المياه السوداء

هدأت العاصفة قرب منتصف الليل … وكان الشياطين قد ناموا عدا «فهد» الذي كان يقوم بنوبة الحراسة … وظل يدور حول القارب ملقيًا بصره إلى الظلام الكثيف الذي لا تضيئه سوى الأنوار البعيدة للنجوم … وفجأةً لفت نظره ما يشبه ضوءًا يتحرك تحت المياه، وركَّز «فهد» انتباهه … ولم يكن ثمة شك أنه ضوء … وكان يتجه بسرعة ناحية منطقة الميناء القديم الغارق.

أسرع «فهد» ليوقظ «أحمد» و«بو عمير» … وأخذ الثلاثة يراقبون الضوء الذي أخذ يدور في حلقة واسعة … وقال «أحمد»: ملابس الغوص بسرعة.

ودخل الثلاثة في ملابس الغوص بعد أن أيقظوا «باسم» وطلبوا منه القيام بالحراسة وإيقاظ بقية الشياطين، وأن يكونوا جميعًا على استعداد.

وانزلق الثلاثة إلى الماء في هدوء … واتجهوا رأسًا إلى حيث كان الضوء المتحرك … ولكن فجأةً عندما اقتربوا تمامًا من الضوء اختفى كأن لم يكن … ودار الثلاثة في المكان ولكن الضوء لم يكن له أثر.

كان كل منهم يفكر في كيفية اختفاء الضوء … إنه بالتأكيد ضوء بطارية غواص، فأين ذهب الغوَّاص؟!

كانت المنطقة التي يعومون فيها هي منطقة الأحجار الضخمة التي بُني بها حاجز الأمواج في الميناء القديم … أحجار ضخمة يزن الواحد منها ١٥ طنًّا، ويبلغ حجمه حجم غرفة صغيرة … وكان «أحمد» هو الذي اتخذ قرار البحث عن الضوء المختفي … فأضاء مصباحه … وسرعان ما قلده «بو عمير» و«فهد» … وبدأ الثلاثة يطلقون أشعة مصابيحهم هنا وهناك … ولكن لا شيء … لا شيء على الإطلاق … وفجأةً وقع ضوء «فهد» على سلك سميك ممتد تحت الأرض مغطًّى بالرمال … ولكن يبدو أن العاصفة حركته من مكانه … وتذكَّر السلك الذي تحدث عنه «بو عمير» … وأسرع إلى زميليه مشيرًا ببطاريته … وتبعه الاثنان إلى حيث أشار إلى السلك … وأشار «بو عمير» بيديه دليلًا على أنه يشبك السلك الذي تعلَّق به هو و«خالد» بعد أن غرق الزورق الصغير … واقترب «أحمد» من السلك وأخذ يفحصه تحت الضوء دون أن يمسه … ثم أشار ﻟ «بو عمير» و«فهد» أن يتبعاه سريعًا … وأخذ الثلاثة يعومون بأقصى قوة في اتجاه الزورق … وعندما وصلوا إلى هناك صعدوا إلى الزورق، وخلعوا الأقنعة.

وقال «أحمد»: إن هذا السلك يُستخدم في نقل المكالمات التليفونية … وإذا لم أكن مخطئًا … فإنه ممتد بين مركز للبحث تحت الماء … وبين السفينة «رويال» التي تقف خارج المياه الإقليمية للبنان … حيث لا يستطيع أحد تفتيشها!

بو عمير: ولكن ليس هناك تحت الماء أي مركز.

أحمد: سنعرف ذلك بعد قليل.

واستدار «أحمد» إلى «زبيدة» المتخصصة في الإلكترونيات والأجهزة الكهربائية وقال: معك طبعًا بعض أجهزتك؟

زبيدة: نعم … معي حقيبة بها مجموعة من الأدوات.

أحمد: أريد جهازًا يمكن أن يتنصَّت على المكالمات التليفونية.

زبيدة: مسألة سهلة جدًّا.

أحمد: إذن جهِّزي نفسكِ للغوص معنا سريعًا وسنأخذ قاربًا مطاطًا.

وفي دقائق قليلة كانت «زبيدة» قد لبست ملابس الغوص … وحملت معها أدواتها الإلكترونية المغلفة جيدًا بحيث لا ينفذ إليها الماء … وغاص الأربعة بسرعة في اتجاه الميناء القديم، وسحبوا خلفهم القارب، وسرعان ما كان «أحمد» يشير إلى السلك المقصود. واقتربت منه «زبيدة» وأخذت تفحصه لحظات … ثم أخرجت جهازًا يشبه الراديو الترانزستور وثبَّتته على السلك، وأخذت تنظر إلى المؤشرات وهي تعمل … ثم أشارت إلى «أحمد» بالصعود إلى فوق … وصعد الاثنان معًا إلى الزورق المطاط، وخلع «أحمد» قناع الغوص … وألبسته «زبيدة» جهازًا للاستماع … وسرعان ما سمع حديثًا يدور بين شخصين … سمع أحدهما يقول: لا تفقدوا صبركم هكذا، لقد أضعنا وقتًا طويلًا، ومبالغ ضخمةً في سبيل الحصول على ما نريد … والآن تريدون …

قاطعه الآخر قائلًا: إنك تتحدَّث كما تريد ولا تعرف متاعبنا … ثم إننا يمكن في أي لحظة أن نموت نتيجة أي خطأ … ثم إن الرجُل الذي يعرف الحقيقة قد مات.

الأول: لا تخافوا … إن الأجهزة مصممة بشكل ممتاز جدًّا … حاولوا مرةً أخرى.

الثاني: سنقوم بمحاولة أخيرة الليلة.

الأول: ليست هناك محاولة أخيرة إلا بعد العثور على الكنوز، ولكن … «كراون» لا يرى مانعًا في أن تخرجوا في إجازة ليوم واحد تعودون فيه إلى أماكنكم.

الثاني: وهل اعترف هذا الولد بشيء؟!

الأول: أبدًا … إنه صامت تمامًا …

الثاني: وماذا ستفعلون به؟

الأول: ذلك القرار متروك «لكراون».

الثاني: وكيف سنخرج؟

الأول: ستقترب «رويال» من مكانكم في الساعة الرابعة صباحًا، فعليكم بالصعود في ذلك الوقت … إلى اللقاء …

انتهت المكالمة … ورفع «أحمد» السماعة عن أذنيه وقال ﻟ «زبيدة»: لا أعرف كيف أهنئك على عملك العظيم … إننا الآن قريبون جدًّا من كشف الحقيقة … سأهبط لاستدعاء «بو عمير» و«فهد»، وسنعقد اجتماعًا على ظهر الزورق.

وبعد وقت قصير كان الشياطين يعقدون اجتماعًا من أهم اجتماعاتهم …

وتولى «أحمد» الحديث فقال: استمعت إلى محادثة تليفونية دارت بين شخص على السفينة «رويال» وشخص آخر أظن أنه يعيش تحت الماء …

قال «باسم»: ماذا تقصد؟

أحمد: أقصد أن ثمة شيئًا موجودًا تحت الماء يعيش فيه مجموعة من الغوَّاصين الذين يبحثون عن الكنز … وهؤلاء الغوَّاصون قد بقوا طويلًا تحت الماء ويريدون الخروج … ولكن «كراون»، وهو اسم زعيم العصابة فيما يبدو يرفض، وقد وافق فقط على منحهم إجازةً تبدأ في الرابعة صباحًا.

ونظر «أحمد» في ساعته ثم قال: الساعة الآن الواحدة بعد منتصف الليل، وسوف يقومون بمحاولة … وعلينا أن نراقبهم … ونهاجمهم إذا كانت فرصتنا في الانتصار معقولة …

إلهام: هل هناك تصوُّر معيَّن للمكان الذي يعيشون فيه؟

أحمد: حتى الآن ليس تحت الماء شيء سوى الأحجار الضخمة التي بُني منها حاجز البحر في الميناء القديم … وهي …

ثم توقف «أحمد» عن الحديث ووقف وضرب رأسه بيده، والْتفت إلى «فهد» قائلًا: هذه الأحجار … ألا تدلك على شيء؟

وقبل أن يجيب «فهد»، الْتفت «أحمد» إلى «بو عمير» وقال: وأنت؟

ونظر إليه «فهد» و«بو عمير» في دهشة فقال «أحمد»: سنغوص فورًا … إن عندي فكرةً معينةً قد تكون صحيحة.

وقفز الشياطين جميعًا إلى ملابسهم، فقال «أحمد»: سأنزل أنا و«بو عمير» و«فهد»، والباقون ينتظرون … إذا لم نعد بعد ساعة فعليهم التصرُّف …

وسرعان ما كان الثلاثة يغوصون في المياه السوداء … وقد تسلَّحوا بالبنادق المائية التي تطلق الحراب …

بعد دقائق كانوا يطوفون فوق الميناء القديم الغارق في المياه … لم يكن هناك شيء على الإطلاق … وهبط «أحمد» فوق أحد الأحجار الضخمة وأخذ يزيل الرمال عنها، ثم أشار إلى «فهد» و«بو عمير» فأخذ كل منهما يفعل نفس الشيء … لم يكونا يعرفان ماذا يقصد «أحمد» ولكنهما فعلا ما طلب … ومضت فترة وهم يزيلون الرمال عن الأحجار الضخمة دون أن يبدو لهذا العمل أي فائدة …

وفجأةً أحس «بو عمير» بشيء خفيف يلمس ساقه … وعندما استدار ليرى هذا الشيء فوجئ بضربة حطمت مصباحه … ويدان قويتان تسحبانه بعيدًا عن صديقيه في المياه المظلمة ثم تجذبانه إلى أسفل …

استسلم «بو عمير» لحظات للعدو المجهول ولم يُبدِ أية مقاومة … ثم استدار فجأةً بشراسة وضرب الذراع التي تمسكه بالبندقية الثقيلة … وتراخت اليد ثم انسحب العدو المجهول في ظلام المياه … وأخذ «بو عمير» يصعد بسرعة، ويتجه إلى حيث ترك زميليه، ولكن الظلام كان كثيفًا … ولا أثر لضوء المصباحين …

أخذ «بو عمير» يدور دون فائدة … فاستجمع قوَّته وصعد إلى سطح الماء … وألقى بصره بعيدًا إلى حيث كان الزورق، وقرَّر أن يعود ليروي لبقية الشياطين ما حدث …

لم يكن «بو عمير» هو وحده الذي تعرَّض للهجوم … فقد تعرَّض «أحمد» و«فهد» لنفس الشيء. واستطاع «أحمد» أن يشل حركة عدوِّه، وأن يقوده في الظلام متجهًا إلى الزورق … ولكنه تعرَّض لهجوم ثانٍ دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه … ضربة قوية على الرأس … وهبط متخبطًا إلى القاع …

أمَّا «فهد» فقد وجَّه إليه خصمه حربةً أصابت كتفه، وأحسَّ بالألم الهائل يشل حركة ذراعه اليمنى … وكان الحل الوحيد أن يترك نفسه يهبط إلى القاع حتى لا يقع في يده خصمه وهو غير قادر على الصراع. وعندما لمس القاع بيده … أخذ يحبو عليه مبتعدًا عن الصخور قدرما يستطيع، ومتجهًا في نفس الوقت إلى حيث كان الزورق بقدرما تصوَّر وهو تحت ستار المياه والظلام …

أفاق «أحمد» بعد دقائق قليلة تحت الماء … وشاهد ضوءًا رفيعًا ثابتًا يخرج من القاع على بعد أمتار منه … وأحس برعدة قوية، فقد أدرك أن ما فكَّر فيه كان صحيحًا … لقد عرف الآن خطة العصابة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤