الفصل السادس عشر

ثقل الجسد على الروح

٢٢ أبريل

كنت أكثر هذا الأسبوع في السرير أشعر بشوق شديد إلى عشرتك، أرى المنزل مظلمًا لبعادك والساعات طويلة جدًّا، فأتوقع كل يوم قدومك، ليتك تأتي ولو لأجل مكايدتي، أخاف أن تكون قد سلوتني وشغلت بميراي، نعم إني قصدت من مجافاتك أن تسلوني، ولكني أجزع إذ أفتكر أنك سلوتني، ليس لي يا موريس تعزية سواك، فما أشد ظلمة الحياة وأنت بعيد عني!

كنت قد أخبرت فانتين عن تعهدي لخطيبتك أن أتركك لها وأجفوك، وحرضتها أن تكتم الخبر عنك، أتظاهر أمامها أني سلوتك، ولكني أشعر أن هذا التظاهر صلف وسخافة وكدت أندم عليه؛ لأنه حرمني التحدث عنك، تتجنب فانتين محادثتي عنك لظنها أنها تسوءني، وهي لا تدري أن تجنبها هذا يكاد يجنني، وأنا لا أزال متشبثة بكبريائي وآنف أن أبادئها بكلمة عنك.

اليوم صحتي أحسن وفي نيتي أن أتنزه غدًا في الجيزة على أمل أن أصادفك هناك، ليتني أعرف أين تكون غدًا مساء فأذهب.

٣٠ أبريل

مضى كل هذا الأسبوع وأنا في صحة حسنة، ولكن الهزال واضح فيَّ، قل زائريَّ لأنهم لم يعودوا يلتذون بعشرتي، أخذتْ فانتين تقتصد في نفقاتنا خوفًا من الفاقة، خرجت مرارًا إلى المتنزهات فلم أرك ولا مرة، ألعلك سلوتني؟ لا أدري إن كانت ميراي تشغلك أو أنك عدت إلى خطيبتك، إن خطيبتك جميلة ولطيفة وحساسة يا موريس، أحببتها، فعد إليها ولو إكرامًا لي، ليتني أعيش إلى أن تتزوجا، لا أظنها تستنكف استقبالي حينئذٍ.

إني حزينة جدًّا يا موريس، وأشعر بشديد الحاجة إلى تعزيتك، أكاد أندم على تعهدي لخطيبتك إن أغفلك، ولكني أجالد قلبي وأغالب غيرتي ووجدي، أمس ضربت على البيانو اللحن الذي كنت تحبه، وغنيته أنا وفانتين، فهاجت عواطفي نحوك فتفجر الدمع من عيني، وأدركتْ فانتين أن قلبي يحاربني.

٢ مايو

عدتُ وفانتين في هذا المساء من القناطر الخيرية، قصدت إلى هناك؛ لأن صدري ضاق من الوحدة، كان الهواء لطيفًا جدًّا، ولكن لم يستطع أن ينفس كربي، كنا كل الوقت نذكر نزهتنا السابقة إذ كنت إلى جنبي تحت الشجرة، وكانت أشعة الحب تشع من روحينا، ذكرنا كل كلمة قلتها، وقلدنا كل حركة فعلتها، كنت اليوم مبتهجة بهذه الذكرى.

ذكرت فانتين اسمك مقرونًا بميراي، فهاجت غيرتي واسترسلت بالبكاء، ولم ألبث أن اعترتني نوبة ضيق النفس، توهمت أن ملاك الموت يقبض على عنقي لكي يخنقني، أغلق باب رئتي وخلت روحي صارت بين ترقوتيَّ ولكنها لا تستطيع الخروج، مزقت ثوبي عن صدري، آه لو كنت معي لنفخت في فمي نسمة الحياة.

أصبحت يا موريس شديدة الاعتقاد بالبخت؛ لأني قضيت حياتي القصيرة مجاهدة في استرداد مكانتي الأدبية؛ لكي أحصل على الهناء فذهب جهادي أدراج الرياح، ألوف أدنس مني يهنأون وأنا أشقى، أليس السر في البخت؟ لما عرفك قلبي واحتواك قلت في نفسي: سيكون موريس موضوع سروري في بقية أيامي وتعزيتي في آخر حياتي، فحسبي هذا جزاء طيبتي وجهادي، ولكن انظر ما أسوأ بختي! لم أكد أقف نفسي لك بجملتي حتى بدا من عالم الغيب ما أبعدك عني، ألا تعزو هذا إلى البخت؟

١٥ مايو

رأيتك أول أمس مع ميراي في مركبة واحدة في الجزيرة، فغلت غيرتي في صدري حتى أطارت صوابي، عرتني نوبة ضيق النفس شديدة جدًّا حتى خافت فانتين أن تكون قاضية عليَّ، فأسرعت بي إلى البيت، ودعت الدكتور بوشه في الحال فعالجني حتى هدأ روعي، وكان يحسب حسابًا لانقضاء أجلي، في تلك الليلة لاحظت أن فانتين المسكينة بكتني في خلوتها، ما أطيب هذه الفتاة يا موريس! أرجو منك أن تلتفت إليها لأجلي، حفظت لها من حلاي خاتمًا نفيسًا جزاء أمانتها وفضلها.

أتيت إليَّ ليلتئذٍ تسترضيني وأنا في منتهى انفعالي، فعاودتني النوبة شديدة، حزنت جدًّا إذ تركتني مع أني علمت أن فانتين أشارت عليك بذلك حرصًا على سلامتي.

عادني بعض أصدقائي أمس واليوم ومن جملتهم الأمير، وقبل أن يبرح وضع في كف فانتين ورقة بخمسين جنيهًا فردَّتها له قائلة: «إن إيفون تغضب جدًّا»، ولم تدعه يخرج حتى استردَّها.

أشعر أن أيامي أصبحت معدودة، وأتوقع الموت كما يتوقعه المحكوم عليه به، أرى الدقائق طويلة جدًّا وأحتار كيف أقتلها، لو كنت معي لمرَّ ما بقي من عمري القصير كالحلم، الطبيب يحقن ذراعي بمقوٍّ للقلب لكي يقوي قلبي الضعيف، كأنه يحاول أن يمدَّ أجلي وما درى أنه عمر شقائي وعذابي، ليت بقية حياتي تختزل بربع ساعة تكون أنت فيها إلى جنبي.

كل ساعة أتوقع قدومك، فأين أنت يا موريس؟ إني في شديد الحاجة إلى تعزيتك. ويلاه! ألا أجد حولي محبًّا غير فانتين، ما أعظم أجرك يا فانتين! السماء لك. ما أقسى قلبك يا موريس! إني متغيظة منك، إذا أتيت إليَّ فلا بد أن أوبخك بكلام مرٍّ.

١٧ مايو

موريس! أين أنت؟ لماذا لا تأتي؟ كادت النوبة تختنقني الآن فجزعت فانتين، وأرسلت الخادم ليستدعي الطبيب فلم يجده، وجعلت تفتح الشبابيك وتهوي وجهي بالمنشفة، لم أكن أظن أن الجسم البشري يحتمل هذا العذاب، لم أجزع من الموت ولكني أتعذب كثيرًا، أخاف أن أموت ولا أراك، نضبت غددي الدمعية فصرت أعول وأنوح بلا دموع، ويلاه! الموت ولا العذاب؟

١٨ مايو

إليَّ موريس! إليَّ! إني مائتة، ويلاه أموت وليس حولي أحد ممن أحب؟ ليت أخي يعرف أني لدى باب الأبدية! لا أشك أنه يزورني، ينسى ماضيَّ، أموت سعيدة إذا كان ملاك الموت يتناول روحي من بين يديه، ليتني أرى زوجته وأولاده.

لم يزرني أحد منذ بضعة أيام، تأثرت مستاءة جدًّا من كل أولئك الأصدقاء الذين كانوا يتنافسون في مرضاتي، وفي ساعات احتضاري أغفلوني، ما أقل وفاء الرجل وما أحبه لنفسه، وهت يدي قد لا أستطيع أن أكتب لك بعد.

إيفون مونار

١٩ مايو

اليوم حالي أحسن قليلًا، لم تعاودني النوبة، ومع أني لا أطمع بالسلامة أشعر بارتياح، ولعل سببه أن الدكتور بوشه أخبرني أنك قلق عليَّ بيد أني مشفقة عليك لقلقك، لا تحزن لموتي يا موريس، أموت فداك مسرورة بثباتي إلى النهاية على عهدي لخطيبتك الجميلة الطيبة القلب، متى قرأت كتابي هذا فلا بد أن تحقق أمنيتي بتزوجك إياها هذه هي تعزيتي الوحيدة الآن، أسر إذ أتصور أنك ستقرأ هذا الكتاب، آه، ليت خطيبتك تعرف باحتضاري فلا ريب أنها تعودني ولو خفية، ليتها تعودني فأضع كفها الرخصة النضيرة على قلبي فينتعش، لم أعد أود أن تراني يا موريس؛ لئلا تبكي كثيرًا. رأيت وجهي في المرآة فارتعت.

إيفون

ويلاه ما أمر الموت! جزعت جدًّا يا موريس لأن النوبة كانت أشد من كل نوبة سابقة، وتأكدت أنها القاضية، عجيب أنها عبرت من غير أن تفصل روحي عن جسدي، وعجيب أن صوابي لا يغيب هنيهة كأن حواسي وأفكاري متيقظة دائمًا؛ لكي تزيد آلامي، سأرجو من الدكتور أن يستدعيك؛ لأني لم أعد أطيق مجافاتك لا بد أن تغتفر لي خطيبتك هذا الإثم، إنها رحيمة وأنت تتوسل إليها أن تغفره، رحماك موريس! تعال دقيقة قبل أن أموت.

إيفون

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤