علم السلوك الإنساني الحديث

يقول البروفسور كارل مانهايم: «إن الشيء الطريف في علم النفس في عصرنا هذا هو أن علم الاجتماع وعلم العمران البشري وعلم النفس، وهي العلوم التي كان كلٌّ منها في الماضي يعمل في ناحيةٍ مختلفة، قد نجحت في صبِّ نتائجها في بوتقةٍ واحدة نشأ منها علمٌ واحدٌ تام يُسمَّى «العلم الحديث لسلوك الإنسان». والاكتشاف الرئيسي لهذا العلم الحديث هو أنه لا يمكن أخذ أي فرع من الشعور أو رد الفعل أو الحركة أو التفكير كقضيةٍ مسلَّم بها، أو كأمرٍ مُبرَم لا يتغير؛ إذ من المُحتمل جدًّا أن يقوم الشخص بأفعال أو يُفكِّر بطريقٍ مُغاير لما كان يُفكر فيه إذا رُوِّض على ثقافةٍ أخرى. وبالطريقة نفسها يقوم التعرُّض مُبكرًا إلى تجارب مختلفة ومؤثرات ثقافية متغايرة بدَورٍ كبير في تكوين شخصيتنا.»

وقد قال ذات مرة الفيلسوف المعروف والاقتصادي المشهور آدم سمث: «إن الاختلاف بين الشخصيات غير المُتجانسة وبين الفيلسوف والحمَّال العادي مثلًا، ليس ناتجًا من الطبيعة بقدر ما هو ناتج من العادة أو الثقافة.» وقد ثبت هذا القول منذ ذلك الحين في غرفة استشارة علماء النفس عن طريق الدراسات الوصفية بالمُقارنة بين الأجناس البشرية من القبائل المختلفة، وكذلك بما يُلاحظه علماء الاجتماع في السلوك العام لطبقاتٍ مختلفة من الشعب تنتمي كلها إلى بيئةٍ واحدة.

والباحث في السلوك الإنساني لا يأخذ أية قضية على أنها أمرٌ مسلَّم به لا يمكن تغييره؛ لأنه قد تعلَّم ألا ينخدع بالمظهر الخارجي وبانفعالات النفس وتعبيراتها، بل يخترق بثاقب فكره هذه القشورَ الظاهرية إلى جوهر الحقيقة، كما أنه تعلَّم أن يدرس وسائل التكييف الاجتماعي التي تُكون العادات.

وهذه العادات — رغم أن الإنسان لا يكتسبها في الحقيقة إلا بالترويض المُمض — قد يظنُّها الفرد كامنة في نفسه من الأصل، كما عرف العالم كيف أن الغرائز والميل إلى تفضيل شيء على آخر، كثيرًا ما تكون نتيجة للبيئة. ونستطيع أن نُبرهِن على صحة هذا القول إذا ما نظرنا إلى اختلاف عادات الطعام باختلاف الشعوب، أو بدراسة الأذواق المختلفة أو الطُّرق المُتباينة للاستمتاع بأوقات الفراغ. وعرف العالم أيضًا أن الحالة العاطفية التي تُسيطر على بلاد بأكملها إنما تكتسبها البلاد بالتكييف والتمرين على السواء؛ فطبيعة الإنجليزي مثلًا في سيطرته على عواطفه لا تقلُّ في كونها نتيجة التقليد الاجتماعي عن ثورة العواطف عند الإيطالي أو الإسباني.

ووجد العالم عن طريق دراسة الثقافات — دراسة مُفاضلة وتمييز — أن الاحترام الذي تفرضه الشخصيات العديدة المُتباينة يُكيِّفه الاجتماع أيضًا، سواء امتدح الإنسان شخصًا يتبرَّع بمُساعدته للناس، أو قدَّر القديس المُتواضع على الدوام، أو أُعجب بالعصامي الخشِن. وهو يعلم أيضًا أن نظريات الناس وطُرُق تفكيرهم وقدرتهم على التمييز والتعلُّم من الخبرة والموانع التي تمنعهم عن مواجهة الحقائق، هي أغلب ما تكون ناتجة عن الثقافة الاجتماعية؛ ومن ثَم يمكن تغييرها إذا ما ظهرت في أنواع الثقافة عوامل جديدة لتكييفها أو نظريات لتوجيهها. وقد صدق جون ستيوارت مِل، فيلسوف القرن الماضي، حين قال: «هناك حقيقة قد ثبتت صحتها، وهي أن كل الفرق الذي قد كان والذي يمكن أن يكون بين طبقة من الناس وأخرى، يعود جميعه إلى الثقافة والتعليم.» ومع أننا لا نعرف إلى الآن ما فيه الكفاية عن طبيعة الغرائز الأساسية، إلا أننا نُدرِك مرونة تشكيلها في الأشخاص، ولا نعرف في دقةٍ أنواع العوامل الاجتماعية التي تُوجِّه سلوك الإنسان وجهةً خاصة، ولكننا نعرف حالاتٍ مختلفةً تكفي لوضع نظريات لاكتشاف ما يأتي فيما بعد، ولا نعرف كيف وُجِدت أنواع تلك الشخصيات المُسيطرة القوية في مختلف القبائل والأمم، ولكننا نعرف عنهم ما يكفي لمُساعدتنا على توسيع نطاق طُرُق البحث لملاحظة طبيعة الإنسان والشخصيات التي يمكن أن تنتمي إليها. ومع أنه ترك للمستقبل ضبط هذه المُلاحظات، فإننا نعرف ما يكفي ما يمكننا من الوصول إلى نتائج تقريبية صحيحة نسبيًّا للأغراض العملية.

أما عن احتمال استخدام الأيدي العاملة في طُرُق الخير أو الشر، فقد أظهرت ذلك الدولُ الإجماعية في وضوح. ومع أن زعماء تلك الدول لم يتوصَّلوا إلى تحقيق أغراضهم عن طريق دعايتهم وتنسيق مجهوداتهم المشتركة في الثقافة وتكوين الشعب، فإنهم أثبتوا على الأقل أن تغيير أفكار الناس وطُرُق تصرُّفهم وتكوين شخصياتهم أمرٌ ممكن الحدوث. ومن الخطأ أن نعتقد أن حشد الأيدي العاملة وتوجيه الجهود الإنسانية قد ظلَّ الخاصية المُميزة لسياسة الإجماعيين؛ إذ إن الدول الديمقراطية أيضًا تستخدم أساليب الدعاية لتؤسِّس نظامًا تعاونيًّا للشباب، وهي تُحاول أيضًا أن تنهض بسياسةٍ تعليمية يكون هدفها تنشئة أبناء الشعب الذين يصلحون للمجتمعات الديمقراطية؛ إذن فلا يستطيع أحد أن يشكَّ في أنه في الوُسع إعادة تكييف الأفكار والعادات والميول عند الشعب، وسيسع العلمَ الحديث في الوقت المناسب تفسيرُ طريقة الحصول على هذا التكييف.

وحين يصل العلم الحديث إلى تفسير أسرار تكييف السلوك وتغييره، يجب علينا أن نُقرِّر ما نريد أن نفعل بهذه القوة الجديدة العظيمة التي لا بد أن تصبح مِلك أيدينا إن عاجلًا أو آجلًا. أما إن استمرَّ العالم والمثقَّفون في عدم الاكتراث بموضوع علم السلوك الإنساني الحديث، فسيتولَّى أمرَه مُروِّجو الاضطرابات والقلاقل وأصحاب الدعايات. وقد أظهروا ما فيه الكفاية على أنهم يعرفون جيدًا كيف يتعمَّدون حشد الأيدي العاملة بقصد فصم عُرى الوفاء والتقاليد والمُثل العليا، ويعرفون كيف يُنظِّمون العمل بحيث يعود عليهم بالمنفعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤