بعد الثامنة ودقيقتَين

أمسية حارة في المعادي، و«تختخ» مُتمدِّد على كرسي «شيزلونج» في حديقة الفيلا وحيدًا … يقرأ في كتابٍ عن تاريخ النقود … وكأنه يقرأ مغامرةً مثيرة … إن تاريخ أي شيء يبدو مدهشًا عندما تنظر إليه الآن … النقود مثلًا كانَت قطعًا من الحجارة … ثم من الحديد … ثم من الفضة والذهب … وكان على الشخص كي يحمل ألف جنيه مثلًا أن يكون عنده حمار ليحمل المبلغ … ولكن الآن بضع ورقات تُغني عن هذا الحمل الثقيل.

شيء مُثير هذا العالم … هكذا كان «تختخ» يُفكِّر وهو يضع الكتاب جانبًا، ثم ينظر إلى ساعته … السابعة والنصف … ما زال أمامه نصف ساعة ليذهب لمقابلة المغامرين في حديقة منزل «عاطف» كالمعتاد.

كان «زنجر» يجلس على الحشائش بجواره … يتنهَّد بين فترة وأخرى … وقال له «تختخ»: أنت متضايق من هذه الجِلسة الكسول يا «زنجر» … ولكن أين نذهب في هذا الحر اللافح؟

ووضع كفَّيه خلف رأسه وأغمض عينَيه … لقد جاءَت عمته العجوز لتبقى معه بعد سفر والده ووالدته … وكلما حاول أن يخرج سألَته أين تذهب، فإذا تأخَّر أنَّبَته تأنيبًا شديدًا …

إنه يحب عمَّته الحاجة «سنية» جدًّا … سيدة طيبة، تزوَّجَت ولم تُنجب … ومات زوجها وتركها وحيدة … ومع ذلك ما زالَت مُتمسِّكةً بالبقاء في منزلها الصغير بالقرية، تراقب زراعة الأرض، ولا تغادر مكانها إلا نادرًا.

والحاجة «سنية» تحب «تختخ» وتعتبره ولدها … فإذا حضرَت إلى منزلهم قامَت بالإشراف على طعامه ونومه ومذاكرته، وهو مدين لها بالتقدُّم الذي يُحقِّقه في دراسته كل سنة. والآن والامتحانات قد انتهَت فهو يُريد أن يُسافر إلى الإسكندرية، ولكن عمته ترفض أن يسافر وحده، وهي في الوقت نفسه ترفض السفر معه؛ لأنها لا تُحب أن ترى الناس وهم يلبسون «المايوهات» … وتعتبر هذا من سوء التربية … وعدم التديُّن … وكثيرًا ما دخل معها «تختخ» في مناقشات حامية حول هذا الموضوع، ولكنه لم يستطِع أن يُزحزحها مطلقًا عن رأيها.

وفي الهدوء المخيِّم على الشوارع في هذه الساعة من المساء، استطاع أن يسمع جرس التليفون يرن داخل الفيلا … وحاول أن يستنتج من الذي يطلبهم الآن … إن موعده مع بقية المغامرين في الثامنة ما زالَت أمامه نصف ساعة، ومن غير المتوقَّع أن يطلبوه … فمن المتحدِّث إذن؟!

وسمع الباب يُفتح، وظهرَت الشغَّالة وهي تحمل آلة التليفون … وقالَت له: أحد الأصدقاء.

وأمسك «تختخ» بالسمَّاعة، وسمع على الطرف الآخر صوت «عاطف» يقول: «تختخ». ردَّ «تختخ»: نعم!

عاطف: هل تأتي الآن؟

تختخ: بعد نصف ساعة حسب الاتفاق.

عاطف: إنني قلق!

تختخ: لماذا؟

عاطف: لقد خرجَت «لوزة» في السادسة لشراء باكو لبان من البقال المجاور، ولكن لم تحضر حتى الآن … ألم تحضر عندك؟

تختخ: لا …

عاطف: شيء عجيب! … لقد ذهبتُ إلى البقال فقال لي إنه لا يعلم؛ لأنه ترك دكانه لابنه من السادسة إلى السادسة والنصف تقريبًا.

تختخ: وما الداعي للقلق؟ … لعلها لم تجِد النوع الذي تُفضِّله وذهبَت لشرائه من مكان آخر.

عاطف: لو أرادَت أن تذهب بعيدًا لحضرَت لأخْذ درَّاجتها …

تختخ: على كل حال لستُ أجد داعيًا للقلق.

عاطف: إذن تعالَ الآن …

تختخ: سأكون عندك بعد عشر دقائق …

ووضع «تختخ» السمَّاعة وأخذ يُفكِّر … لقد تسرَّب إليه القلق هو الآخر برغم أنه طمأن «عاطف»؛ فمن غير المعقول أن تغيب «لوزة» ساعةً ونصف ساعة في شراء باكو لبان! …

أسرع إلى الداخل ليُغيِّر ثيابه، ووجد عمَّته منهمكةً في مشاهدة التليفزيون … فحاول أن يتسلَّل دون أن تُحس به، ولكنها قالَت دون أن تُحوِّل نظرها عن شاشة التليفزيون: إلى أين؟

تختخ: سأزور أصدقائي …

الحاجة: لا تتأخَّر؛ فسوف أنام بعد صلاة العشاء.

تختخ: حاضر …

كان يعرف أن أي محاولة لمجادلتها لن تُجدي … وما دامَت ستنام … فلن تعرف متى يعود … وعلى كل حال فليس من المتوقَّع أن يتأخَّر إلا إذا حدث شيء في موضوع غياب «لوزة» …

خرج «تختخ» مسرعًا وقفز إلى درَّاجته وتبعه «زنجر»، وبعد دقائق قليلة وصلا إلى حديقة منزل «عاطف» … هذه الحديقة التي شهدَت جميع اجتماعاتهم … قرب الكشك الصيفي الكبير في نهاية الحديقة، خاصةً بعد أن وصل إليه سلك التليفون، وأصبح في إمكانهم الاتصال دون الحاجة إلى دخول الفيلا أو إحضار التليفون إلى الحديقة.

وجد «تختخ» «عاطف» يسير في طرقات الحديقة … يداه خلف ظهره، ورأسه ممتدٌّ إلى الأمام، وقد بدا عليه الحزن والقلق.

ترك «تختخ» درَّاجته، وأسرع إلى «عاطف»، وما كان «عاطف» يراه حتى أسرع إليه، فقال له «تختخ»: أي أخبار؟

عاطف: لا خبر على الإطلاق … وقد اتصلتُ ﺑ «بنوسة» و«محب»، وسيصلان حالًا.

تختخ: لا تقلق، أؤكد لكَ أن لا شيء هناك … ولْنعمل بالمثل الإنجليزي الذي يقول: ليس هناك أخبار … فالأخبار طيبة.

وجلسا قرب الكشك الصيفي … وسرعان ما وصلَت «نوسة» و«محب»، وأخذا يسألان عن الأخبار … ومرةً أخرى قال «عاطف»: لا أخبار …

نوسة: سأدخل الكشك وأتصل بصديقات «لوزة» تليفونيًّا؛ فإنني أعرفهن جميعًا.

ودخلَت «نوسة» الكشك الخشبي، وبقي الأولاد الثلاثة … كان كلٌّ منهم يُفكِّر في «لوزة»، وسبب غيابها … فمن المعتاد في مثل هذه الحالة أن تتصل تليفونيًّا، فلماذا لم تتصل؟ هل هو حادث حال بينها وبين الاتصال؟

إن السبب الوحيد الذي يمكن أن يمنعها من الاتصال هو وقوع حادث … هذا ما فكَّر فيه الثلاثة تقريبًا في الوقت نفسه … ومضَت الدقائق بطيئةً كأنها ساعات … وخرجَت «نوسة» … ودون أن يسألها أحد … عرفوا من تعبيرات وجهها أن لا خبر هناك … وأن اختفاء «لوزة» ليس له تفسير حتى الآن …

ونظر «تختخ» إلى ساعته، كانَت الثامنة إلا خمس دقائق … وأحسَّ بشعورٍ غريب أنه في الثامنة سيتم معرفة مصير «لوزة»، علها تنتظر وصولهم في الموعد للاتصال وأخذ عقرب الساعة يقترب في بُطئٍ من الثامنة … وقال «تختخ»: في الثامنة سيحدث شيء!

محب: أي شيء؟

تختخ: قلبي يُحدِّثني أن شيئًا سيحدث في الثامنة … ستتصل «لوزة»، أو تحضر، أو نعرف على الأقل ما حدث.

ونظروا جميعًا في ساعاتهم … وأخذوا يُراقبون عقارب الدقائق وهي تقفز مسرعة، ومرَّت الساعة الثامنة، وأصبحَت الثامنة ودقيقة … ثم دقيقتَين … ثم اقتربَت من الدقيقة الثالثة.

ونظر «محب» إلى «تختخ» كأنما يقول له إن شعورك غير صحيح … ولكن في هذه اللحظة دقَّ جرس التليفون.

كانَت «نوسة» أقرب الجميع إلى باب الكشك، فنفذَت كالسهم، وأسرع الثلاثة خلفها … حتى «زنجر» أسرع هو الآخر يدخل خلفهم … رفعَت «نوسة» سمَّاعة التليفون بيد ترتجف … وسمعَت على الطرف الآخر صوت «لوزة» يقول: ألو!

قفزَت «نوسة» فرحةً وهي تقول: إنها «لوزة»! … «لوزة»!

وابتسم الأولاد الثلاثة وقال «عاطف»: هاتي أُحدِّثها … هذه المجنونة … ما الذي أخَّرها حتى الآن؟!

ولكن فرحة «نوسة» وابتسامة الأولاد الثلاثة لم يستمرَّا طويلًا … فقد لاحظَت «نوسة» أن صوت «لوزة» في التليفون يرتعش وهي تقول: «نوسة» … هل «تختخ» موجود؟

ردَّت «نوسة»: ماذا حدث يا «لوزة»؟ لماذا تأخَّرتِ حتى الآن؟

قالَت «لوزة»: اطلبي «تختخ» ليُحدِّثني … أُريد «تختخ» …

قالَت «نوسة» وهي تمد يدها بسمَّاعة التليفون إلى «تختخ»: إنها تُريد أن تُحدِّثك!

أسرع «تختخ» إلى التليفون وقد تغيَّرت ملامحه وقال: ألو … «لوزة»، أين أنت؟

وأخذ «محب»، و«عاطف» و«نوسة» … يرقبون ملامح «تختخ» وهو يتحدَّث … كان واضحًا أنه يسمع أنباءً سيئة.

قالَت «نوسة» جزعة: «تختخ» ماذا حدث؟

أشار «تختخ» بيده إلى «نوسة» … أن تسكت، واستمرَّ يستمع وهو صامت، ثم قال في النهاية: وإذا لم نفعل هذا فماذا يحدث؟

واستمع إلى إجابةٍ من الطرف الآخر.

ونظر «تختخ» إلى ساعته … ثم قال: إن الوقت ضيق!

واستمع إلى من يُحدِّثه لحظات، ثم وضع السمَّاعة … والتفتَ إلى الأصدقاء … وصاح «محب»: «تختخ»! … ماذا حدث؟

وردَّ «تختخ» في جمود: لقد خُطفت «لوزة»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤