محمد عبده

١٢٦٦–١٣٢٣ﻫ

[كان الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مقدمة العلماء الذين اصطفاهم المغفور له أحمد تيمور باشا لتلقِّي العلم والمعرفة عنهم، وقد سجَّل التاريخ أن الإمام محمد عبده كان يتخذ من دار تيمور «باشا» في درب سعادة ندوة يُلقي فيها دروسَه على صفوة من العلماء والأدباء النابهين وغيرهم.

وقد عثرت لجنةُ نشر المؤلفات التيمورية بين مخلَّفات المغفور له أحمد تيمور «باشا» على جذاذات عدة تضمنت الكثيرَ من سيرة الإمام وأعماله، رأتْ نشرَ موجزها التالي في هذا الكتاب.]

وُلِد الإمام محمد عبده ونشأ في قرية صغيرة بعيدة عن المدائن، وهي قرية محلة نصر بمركز شبراخيت بالبحيرة.

وكان والدُه من أهل الطبائع السليمة والأخلاق القويمة، أما أُمُّه فكانت من قرية «حصة شبشير» بمركز طنطا، تنتمي إلى بيت من بيوتها المعروفة يُعرف ببيت آل عثمان.

ويقول الإمام محمد عبده رحمه الله فيما كتبه من تاريخ حياته: «كنتُ أعتقد أن والدي أعظم رجل في القرية، وكل من فيها دونه، وهو بذلك أعظم رجل في الدنيا، فإن الدنيا لم تكن أوسع عندي من محلة نصر، وكان ينزل عنده بعضُ الحكام ولا ينزلون في بيت العمدة مع أنه أغنى وأكثر دورًا وأرَضين، ونشأ فيَّ بذلك الاعتقاد بأن الكرامة وعلوَّ المنزلة لا يتعلقان بالثروة وكثرة المال، وكنتُ أعقل من صغري ما كان عليه والدي من ثباته في عزيمته، وشدَّته في المعاملة، وقسوته على مَن يعاديه، وأخذتُ عنه ما عدا القسوة، أما والدتي فكانت منزلتها بين نساء القرية لا تنزل عن مكانة والدي، وكانت ترحم المساكين وتعطف على الفقراء، وتَعُدُّ ذلك مجدًا، وطاعة لله وحمدًا.»

شبَّ الأستاذ على قَدم أبيه محبًّا للفروسية والرماية والسباحة، حتى شهر بذلك بين أترابه في القرى المجاورة.

بعد تعلُّمه القراءة والكتابة بمنزل والده بلغ العاشرة من عمره سنة ١٢٧٦ﻫ/١٨٥٩م فانتقل إلى دار حافظ للقرآن لم يكن بالقرية غيره، فقرأ الكتاب المجيد أول مرة واستظهره بعد ذلك في عامين، ويظهر لمَن رأى خطَّ الإمام، وهو لطيف من غير أن يكون جميلًا، أن معلِّمَه الأول كان على شيء من النظام والمهارة في كتابته.

وفي سنة ١٢٧٩ﻫ/١٨٦٢م ذهب إلى الجامع الأحمدي بطنطا ليُجوِّد القرآن، وكان هناك أخوه لأمه الشيخ مجاهد الذي يقال إنه كان قارئًا مجيدًا وصل إلى أن صار شيخًا للمقارئ بطنطا.

أتمَّ الشيخ فنونَ التجويد في نحو سنتين على الوجه الأكمل، ولم تنفرْ فطرتُه السليمة من أساليب هذا التعليم في الجامع الأحمدي المشهور بتعليم القرآن وفنون القراءات منذ زمان، وكان رحمه الله من أحفظ الناس للقرآن، وأجودهم في تلاوته نغمة، وأحسنهم ترتيلًا.

وفي سنة ١٢٨١ﻫ/١٨٦٤م جلس في دروس العلم في المسجد الأحمدي. قال الأستاذ في الترجمة التي كتبها لنفسه: «وقضيتُ سنة ونصفًا لا أفهم شيئًا لرداءة طريقة التعليم، فأدركني اليأسُ من النجاح، وهربتُ من الدرس، واختفيتُ عند أخوالي مدة ثلاثة أشهر، ثم عثر عليَّ أخي وأخذني إلى المسجد الأحمدي، وأراد إكراهي على طلب العلم، فأبيتُ وقلت له: قد أيقنت ألا نجاح لي في طلب العلم، ولم يبقَ عليَّ إلا أن أعود إلى بلدي وأشتغل بملاحظة الزراعة كما يشتغل الكثيرُ من أقاربي، وانتهى الجدل بتغلُّبي عليه، وأخذتُ ما كان لي من ثياب ومتاع ورجعت إلى محلة نصر على نية ألا أعود إلى طلب العلم، وتزوجت في سنة ١٢٨٢ﻫ/١٨٦٥م على هذه النية.»

قال الأستاذ بعد ذلك: «فهذا أول أثر وجدته في نفسي من طريقة التعليم في طنطا، وهي بعينها طريقته في الأزهر، وهو الأثر الذي يجده خمسة وتسعون في المائة ممن لا يساعدهم القدَر بصحبة من لا يلتزمون هذا السبيل في التعليم، غير أن الأغلب من الطلبة الذين لا يفهمون، تغشهم أنفسهم، فيظنون أنهم فهموا شيئًا، فيستمرُّون على الطلب، إلى أن يبلغوا سنَّ الرجال، وهم في أحلام الأطفال، ثم يُبتلَى بهم الناس، وتُصاب بهم العامة، فتعظم بهم الرزية؛ لأنهم يزيدون الجاهلَ جهالة، ويُضلِّلون من تُوجد عنده داعية الاسترشاد، ويؤذون بدعاويهم من يكون على شيء من العلم، ويَحولون بينه وبين نفْع الناس بعلمه.»

وبعد أن تزوج الفتى الهارب من طلب العلم، قهره والدُه على الرجوع إلى طنطا، فهرب في الطريق إلى بلدة «كنيسة أورين» من قرى مركز شبراخيت، وغالبُ سكانها من خئولة أبيه، وصادف في مهربه مَن داوى نفرتَه وسهَّل عليه من طلب العلم ما وجده عسيرًا؛ إذ اتصل بالشيخ درويش خضر أحد أخوال أبيه، وهو رجل سبقت له أسفارٌ إلى صحراء ليبيا، ووصل إلى طرابلس الغرب، وجلس إلى السيد محمد المدني والد الشيخ ظافر، وتعلَّم عنه شيئًا من العلم، وأخذ عنه الطريقة الشاذلية، وكان يحفظ بعض كُتُب الحديث ويُجيد حفظ القرآن وفهمه، ثم رجع من أسفاره إلى قريته واشتغل بالزراعة.

ووصف الأستاذ الأثر الذي وجده في نفسه من صحبة الشيخ درويش خضر، فقال:

«رأيتُني أطير بنفسي في عالم آخر غير العالم الذي كنتُ أعهده، واتسع لي ما كان ضيِّقًا، وصغُر عندي من الدنيا ما كان كبيرًا، وعظُم عندي من أمر العرفان والنزوع بالنفس إلى جانب القدس ما كان صغيرًا، وتفرَّقتْ عني همومُ النفس، إلا همًّا واحدًا، هو أن أكون كاملَ المعرفة، كاملَ أدب النفس.»

وبعد أن قضى الشاب في «كنيسة أورين» خمسة وعشرين يومًا، ذهب إلى طنطا في شهر جمادى الآخرة سنة ١٢٨٢ﻫ/أكتوبر سنة ١٨٦٥م، مشروحَ الصدر لطلب العلم، مقبلًا عليه ببركة إرشاد الشيخ درويش.

وإذا كانت التربية الحديثة تدعو إلى تهذيب الذوق بفنون الجمال، فإن التربية الصوفية تدعو إلى تلطيف السرِّ بأنواع الرياضة، كالعبادة المشفوعة بالفكرة، والألحان المستخدمة لقوى النفس، هذه التعاليم من شأنها أن تربِّيَ الوجدان، وتلطِّف السرَّ، وتُكمل النفس وتزينها، ولا جَرم أنه كان صوفيَّ الأخلاق.

قضى الإمام نحو أربع سنين في بداية تكوينه الفكري بالجامع الأحمدي بطنطا — نسبة إلى السيد أحمد البدوي أشهر أولياء القطر المصري — وقد نبَّهتْ هذه السنواتُ عقلَه إلى البدع الدينية وعملِها في العقول والأخلاق، بيدَ أنها مسَّتْ أيضًا بعضَ الجوانب من نفسه فتركت في منازعها المتسامية إلى الكمال والفهم موطنَ تأثُّر. قال الأستاذ فيما كتبه من تاريخ حياته: «وفي يومٍ من شهر رجب من تلك السنة (١٢٨٢ﻫ) كنتُ أطالع بين الطلبة وأقرِّر لهم «معاني شرح الزرقاني»، فرأيتُ أمامي شخصًا يُشبه أن يكون من أولئك الذين يسمُّونهم بالمجاذيب، فلما رفعتُ رأسي إليه قال ما معناه: ما أحلى حلواء مصر البيضاء! فقلت له: وأين الحلوى التي معك؟ فقال: سبحان الله! من جَدَّ وَجَد، ثم انصرف، فعددت ذلك القول إلهامًا ساقه الله إليَّ ليحملني على طلب العلم في مصر دون طنطا.»

ذهب المجاور الشيخ محمد عبده بتصرُّفه إلى الأزهر في شوال سنة ١٢٨٢ﻫ فبراير سنة ١٨٦٦م قبل ست سنوات من وضْع الشيخ المهدي العباسي شيخ الأزهر أولَ قانون للتدريس فيه، وأراد الجيلُ العلمي الجديد في ذلك العهد أن يُعرِّب كُتبًا أوروبية مكتوبة في الغالب بلسان فرنسي، ولم يجد من المصطلحات القديمة متسعًا، فوضع عباراتٍ محدَثة، وأوجد أسلوبًا جديدًا لم يرضَ عنه الأزهريون، ومنذ يومئذٍ دخل إلى الأزهر التنازع بين القديم والجديد.

أما الروح السائدة في التعليم الأزهري فكانت على ما وصفها بعضُ علماء الفرنجة في قوله: «ولئن كانت أنماط التعليم والبحث في الأزهر تختلف عما هو مستعمل في الغرب الآن اختلافًا أساسيًّا، فهي لا تختلف في شيء عن الأنماط التي كانت عندنا قديمًا.» وفي قوله: «أثر العلوم النقلية في قهر العقول الذي أخذ في التلاشي عندنا منذ قرون لا يزال في عنفوان سطوته في الجامعات الإسلامية.»

وليس الغرض من العلم عند أهل الأزهر يومئذٍ هو البحث للتحقيق والمقارنة والتمحيص، ولكنه النقل الصحيح لمَا ترك الأقدمون.

والمفروض أن الأجيال متراجعةٌ إلى الانحطاط، والأجيال الحاضرة والمقبلة تتصل بعصر النبي من خلَف إلى سلَف، وأن الأئمة المجتهدين بُعداءُ في عصور ذاهبة في أعماق الماضي لا يستطيع الحاضر أن يُدرك غبارَها.

ونسارع إلى بيان أن أستاذنا صرَّح في تفسير سورة «العصر» بفساد ما عليه الناس من ذمِّ عصورهم، ونسبة ما شاءوا من الخير إلى ما كان قبلهم من العصور، كما صرَّح في كثير من أقواله وكتاباته بعيب التعليم الأزهري ومناهجه.

هذا وكان في الأزهر نفسه تدافعٌ بين الشرعيين والصوفية؛ فأولئك كانوا يرَون في الخروج عن العلوم النقلية المتداولة في الأزهر تمرُّدًا على الدين، وهؤلاء كانوا يطمحون إلى أنواع من المعارف التي لها مساسٌ بالتصوف.

ودليل هذا التدافع ما ذكره الصوفيُّ الأزهري الشيخ حسن رضوان المتوفى سنة ١٣١٠ﻫ/١٨٩٢م في منظومته المسماة «روض القلوب المستطاب»، وقد كان للشيخ المذكور مريدون بين علماء الأزهر وطلابه، منهم الشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد البسيوني، وهما من أساتذة الشيخ محمد عبده، ومنهم الشيخ محمد عبده نفسه، وجماعة من إخوانه، وبذلك يظهر أن الشيخ حينما جاء إلى الأزهر انضمَّ إلى حزب التصوف، وهو أقلُّ الحزبين جمودًا، وأقلُّهما نَفرة من الجديد.

كان الأستاذ متصوفًا مدة الدراسة مع شيوخه وزملائه، متصوفًا في أيام المسامحات، مع خال أبيه الشيخ درويش خضر، حتى انطبع تفكيرُه بنوع من الخيال الصوفي الذاهب في الروحانيات إلى ما يجاوز مدى الفهم أحيانًا.

انساق بعضُ الأساتذة في الأزهر إلى دراسة الفلسفة الإسلامية بحكم نزوعه إلى التصوف الإسلامي الذي صار متأثِّرًا بمذاهب الفلسفة، وخصوصًا مذهب أرسطو الذي يُعتبر إمامًا لفلاسفة العرب، كما انساق بعضُهم أيضًا إلى مدارسة الأدب باعتباره من الفنون الجميلة، وقد كان الشيخ حسن الطويل والشيخ محمد البسيوني من أساتذة الشيخ محمد عبده، فهو كان متصلًا بالحركة الصوفية المخلوطة بالفلسفة، وكان متصلًا بالحركة الأدبية، على أنه لم يَبعُد كلَّ البعد عن المحافظين على القديم، فحضر دروس زعمائهم المشهورين؛ كالشيخ عليش، والشيخ رفاعي، والشيخ الجيزاوي، والشيخ الطرابلسي، والشيخ البحراوي.

ولما حضر إلى مصر السيدُ جمال الدين الأفغاني في سنة ١٢٨٨ﻫ/١٨٧١م صاحبَه الأستاذُ الشيخ محمد عبده؛ يحضر دروسَه، ويُلازم مجالسَه التي كانت مجالسَ حكمة وعلم، وكان يومئذٍ فتًى متأثرة عواطف قلبه الفتيِّ بمنازع التصوف، ورياضاته ومواجده، وكان يتلقَّى علومَ الأزهر على أنماطها المعروفة، شاعرًا بأن وراءها كمالًا علميًّا لا يجده فيما حوله. وكان السيد الأفغاني وحده قادرًا على تخليص الشيخ محمد عبده من خموله الصوفي، وتخليصه من الحيرة في التماس الكمال العلمي؛ إذ كان السيد جمال الدين الأفغاني، الكبير بمواهبه الفطرية، وبسعة علمه، وحُسن نظام فِكره، وسموِّ مطامحه، وعلوِّ نفسه القوية، المشتعلة حياةً وعزمًا، والمملوء بالحوادث الجُلَّى والآلام، قد صاحبه الشيخُ محمد عبده تلميذًا وصديقًا منذ سنة ١٢٨٨–١٢٩٦ﻫ/١٨٧١–١٨٧٩م، وبعد سنتين من صحبة الشيخ محمد عبده للسيد جمال الدين ظهر لنا ذلك الشابُّ المتصوف، الذي كان ينطلق في القول على وجَل إذا سأله العامة عن شيء من أمر دينهم في تلك المجامع التي كان يقوده إليها خالُ أبيه الشيخ درويش، مؤلفًا جريئًا يكتب رسالة سنة ١٢٩٠ﻫ/١٨٧٣م، وفيها الكثيرُ من المذاهب الفلسفية والصوفية.

وفي سنة ١٢٩٢ﻫ/١٨٧٥م ألَّف الشيخ محمد عبده حاشيتَه على شرح الجلال الدواني للعقائد العضدية، ولم يكن يومئذٍ قد جاوز السادسة والعشرين من عمره، ولكنه ظهر فيها محيطًا بمذاهب المتكلمين والفلاسفة المتصوفة إحاطةَ فهمٍ ونقد، وقد ضمَّنها توضيحًا لمختلف المذاهب في الإلهيات والنبوات.

وأول ما نشر على الناس من آثاره هو ما كتبه في جريدة «الأهرام» لبداية نشأتها سنة ١٢٩٣ﻫ/١٨٧٦م وهي فصول سامية المنزع مشتملة على أصول الدعوة الإصلاحية التي صرف حياتَه في سبيلها، وقد استرعت تلك الفصولُ نظرَ الناس إلى ذلك الفتى الناهض إلى السابعة والعشرين من عمره نهضةَ المصلحين الكبار عاقلًا جريئًا.

وفي سنة ١٢٩٤ﻫ/١٨٧٧م نال الشيخ محمد عبده الشهادة العالمية الأزهرية من الدرجة الثانية وهو ابن ثمانٍ وعشرين سنة.

وأخذ يُدرِّس كُتُب المنطق والكلام المشوب بالفلسفة في الجامع الأزهر، ويُدرِّس في داره لبعض المجاورين كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، وكتاب التحفة الأدبية في تاريخ تمدُّن الممالك الأوروبية، تأليف الوزير فرانسوجيزو، وتعريب الخواجة نعمة الله الخوري.

وفي أواخر سنة ١٢٩٥ﻫ/١٨٧٩م نُفي من مصر بمساعي الإنجليز السيد جمال الدين الأفغاني الذي كان عمله السياسي شجًى في حلق ممثل إنجلترا بمقدار ما كان تجديده لدرس الفلسفيات غيظًا للجامدين من أهل الأزهر، وعُزِل الشيخ محمد عبده من مدرسة دار العلوم ومدرسة الألسن، وأُمر بأن يُقيم في قريته «محلة نصر» لا يفارقُها أبدًا إلى بلد آخر.

في أوائل حُكم الخديو توفيق حصلت هذه الحادثةُ، وكان الوزير الكبير رياض «باشا» خارج القطر، وهو الذي قد زيَّن للسيد جمال الدين المقامَ في مصر، وأمدَّه بالمعونة ليستعين بها على تربية شباب مصلح، وإذا كان الوزير الكبير قد عجَز عن ردِّ ما فات من نفي السيد الأفغاني، فما كان ليفوتَه أن ينتفع بتلاميذه، وما كان ليتركَ خليفة السيد جمال الدين منفيًّا في قرية من قرى البحيرة محرَّمًا عليه أن يخرج منها، فاستصدر له عفوًا من الخديو سنة ١٢٩٧ﻫ/١٨٨٠م، وعيَّنه محرِّرًا في الجريدة الرسمية ثم جعله في آخر السنة رئيسَ تحريرِها.

ولقد نهض الشيخُ محمد عبده بحركة إصلاح هيَّأت له مساعدةُ رياضٍ وسائلَها، وأعانه عليها خِيرةُ تلاميذ السيد جمال الدين الذين كانوا يشتغلون معه في تحرير الجريدة الرسمية، إلا أن صِلة الأستاذ بالأزهر قد انقطعت يومئذٍ، فلم يعُدْ معلِّمًا يريد أن يُصلح طُرق التعليم فيه، ويُرشد أهله إلى العلوم الجديدة، ولكنه أصبح صحافيًّا يحاول الإصلاح الاجتماعي والسياسي على مبادئ الحرية والعدالة والشورى.

ألمَّ الشيخُ رئيس تحرير الجريدة الرسمية «الوقائع المصرية» في فصوله الكبيرة الفائدة القوية الروح بوجوه الإصلاح التي كانت تنبعث عزيمتُه إليها، فدعا إلى التعاون على الخير، وحبَّذ فكرة الحرية ورفع المظالم عن الأهالي، وعاب على الشعب كلِّه، ونادى بإصلاح التعليم والتربية في المدارس، وحمل على الرشوة وأهلها، وبيَّن أن الحق للقانون لا للقوة، وذمَّ إسراف الأهالي وتمسُّكَهم بظواهر المدنيَّة مع الغفلة عن وسائل المدنيَّة الصحيحة، وعالج إصلاحَ منتدياتنا وإصلاح بيوتنا، وذكَر رأيه في خطأ العقلاء الذين يريدون الرُّقيَّ طفرةً ووثوبًا.

ثم تعرَّض الأستاذ لنوع من الإصلاح الديني، شُغِف به في أدوار حياته الإصلاحية كلها ذلك هو تطهير الإسلام من البدع التي شوَّهت شعائرَه وجنَتْ عليه، وهذه المقالات تجمع مبادئَه الوطنية، ومذاهبه في الحرية، وطريقه في الإصلاح.

كان الشيخ وطنيًّا يرى أن خير أوجه الإصلاح للوطن هو تحقيق وحدته ليمتنع الخلافُ والنزاع فيه، على أنه نصيرٌ للمبادئ التي تدعو إلى المحافظة العامة على دعائم السلام والإخاء بين الناس، وهو داعٍ إلى الحرية، حرية العمل، ورفع سوط القسوة غير القانونية، بحيث لا يُسخَّر أحدٌ في عمل من الأعمال إلا فيما يعود بالمنفعة العامة على البلاد، أما سبيل الأستاذ في الإصلاح، فهي سبيل التدريج، يريد أن يحفظَ للأُمة عوائدَها الكلية المقررة في عقول أفرادها، ثم يطلب بعضَ تحسينات فيها لا تبعُد عنها بالمرَّة، فإذا اعتادوها طلَب منهم ما هو أرقى بالتدريج، حتى لا يمضيَ زمنٌ طويل إلا وقد انخلعوا عن عاداتهم وأفكارهم المنحطَّة إلى ما هو أرقى من حيث لا يشعرون.

وتأثَّر الشيخ بمبادئ أستاذه، ومع ذلك كان لمذاهبه الإصلاحية استقلالٌ يجعل لها شخصية وحدَها، ولقد كان حين تولِّيه تحرير الجريدة حديثَ عهد بصحبة أستاذه، حديثَ عهد بالتخرج على يدَيه، وكانت له على هذا سبيلٌ في الإصلاح ليست من كلِّ وجه سبيل السيد جمال الدين؛ إذ كان السيدُ مشتعلَ الحماسة، يريد أن يُلهِب النفوس فيؤجِّج نارَها، ثم يَصوغ من ضعفها قوة، ومن ذلِّها عزًّا؛ كان يرى أن الثوراتِ هي سبيل الإصلاح الاجتماعي والسياسي، أما الشيخ محمد عبده أيام تحرير الجريدة الرسمية فكان معلِّمًا مصلحًا يطلب الأناة في دفْع الأمم إلى الرُّقي، ليعلِّمَها ويهذِّبَها أولًا، ثم يسوقَها برفق إلى ما عُلِّمت.

ولقد كانت له وهو رئيس لتحرير الجريدة الرسمية يدٌ عاملة في حركة الأفكار، ولم يكن ممن يدعون إلى الإصلاح من طريق الثورة عندما هبَّت أعاصيرُ الثورة العُرابية، ولما أن رآها قائمةً لنصرة أغراض هي مبادئه ومبادئ أستاذه اتصل بها، وألقى في نارها حطبًا، وقد حُوكم مع زعمائها، وحُكِم عليه بالنفي ثلاث سنين وثلاثة أشهر، فسافر رحمه الله إلى سورية في حدود سنة ١٢٩٩ﻫ/١٨٨٣م وأقام فيها سنة، وسافر إلى أوروبا على موعد بينه وبين أستاذه وصديقه السيد جمال الدين، فأقام فيها عشرة أشهر معظمها في باريس، وهناك أصدرَا معًا جريدة «العروة الوثقى» التي كان السيد الأفغاني مديرَ سياستها والشيخ محمد عبده محرِّرَها الأول.

وكانا ألَّفا جمعية من مسلمي الهند ومصر والمغرب وسورية، غرضُها السعيُ في جمْع كلمة المسلمين، وإيقاظُهم من رُقادهم، وإعلامُهم بالأخطاء المحدقة بهم وإرشادُهم إلى طريق مقاومتها، إلا أنه في آخر سنة ١٣٠١ﻫ/١٨٨٤م احتجبت الجريدةُ بعد ثمانية أشهر لقيتْ فيها كل مصادرة في الهند ومصر، وأخفق حلمُ السيد جمال الدين الأفغاني بإنشاء دولة إسلامية تنهض بالشرق نهوضًا يُزاحم الغربَ بالمناكب ويحدُّ من عدوانه.

ثم سافر الأستاذ إلى تونس فأقام فيها أيامًا، وسافر إلى بلاد أخرى متنكِّرًا لتوثيق عقود العروة الوثقى السرية، وألقى عصا السير بعد ذلك إلى بيروت، فأقبل عليه أهلُ العلم والفضل من جميع المِلل والطوائف، وكانت دارُه مدرسة يؤمُّها الأذكياء وعشَّاق المعارف والآداب، وقد وصلتْه روابطُ ودٍّ بمحيي الدين بك حمادة فتزوَّج بنت أخي هذا الصديق بعد وفاة زوجته الأولى.

وفي أوائل سنة ١٣٠٣ﻫ/١٨٨٥م دُعي للتدريس في المدرسة السلطانية لإحياء اللغة والدين فيها، وكان يشتغل مع التدريس بالتأليف والكتابة، وقد ألَّف «رسالة التوحيد» هناك، ونقل إلى العربية رسالة «الرد على الدهريين» التي كتبها السيدُ جمال الدين باللغة الفارسية، وشرح كتاب «نهج البلاغة» و«مقامات بديع الزمان الهمذاني».

وعاد الأستاذ في سنة ١٣٠٦ﻫ/١٨٨٨م من منفاه، ولكن الخديو توفيق خشي أن يربيَ له تلاميذ على أفكاره ومنازعه، فلم يرضَ بتعيينه معلِّمًا كما كان يشتهي، بل عيَّنه قاضيًا بمحكمة بنها الأهلية، ومنها انتقل إلى محكمة الزقازيق فمحكمة عابدين.

وفي سنة ١٣٠٨ﻫ/١٨٩٠م عُيِّن مستشارًا بمحكمة الاستئناف الأهلية، وفي سنة ١٣١٢ﻫ/١٨٩٤م جعلتْه الحكومة المصرية عضوًا في مجلس إدارة الأزهر، وهو أول مجلس أُسس بسعيه ليكون رسول الإصلاح.

ولسِتٍّ بقين من المحرم سنة ١٣١٧ﻫ/٣ يونيه ١٨٩٩م عُيِّن مفتيًا للديار المصرية، وفي هذه السنة عينِها جعلتْه الحكومة عضوًا في مجلس شورى القوانين.

كان عند الأستاذ ميلٌ إلى تعلُّم لغة أجنبية، فلم تدعْ له الحوادث متسعًا، لكن تعلُّم لغة أجنبية كان أمنيةً من أمانيه لم تزلْ تُعالجها همتُه الكبيرة حتى بلغتها، تعلَّم اللغة الفرنسية بعد أن عاد إلى مصر واشتغل بالقضاء، وهو ابن أربع وأربعين سنة، وأحكمها قراءة وكتابة وحديثًا، كما ذكره أكثر من ترجموا له، وكان رحمه الله يقول: «من لم يعرف لغة من لغات العلم الأوروبية فلا يُعَدُّ عالِمًا في هذا العصر.»

وقد سافر إلى أوروبا عدة مرات، واستفاد من سياحاته ومن مطالعاته لكُتب الغربيين في الفنون المختلفة، وظهر أثرُ ذلك في أفكاره وكتاباته ودعواته الإصلاحية.

أقام الأستاذ في القضاء الأهلي حوالَي عشر سنين، ظهرتْ فيها كمالاتُه الأخلاقية والعلمية، وانصرف في أثنائها إلى درس اللغة الفرنسية والمطالعة والقيام بأعباء منصبه، وتلك كانت مدةَ تجمُّع لوثبة الإصلاح التي بدأت يوم دخوله مجلس إدارة الأزهر فتعيينه مفتيًا للديار المصرية.

في ذلك العهد أزهَر نشاطُ الأستاذ في الإصلاح الديني والعلمي والاجتماعي، ووصل الشيخ محمد عبده كما يقول قاسم بك أمين في تأبينه: «إلى مقام الإمام بأوسع معناه، مقام مكَّنه من أن يُمسك بيده زمامَ أُمة، ويُحرِّكها نحو الخطة التي رسمها، ويسوقها في طريق المستقبل الذي هيَّأه لها.»

وظلَّ الأستاذ الإمام يُجاهد في سبيل الإصلاح والرُّقي، غيرَ منهزم أمام جمود الجامدين، وظلم الظالمين، وكيد الكائدين، حتى ذهب إلى ربِّه يوم ٨ جمادى الأولى سنة ١٣٢٣ﻫ/١١ يوليه سنة ١٩٠٥م رحمه الله تعالى.

وقد كتب الشيخ محمد عبده بقلمه في ترجمته لنفسه، مُلخِّصًا سيرتَه وأعماله بقوله: «ارتفع صوتي بالدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد وفهْم الدين على طريقة سلف الأُمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لتردَّ من شَططِه، وتُقلِّلَ من خلطه وخبطه، لتتمَّ حكمةُ الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنه على هذا الوجه يُعد صديقًا للعلم باعثًا على البحث في أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعويل عليها في آداب النفس وإصلاح العمل، وكل هذا أعده أمرًا واحدًا، وقد خالفت في الدعوة إليه رأْي الفئتين العظيمتين اللتين يتركَّب منهما جسم الأُمة: طلاب علوم الدين ومَن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومَن هو في ناحيتهم.

وأما الأمر الثاني: فهو إصلاح أساليب اللغة العربية في التحرير، سواء كان ذلك في المخاطبات الرسمية بين دواوين الحكومة ومصالحها، أو فيما تنشره الجرائدُ على الكافة مُنشأً أو مترجمًا من لغات أخرى، أو في المراسلات بين الناس، وكانت أساليبُ الكتابة في مصر تنحصر في نوعين كلاهما يَمجُّه الذوقُ وتُنكره لغةُ العرب.

وهناك أمر آخر، كنتُ من دُعاته والناس جميعًا في عمًى عنه وبُعْدٍ عن تعقُّله، ولكنه هو الركن الذي تقوم عليه حياتُهم الاجتماعية، وما أصابهم الوهنُ والضعف والذل إلا بخلو مجتمعهم منه؛ وذلك هو التمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب وما للشعب من حق العدالة على الحكومة. نعم كنتُ ممن دعا الأمة المصرية إلى معرفة حقِّها على حاكمها، وهي هذه الأمة التي لم يخطر لها هذا الخاطر على بال من مدة تزيد على عشرين قرنًا.

دعوناها إلى الاعتقاد بأن الحاكم وإن وجبت طاعتُه هو من البشر الذين يخطئون وتغلبهم شهواتُهم، وأنه لا يردُّه عن خطئه ولا يَقف طغيانَ شهوته إلا نصحُ الأمة له بالقول والفعل.

جهرنا بهذا القول، والاستبداد في عنفوانه، والظلم قابض على صولجانه، ويد الظالم من حديد، والناس عبيدٌ له وأي عبيد.

نعم إنني في كل ذلك لم أكن الإمامَ المتَّبع، ولا الرئيس المطاع، غير أني كنتُ روحَ الدعوة، وهي لا تزال في كثير مما ذكرت قائمة.

ولا أبرح أدعو إلى عقيدتي في الدين، وأطالب بإتمام الإصلاح في اللغة وقد قارب، أما أمر الحكومة فقد تركتُه للقدر يُقدِّره، وليد الله بعد ذلك تُدبِّره؛ لأنني قد عرفت أنه ثمرةٌ تجنيها الأممُ من غراس تغرسه، وتقوم على تنميته السنين الطوال، فهذا الغراس هو الذي ينبغي أن يُعنَى به الآن، والله المستعان.»

وقد نعتْه أكثرُ الصحف العربية والإفرنجية وأفاضت القولَ في رثائه، واحتُفل بتشييع جنازته رسميًّا في الإسكندرية والقاهرة، واشترك فيها ألوف من مختلف الطوائف والهيئات.

وفي اليوم الأربعين لوفاته أُقيم حفلٌ كبير لتأبينه تحدَّث عنه فيه الأساتذة حسن عاصم «باشا»، والشيخ أحمد أبو خطوة، وحسن عبد الرازق «باشا»، وقاسم أمين «بك»، وألقى العالِم الأديب حفني ناصف «بك» قصيدةً عصماء، كما ألقى شاعر النيل حافظ إبراهيم «بك» قصيدةَ رثاء أخرى استُعيدت أبياتُها مرات، ونذكرها فيما يلي:

سلامٌ على الإسلام بعد محمد
سلامٌ على أيامه النضراتِ
على الدين والدنيا، على العِلم والحِجى
على البِر والتقوى، على الحسناتِ
لقد كنتُ أخشى عاديَ الموت قبلَه
فأصبحتُ أخشى أن تطولَ حياتي
فوا لهفي والقبر بيني وبينه
على نظرةٍ من تلكمُ النظراتِ
وقفتُ عليه حاسرَ الرأس خاشعًا
كأني حِيالَ القبر في عرفاتِ
لقد جهلوا قدْر الإمام فأنزلوا
تجاليده في مُوحشٍ بفلاةِ
ولو أضرحوا بالمسجدَين لأنزلوا
بخير بقاع الأرض خير رفاتِ
تباركت، هذا الدينُ دينُ محمد
أيُترك في الدنيا بغير حُماةِ
تباركت، هذا عالم الشرق قد قضى
ولانت قناةُ الدين للغمزاتِ
زرعتَ لنا زرعًا فأخرج شطأَه
وبِنْتَ ولمَّا نجتنِ الثمراتِ
فواهًا له ألَّا يُصيب موفقًا
يشارفه والأرضُ غيرُ مواتِ
مددْنا إلى الأعلام بعدكَ راحَنا
فرُدَّت إلى أعطافنا صَفِراتِ
وجالَت بنا تبغي سواكَ عيونُنا
فعُدن وآثرْنَ العمى شَرقاتِ
وآذوك في ذات الإله وأنكروا
مكانك حتى سوَّدوا الصفحات
رأيتَ الأذى في جانب الله لذة
ورحتَ ولم تهمم له بشكاةِ
لقد كنت فيهم كوكبًا في غياهب
ومعرفة في أنفس نكراتِ
أبنتَ لنا التنزيلَ حكمًا وحكمةً
وفرَّقت بين النور والظلماتِ
ووفقتَ بين الدين والعلم والحجى
فأطلعتَ نورًا في ثلاث جهاتِ
وقفتَ لهانُوتُو ورينانَ وقفة
أمدَّك فيها الروحُ بالنفحاتِ
وخفت مقامَ الله في كل موقفٍ
فخافك أهلُ الشك والنزعاتِ
وكم لك في إغفاءة الفجر يقظة
نفضتَ عليها لذَّة الهجعاتِ
ووليت شطرَ البيت وجهك خاليًا
تُناجي إله البيت في الخلواتِ
وكم ليلةٍ عاندتَ في جوفها الكَرَى
ونبَّهت فيها صادقَ العَزماتِ
وأرصدتَ للباغي على دين أحمد
شَباةَ يراع ساحر النفثاتِ
إذا مسَّ حدَّ الطِّرْس فاض جبينُه
بأسطار نور باهر اللمعاتِ
كأن قرار الكهرباء بشقه
يُريك سناه أيسر اللمساتِ
فيا سنةً مرَّت بأعواد نعشه
لأنت علينا أشأم السنواتِ
حطمتَ لنا سيفًا وعطلتَ مِنبرًا
وأذويت روضًا ناضر الزهراتِ
وأطفأتَ نبراسًا وأشعلتَ أنفسًا
على جمرات الحزن منطوياتِ
رأى في لياليك المنجِّمُ ما رأى
فأنذرنا بالويل والعثراتِ
ونبَّأه علمُ النجوم بحادثٍ
تبيت له الأبراجُ مضطرباتِ
رمى السرطان الليث والليث خادرٌ
ورُبَّ ضعيفٍ نافذ الرمياتِ
فأودى به ختلًا فمال إلى الثرى
ومالت له الأجرامُ منحرفاتِ
وشاعت تعازي الشهب باللمح بينها
عن النيِّر الهادي إلى الفلواتِ
مشى نعشُه يختال عجبًا بربِّه
ويخطر بين اللمس والقبلاتِ
تكاد الدموع الجاريات تُقِلُّه
وتدفعه الأنفاسُ مستعراتِ
بكى الشرقُ فارتجت له الأرضُ رجَّةً
وضاقت عيونُ الكون بالعَبراتِ
ففي الهند محزون وفي الصين جازعٌ
وفي مصر باكٍ دائم الحسراتِ
وفي الشام مفجوعٌ وفي الفُرس نادبٌ
وفي تونسٍ ما شئت من زفراتِ
بكى عالَمُ الإسلام عالِمَ عصره
سراج الدياجي هادم الشبهاتِ
ملاذ عياييل ثمال أراملٍ
غياث ذوي عدم إمام هداةِ
فلا تنصبوا للناس تمثال عبده
وإن كان ذكرى عبرةٍ وثباتِ
فإني لأخشى أن يضلوا فيومئوا
إلى نور هذا الوجه بالسجداتِ
فيا ويح للشورى إذا جدَّ جدُّها
وطاشتْ بها الآراء مشتجراتِ
ويا ويح للفتيا إذا قيل مَن لها
ويا ويح للخيرات والصدقاتِ
بكَين على فردٍ وإن بكاءنا
على أنفسٍ لله منقطعاتِ
تعهَّدها فضلُ الإمام وحاطها
بإحسانه والدهر غير مُواتِ

•••

فيا منزلًا في عين شمس أظلني
وأرغَم حسَّادي وغمَّ عُداتي
دعائمه التقوى وآساسه الهدى
وفيه الأيادي موضع اللَّبِناتِ
عليك سلامُ الله ما لك موحشًا
عبوس المعاني مقفر العرصاتِ
لقد كنت مقصود الجوانب آهلًا
تطوف بك الآمالُ مبتهلاتِ
مثابة أرزاق ومهبط حكمة
ومطلع أنوار وكنز عظاتِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤