يانج شي يانج

ساد الصمت لحظات، ثم قال «تختخ»: إن المهم الآن أن أعود إلى منزلي قبل الفجر لظروفٍ عائلية.

كان يُفكِّر في عمته الحاجة «سنية»، وما يمكن أن تُحدثه من مشاكل إذا استيقظَت ولم تجِده في فراشه. وفجأةً تذكَّر «زنجر»، وتساءل عمَّا حدث له فقال: هل حدث شيء لكلبي الأسود؟

ابتسم الرجل لأول مرة وقال: إنه يحلم أحلامًا سعيدةً تحت تأثير غاز منوم ليس مؤذيًا. ثم عاد وجه الرجل إلى جموده وقال: ألَا تُساعدنا؟

فكَّر «تختخ» مرةً أخرى في المُصوِّر، ثم قال: إذا رويتَ لي القصة كاملةً فربما كان من الممكن أن أُساعدكم … أمَّا إحضاري هنا بهذه الطريقة فلن تُساعدكم مطلقًا.

قال الرجل: لقد وصل إلى قريتنا في جزيرة «بورنیو» شخص لشراء بعض المنتجات الوطنية، وقد رحَّبنا به وأقام بيننا … واستطاع أن يكسب ثقتنا، حتى إنه ادعى أنه اعتنق الديانة البوذية، وأخذ يتردَّد على المعبد … وفجأةً اختفى هذا الشخص … واختفى معه تمثال العنكبوت الذهبي، وهو تمثال مُقدَّس يعود تاريخه إلى أكثر من ألفَي سنة، واستطعنا تتبُّع الرجل حتى وصلنا إلى بور سعيد، وعرفنا أنه غادر سفينته التي كادَت تعبر قنال السويس متجهةً إلى «إيطاليا».

خفق قلب «تختخ» سريعًا عندما سمع كلمة «إيطاليا»؛ لقد ذكَّرَته على الفور برئيس العصابة الذي أوقعوا به هناك … وقال: ما شكل هذا الرجل؟

رد الرجل: إنه طويل القامة … غزير الشعر.

تختخ: إيطالي الجنسية؟

الرجل: نعم … كيف عرفتَه؟

ردَّ «تختخ» ببساطة: عندما قلتَ إن السفينة كانَت ذاهبةً إلى «إيطاليا»، تصوَّرتُ أنه من الممكن أن يكون «إيطاليًّا».

الرجل: نعم … إنه «إيطالي» فعلًا … وعندما نزل في ميناء بور سعيد استطعنا أن نتبعه إلى القاهرة … ويبدو أنه أحسَّ بمطاردتنا فاختفى فجأة، وعبثًا حاولنا البحث عنه. وفجأةً كما اختفى تحدَّث إلينا تليفونيًّا ذات يوم وقال: إنه على استعدادٍ لتسليمنا التمثال والمجوهرات التي كانَت معه مقابل ٥٠ ألفًا من الجنيهات الإسترلينية … ووافقنا … فكما قلتُ لكَ إنني حارس هذا التمثال … وضياعه يعني أن أفقد حياتي.

وصمت الرجل قليلًا، ثم قال: وقد اشترط أن تقوم أنتَ بتسليم التمثال، ووضَع الخطة كما قلتُ لكَ لخطف الفتاة الصغيرة؛ لضمان أن تقبل القيام بتسليم التمثال.

وقف «تختخ» فجأةً وقال: هل يمكن أن أنصرف الآن؟

قال الرجل: وهل أنتَ عند وعدك بمساعدتنا؟

ردَّ «تختخ» في غموض: سأُحاول، وبالمناسبة، هل كان الرجل وحده؟

ردَّ الرجل: لا … كان معه ثلاثة آخرون وسيدة!

فكَّر «تختخ» قليلًا، ثم قال: والآن … أُريد أن أعود إلى منزلي.

الرجل: هناك بعض إجراءات لإخراجك من هنا؛ فقد بدأ نور الفجر ينتشر.

قال «تختخ»: إنني لم أعرف كيف أتصل بكم إذا توصَّلتُ لشيء.

الرجل: سنتصل نحن بك … وكلمة السر بيننا هي «يانج شي يانج».

وتقدَّم أحد الرجال على أثر قَرْعة سريعة من الجرس … ووضع على عينَي «تختخ» شريطًا أسود؛ فلم يَعُد يرى شيئًا، فقط أحسَّ وهو ينزل بالمصعد … وهو يركب السيارة، وتنطلق به مسرعة … وبعد نحو نصف ساعة … نزل من السيارة التي ابتعدَت بسرعة … وعندما رفع الشريط من فوق عينَيه وجد أنه يقف عند كورنيش النيل قريبًا من كازينو «الجود شوط» … ونظر إلى ساعته … فكانَت الرابعة صباحًا … وبعد قليل تُشرق الشمس … فلا فائدة من محاولة النوم مرةً أخرى … والأفضل أن يسير إلى منزله … وسيصل حتمًا قبل أن تستيقظ عمته.

وفجأةً … خطر له أن يمر على المصوِّر … صحيح أن الوقت ما زال مبكِّرًا جدًّا … ولكنه على كل حال لن يدخل … بل يُريد أن يتأكَّد من العنوان حتى يسهل عليه أن يأتي في الصباح … ولحسن الحظ كان «الكارت» الذي أعطاه إيَّاه المصور ما زال في جيبه، فأخرجه وسار في اتَّجاه الشارع رقم ١٠٣، وعندما وصل قرأ أول رقم في أرقام المنازل، ثم مضى يبحث عن رقم ٤٢أ حتى وصل إليه … كانَت عمارتان متجاورتان، إحداهما «أ»، والثانية «ب». وقرأ لافتةً على الباب … «فلاش، مُصوِّر الأفراح» … وأحسَّ بغريزة المغامر، إنه يُريد أن يرى عن قرب مكان المُصوِّر بالضبط … بل أحسَّ أكثر بأن شيئًا يجذبه إلى محل المُصوِّر … وكان ثمَّة أسهم تُشير إلى المحل الذي كان يشغله «بدروم» العمارة. ولم يتردَّد «تختخ» خاصةً أنه لم يجِد البواب … فسار خلف الأسهم حتَّى وصل إلى باب المحل … وكانَت مفاجأةً كاملةً له أن يجد النور مُضاءً في الداخل … فهل المُصوِّر مستيقظ يعمل في هذه الساعة؟

اقترب من الباب ووضع أذنه على ثقب المفتاح، وخُيِّل إليه أنه سمع صوت حركةٍ في الداخل … فأنصَت قليلًا، ولكن الحركة توقَّفَت … وفكَّر لحظات: هل يدق الجرس؟

وحدَّثَته نفسه بأن الأمور داخل المحل لا تسير على ما يرام … ولم يتردَّد «تختخ» فمدَّ يده، وأمسك بمقبض الباب وأداره … وصدق ظنه … لم يكن الباب مغلقًا بالمفتاح … ودار المقبض في يده … فدفع الباب بهدوء … ثم أطلَّ برأسه … كانَت الصالة أمامه مباشرةً وقد فُرِشت بأثاثٍ بسيط … وعلى اليمين كانَت غرفة مضاءةً مكتوب عليها «الاستوديو»، وفي مُواجهتها غرفة أخرى مكتوب عليها «تحميض» … وكان الضوء يشع من الغرفتَين. دخل «تختخ» وأغلق الباب خلفه … واتَّجه في حذر إلى غرفة «الاستوديو» … كان الباب مفتوحًا، فدخل محاذرًا … ونظر أمامه … كان ثمَّة مكتب في طرف الغرفة قد تناثرَت عليه عشرات الصور والأفلام، وفي المواجهة آلة تصوير كبيرة … وثلاث كشافات للضوء … ولاحظ على الفور أن المكتب في حالةٍ غير عادية … والأدراج مفتوحة وقد تساقطَت منها الصور والأفلام … وتقدَّم من المكتب … ودون أن يمد يده أخذ يفحص كل ما عليه … أفلام، علبة سجائر … ولَّاعة … بعض النقود … والتفتَ خلفه … وشاهد في أقصى الغرفة الواسعة دولابًا قد فُتحَت أدراجه وأبوابه، وكان واضحًا أن ثمَّة شخصًا قد فتَّشه بسرعة … ولاحظ أن بجوار الدولاب ستارةً سوداء … ومرآةً على الجانب … واتَّجه إلى الستارة … وسرعان ما وقع بصره على شيء مخيف … قدمان تُطِلَّان من خلف الستارة … عاريتان وقد سقط بجوارهما شبشب من البلاستيك … وأسرع «تختخ» ليرى ما حدث لصاحب القدمَين … وليعرف من هو … وعرف على الفور من النظرة الأولى أنه المُصوِّر الذي رآه منذ ساعات في الفرح … مُلقًى على وجهه … وقد تكرمشَت ملابسه وتمزَّقَت … وانحنى عليه وجسَّ نبضه … وأحسَّ ببعض الراحة عندما وجده ما زال حيًّا … وفي هذه اللحظة سمع صوت أقدام خلفه … فاستدار … ولكن قبل أن يرى من القادم … كانَت هراوة ثقيلة قد نزلَت على رأسه، وأحسَّ بألمٍ هائل، ثم دارَت الدنيا به … وسقط على الأرض، وذهب في إغماءٍ طويل.

عندما استيقظ «تختخ» من إغمائه … كان أول وجه شاهده هو وجه الشاويش «علي» ينظر إليه … وتلفَّت حوله فوجد نفسه مُلقًى على الأرض في «الاستوديو» وقد أحاط به عدد كبير من الناس … وجوه غريبة لا يعرفها … ثم أغمض عينَيه وأخذ يتذكَّر ما حدث … وسمع صوت الشاويش يقول له: ماذا جاء بك إلى هنا؟!

فتح «تختخ» عينَيه ونظر إلى الشاويش، فوجده يبرم في شاربه وقد بدَت في عينَيه نظرة لا يمكن تفسيرها إلا أنها نظرة استمتاع وانتصار.

قال «تختخ»: هل هناك أحدٌ من المغامرين؟

ردَّ الشاويش في ضيق: لا أحد هنا منهم … هل كانوا معك؟

تختخ: لا … لقد جئتُ هنا وحدي.

الشاويش: لماذا جئت؟

لم يردَّ «تختخ»؛ فهذا الرد سوف تترتَّب عليه نتائج كثيرة، ومن المستحيل أن يُصدِّق الشاويش كلَّ ما جرى … فإذا روى له «تختخ» قصة العطر الغامض … والصيني … والعنكبوت … فمن المؤكَّد أن الشاويش سيعتبر هذا الحديث كلَّه من نسج خياله … بالإضافة إلى أنه يجب ألَّا يبوح بسر أوتمن عليه.

حاول «تختخ» النهوض، وأحسَّ برأسه يُؤلمه … ولكنه استطاع الوقوف، وقال ببساطة: هل تُريد شيئًا مني يا شاويش؟

احمرَّ وجه الشاويش حتى أصبح لونه كلون الطماطم وصاح: أُريد منك شيئًا؟! هل تسألني إذا كنتُ أُريد منكَ شيئًا؟! إنكَ تسخر مني إذن … تسخر من مُمثِّل القانون؟!

تختخ: إنني لا أسخر منك مطلقًا يا شاويش «علي»؛ فأنت تعرف أنني أحترم القانون ومن يُمثِّلون القانون.

الشاويش: إذن لا بد أن تُجيب على سؤالي … ماذا أتى بك إلى هنا؟

تختخ: ولكنك لن تُصدِّقني.

الشاويش: أُصدِّقك أو لا أُصدِّقك … هذا شأني. أجِب … ماذا أتى بكَ إلى هنا؟!

تختخ: كنتُ قد اتَّفقتُ مع المصوِّر على أن يبيعني صورةً الْتقطها لي في فرحٍ أُقيم أمس في كازينو «الجود شوط».

برم الشاويش شاربه وقال: وهل تُريد أن أُصدِّقك عندما تقول لي هذا الكلام الفارغ؟!

تختخ: اسأل المُصوِّر!

الشاويش: إن المُصوِّر لا يستطيع الإجابة على هذا السؤال.

صاح «تختخ» بارتياع: هل مات؟!

الشاويش: لا لم يمت … إن الضربة التي وجَّهتَها له لم تقتله.

تختخ: ماذا تقول يا شاويش؟! … هل تتهمني بأنني ضربتُه؟

الشاويش: ومن الذي ضربه إذن؟ لقد جئتُ على أثر بلاغ من البوَّاب أنه ذهب لإيقاظ المُصوِّر كعادته كل يوم. فلمَّا دقَّ الجرس ولم يردَّ المُصوِّر، دخل ووجده ملقًى على الأرض وأنت بجواره.

تختخ: إذا كنتُ قد ضربتُه يا شاويش … فمن الذي ضربني؟

الشاويش: إنني لم آتِ إلى هنا لتسألني … إنني أنا الذي أُوجِّه الأسئلة.

تختخ: وماذا تُريد مني الآن؟

الشاويش: لا أُريد منكَ شيئًا … إنني سآخذك إلى القسم لتُوضِّح لي كيف دخلتَ إلى هنا … ولماذا دخلت … وماذا كنتَ تفعل … إنكَ مُتَّهم بضرب المُصوِّر والسطو على المحل!

صاح «تختخ»: ماذا تقول؟!

الشاويش: أقول إنك مُتهم بضرب المُصوِّر، والسطو على المحل!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤