيًّا في مجتمعنا القديم ذي التقاليد الكاثوليكية، مما يجعله أقرب إلى العالم الأنجلو-ساكسوني.

  • (٢)

    انتصار الروح الفردية، وهو ما يسميه مركز البحوث هذا، تفكير كل فرد في نفسه فقط. ويصحب ذلك التردي الملحوظ للالتزامات الجماعية: النقابات، الروابط … إلخ.

  • (٣)

    «التشدد» الاجتماعي، خاصة في عالم العمل، مع تزايد التوترات الجديدة المرتبطة بالتنافس والخوف من شبح البطالة … إلخ.

  • (٤)

    توحد السلوكيات، خاصة بين باريس والأقاليم، وبالأخص نتيجة لتأثير التلفزيون الذي غدا مهيمنًا.

وتستحق بالطبع كل نقطة من تلك النقاط أن تعالج بقدر من التفصيل. غير أنني ألاحظ أنها تتجه جميعها نحو «أمركة» المجتمع الفرنسي. وإذا كان المجتمع يتأمرك في أعماقه بطريقة غير محسوسة، فلا يكون من العبث أن نتصور أن اقتصاده يتبع نفس الطريق، حتى نهايته.

المقابل ﻟ ١٦٤٠٠ فرنك

ماذا سيحدث في هذا الحال؟ بوسعنا أن نحاول تكوين فكرة لأنفسنا، مع اتخاذ كافة الاحتياطات التي يقتضيها ذلك النوع من التبسيط المتعلق بالمستقبل. ولنعتمد في ذلك على معيار محدد وبسيط ولكنه حاسم، ألا وهو النظام الضريبي. فمن المعروف في الواقع أن هذا النظام هو الذي يقرر قبل كل شيء آخر مدى ثراء الدولة، وبالتالي مدى قوتها، وقدرتها على تنظيم قوى السوق وحماية الضعفاء.

ولنجر حسبة أولية بهذا الصدد. فمعدلات الاستقطاعات الإجبارية في فرنسا (الضرائب، الرسوم، الاشتراكات في التأمينات الاجتماعية … إلخ) بلغت ٤٤٫٦٪ في عام ١٩٩٠م. وهذا الوضع الخاص بفرنسا جدير بالذات بالاهتمام، لأن فرنسا تعتبر بطلة الاستقطاعات الإجبارية بالمقارنة مع كافة البلدان ذات الحجم المماثل، علمًا بأن إدارة ميزانية الدولة محكومة بشكل خاص، إلى جانب عدم توصلها إلى التحكم في انفلات نفقات الرعاية الاجتماعية.

وهكذا فإن الفرنسي الذي ينتج ما قيمته ١٠٠ فرنك يسلم إجمالًا ٤٤٫٦ فرنك ينتج للدولة أو الهيئات التي تتبعها. وفي الولايات المتحدة يقل هذا المعدل عن ٣٠٪ بقدر بسيط. ولنتصور أننا لجأنا فجأة إلى تطبيق المعدل الأمريكي في فرنسا، التي يبلغ إجمالي ناتجها القومي ٦٣٠٠ مليار فرنك تقريبًا. في هذه الحالة سيتمكن الفرنسيون في مجموعهم من توفير ٩٢٠ مليار فرنك (الفارق بين اﻟ ٤٤٫٦، ٣٠٪). وهكذا سيجد المواطنون الفرنسيون هذا المبلغ في جيوبهم، وهو ليس بالقدر الهين؛ إذ إنه يمثل ١٦٤٠٠ فرنك لكل مواطن، أي ٦٥٦٠٠ فرنك لأسرة مكونة من أربعة أفراد، وهو دخل إضافي في سنة واحدة. وهذا المبلغ يكفي في حد ذاته لحث دافعي الضرائب على الارتماء في أحضان الإغراء الريجاني؛ لأنه يعادل الحد الأدنى للأجر طوال سنة. ولكن هل هذا مؤكد. علينا أن نتفحص المسألة عن كثب.

مما لا شك فيه أننا سندفع هذا المبلغ، وبثمن أكبر مما قد نتصور. فلا يمكننا أن نعمد إلى إفقار الدولة ونطالبها في الوقت نفسه بالوفاء بنفس المهام. فكل النفقات الملقاة حاليًّا على عاتق الدولة — بالمعنى العريض للكلمة، وبما في ذلك نفقات الهيئات المحلية والإقليمية والتأمين الاجتماعي — سيتحملها كل واحد منا بشكل فردي. فما هو نوع تلك النفقات؟ بوسعنا أن نقدم بعض الأمثلة التي تعطي صورة عن الوضع في هذه الحالة.

هناك بالطبع الرعاية الاجتماعية. فلن يكون هناك استرداد للنفقات الطبية والدوائية بنسبة ٨٠٪، ولا بد أيضًا من تناسي الحق في كافة خدمات المستشفى بتقنياتها المتقدمة مثل أجهزة السكانر والرنين المغنطيسي … إلخ. وسيتعين على كل مواطن فرنسي أن يدبر أموره في شئون الصحة على غرار مصاريف السكن والمأكل والسفر. ولو وقع له حادث في الطريق وتم نقله إلى قسم الطوارئ بأحد المستشفيات، فعليه أن يعلم أنهم سيسألونه هو أو أسرته، وقبل أي علاج، عن موارده الشخصية ومن الذي سيدفع قيمة الفاتورة.

أما الأخطر في ذلك فيتمثل في المعاشات الإضافية التي ستنخفض بشدة. ويتعلق ذلك بالمعاشات الإضافية لا المعاش الأساسي الذي تموله في فرنسا الاستقطاعات الإجبارية، كما هو الحال في البلدان الأخرى، باسم التضامن القومي. وينطبق ذلك أيضًا على الولايات المتحدة حيث يشكل المعاش الأساسي التأمين الاجتماعي العام الوحيد. وعليه، فلو فرضنا أن فرنسا توصلت إلى تخفيض الاستقطاعات الإجبارية إلى ٣٠٪ من إجمالي الدخل القومي، فإن المعاش الأساسي سيظل ساريًا من حيث المبدأ، على غرار الوضع في الولايات المتحدة.

وعلى العكس فإن فرنسا تشكل بمعاشاتها التكميلية، وبالمقارنة مع كافة البلدان الأخرى من نفس مستواها، حالة متميزة تمامًا لها أهميتها الكبرى. فالاستقطاعات الإجبارية هي التي تمول أساسًا تلك المعاشات، بينما تُدفع، على العكس، في البلدان الأخرى عن طريق الدخل الذي يحققه الادخار الذي يتم تجنيبه سنة بعد أخرى على سبيل الاحتياط. ولذا فإن تخفيض الاستقطاعات الإجبارية في هذه البلاد لن يكون له أي أثر على المعاشات التكميلية، مهما كان حجم ذلك التخفيض. وعلى العكس، فإن تخفيض الاشتراكات الخاصة بالمعاشات في فرنسا سيؤدي حتمًا إلى إنقاصها. وعليه فإن النظام الفرنسي في هذا المجال يتوقف على هذا الإذعان الأشبه بالضريبة.

  • المدرسة: في هذه الحالة لا مجال بالطبع لتصور وجود مدرسة مجانية ابتداءً من روضة الأطفال حتى الجامعة. وسيتعين على كل فرد أن يختار هنا حسب إمكاناته ليوفر لأطفاله ما تسمح به أوضاعه. وعلينا أن نعرف، من باب العلم، أن مصاريف الدراسة في أي جامعة أمريكية جيدة تتراوح ما بين ۱۰۰ و١٥٠ ألف فرنك في السنة، هذا بالطبع عدا نفقات السكن والمطاعم الجامعية … إلخ. ولذا فإن التعليم الراقي والدراسات الممتدة سيكون مقصورًا بحكم الواقع — وفيما عدا الحاصلين على منح دراسية — على أبناء العائلات الثرية.
  • النقل العام: وهو سرعان ما سيصبح على غرار وضعه في الولايات المتحدة، أي مستهلكًا وغير مريح وتعوزه الصيانة. وهكذا ستتحقق السيادة نهائيًّا للسيارة الفردية، بكل ما يترتب على ذلك من عواقب معروفة تمامًا، ومنها ارتفاع تكلفة انتظار السيارات بشكل هائل، والشلل الذي يصيب حركة المرور في المدن … إلخ.
  • المرافق الجماعية: ومن المستحيل أن نتصور أنه يمكن الحفاظ عليها بمستواها الأصلي. فالمرافق التابعة للوحدات المحلية والتابعة للدولة ستعاني بدرجات متفاوتة من افتقار الإدارات، ومنها المرافق العامة والمساحات الخضراء والطرق ومحطات السكك الحديدية والموانئ الجوية … إلخ. ولن يرمي الاتجاه السائد إلى تحسينها أو حتى مجرد صيانتها. ولنتذكر مظهر أغلب المدن الأمريكية … وعلينا ألَّا نتصور أن الأمر يقتصر فقط على حسن منظرها؛ لأن كافة الدراسات تبين أن نوعية المرافق العامة تشكِّل مجال تنافس هام بالنسبة للمنشآت.
  • ضروب اللامساواة: لن تعمل آليات إعادة توزيع الثروة عن طريق الضرائب إلا بنسبة أضعف. وهكذا فإن ضروب اللامساواة الاجتماعية المتزايدة أصلًا، ستقفز بقوة حتى إنها ستغير توازن المجتمع إلى حد كبير. فسيصبح الأغنياء أكثر ثراءً والفقراء أكثر بؤسًا وجهلًا وضياعًا. فلن يحصلوا على الحد الأدنى من الدخل للاندماج في المجتمع الذي يستفيد منه اليوم عدة مئات الآلاف من الأفراد. سيتعين على هؤلاء الاعتماد على الصدقة والإحسان الفردي. وسيزداد هؤلاء الفقراء الجدد عددًا وفقرًا أيضًا. ومن الصعب تقدير عواقب ذلك الارتداد على «اللانظام» الاجتماعي (العنف، والانحراف، والمخدرات … إلخ)، ولكن من المؤكد أن هذه العواقب ستتفاقم.
  • العمل والبطالة: في هذا المجال، يسجل النموذج الأمريكي الجديد نقاطًا. فقد ظلت فرنسا طوال «الثلاثين سنة المجيدة» التي أعقبت الحرب وطن العمالة الكاملة، ولكنها لم تكف منذ عشرين عامًا عن وضع خطط واعدة لمكافحة البطالة وتزايد عدد العاطلين فيها عن العمل ومصاعب إدماجهم في المجتمع. وهم يمثلون حاليًّا أكثر من ١٠٪ من القادرين على العمل. وعلى العكس تعتبر الولايات المتحدة سياسات العمالة الكاملة خطيئة في حق العقل. ولكنها تمكنت من تخفيض معدل البطالة إلى النصف تقريبًا فبات ٦٪. ولم يتم ذلك عن طريق تقديم المساعدات بل على العكس بالحد منها، مما أجبر العاطلين عن العمل إلى قبول نسبة متزايدة من الأعمال ذات الكفاءة الدنيا والأجور الهابطة، ومن بينها الأعداد المتزايدة من الشرطة الخاصة وعمليات الحراسة بكافة أنواعها.

فما هو الأفضل؟ المزيد من العاطلين الذين يحصلون على معونة، أم عمال يحصلون على أجور هابطة؟ يتعين أن نسجل ملاحظتين لتوضيح هذا النقاش الدائر بين رأسمالية ورأسمالية أخرى. فالبلدان الراينية وحدها هي التي أثبتت أنه يمكن توفير رعاية اجتماعية سخية جنبًا إلى جنب الاقتصاد الأقدر على الإنجاز. أما فرنسا، فهي لا تستطيع أن تجمد الاستقطاعات الإجبارية مع الإبقاء بشكل دائم على الرعاية الاجتماعية بمستواها القائم.

وبوسعنا أن نستطرد إلى ما لا نهاية في قائمة تلك الأمثلة. هل هذا ضروري حقًّا؟ أود أن أبين فقط أن التطور من رأسمالية إلى رأسمالية أخرى ستصحبه بالضرورة تغيرات أعمق مما نتصور في أسلوب حياة كل فرد. والواقع أنني إذا أردت أن أوجز في جملة واحدة الفرق الأساسي بين نوعي الرأسمالية، فسأقول إن النموذج الأمريكي الجديد يضحي عمدًا بالمستقبل من أجل الحاضر.

ولكن الاستثمار في المستقبل، بمختلف أشكاله هو «الانعطافة المنتجة» الحقيقية في عصرنا والمصدر الأول للثروة. بل ربما كان أيضًا الطريق الجديد نحو الحكمة.

والمسألة تهم الأوروبيين بالأخص، بل وكل مواطن أوروبي؛ لأن الوحدة الاقتصادية الأوروبية ستكون ساحة المعركة الرئيسية بين الرأسماليتين. وأمامنا أحد أمرين:

إما أن يكون الأوروبيون قد عجزوا عن إدراك ما يتوقف عليه أساسًا مصيرهم، فلا يضغطون بما فيه الكفاية على حكوماتهم لكي تعزم على الإقدام على الوحدة السياسية. وعندئذٍ لن يتم شيء، اللهم إلا بداية تفتت السوق الموحدة. فافتقادنا وضوح الرؤية للاتحاد لاختيار مستقبلنا سيفقدنا القدرة على ذلك، فنعاني من جديد من هواجس تشاؤمنا الأوروبي القديم التي ستدفعنا لا محالة نحو النموذج الأمريكي الجديد. وضواحي ليون، ومانشستر، ونابولي تقدم لنا من الآن صورة مسبقة لما يمكن أن يحدث، خاصة وأن عجزنا سيترتب عليه المزيد من تعرضنا لملاحقة جماهير العالمين الثالثين في الشرق والجنوب التي ستحاول التسلل عبر حدودنا لتلحق بالعالم الثالث الجديد المتمثل في ضواحينا المتأمركة.

وإما أن نسير قدمًا نحو تحقيق الولايات المتحدة الأوروبية. وعندئذٍ سنتمكن من أن نختار لأنفسنا النموذج الاقتصادي-الاجتماعي الأفضل، الذي بدأ يؤتي ثماره في جزء من الجماعة الاقتصادية الأوروبية، والذي سيصبح النموذج الأوروبي.

فإقامة الولايات المتحدة الأوروبية على نحو أفضل من الولايات المتحدة الأمريكية من شأن كل فرد منا؛ لأن الغد يتقرر اليوم بالنسبة لكل منا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤