العطر الغامض

بالرغم من أن «تختخ» كان متأكِّدًا أن العصابة لن تُهاجمهم الليلة … إلا أنه اتَّفق مع المغامرين على إجراءات الأمن المعتادة … أن يُغلِقوا الأبواب جيدًا … ألَّا يسير أي واحد وحده … ألَّا يتحدَّثوا مع غرباء مهما كانَت الأسباب … وعندما دخل غرفته للنوم فتَّشها جيدًا … واستلقى على فراشه يُفكِّر في أحداث الساعات الماضية، حكاية العنكبوت الذهبي … كيف تمَّ اختيارهم ليقوموا بمُهمَّة توصيل العنكبوت؟! ماذا كان في الحقيبة التي سلَّمها؟ ماذا يحدث في الغد؟

ونام «تختخ» وهذه الأفكار تدور في رأسه … ولا يدري «تختخ» كم من الوقت نام، ولكنه استيقظ على حلم يدور في ذهنه … كان يشم عطرًا غامضًا له رائحة شرقية، ورأسه يدور، وجسده يثقل ويهبط تدريجيًّا في مياه عميقة، وهو يُحاول جاهدًا أن يخرج من المياه؛ يرفع يدَيه ويُحرِّك قدمَيه … ولكنها ثقيلة لا تتحرَّك كأنها مربوطة إلى أكياس من الرمل، أو كأنها مصبوبة من الأسمنت.

أخذ «تختخ» يُحاول اليقظة من هذا الحلم الثقيل … ولكنه عندما فتح عينَيه واستطاع التفكير تأكَّد أنه لم يكُن يحلم … فهناك رائحة فعلًا تملأ جو الغرفة … هي الرائحة التي تخيَّلها في الحلم … وحاول أن يجلس في فراشه فلم يستطِع مع أنه لا يحلم … إن الحكاية حقيقية!

ولكن ماذا حدث؟! من أين يأتي هذا العطر الغامض؟! فجأةً ارتبط في ذهنه هذا العطر بوجوه رآها قريبًا … نعم … وجوه رُكَّاب السيارة السوداء … الذين سلَّموه الحقيبة … إنه ساعتها لم يتبيَّن وجوههم في الظلام … ولكنه أدرك أنها ليسَت وجوهًا عادية، الآن يستطيع تفسير مشاعره … لقد كانوا من الجنس الأصفر … ربما من الصين … أو اليابان، من شعوب جنوب شرقي آسيا … وجاهد ليفتح عينَيه … واستطاع في النهاية أن يفتحهما برغم ثقل جفونه … ورأى نافذته مفتوحة، وكان قد أغلق الخشب وترك الزجاج مفتوحًا لشدة الحرارة في تلك الليلة الصيفية … من الذي فتحها؟

وفجأةً سمع همسًا يدور … إنه ليس في الغرفة وحده … وحاول أن يرفع رأسه ولكنه لم يستطِع … ثم سمع الهمس يقترب منه … ورأى بعيون مُثقلة وجهًا غريبًا من الوجوه التي شاهدها في الغرفة … ثم تقدَّم صاحب الوجه … كان رجلًا قويًّا عملاقًا … على غير العادة بين الشعوب الصفراء التي تتميَّز بالقوام القصير … ومالَ الرجل عليه، ثم رفعه بين يدَيه كأنه طفل صغير … لم يستطع «تختخ» المقاومة كان كل شيء فيه متراخيًا، حتى ذهنه.

وضع الرجل «تختخ» على كتفه، ثم اتَّجه إلى النافذة، وأخذ ينزل … وشاهد «تختخ» على ضوء الشارع الخافت أن سُلَّمًا من الحبال يمتد من الأرض حتى نافذته، وعرف أنه مخطوف.

نزل الرجل السلَّم في هدوء، ووصل إلى الأرض، ونزل بعده شخص آخر، واتَّجها إلى باب الحديقة، ومنه إلى سيارة واقفة. وسرعان ما كان «تختخ» يجلس في المقعد الخلفي للسيارة متراخيًا، وإن كان قد بدأ يتنبَّه تدريجيًّا بعد أن تنفَّس هواء الليل البارد النقي.

الشيء المذهل أن «تختخ» عندما نظر إلى ثيابه، وجد أنه يلبس ملابس الخروج القميص والبنطلون … والحذاء … وكل شيء … كيف حدث هذا؟

إن هؤلاء الناس يعملون في ثقةٍ كاملةٍ كأنهم يقومون بعمل مشروع … لقد دخلوا غرفته، وغيَّروا ملابسه، ثم حملوه كالحقيبة إلى السيارة … ذات الزجاج الداكن … بحيث لم يكن في إمكانه أن يرى شيئًا سوى وجهه.

أخذ ذهنه يصفو شيئًا فشيئًا، والسيارة منطلقة كالسهم في الشوارع الخالية لمدة نصف ساعة، ثم توقَّفَت، وأشار له الرجل الجالس بجواره أن يستعد للنزول … وعندما نزل من السيارة وجد نفسه في جراج كبير به ثلاث سيارات، عرف إحداها؛ إنها السيارة السوداء التي تُشبه العنكبوت، وتذكَّر العنكبوت الذهبي.

واتَّجه الرجال الثلاثة … السائق والرجلان اللذان خطفاه إلى مصعد في جانب الجراج، و«تختخ» يسير بينهم وقد استولَت عليه الدهشة الكاملة … فهذه أول مغامرة في حياته يُخطف فيها بهذه البساطة … وفي هذا الجو الغامض دون أن تُوجَّه إليه أي كلمة.

ولاحظ «تختخ» من طرف عينه الرجل وهو يضغط زر المصعد … الدور الرابع … والمصعد ينطلق كالسهم … ولاحظ أن الرجال الثلاثة على قدرٍ كبير من القوة والبأس، وعرف أنه وقع في مصيدة لا فكاك منها.

توقَّف المصعد … وخرج «تختخ» والرجال الثلاثة حوله حتى دهليز مفروش بالسجاد الأصفر … وعند باب يقف أمامه حارس تحدَّث أحد الرجال الثلاثة في صوتٍ هامس … ودخل الحارس … وبعد لحظات عاد وأشار ﻟ «تختخ» وحده، فدخل.

مرة أخرى واجهَته الرائحة الغامضة … ووجد نفسه في غرفة واسعة مفروشة بالسجاد الأحمر. وجذب انتباهه تمثال كبير لعنكبوت من الخشب في طرف الحجرة … ثم سمع صوتًا من يمينه يقول بالعربية: نأسف لكل ما حدث لك … إننا فقط نُريد أن نُلقي عليك بعض الأسئلة.

والتفتَ «تختخ» إلى مصدر الصوت، وشاهد رجلًا ضئيل الحجم، له ملامح الشعوب الصفراء، يرتدي زي «الكيمونو» الياباني … كان الرجل واقفًا، وبجانبه رجل آخر طويل القامة شديد الأناقة … واضح أنه مصري أو عربي.

كان الرجل الضئيل الحجم واقفًا وقد شبك ذراعَيه على صدره … لم يردَّ «تختخ»، فعاد الرجل يقول: تفضل بالجلوس. هل تُحب أن تتناول بعض الشاي لينشطك؟

تمالك «تختخ» نفسه وقال: الشاي نعم … ولكن لي سؤال أولًا.

لم يردَّ الرجل، ولكن جذب شريطًا حريريًّا بجواره، ففتح الباب على الفور، وأمر بإحضار الشاي … ثم التفتَ إلى «تختخ» قائلًا: إنك ستسأل طبعًا لماذا حدث كل هذا لكم؟

بلَّل «تختخ» شفتَيه بلسانه؛ فقد أحسَّ بجفاف في حلقه، وقال: نعم … هذا هو السؤال!

الرجل: لقد كان من شروط الرجل الذي سيُسلِّمنا العنكبوت الذهبي أن تقوم أنت شخصيًّا بتسلُّمه.

هزَّ «تختخ» رأسه مندهشًا وقال: أنا شخصيًّا؟!

الرجل: نعم … أنت شخصيًّا … وقد كان هذا شرطًا بسيطًا، وقد دلَّنا هو على مكانكم … ووضع خطة خطف صديقتك الصغيرة.

تختخ: ومن هو هذا الرجل؟

ورد الرجل: الحقيقة أننا لا نعرف اسمه بالتحديد … ولكنه قال لنا إنه اصطدم بكم في مغامرةٍ من مغامراتكم، وأنكم انتصرتم عليه … وهو يُريد أن يُثبت لكم أنه قادر على أن يردَّ الهزيمة التي أصابته.

دار في ذهن «تختخ» شريط من ذكريات المغامرات التي مرَّ بها هو وبقية المغامرين، وكان من الصعب أن يُحدِّد من هو الرجل المقصود … الرجل الذي يُريد أن يردَّ هزيمته بهذه الطريقة.

ومضى الرجل يقول: والآن نُريد أن نسألك بعض الأسئلة، ونرجو أن تكون إجابتك عليها واضحةً ومحدَّدة؛ حتى نُعيدك إلى منزلك قبل الصباح.

وجاء الشاي … وقدَّمه أحد الرجال في أدبٍ شديد … وبرغم الظروف العجيبة التي يمرُّ بها المغامر السمين … فقد أحسَّ أنه لم يشرب في حياته ألذَّ من كوب الشاي الذي قدَّمه له الرجل، مصحوبًا ببعض الحلويات الشرقية التي لاحظ «تختخ» أن بها مذاقًا خاصًّا أقرب إلى طعم التوابل.

عاد الرجل يقول: لقد قلتَ لنا إنكَ لم ترَ التمثال مطلقًا … ولم تكن تعرف ما في الحقيبة.

تختخ: هذه هي الحقيقة بالضبط. لقد تمَّ كل شيء في أقل من عشر دقائق، فلم يكن في استطاعتي أن أعرف ما في الحقيبة … ولا أن أتمكَّن من إبدالها … يجب أن تقتنعوا أنني سلَّمتُكم الحقيبة كما تسلَّمتُها بالضبط.

نظر الرجل الصيني إلى المصري وقد بدَت عليه علامات الاقتناع، وعاد يقول: إننا نُريدك أن تعرف أن هذا التمثال لا يُساويه أي شيء آخر في العالم بالنسبة لنا … وإن الحقيبة التي سلَّمتَها للرجل المجهول كان بها خمسون ألفًا من الجنيهات، دفعناها راضين مقابل إعادة التمثال والمجوهرات.

وذُهل «تختخ» وهو يسمع الرقم … لقد حمل بين يدَيه دون أن يدري خمسين ألفًا من الجنيهات … وابتسم برغم الموقف العجيب.

وقال الرجل: إننا سنُصدِّقك أنكَ لم تستولِ على التمثال … وأنكَ قمتَ بما هو مطلوب منك … والآن نُريد أن نسألك عن الرجل الذي سلَّمك الحقيبة، والذي يقول إنك اصطدمتَ به قبلًا … هل تعرف هذا الرجل؟

ردَّ «تختخ» صادقًا: مطلقًا … لقد أدليتُ لكَ بأوصافه … وقلتُ لكم إنني أعتقد أنه متنكِّر.

الرجل: وإذا تصوَّرتَ أنه أزال تنكُّره … هل تعرفه في هذه الحالة؟

تختخ: إن الرجل الذي قابلتُه لم أرَه من قبلُ في حياتي … سواء أكان متنكِّرًا أو غير مُتنكِّر … إنني أتمتَّع بذاكرةٍ قوية … ولو قابلتُ هذا الرجل من قبل لعرفته مهما أجاد تنكُّره …

ساد الصمت الغرفة الواسعة، وأخذ الرجل في إشعال غليون من الخشب … أخذ يطلق دُخَانه المعطر في جو الغرفة الساكن … ثم عاد يقول: أُحب أن أُؤكِّد لكَ أننا لا نفعل شيئًا ضدَّ القانون … لهذا نطلب مساعدتك في العثور على هذا الرجل مرةً أخرى … إننا نرجوك أن تُساعدنا … وفي الوقت نفسه نرجوك ألَّا تبلغ رجال الشرطة … إن الرجل الذي يملك التمثال إذا أحسَّ أن الشرطة قد تدخَّلَت فسوف يختفي إلى الأبد … ويختفي التمثال … وهذا التمثال يساوي حياتي بالضبط …

قال «تختخ» مندهشًا: حياتك!

الرجل: نعم … إنني حارس التمثال الذي كان يوجد في أحد معابد «بوذا»، وهو تمثال قديم وله قداسته … فإذا لم أُعِد التمثال إلى مكانه … فأنا بين نارَين؛ إمَّا أن أنتحر، وإمَّا أن يقتلني كهنة المعبد؛ تكفيرًا عن هذا الذنب الذي ارتكبتُه.

أحسَّ «تختخ» برأسه يدور وهو يسمع هذه الكلمات … لقد سمع كثيرًا عن سرقة تماثيل الآلهة من المعابد البوذية القديمة … وقرأ بعض المغامرات عنها … ولكن هذه أول مرة في حياته يُصبح طرفًا في مغامرةٍ من هذا النوع، ويسمع مثل هذا الكلام المخيف عن الانتحار والذبح … وفجأةً تذكَّر مُصوِّر الفرح الذي كان مُقامًا في حديقة الكازينو … وتذكَّر اتَّفاقه مع المُصوِّر على أن يُعطيه صورته مع الرجل المتنكِّر … ودارَت في رأسه معركة عنيفة بين أن يقول لهذا الرجل قصة المُصوِّر أو يُخفيها ويبقيها لنفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤