نفسية التعب

قالت «ماري بينون رامي» مؤلِّفة كتاب «كيف تنجو من التعب؟» من مجلة «المرأة اليوم»: «يكاد كل إنسان يشعر بالتعب أحيانًا، ولكن بعضهم لا يُفارقه التعب أبدًا. ولو عرف الناس حقيقة التعب، وساروا على ما تقتضيه؛ لقلَّ تعبهم. وأكثرنا تُساوِره أوهامٌ باطلة عن خير الوسائل التي تُنجِّيه من التعب؛ فلماذا لا ننتفع بالحقائق الثابتة حتى نزداد نشاطًا وسعادة؟»

التعب المُزمِن غير ناشئ عن جهد البدن أو العقل؛ ذلك أنه مهما كان التعب الناشئ عن جهد البدن شديدًا، فنوم ليلة كفيلٌ بأن يُزيله. والتعب لا يتراكم بعضه على بعض، والرجل منَّا إذا كان يعمل قاعدًا، وكان سليمًا مُعافًى؛ فمردُّ تعبه كله إلى أسبابٍ غير جهد البدن الذي يبذله في عمله. والواقع أن السآمة الناشئة عن عمل يستغرق معظم طاقتنا هو وحده أعظم أسباب التعب.

إن السبب الحقيقي لحدوث التعب المُزمِن إنما هو سببٌ نفسي؛ فليس العمل هو الذي يجلب لنا التعب، بل توتُّر الأعصاب الذي يستبدُّ بنا في ساعة العمل، كالهمِّ والتردد والسآمة والشعور بالضعة والعجلة والخوالج الجنسية المعقَّدة.

وينبغي العلم بأن الراحة ليست علاجًا للتعب.

إذ إنه مهما طالت الراحة فلن تشفي الرجل الذي يعمل قاعدًا من تعبه، أو من أي تعب مُزمِن آخر، بل العلاج الشافي هو صرف الهمة إلى عملٍ آخر، إلى عمل يُخالفه أو عملٍ أشق منه، أو إلى رياضةٍ أحب إلى النفس، أو إلى الاستمتاع بمُخالطة الناس. أما التسكُّع فلا يأتي بخير ولا تغيير، ولا يصرف العقل عمَّا يُخامِره، ولا يُزوِّده بشيءٍ جديد يشغله. والبدن لا يفتقر إلى الراحة، والعقل يفتقر إلى التغيير، وما من شيء يُفجِّر ينابيع النشاط سوى شاغل يستأثر باهتمام المرء.

كذلك ينبغي العلم أن اضطراب الغُدد الصُّم قلَّ أن يكون سببًا للتعب.

فإن نقص إفراز الغُدة الدرقية والغُدة الكظرية يجعل المرء أكثر استهدافًا للتعب، ولكن الطبيعة زوَّدت معظم البشر بما يردُّ عنهم عاديَة هذا النقص. وليس في بدن الإنسان طائفةٌ خاصةٌ مُمتازة من الغُدد وظيفتها أن تملأ بدنه نشاطًا، وليست الغُدد أكثر بثًّا للنشاط من القلب والرئتَين. والمرء إذا كانت في بدنه غُددٌ مُفرِطة النشاط، فهو عُرضة للإعياء من فرط ثورة العاطفة. وهناك شيءٌ أعظم من الهرمونات يُحرِّك تلك القوة البشرية المُتدفقة، ألا وهو الشغف بشيء في الحياة.

وقد ثبت أن المِلح يكسر حدَّة تعب البدن.

إن العمل الشاق والحرارة المُفرِطة تجعل البدن يعرق عرقًا غزيرًا يخرج معه الملح، وقلة الملح في البدن تُورِث التعب، واسترداد ما يفقده منه يُخفِّف التعب؛ وإذن فلا بد لك من أن تعرف مقدار الملح الذي ينبغي أن تسترده.

أما كلال الأعصاب فليس بناشئ عن فرط العمل.

ويؤيِّد الثقات ما يقوله الدكتور أوستن ريجز: «العمل الشاق وإن كثُر، وسواء كان عمل العقل أو عمل البدن، لم يُفضِ قط إلى إصابة أحد بكلال الأعصاب.» ويقول الدكتور إيراوايل: «لا أعرف شيئًا يُسمَّى كلالًا يُورِثه فرط العمل.»

هذا والتعب ليس ضربة لازم على الشيخوخة؛ إذ تتوقَّف وَفْرة النشاط في زمن الشيخوخة على كثرة الأشياء التي لا يزال المرء مشغوفًا بها في حياته وعمله، وتوقُّف النشاط على قوة البدن قليل، وأكبر توقُّفه على توقُّد العاطفة. وقد أتمَّ كثيرٌ من العظماء في زمن شيخوختهم أعمالًا تُضارِع ما أتمُّوه في أيام شبابهم؛ فالشغف هو الذي يُفجِّر القوة الكامنة في النفوس.

أما النشاط فهو أعظم شأنًا من الذكاء في إدراك النجاح.

ذلك أن النشاط هو المُحرِّك الذي يبعث كل ضرب من ضروب الذكاء التي ينطوي عليها المرء، وهو الصفة التي يشترك في حيازتها جميع الناجحين. يقول إمرسون: «إن النشاط هو سر كل نجاح.» وعنده أنه أجلُّ شأنًا من الحكمة في بلوغ النجاح، ويؤيِّده في ذلك علماء النفس.

علاج التعب أمرٌ يسير.

ينقلب المرء بين عشية وضحاها من رجل يؤدُّه الإعياء الثقيل الذي يسري في عروقه كالرصاص المصهور، فإذا هو رجل يتفجَّر قوةً ونشاطًا. وقد أقام علماء الطب النفسي الدليل على هذا.

وأكثر الناس الذين يمسُّهم التعب مسًّا خفيفًا أو ثقيلًا كانوا في مندوحة عن التعب، فما كان عليهم إلا أن يُراعوا هذه الحقائق المذكورة، فإذا هم بمَنجاة من غائلة التعب، وإذا أيسر شيء وأسرعه وأعجبه أن يرَوا ينابيع النشاط تتفجَّر مُتدفقة بين جوانحهم.

التعب وفلسفة النوم

وقد تعدَّدت النظريات والمذاهب في سر النوم وطبيعته، ولا خلاف في أنه ليس من بينها مذهبٌ صحيح في جملته دون المذاهب الأخرى. ومن رأيي أن تُراعى في تعليل سر النوم جميع هذه المذاهب معًا، وهي تتلخَّص فيما يلي:
  • (١)

    نظرية الدورة الدموية: وهي أننا نُحسُّ دبيب النوم في أجفاننا بسبب افتقار المخ إلى الدم.

  • (٢)

    النظرية العصبية: وهي أن النوم يحدث من انكماش في الزوائد الشجرية المُمتدة في نهاية الخلايا العصبية للاتصال بالزوائد الأخرى المُماثلة لها بتأثير التعب الذي يحلُّ بها من العمل والتفكير، وبانقطاع الصلة فترة بين هذه الزوائد يتسلَّل النوم إلى مَعاقد الأجفان.

  • (٣)

    النظرية الكيمائية أو نفاد الأكسجين: وهي أن الأعمال التي يؤدِّيها المرء طيلة النهار تحدُّ من قدرته على استيعاب الأكسجين، وأن النوم يأتي بسبب هذا الاختناق الجزئي. ويندمج في هذه النظرية أيضًا المذهب القائل «إن إفرازات الغُدد الصمَّاء تُساعد على النوم»، ونظرية التسمم، وهي أن الحمض اللبني وغيره من السموم تتجمَّع خلال ساعات النهار، فتُخدِّر المخ تخديرًا جزئيًّا، وتدفعه إلى النوم.

  • (٤)

    النظرية النفسية البيولوجية: وهي أن النوم غريزة ودعوة إلى دور الراحة عند الحيوانات، وأن الغرض منع الاضمحلال والفناء. ويحدث النوم بمجرد التراخي التام الذي يُعاجل العضلات. وهو رأي تؤيِّده المُشاهَدات؛ إذ يأتي النوم عقب التراخي عند الإنسان والحيوان على السواء.

  • (٥)
    النظرية المتَّصِلة بالتحليل النفسي: وهي أن النوم رِدَّة إلى حالة الطفولة. ومن المسلَّم به أن الوليد الجديد ينام أربعًا وعشرين ساعة تقريبًا، ولا يُوقِظه سوى طلب الغذاء. ويريد أصحاب مذهب فرويد أن يحملونا على الاعتقاد بأن النوم محاولة إلى الارتداد والتراجع عن الحقيقة، والعودة إلى حالة الطفل في مهده.١
١  العقل الباطن، تأليف سادلر، وترجمة ع. ح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤