الرسالة الصامتة

بعد لحظات من الاستماع قال «تختخ»: الشرط الوحيد لمساعدتكم أن يُوضع كل شيء في يد الشرطة … لقد حصلتُ على معلومات جديدة قد تكون ناقصة.

واستمع مرةً أخرى وقال: لا مانع أن يكون ذلك في الوقت المناسب … والآن أُريد سيارةً تنتظر عند الكازينو بعد نصف ساعة … فإذا لم أظهر فعليكم الاتصال بنا من الثامنة مساءً اليوم.

ووضع «تختخ» السمَّاعة وقال: إنهم جماعة «يانج تشي يانج»!

عاطف: ماذا يُريدون؟!

تختخ: يسألون عن معلومات جديدة … وقد استمعتُم إلى حديثي معهم … إننا يجب ألَّا نعمل في غياب رجال الشرطة … مهما كانَت الأسباب … ولكن لا بأس من المُضي في التحريات بعض الوقت، ثم وضْع كل شيء بين أيدي رجال الشرطة في الوقت المناسب.

وسكت الجميع في انتظار تليفون الأستاذ «علاء» … ومضى ربع ساعة، ودقَّ الجرس، ورفع «تختخ» السمَّاعة واستمع قليلًا، ثم قال: شكرًا يا أستاذ «علاء».

واستمع لحظات، ثم قال: طبعًا سأتصل بك مرةً أخرى … لقد وعدتُك بأن أُعطيك سبقًا صحفيًّا لم يَسبق له مثيل.

ثم التفتَ إلى «محب» و«عاطف» قائلًا: هيَّا بنا … ستبقى «لوزة» و«نوسة» هنا للتصرُّف في حالة حدوث أيَّة طوارئ.

نوسة: هل حصلتَ على العنوان؟

تختخ: نعم … إنها فيلا في شارع عرابي بالعجوزة … والتليفون باسم المهندس «كمال عاطف» … ومن الواضح أنها فيلا مفروشة استأجرَتها عصابة «كلب البحر» كمركز لعملياتها.

وانطلق الثلاثة إلى الكورنيش، ووجدوا السيارة ماركة «بورش» تقف عند الكازينو، وركب الأصدقاء الثلاثة في المقعد الخلفي … وانطلقَت السيارة، وفي المقعد الأمامي بجوار السائق يجلس عملاق أصلع … يُشبه التمثال.

مضَت السيارة تخترق الشوارع المزدحمة في «مصر القديمة» … ثم انحرفَت عابرةً «كوبري الملك الصالح» … ثم «كوبري الجامعة» … ومضَت على كورنيش النيل حتَّى أشرفَت على مسرح البالون، وانحرفَت يسارًا إلى سينما «سفنكس».

وطلب «تختخ» من السائق التوقُّف، ثم نزل هو و«محب» و«عاطف»، وساروا على الأقدام في شارع «عرابي» … وكان «تختخ» ينظر خلفه بين لحظة وأخرى حتى يتأكَّد أنهم ليسوا متبوعين.

كانَت الساعة قد تجاوزَت الحادية عشرة صباحًا عندما وصل الثلاثة إلى «الفيلا» المقصودة، وكانَت فيلا حمراء اللون، مُكوَّنةً من دورَين، ولها حديقة واسعة، وعلى ممر الجراج كانَت تقف سيارة من طراز «لانسيا» الإيطالي.

وقف الثلاثة في ظلِّ إحدى الأشجار الكبيرة في شارع «عرابي» … ولاحظوا أن باب «الفيلا» يُفتح، وظهر رجل أخذ ينظر حوله … فهمس «محب»: إنهم يَستعِدُّون للهرب!

وغادر الرجل «الفيلا»، ثم سار في اتجاه شارع «عرابي» … وتجاوز الرصيف … وأصبح يتجه ناحيتهم تمامًا … كان من الصعب عليهم الاختباء … فأداروا له وجوههم حتى لا يراها … وتظاهروا بالانهماك في الحديث.

ولكن المفاجأة كانَت أكبر ممَّا تصوَّروا …

وصل الرجل إلى جوارهم تمامًا …

مدَّ يده ووضعها على كتف «تختخ» وقال ببساطة: أستاذ «توفيق» … إننا في انتظارك!

كانَت مفاجأةً كاملة …

وحاول «تختخ» أن يتظاهر بأنه ليس الشخص المقصود، فقال للرجل: «توفيق» … من هو «توفيق»؟ أظن أنك مخطئ.

رد الرجل: لقد عرف الزعيم أنكم ستتمكَّنون من الوصول إلينا بواسطة رقم التليفون الذي استمعتُم إليه … وقد كُنَّا نُراقبكم من خلف النافذة، وقد طلب مني الزعيم أن أستدعيكم للمناقشة … وأرجو أن تعرفوا أن هناك بندقيةً كاتمةً للصوت مُصوَّبة إليكم من خلف النافذة؛ فلا تُحاولوا عمل أي شيء … وفي الوقت نفسه، فإن الزعيم يتعهَّد بألَّا يُصيبكم أذًى …

لم يكن أمام الأصدقاء الثلاثة إلا أن يسيروا، وقد أذهلَتهم المفاجأة … ووجدوا الزعيم يجلس في صالة «الفيلا» … وابتسمَ عندما رآهم ابتسامةً واسعة … كان هو الرجل نفسه الذي التقَوا به على ظهر الباخرة «سوريا» في مغامرة «كلب البحر»، والشيء الذي أثار انتباه «تختخ» … أن الزعيم الإيطالي كان هادئًا وسعيدًا كأنه ليس مطاردًا من شرطة العالم كله … وكأن الزعيم قرأ ما يدور بذهن «تختخ» فقال: أُحب أن أُؤكِّد لكَ أنني الآن مواطن شريف … لقد قضيتُ مدة العقوبة عن جرائمي السابقة … ولم يعُد عندي ما أخشاه.

قال «تختخ»: وسرقة العنكبوت الذهبي؟

ابتسم الزعيم وهو يقول: ومن الذي يستطيع إثبات أنني سرقتُه؟ … إنهم استنتجوا فقط ذلك لأنني كنتُ موجودًا في «بورنيو» … عندما سُرق التمثال … والحقيقة أنني لم أسرِق شيئًا.

كانَت هذه ثاني مفاجأة في نصف ساعة فقط … وأحسَّ المغامرون الثلاثة أنهم دخلوا في عالم من الألغاز والمعميَّات.

كان الزعيم الإيطالي يجلس وحوله اثنان من أعوانه … وكان واضحًا من تصرُّفاته وحديثه أنه بريء حقًّا … ولكن بقي السؤال المهم … من الذي سرق العنكبوت إذن وطلب خمسين ألفًا من الجنيهات لردِّه؟

ولم يتردَّد «تختخ» في إلقاء السؤال قائلًا: لقد اتصلتَ بهؤلاء الناس لتُعيد لهم التمثال مقابل خمسين ألف جنيه … وقد أرسلوا لكَ المبلغ فأخذتَه ولكنكَ لم تُسلِّم التمثال.

بدَت الدهشة واضحةً على وجه الإيطالي وقال: أنا أخذتُ خمسين ألفًا من الجنيهات! من قال هذا؟!

تختخ: هم قالوا هذا الكلام …

الإيطالي: إنهم يكذبون؟!

تختخ: ولكنني سلَّمتُ هذا المبلغ فعلًا بناءً على تعليماتك.

الإيطالي: ولكنِّي لم أتسلَّمه.

تختخ: غير معقول! … لقد سلَّمتُه بنفسي لمندوبك الأعرج!

قام الإيطالي من مكانه ثائرًا وقال: هذا ما لم يحدث … لقد اتصلوا بي فعلًا، وقلتُ لهم إن التمثال ليس معي … ولكنهم أصرُّوا على أنه معي … ووجدتُ أن أُسايرهم حتى أرى ما هي هذه الحكاية بالضبط … وفعلًا طلبتُ منهم الاتصال بكم، وخطف صديقتكم الصغيرة، وإعداد المبلغ، ولكني لم أُرسل أحدًا من عندي لتسلُّم المبلغ!

تختخ: غير ممكن!

الإيطالي: هذا ما حدث فعلًا … ولو كان التمثال عندي فعلا لأرسلتُه وأخذتُ النقود … ولكن حتى بين اللصوص هناك كلمة شرف … فالتمثال ليس عندي … والنقود لم آخذها.

تختخ: إذن من الذي أخذ المبلغ؟

الإيطالي: هذا ما لا نعرفه!

تختخ: ولماذا إذن وضعتَ الخطة وطلبتَ المبلغ؟

الإيطالي: قلتُ لكَ إن هذا كلَّه كان على سبيل المزاح … وكنتُ أنوي بعد ذلك أن أُوضِّح لهم الحقيقة.

تختخ: ولماذا اخترتَنا لتضعنا في هذا المأزق؟

عاد الإيطالي إلى الضحك قائلًا: بعد أن استطعتم الإيقاع بي، وتصفية عصابتي برئاسة «ماريو»، وقرأتُ عنكم في الصحف الإيطالية؛ أُعجَبتُ بكم جدَّا … وقرَّرتُ إذا أُتيحَت لي الفرصة أن أضعكم في مأزقٍ بسيط لتجرِبة مدى قوتكم … ثم مُقابلتكم بعد ذلك للتعرُّف بكم بعيدًا عن المغامرات والعنف؛ فقد أصبحتُ الآن أعمل في تجارة التوابل الشرقية، وعندي شركة محترمة … ولكن حب المغامرات يدفعني أحيانًا إلى هذه المقالب البسيطة.

تختخ: إنكَ لا تتصوَّر هؤلاء الناس … إن لهم قدرةً خطيرةً على المغامرة والتضحية بالنفس مقابل استعادة هذا التمثال المقدَّس … أعتقد أن من الصعب إقناعهم بما تقول!

قال الإيطالي ثائرًا: يقتنعون أو لا يقتنعون! … أُؤكِّد لكَ أنني لم أسرِق هذا التمثال. لقد ودَّعتُ حياة المغامرات والتهريب إلى الأبد … وأنا الآن مواطن محترم.

ساد الصمت بعد هذا الحديث الحافل بالمفاجآت … وأصبح على «تختخ» أن يُحاول التفكير من جديد فيما حدث … وفجأةً قفز إلى ذهنه الاحتمال الوحيد الذي يمكن أن يُوضح هذا اللغز … احتمال وجود شخصٍ يعلم بالاتفاق بين الإيطالي وجماعة «يانج»؛ فاستغلَّ الفرصة للحصول على النقود … هذا الشخص لا بد أن يكون من جماعة الإيطالي أو من جماعة «يانج» … فمن هو؟!

كاد «تختخ» أن يقول هذه الفكرة للإيطالي، ولكن شيئًا جعله يسكت … فلعل الرجل يكون ضمن هؤلاء الثلاثة، فإذا سمع استنتاج «تختخ» سارع إلى الاختفاء، وفي الوقت نفسه لم يكن «تختخ» يستطيع أن يقول هذا الكلام لمجموعة «يانج»، وإلا هرب الرجل الذي أخذ النقود … إذا كان من مجموعة «يانج» …

مشكلة … هكذا قال «تختخ» … لنفسه … إنه محاصر بين قوسَين … مجموعة الإيطالي من ناحية … ومجموعة «يانج» … من ناحية أخرى … وعليه أن يتصرَّف وحده.

وفجأةً ظهر في ذهنه الحل الأمثل لهذه المشكلة المعقَّدة … فقام واقفًا وقال: هل تُغادر القاهرة اليوم؟

رد الإيطالي: كنتُ عازمًا على السفر اليوم فعلًا، ولكن جاءَتني مكالمة تليفونية من إيطاليا؛ اضطُررتُ بعدها للانتظار لإنجاز بعض الأعمال.

قال «تختخ»: إذن أرجو أن نجد طريقةً لحل المشكلة معًا!

الإيطالي: إنني مهتم مثلك تمامًا … بل إنني أتحرَّق شوقًا لهذا؛ فإنني مُهتم بسرقة تمثال لم أسرِقه … وبالاستيلاء على مبلغ لم يَصِلني!

ابتسم «تختخ» قائلًا: من المدهش أننا سنُحاول تبرئتك من التهمتَين بعد أن كُنَّا أعداء!

مدَّ الإيطالي يده يشد على يد «تختخ» قائلًا: لقد صفحتُ عنكم؛ فقد كان القبض عليَّ في ميناء «فينسيا» بدايةً لأعرف طريق الشرف والصواب … وأرجو أن تصفحوا عني لأنني أوقعتُ بكم في هذا المأزق … الذي قصدتُ به التفكُّه لا غير.

ونظر الإيطالي إلى «تختخ» طويلًا … ونظر إليه «تختخ»، ولم يلحظ أحدٌ من الموجودين النظرات التي تبادلها … لقد فهم الإيطالي ماذا يُريد «تختخ» منه … لقد أرسل له «تختخ» رسالةً صامتةً فهمها الإيطالي فورًا … وبخبرته كمغامرٍ قديم فهم أن «تختخ» لا يُريد الإفصاح عن هذه الرسالة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤